مقدمة كتاب التمهيد لابن عبد البر النمري
قالَ أبو عمرَ يوسُفُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ ابنُ عبدِ البَرِّ النَّمرِيُّ (ت:463هـ) : (الحمد للّه الأوّل والآخر الظّاهر الباطن القادر القاهر شكرًا على تفضّله وهدايته وفزعًا إلى توفيقه وكفايته ووسيلةً إلى حفظه ورعايته ورغبةً في المزيد من كريم آلائه وجميل بلائه وحمدًا على نعمه الّتي عظم خطرها عن الجزاء وجلّ عددها عن الإحصاء.
وصلّى اللّه على محمّدٍ خاتم الأنبياء وعلى آله أجمعين وسلّم تسليمًا.
أمّا بعد فإنّي رأيت كلّ من قصد إلى تخريج ما في موطّأ مالك بن أنسٍ رحمه اللّه من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قصد بزعمه إلى المسند، وأضرب عن المنقطع والمرسل، وتأمّلت ذلك في كلّ ما انتهى إليّ ممّا جمع في سائر البلدان وألّف على اختلاف الأزمان فلم أر جامعيه وقفوا عند ما شرطوه، ولا سلم لهم في ذلك ما أمّلوه، بل أدخلوا من المنقطع شيئًا في باب المتّصل، وأتوا بالمرسل مع المسند، وكلّ من يتفقّه منهم لمالكٍ وينتحله إذا سألت من شئت منهم عن مراسيل الموطّأ قالوا: صحاحٌ لا يسوغ لأحدٍ الطّعن فيها، لثقة ناقليها وأمانة مرسليها، وصدقوا فيما قالوه من ذلك، لكنّها جملةٌ ينقضها تفسيرهم؛ بإضرابهم عن المرسل والمقطوع.
وأصل مذهب مالكٍ رحمه اللّه والّذي عليه جماعة أصحابنا المالكيّين أنّ مرسل الثّقة تجب به الحجّة، ويلزم به العمل ،كما يجب بالمسند سواءً.
وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثرٍ أو إجماعٍ، على هذا جميع الفقهاء في كلّ عصرٍ من لدن الصّحابة إلى يومنا هذا، إلّا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمةٌ لا تعدّ خلافًا.
وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السّائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله، وقد ذكر الحجّة عليهم في ردّهم أخبار الآحاد جماعةٌ من أئمّة الجماعة وعلماء المسلمين، وقد أفردت لذلك كتابًا موعبًا كافيًا والحمد لله.
ولأئمّة فقهاء الأمصار في إنفاذ الحكم بخبر الواحد العدل مذاهب متقاربةٌ بعد إجماعهم على ما ذكرت لك من قبوله وإيجاب العمل به دون القطع على مغيبه؛ فجملة مذهب مالكٍ في ذلك إيجاب العمل بمسنده ومرسله ما لم يعترضه العمل الظّاهر ببلده، ولا يبالي في ذلك من خالفه في سائر الأمصار، ألا ترى إلى إيجابه العمل بحديث التفليس، وحديث المصرّاة، وحديث أبي القعيس في لبن الفحل، وقد خالفه في ذلك بالمدينة وغيرها جماعةٌ من العلماء.
وكذلك المرسل عنده سواءٌ ألا تراه يرسل حديث الشّفعة ويعمل به، ويرسل حديث اليمين مع الشّاهد ويوجب القول به، ويرسل حديث ناقة البراء بن عازبٍ في جنايات المواشي ويرى العمل به، ولا يرى العمل بحديث خيار المتبايعين ولا بنجاسة ولوغ الكلب ولم يدر ما حقيقة ذلك كله لما اعترضهما عنده من العمل، ولتخليص القول في ذلك موضعٌ غير هذا.
وقالت طائفةٌ من أصحابنا: مراسيل الثّقات أولى من المسندات واعتلّوا بأنّ من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سمّاه لك ومن أرسل من الأئمّة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك على صحّته وكفاك النّظر.
وقالت منهم طائفةٌ أخرى: لسنا نقول إنّ المرسل أولى من المسند، ولكنّهما سواءٌ في وجوب الحجّة والاستعمال، واعتلّوا بأنّ السّلف رضوان اللّه عليهم أرسلوا ووصلوا وأسندوا؛ فلم يعب واحدٌ منهم على صاحبه شيئًا من ذلك، بل كلّ من أسند لم يخل من الإرسال، ولو لم يكن ذلك كلّه عندهم دينًا وحقًّا ما اعتمدوا عليه، لأنّا وجدنا التّابعين إذا سئلوا عن شيءٍ من العلم وكان عندهم في ذلك شيءٌ عن نبيّهم صلّى اللّه عليه وسلّم أو عن أصحابه رضي اللّه عنهم قالوا: قال رسول اللّه كذا، وقال عمر كذا، ولو كان ذلك لا يوجب عملًا ولا يعدّ علمًا عندهم لما قنع به العالم من نفسه، ولا رضي به منه السّائل.
وممّن كان يذهب إلى هذا القول من أصحابنا: أبو الفرج عمرو بن محمّدٍ المالكيّ، وأبو بكرٍ محمّد بن عبد اللّه بن صالحٍ الأبهريّ، وهو قول أبي جعفرٍ محمّد بن جريرٍ الطّبريّ.
وزعم الطّبريّ أنّ التّابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد الأئمّة بعدهم إلى رأس المائتين ،كأنّه يعني أنّ الشّافعيّ أوّل من أبى من قبول المرسل.
وقالت طائفةٌ أخرى من أصحابنا: لسنا نقول: إن المسند الّذي اتّفقت جماعة أهل الفقه والأثر في سائر الأمصار وهم الجماعة على قبوله والاحتجاج به واستعماله كالمرسل الّذي اختلف في الحكم به وقبوله في كلّ أحواله، بل نقول: إن للمسند مزيّة فضلٍ لموضع الاتّفاق، وسكون النّفس إلى كثرة القائلين به، وإن كان المرسل يجب أيضًا العمل به، وشبّه ذلك من مذهبه بالشّهود يكون بعضهم أفضل حالًا من بعضٍ وأقعد وأتمّ معرفةٍ وأكثر عددًا، وإن كان البعض عدلين جائزي الشّهادة، وكلا الوجهين يوجب العمل، ولا يقطع العذر، وممّن كان يقول هذا أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن إسحاق بن خوازبنداذ البصريّ المالكيّ.
وأمّا أبو حنيفة وأصحابه فإنّهم يقبلون المرسل ولا يردّونه إلّا بما يردّون به المسند من التّأويل والاعتلال على أصولهم في ذلك.
وقال سائر أهل الفقه وجماعة أصحاب الحديث في كلّ الأمصار فيما علمت: الانقطاع في الأثر علّةٌ تمنع من وجوب العمل به، وسواءٌ عارضه خبرٌ متّصلٌ أم لا، وقالوا: إذا اتّصل خبرٌ وعارضه خبرٌ منقطعٌ لم يعرّج على المنقطع مع المتّصل، وكان المصير إلى المتّصل دونه.
وحجّتهم في ردّ المراسيل: ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر وأنّه لا بدّ من علم ذلك؛ فإذا حكى التّابعيّ عمّن لم يلقه لم يكن بدٌّ من معرفة الواسطة؛ إذ قد صحّ أنّ التّابعين أو كثيرًا منهم رووا عن الضّعيف وغير الضّعيف؛ فهذه النّكتة عندهم في ردّ المرسل؛ لأنّ مرسله يمكن أن يكون سمعه ممّن يجوز قبول نقله وممّن لا يجوز، ولا بدّ من معرفة عدالة النّاقل؛ فبطل لذلك الخبر المرسل للجهل بالواسطة.
قالوا: ولو جاز قبول المراسيل لجاز قبول خبر مالكٍ والشّافعيّ والأوزاعيّ ومثلهم إذا ذكروا خبرًا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا، وبطل المعنى الّذي عليه مدار الخبر.
ومن حجّتهم أيضًا في ذلك: أنّ الشّهادة على الشّهادة قد أجمع المسلمون أنّه لا يجوز فيها إلّا الاتّصال والمشاهدة؛ فكذلك الخبر يحتاج من الاتّصال والمشاهدة إلى مثل ما تحتاج إليه الشّهادة؛ إذ هو بابٌ في إيجاب الحكم واحدٌ.
هذا كلّه قول الشّافعيّ وأصحابه وأهل الحديث، ولهم في ذلك من الكلام ما يطول ذكره.
وأمّا أصحابنا فكلّهم مذهبه في الأصل استعمال المرسل مع المسند، كما يوجب الجميع استعمال المسند، ولا يردّون بالمسند المرسل كما لا يردّون الخبرين المتّصلين ما وجدوا إلى استعمالهما سبيلًا، وما ردّوا به المرسل من حجّةٍ بتأويلٍ أو عملٍ مستفيضٍ أو غير ذلك من أصولهم فهم يردّون به المسند سواءً لا فرق بينهما عندهم.
قال أبو عمر: هذا أصل المذهب، ثمّ إنّي تأمّلت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقّهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم؛ فلم أر أحدًا منهم يقنع من خصمه إذا احتجّ عليه بمرسلٍ، ولا يقبل منه في ذلك خبرًا مقطوعًا، وكلّهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتّصال في الأخبار، واللّه المستعان.
وإنّما ذلك لأنّ التّنازع إنّما يكون بين من يقبل المرسل وبين من لا يقبله؛ فإن احتجّ به من يقبله على من لا يقبله قال: له هات حجّةً غيره؛ فإنّ الكلام بيني وبينك في أصل هذا، ونحن لا نقبله، وإن احتجّ من لا يقبله على من يقبله كان من حجّته كيف تحتجّ عليّ بما ليس حجّةً عندك؟!!
ونحو هذا، ولم نشاهد نحن مناظرةً بين مالكيٍّ يقبله وبين حنفيٍّ يذهب في ذلك مذهبه، ويلزم على أصل مذهبهما في ذلك قبول كلّ واحدٍ منهما من صاحبه المرسل إذا أرسله ثقةٌ عدلٌ رضًا ما لم يعترضه من الأصول ما يدفعه، وباللّه التّوفيق.
واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل: هل يوجب العلم والعمل جميعًا أم يوجب العمل دون العلم؟
والّذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنّه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشّافعيّ وجمهور أهل الفقه والنّظر ولا يوجب العلم عندهم إلّا ما شهد به على اللّه، وقطع العذر بمجيئه قطعًا ولا خلاف فيه.
وقال قومٌ كثيرٌ من أهل الأثر وبعض أهل النّظر: إنّه يوجب العلم الظّاهر والعمل جميعًا، منهم الحسين الكرابيسيّ وغيره، وذكر ابن خوازبنداذ أنّ هذا القول يخرج على مذهب مالكٍ.
قال أبو عمر: الّذي نقول به إنّه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشّاهدين والأربعة سواءٌ، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلّهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادى ويوالى عليها ويجعلها شرعًا ودينًا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السّنّة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا، وباللّه توفيقنا.
ولمّا أجمع أصحابنا على ما ذكرنا في المسند والمرسل واتّفق سائر العلماء على ما وصفنا رأيت أن أجمع في كتابي هذا كلّ ما تضمّنه موطّأ مالك بن أنسٍ رحمه اللّه في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي عنه من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، مسنده ومقطوعه ومرسله، وكلّ ما يمكن إضافته إليه صلوات اللّه وسلامه عليه، ورتّبت ذلك مراتب قدّمت فيها المتّصل ثمّ ما جرى مجراه ممّا اختلف في اتّصاله، ثمّ المنقطع والمرسل.
- وجعلته على حروف المعجم في أسماء شيوخ مالكٍ رحمهم اللّه ليكون أقرب للمتناول.
- ووصلت كلّ مقطوعٍ جاء متّصلًا من غير رواية مالكٍ، وكلّ مرسلٍ جاء مسندًا من غير طريقه رحمة اللّه عليه، فيما بلغني علمه، وصحّ بروايتي جمعه، ليرى النّاظر في كتابنا هذا موقع آثار الموطّأ من الاشتهار والصّحّة.
- واعتمدت في ذلك على نقل الأئمّة، وما رواه ثقات هذه الأمّة.
- وذكرت من معاني الآثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب ما عوّل على مثله الفقهاء أولو الألباب.
- وجلبت من أقاويل العلماء في تأويلها وناسخا ومنسوخها وأحكامها ومعانيها ما يشتفي به القارئ الطّالب، ويبصّر وينبّه العالم ويذكّره.
- وأتيت من الشّواهد على المعاني والإسناد بما حضرني من الأثر ذكره، وصحبني حفظه، ممّا تعظم به فائدة الكتاب.
- وأشرت إلى شرح ما استعجم من الألفاظ مقتصرًا على أقاويل أهل اللّغة.
- وذكرت في صدر الكتاب من الأخبار الدّالّة على البحث عن صحّة النّقل وموضع المتّصل والمرسل، ومن أخبار مالكٍ رحمه اللّه، وموضعه من الإمامة في علم الدّيانة ومكانه من الانتقاد والتّوقّي في الرّواية ومنزلة موطّئه عند جميع العلماء المؤلّفين منهم والمخالفين نبذًا يستدلّ بها اللّبيب على المراد، وتغني المقتصر عليها عن الازدياد.
- وأومأت إلى ذكر بعض أحوال الرّواة وأنسابهم وأسنانهم ومنازلهم.
- وذكرت من حفظت تاريخ وفاته منهم معتمدًا في ذلك كلّه على الاختصار، ضاربًا عن التّطويل والإكثار.
واللّه أسأله العون على ما يرضاه، ويزلف فيما قصدناه؛ فلم نصل إلى شيءٍ ممّا ذكرناه إلّا بعونه وفضله لا شريك له؛ فله الحمد كثيرًا دائمًا على ما ألهمنا من العناية بخير الكتب بعد كتابه، وعلى ما وهب لنا من التّمسّك بسنّة رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما توفيقي إلّا باللّه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وإنّما اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصّةً لموضعه عند أهل بلدنا من الثّقة والدّين والفضل والعلم والفهم، ولكثرة استعمالهم لروايته وراثةً عن شيوخهم وعلمائهم إلّا أن يسقط من روايته حديثٌ من أمّهات أحاديث الأحكام أو نحوها؛ فأذكره من غير روايته إن شاء اللّه.
فكلّ قومٍ ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير، وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البرّ، وإن كان غيره مباحًا مرغوبًا فيه.
والرّوايات في مرفوعات الموطّأ متقاربةٌ في النّقص والزّيادة، وأمّا اختلاف روايته في الإسناد والإرسال والقطع والاتصال؛ فأرجوا أن ترى ما يكفي ويشفي في كتابنا هذا ممّا لا يخرجنا عن شرطنا إن شاء اللّه لارتباطه به، واللّه المستعان.
فأمّا روايتنا للموطّأ من طريق يحيى بن يحيى الأندلسيّ رحمه اللّه؛ فحدّثنا بها أبو عثمان سعيد بن نصرٍ لفظًا منه قراءةً عليّ من كتابه رحمه اللّه وأنا أنظر في كتابي، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ ووهب بن مسرّة قالا: حدّثنا محمّد بن وضّاحٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، عن مالكٍ.
- وحدّثنا به أيضًا أبو الفضل أحمد بن قاسمٍ قراءةً منّي عليه قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن أبي دليمٍ ووهب بن مسرّة قالا: حدّثنا ابن وضّاحٍ، قال: حدّثنا يحيى عن مالكٍ.
- وحدّثنا به أيضًا أبو عمر أحمد بن محمّد بن أحمد قراءةً منّي عليه قال: حدّثنا وهب بن مسرّة، قال: حدّثنا ابن ضاح، قال: حدّثنا يحيى عن مالكٍ.
- وحدّثني به أيضًا أبو عمر أحمد بن محمّد بن أحمد المذكور رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو عمر أحمد بن مطرّفٍ وأحمد بن سعيدٍ، قالا: حدّثنا عبيد اللّه بن يحيى بن يحيى، قال: حدّثني أبي عن مالكٍ.
وبين رواية عبيد الله ورواية أبو وضّاحٍ حروفٌ قد قيّدتها في كتابي، واللّه أسأله حسن العون على ما يرضيه، ويقرّب منه؛ فإنّما نحن به، لا شريك له، وحسبنا الله ونعم الوكيل).[التمهيد: 1-11]