(1) هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بإخراجِهِ البُخَارِيُّ منْ دُونِ بقيَّةِ أصحابِ الكُتُبِ، خَرَّجَهُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ بنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ، عنْ عطاءٍ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الحديثَ بِطُولِه، وَزَادَ في آخِرِهِ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنا أَكْرَهُ مَساء تَهُ)).
وهوَ منْ غرائبِ (الصحيحِ)، تَفَرَّدَ بهِ ابنُ كَرَامَةَ عنْ خالدٍ.
وليسَ هوَ في (مُسْنَدِ أَحْمَدَ)، معَ أنَّ خالدَ بنَ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيَّ تَكَلَّمَ فيهِ أحمدُ وغيرُهُ.
وقالُوا: لهُ مَنَاكِيرُ.
وعَطَاءٌ الذي في إسنادِهِ قيلَ: إنَّهُ ابنُ أبي رَبَاحٍ، وقيلَ: إنَّهُ ابنُ يَسَارٍ، وإنَّهُ وَقَعَ في بعضِ نُسَخِ (الصحيحِ) مَنْسُوبًا كذلكَ.
وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ منْ وُجُوهٍ أُخَرَ لا تَخْلُو كُلُّهَا عنْ مَقَالٍ.
فَرَوَاهُ عبدُ الواحدِ بنُ مَيْمُونٍ أبو حَمْزَةَ مَوْلَى عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عُرْوَةَ، عنْ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِنَّ عَبْدِي لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ. إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)). خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيَا وغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ بِمَعْنَاهُ.
وذَكَرَ ابنُ عَدِيٍّ أنَّهُ تَفَرَّدَ بهِ عبدُ الواحدِ هذا عنْ عُرْوَةَ.
وعبدُ الواحدِ هذا قالَ فيهِ البُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الحديثِ.
ولكنْ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هارونُ بنُ كاملٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إبراهيمُ بنُ سُوَيْدٍ المَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي أبو حَزْرَةَ يَعْقُوبُ بنُ مُجَاهِدٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عنْ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
وهذا إسنادُهُ جَيِّدٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لهم في (الصحيحِ)، سِوَى شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ؛ فإنَّهُ لا يَحْضُرُنِي الآنَ مَعْرِفَةُ حَالِه.
وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ قالَ: حَدَّثَنَا أبو حَمْزَةَ، يَعْنِي: عبدَ الواحدِ بنَ مَيْمُونٍ، فَخُيِّلَ للسامِعِ أنَّهُ قالَ: أبو حَزْرَةَ، ثمَّ سَمَّاهُ مِنْ عندِهِ بِنَاءً على وَهْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وغيرُهُ منْ روايَةِ عثمانَ بنِ أبي الْعَاتِكَةِ، عنْ عليِّ بنِ يزيدَ، عن القاسمِ، عنْ أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ. ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلا بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَأَكُونَ قَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَإِذَا دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِذَا سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَرَنِي نَصَرْتُهُ. وَأَحَبُّ عِبَادَةِ عَبْدِي إِلَيَّ النَّصِيحَةُ)).
عُثْمَانُ وَعَلِيُّ بنُ يَزِيدَ ضَعِيفَانِ.
قال أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ في هذا الحديثِ: هوَ مُنْكَرجِدًّا.
وقدْ رُوِيَ منْ حديثِ عَلِيٍّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بإسنادٍ ضعيفٍ، خَرَّجَهُ الإسْمَاعِيلِيُّ في (مُسْنَدِ عَلِيٍّ).
ورُوِيَ منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وفيهِ زيادةٌ في لفظِهِ.
وَرُوِّينَاهُ منْ وَجْهٍ آخَرَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، وهوَ ضعيفٌ أيضًا.
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ منْ حديثِ الحسنِ بنِ يَحْيَى الخُشَنِيِّ، عنْ صَدَقَةَ بنِ عبدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عنْ هشامٍ الكِنَانِيِّ، عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، عنْ جبريلَ، عنْ رَبِّهِ تَعَالَى قالَ: ((مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَفَّلُ إِلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي فَنَصَحْتُ لَهُ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ لَهُ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ)).
وَالخُشَنِيُّ وَصَدَقَةُ ضَعِيفَانِ، وهشامٌ لا يُعْرَفُ.
وَسُئِلَ ابنُ مَعِينٍ عنْ هشامٍ هذا: مَنْ هُوَ؟ قالَ: لا أَحَدَ. يَعْنِي: أنَّهُ لا يُعْتَبَرُ بِهِ.
وقَدْ خَرَّجَ البَزَّارُ بعضَ الحديثِ منْ طريقِ صَدَقَةَ عنْ عبدِ الكريمِ الجَزَرِيِّ عنْ أَنَسٍ.
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ معاذ عنْ عَبْدَةَ بنِ أبي لُبَابَةَ، حَدَّثَنِي زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ: يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ، وَيَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ، أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ لا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي وَلأَِحَدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلِمَةٌ؛ فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيَّ يُصَلِّي، حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلامَةَ إِلَى أَهْلِهَا؛ فَأَكُونُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأَكُونُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونُ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ)). وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وهوَ غريبٌ جِدًّا.
ولْنَرْجِع إلى شرحِ حديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ البخاريُّ.
وقدْ قيلَ: إنَّهُ أَشْرَفُ حَدِيثٍ رُوِيَ في ذِكْرِ الأَوْلِيَاءِ.
(2) قولُهُ عزَّ وجلَّ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))، يَعْنِي: فَقَدْ أَعْلَمْتُهُ بِأَنِّي مُحَارِبٌ لهُ، حيثُ كانَ مُحَارِبًا لي بمُعَاداةِ أَوْلِيَائِي؛ ولهذا جاءَ في حديثِ عائشةَ: ((فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي))، وفي حديثِ أبي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ: ((فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).
وَخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضعيفٍ عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَو?ا وَلَمْ يُعْرَفُوا، [قُلُوبُهُمْ] مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ)).
فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَجِبُ مُوَالاتُهُمْ، وتَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، كما أنَّ أعداءَهُ تَجِبُ مُعَادَاتُهم، وَتَحْرُمُ مُوَالاتُهم، قالَ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [المُمْتَحِنَة: 1].
وقالَ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ومَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56].
وَوَصَفَ أَحِبَّاءَهُ الذينَ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ بِأَنَّهُم أَذِلَّةٌ على المُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ على الكافرِينَ.
وَرَوَى الإمامُ أحمدُ في كتابِ (الزُّهْدِ) بِإِسْنَادِهِ عنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ لموسَى عليهِ السلامُ حِينَ كَلَّمَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أهَانَ لِي وَلِيًّا، أوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ وبَادأَنِي، وعَرَّض نفسَهُ ودَعَاني إلَيْهَا، وأَنَا أسْرعُ شيْءٍ إلَى نصْرَةِ أوْليائي، أفَيَظُنُّ الذِي يُعازنِي أن يُعجزني؟ أَوْ يظُنُّ الذِي يعَازّنِي أنْ يعْجِزَنِي؟ أمْ يظُنُّ الذِي يبَارزُنِي أنْ يسْبِقَنِي أوْ يفُوتنِي؟ وكَيْفَ وأَنَا الثَّائرُ لهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرَةِ، فلا أَكِلُ نصْرَتَهُمْ إلَى غيْرِي.
وعلَمْ أنَّ جمِيعَ المعَاصي محَاربَةٌ للَّه عزَّ وجَلَّ، قال الحَسَنُ: ابنَ آدمَ، هلْ لكَ بمُحَاربَةِ اللَّه مِنْ طاقةٍ؟ فإِنَّ مَنْ عصَى اللَّه فقَدْ حاربَهُ، لكن كلَّما كانَ الذَّنبُ أَقْبَحَ كانَ أَشَدَّ مُحَارَبَةً للَّهِ؛ ولهذا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أَكَلَةَ الرِّبَا وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ للَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؛ لِعَظِيمِ ظُلْمِهِمْ لِعِبَادِهِ، وَسَعْيِهِمْ بِالفَسَادِ في بِلادِهِ.
وكَذلكَ مُعَادَاةُ أوليائِهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى نُصْرَةَ أوْلِيَائِهِ، وَيُحِبُّهُم وَيُؤَيِّدُهم، فَمَنْ عَادَاهُم فقدْ عَادَى اللَّهَ وَحَارَبَهُ.
وفي الحديثِ: عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اللَّهَ اللَّهَ في أَصْحَابِي، لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ)). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
(3) وقولُهُ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)).
لَمَّا ذَكَرَ أنَّ مُعَادَاةَ أَوْلِيَائِهِ مُحَارَبَةٌ لهُ، ذَكَرَ بعدَ ذلكَ وَصْفَ أَوْلِيَائِهِ الذينَ تَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَجِبُ مُوَالاتُهُم، فَذَكَرَ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إليهِ.
وَأَصْلُ الوَلايَةِ: القربُ، وأصلُ العَدَاوَةِ: البعدُ.
فأولياءُ اللَّهِ هُم الذينَ يَتَقَرَّبُونَ إليهِ بما يُقَرِّبُهُم منهُ، وأعداؤُهُ الذينَ أَبْعَدَهُم عنهُ بأعمالِهِم المُقْتَضِيَةِ لطَرْدِهِم وإبعادِهِم منهُ.
فَقَسَمَ أَوْلِيَاءَهُ المُقَرَّبِينَ إلى قِسْمَيْنِ:
أحدُهُما: مَنْ تَقَرَّبَ إليهِ بأداءِ الفرائضِ، وَيَشْمَلُ ذلكَ فِعْل الواجباتِ، وتَرْكَ المُحَرَّمَاتِ؛ لأِنَّ ذلكَ كُلَّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ التي افْتَرَضَهَا على عِبَادِهِ.
والثاني: مَنْ تَقَرَّبَ إليهِ بعدَ الفرائضِ بالنَّوَافِلِ، فَظَهَرَ بذلكَ أنَّهُ لا طَرِيقَ يُوصِلُ إلى التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعَالَى وَوَلايتِهِ وَمَحَبَّتِهِ سِوَى طَاعَتِهِ التي شَرَعَهَا على لسانِ رسولِه، فمَن ادَّعَى ولايَةَ اللَّهِ والتقرُّبَ إليهِ وَمَحَبَّتَهُ بغيرِ هذهِ الطريقِ تَبَيَّنَ أنَّهُ كاذبٌ في دَعْوَاهُ، كما كانَ المُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ تَعَالَى بعبادةِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ، كما حَكَى اللَّهُ عنْهُمْ أنَّهُم قالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: 3]، وكما حَكَى عن اليهودِ والنصارَى أنَّهُم قالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، معَ إصرارِهِم على تَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وارْتِكَابِ نواهِيهِ، وَتَرْكِ فرائضِهِ.
فَلِذَلكَ ذَكَرَ في هذا الحديثِ أنَّ أولياءَ اللَّهِ على دَرَجَتَيْنِ:
أحدُهُمَا: المُتَقَرِّبُونَ إليهِ بأداءِ الفرائضِ.
وهذهِ درجةُ المُقْتَصِدِينَ أصحابِ اليمينِ.
وأداءُ الفرائضِ أفضلُ الأعمالِ كما قالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أفْضَلُ الأعمالِ أداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا عندَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وقالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خُطْبَتِهِ: (أَفْضَلُ العبادةِ أداءُ الفرائضِ، واجْتِنَابُ المَحَارِمِ؛ وذلكَ لأنَّ اللَّهَ عزّ? وَجَلَّ إنَّما افْتَرَضَ على عبادِهِ هذهِ الفرائضَ لِيُقَرِّبَهُم منهُ، وَيُوجِبَ لهم رِضْوَانَهُ ورَحْمَتَهُ)
وأعظمُ فرائضِ البدنِ التي تُقَرِّبُ إليهِ: الصلاةُ.
كما قالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العَلَق: 19].
وقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ))، وقالَ: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبّ?هُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ))، وقالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)).
ومِن الفرائضِ المُقَرِّبَةِ إلى اللَّهِ تَعَالَى: عَدْلُ الرَّاعِي في رَعِيَّتِهِ، سَوَاء كانتْ رَعِيَّتُهُ عَامَّةً كَالْحَاكِمِ، أوْ خَاصَّةً كَعَدْلِ آحَادِ النَّاسِ في أهلِه وَوَلَدِهِ، كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)).
وفِي (التِّرْمِذِيِّ): عنْ أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَحَبَّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ)).
الدرجةُ الثانيَةُ: درجةُ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ، وهُم الذينَ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بعدَ الفرائضِ بالاجتهادِ في نوافلِ الطَّاعاتِ، والانْكِفَافِ عنْ دقائقِ المَكْرُوهاتِ بالوَرَعِ، وذلكَ يُوجِبُ للعبدِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، كما قالَ: ((وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)).
فمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ رَزَقَهُ مَحَبَّتَهُ وَطَاعَتَهُ وَالاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ وَخِدْمَتِهِ، فَأَوْجَبَ لهُ ذلكَ القُرْبَ منهُ، وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ، والحُظْوَةَ عندَهُ، كما قالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
ففي هذهِ الآيَةِ إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أَعْرَضَ عنْ حُبِّنَا، وَتَوَلَّى عنْ قُرْبِنَا، لمْ نُبَالِ، واسْتَبْدَلْنَا بهِ مَنْ هوَ أَوْلَى بهذهِ المِنْحَةِ منهُ وَأَحَقُّ. فمَنْ أَعْرَضَ عن اللَّهِ فما لهُ مِن اللَّهِ بَدَلٌ، وللَّهِ منهُ أَبْدَالٌ.
ما لِي شُغْلٌ سِوَاهُ مَالِي شُغْلُ * مَا يَصْرِفُ عَنْ هَوَاهُ قَلْبِي عَذْلُ
مَا أَصْنَعُ إِنْ جَفَا وَخَابَ الأَمَلُ * مِنِّي بَدَلٌ ومنهُ ما لي بَدَلُ
وفي بعضِ الآثارِ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ((ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلّ? شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)).
كانَ ذُو النُّونِ يُرَدِّدُ هذهِ الأبياتَ باللَّيْلِ كَثِيرًا:
اطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمْ ** مِثْلَ مَا وَجَدْتُ أَنَا
قَدْ وَجَدْتُ لِي سَكَناً ** لَيْس َفِي هَوَاهُ عَنَا
إنْ بَعُدْتُ قَرَّبَنِي ** أوْ قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا
مَنْ فَاتَهُ اللَّهُ، فلوْ حَصَلَتْ لهُ الْجَنَّةُ بِحَذَافِيرِهَا، لكانَ مَغْبُونًا، فكيفَ إذا لَمْ يَحْصُلْ لهُ إلا نَزْرٌ يَسِيرٌ حَقِيرٌ منْ دَارٍ، كُلُّهَا لا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ:
مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَرَاكَ يَوْماً ** فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ فَوَاتُ
وَحَيْثُمَاكُنْتُ مِنْ بِلادٍ ** فَلِي إِلَى وَجْهِكَ الْتِفَاتُ
ثمَّ ذَكَرَ أوصافَ الذينَ يُحِبُّهُم اللَّهُ ويُحبُّونَهُ فقالَ:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، يعنِي: أنَّهُمْ يُعَامِلُونَ المُؤْمِنِينَ بِالذِّلَّةِ واللِّينِ وَخَفْضِ الجَنَاحِ.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، يعنِي: أنَّهُم يُعَامِلُونَ الكافرينَ بالعِزَّةِ والشِّدَّةِ عليهم والإغلاظِ لهم.
فَلَمَّا أَحَبُّوا اللَّهَ أَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ الذينَ يُحِبُّونَهُ، فَعَامَلُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ والرَّأْفَةِ والرحمةِ، وَأَبْغَضُوا أعْدَاءَهُ الذينَ يُعَادُونَهُ فَعَامَلُوهُم بالشِّدَّةِ والغِلظةِ، كما قالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
فإنَّ مِنْ تَمَامِ المَحَبَّةِ مُجَاهَدَةَ أَعْدَاءِ المَحْبُوبِ.
وَأَيْضًا فَالجِهَادُ في سبيلِ اللَّهِ دعاءٌ للمُعْرِضِينَ عن اللَّهِ إلى الرجوعِ إليهِ بالسَّيْفِ والسِّنَانِ بعدَ دُعَائِهِم إليهِ بالحُجَّةِ والبُرْهَانِ، فالمُحِبُّ للَّهِ يُحِبُّ اجْتِلابَ الخلقِ كُلِّهم إلى بابِهِ؛ فمَنْ لم يُجِب الدعوةَ باللِّينِ والرِّفقِ احتاجَ إلى الدعوةِ بالشدَّةِ والعُنْفِ: ((عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلاسِلِ)).
{وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، لا هَمَّ لِلْمُحِبِّ غَيْرُ ما يُرْضِي حَبِيبَه، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ، مَنْ خافَ المَلامَةَ في هَوى مَنْ يُحِبُّهُ فليسَ بِصَادِقٍ في المَحَبَّةِ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ ** فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌعَنْهُ وَلا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ الْمَلَامَةَ في هَوَاكِ لَذِيذَةً ** حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللَّوَّمُ
قولُهُ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، يَعْنِي: درجةُ الذينَ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ بِأَوْصَافِهِم المذكورةِ.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، واسعُ العطاءِ، عَلِيمٌ بمَنْ يَسْتَحِقُّ الفضلَ فَيَمْنَحُهُ، ومَنْ لا يَسْتَحِقُّهُ فَيَمْنَعَهُ.
ويُرْوَى أنَّ داودَ عليهِ السلامُ كانَ يقولُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَحْبَابِكَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا أَحْبَبْتَ عَبْدًا غَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَقَبِلْتَ عَمَلَهُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا).
وكانَ داودُ عليهِ السلامُ يقولُ في دعائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ).
وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَانِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ -يَعْنِي: فِي الْمَنَامِ- فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، قُل?: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ)).
وكانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُني حُبُّهُ عِنْدَكَ. اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ. اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ)).
ورُوِيَ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كانَ يَدْعُو: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَأَقْرِرْ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ)).
فأَهْلُ هذهِ الدرجةِ مِن المُقَرَّبِينَ ليسَ لهم هَمٌّ إلا فيما يُقَرِّبُهم مِمَّنْ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ.
قالَ بعضُ السلفِ: (العملُ على المخافةِ قدْ يُغَيِّرُهُ الرجاءُ، والعملُ على المَحَبَّةِ لا يَدْخُلُهُ الفُتُور)ُ.
ومنْ كلامِ بَعْضِهِم: (إذا سَئِمَ البَطَّالُونَ مِنْ بَطَالَتِهِم، فَلَنْ يَسْأَمَ مُحِبُّوكَ مِنْ مُنَاجَاتِكَ وَذِكْرِكَ).
قالَ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ: قَرَأْتُ في بعضِ الكُتُبِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لمْ يكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ آثَرَ منْ هَوَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا لمْ يكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ آثَرَ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ، والمُحِبُّ لِلَّهِ تَعَالَى أَمِيرٌ مُؤَمَّرٌ على الأُمَراءِ، زُمْرَتُهُ أَوَّلُ الزُّمَرِ يَوْمَ القيامةِ، وَمَجْلِسُهُ أَقْرَبُ المجالسِ فيما هُنَالِكَ، وَالْمَحَبَّةُ مُنْتَهَى القُرْبَةِ والاجتهادِ، ولَنْ يَسْأَمَ المُحِبُّونَ مِنْ طُولِ اجتهادِهِم للَّهِ عزَّ وَجَلَّ، يُحِبُّونَهُ وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ وَيُحَبِّبُونَهُ إلى خَلْقِهِ، يَمْشُونَ بينَ عِبَادِهِ بالنَّصَائِحِ، وَيَخَافُونَ عَلَيْهِم منْ أَعْمَالِهِم يومَ تَبْدُو الفَضَائِحُ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ صَفْوَتِهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لا رَاحةَ لهم دُونَ لقائِهِ.
وقالَ فَتْح المَوْصِلِيُّ: (المُحِبُّ لا يَجِدُ معَ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ للدُّنْيَا لَذَّةً، ولا يَغْفُلُ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ [عَيْنٍ]).
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ النَّضْرِ الحَارِثِيُّ: (ما يَكَادُ يَمَلُّ القُرْبَةَ إلى اللَّهِ تَعَالَى مُحِبٌّ للَّهِ عزّ وَجَلَّ، وما يَكَادُ يَسْأَمُ مِنْ ذلكَ).
وقالَ بعضُهُم: (المُحِبُّ للَّهِ طَائِرُ القلبِ، كثيرُ الذِّكْرِ، مُتَسَبِّبٌ إلى رِضْوَانِهِ بكُلِّ سَبِيلٍ يَقْدِرُ عليها من الوسائلِ والنَّوَافِلِ دَوْبًا دَوْبًا، وَشَوْقًا شَوْقًا).
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
وَكُنْ لِرَبِّكَ ذَا حُبٍّ لِتَخْدُمَهُ ** إنَّ الْمُحِبِّينَ لِلأَحْبَابِ خُدَّامُ
وَأَنْشَدَ آخَرُ:
ما لِلْمُحِبِّ سِوَى إِرَادَةِ حُبِّهِ ** إِنَّ الْمُحبَّ بِكُلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ
وَمِنْ أَعْظَم مَا يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللَّهِ تَعَالَى مِن النَّوافلِ: كَثْرَةُ تلاوةِ القرآنِ، وَسَمَاعِهِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ.
قالَ خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ لِرَجُلٍ: (تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ ما اسْتَطَعْتَ، واعْلَمْ أنَّكَ لنْ تَتَقَرَّبَ إليهِ بشَيْءٍ هوَ أحبُّ إليهِ منْ كلامِهِ).
وفي (التِّرْمِذِيِّ): عنْ أبي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ))، يعني القُرْآنَ.
لا شَيْءَ عندَ المُحِبِّينَ أَحْلَى منْ كلامِ محبوبِهِم، فهوَ لَذَّةُ قُلُوبِهِم، وَغَايَةُ مَطْلُوبِهِم.
قالَ عثمانُ: لوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ منْ كلامِ رَبِّكُمْ.
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (مَنْ أَحَبَّ القرآنَ فهوَ يُحِبُّ اللَّهَ ورسولَهُ).
قالَ بعضُ العارفِينَ لِمُرِيدٍ: أَتَحْفَظُ القرآنَ؟ قالَ: لا، فقالَ: وَاغَوْثَاهُ بِاللَّهِ! مُرِيدٌ لا يحفظُ القرآنَ، فبِمَ يَتَنَعَّمُ؟ فَبِمَ يَتَرَنَّمُ؟ فَبِمَ يُنَاجِي رَبَّه عَزَّ وَجَلَّ؟
كانَ بَعْضُهُم يُكْثِرُ تِلاوَةَ القرآنِ، ثمَّ اشْتَغَلَ عنهُ بِغَيْرِهِ، فَرَأَى في المنامِ قَائِلاً يقولُ لهُ:
إنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي ** فَلِمَ جَفَوْتَ كِتَابِي
أَمَاتَأَمَّلْتَ مَا فِيـ ** ـهِ منْ لَطِيفِ عِتَابِي
ومِنْ ذلكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الذي يَتَوَاطَأُ عليهِ القلبُ واللِّسَانُ.
وفي (مُسْنَدِ الْبَزَّارِ): عنْ مُعَاذٍ قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: ((أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى)).
وفي الحديثِ (الصحيحِ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَني فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ))، وفي حديثٍ آخَرَ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ))، وقالَ عزَّ وجلَّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
ولَمَّا سَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الذينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بالتَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ وهُمْ مَعَهُ في سَفَرٍ، قالَ لَهُمْ: ((إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ)). وفي روايَةٍ: ((وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ)).
ومِنْ ذلكَ: مَحَبَّةُ أولياءِ اللَّهِ وأَحِبَّائِهِ فيهِ، وَمُعَادَاةُ أعدائِهِ فيهِ.
وفي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ): عنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأَُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))، ??????: يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قالَ: ((هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا. فَوَاللَّهِ، إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزنَ النَّاسُ))، ثمَّ تَلا هذهِ الآيَةَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يُونُس: 62].
وَيُرْوَى نَحْوُهُ منْ حديثِ أبي مالك الأشعريِّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وفي حديثِهِ: ((يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وفِي (المُسْنَدِ): عنْ عمرِو بنِ الجَمُوحِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَلايَةَ مِنَ اللَّهِ. إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ)).
وَسُئِلَ المُرْتَعِشُ: بِمَ تُنَالُ الْمَحَبَّةُ؟ قالَ: بِمُوَالاةِ أولياءِ اللَّهِ، ومُعَادَاةِ أعدائِهِ، وَأَصْلُهُ المُوَافَقَةُ.
وفي (الزُّهْدِ) للإِمامِ أحمدَ: عَنْ عطاءِ بنِ يَسَارٍ قالَ: ((قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا رَبِّ، مَنْ هُمْ أَهْلُكَ الَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، هُمُ الْبَرِيئَةُ أَيْدِيهِمُ، الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمُ، الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ بِجَلالِي، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بِي، وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِذِكْرِهِمُ، الَّذِينَ يُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ فِي الْمَكَارِهِ، وَيُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وُكُورِهَا، وَيَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِالنَّاسِ، وَيَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِي إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا يَغْضَبُ النَّمِرُ إِذَا حَرِبَ)).
قولُهُ: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).
وفي بعضِ الرواياتِ: ((وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانه الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ)).
المُرَادُ بهذا الكلامِ: أنَّ مَن اجْتَهَدَ بالتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ بالفرائضِ ثمَّ بالنَّوَافلِ، قَرَّبَهُ إليهِ، وَرَقَّاهُ منْ درجةِ الإِيمانِ إلى درجةِ الإِحسانِ، فَيَصِيرُ يَعْبُدُ اللَّهَ على الحضورِ والمراقبةِ كأنَّهُ يَرَاهُ، فَيَمْتَلءُ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَحبَّتِهِ، وعظمتِهِ، وخوفِهِ، ومَهَابتِهِ، وإجلالِهِ، والأُنسِ بهِ، والشوقِ إليهِ، حتَّى يَصِيرَ هذا الذي في قلبِهِ من المعرفةِ مُشَاهَدًا لهُ بعينِ البصيرةِ، كما قيلَ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ** لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرَهُ
غَابَ عَنْ سَمْعِي وَعَنْ بَصَرِي ** فَسُوَيْدَا الـْقَلْبِ تُبْصِرُهُ
قالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ((كَذَبَ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّتِي وَنَامَ عَنِّي، أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ خَلْوَةَ حَبِيبِهِ؟! هَا أَنَا مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْبَابِي وَقَدْ مَثَّلُونِي بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ، وَخَاطَبُونِي عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَكَلَّمُونِي بِحُضُورٍ، غَدًا أُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ فِي جِنَانِي)).
ولا يَزَالُ هذا الذي في قلوبِ المُحِبِّينَ المُقَرَّبِينَ يَقْوَى حتَّى تَمْتَلِئَ قُلُوبُهُم بهِ، فَلا يَبْقَى في قلوبِهِم غَيْرُهُ، ولا تَسْتَطِيعُ جَوَارِحُهُم أنْ تَنْبَعِثَ إلا بِمُوَافَقَةِ ما في قُلُوبِهِم.
وَمَنْ كانَ حَالُهُ هذا، قيلَ فيهِ: ما بَقِيَ في قلبِهِ إلا اللَّهُ.
والمرادُ مَعْرِفَتُهُ ومَحَبَّتُهُ وذِكْرُهُ.
وفي هذا المعنَى الأَثَرُ الإسْرَائِيلِيُّ المَشْهُورُ: (يَقُولُ اللَّهُ: مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ).
وقالَ بعضُ العارفِينَ: (احْذَرُوهُ؛ فإنَّهُ غَيُورٌ لا يُحِبُّ أَنْ يَرَى في قَلْبِ عَبْدِهِ غَيْرَهُ).
وفي هذا يقولُ بَعْضُهُم: ليسَ للنَّاسِ مَوْضِعٌ في فُؤَادِي ** زَادَ فيهِ هَوَاكَ حَتَّى امْتَلا
وَقَالَ آخَرُ:
قَدْ صِيغَ قَلْبِي عَلَى مِقْدَارِ حُبِّهِمُ ** فَمَا لِحُبِّ سِوَاهُمْ فِيهِ مُتَّسَعُ
وإلى هذا المَعْنَى أَشَارَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ المدينةَ فقالَ:
((أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ))، كما ذَكَرَهُ ابنُ إسحاقَ في (سِيرَتِهِ).
فَمَتَى امْتَلأََ القلبُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَا ذلكَ مِن القلبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ، ولمْ يَبْقَ للعبدِ شَيْءٌ منْ نفسِهِ وَهَوَاهُ، ولا إرادةَ إِلا لِمَا يُرِيدُهُ منهُ مَوْلاهُ. فَحِينَئِذٍ لا يَنْطِقُ العبدُ إلا بِذِكْرِهِ، وَلا يَتَحَرَّكُ إلا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ نطَقَ نَطَقَ باللَّهِ، وإنْ سَمِعَ سَمِعَ بهِ، وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بهِ.
فهذا هوَ المرادُ بقولِهِ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).
ومَنْ أَشَارَ إلى غيرِ هذا، فإنَّما يُشِيرُ إلى الإلحادِ؛ مِن الحلولِ أو الاتِّحادِ. واللَّهُ ورسولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ.
ومِنْ هُنا كانَ بعضُ السَّلفِ كَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ يَرَوْنَ أنَّهُ لا يَحْسُنُ أنْ يُعْصَى اللَّهُ.
وَوَصَّت امرأةٌ مِن السَّلفِ أَوْلادَهَا فقَالَتْ لهم: تَعَوَّدُوا حُبَّ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ؛ فإنَّ المُتَّقِينَ أَلِفُوا الطَّاعةَ، فاسْتَوْحَشَتْ جَوَارِحُهُم منْ غَيْرِهَا، فَإِنْ عَرَضَ لهم المَلْعُونُ بِمَعْصِيَةٍ مَرَّت المَعْصِيَةُ بهم مُحْتَشِمَةً، فَهُمْ لها مُنْكِرُونَ.
ومِنْ هذا المعنى قولُ عَلِيٍّ: (إنْ كُنَّا لَنَرَى أنَّ شَيْطَانَ عُمَرَ لَيَهَابُهُ أنْ يَأْمُرَهُ بالخَطِيئَةِ).
وقدْ أَشَرْنَا فِيمَا سَبَقَ إلى أنَّ هذا مِنْ أسرارِ التوحيدِ الخاصَّةِ؛ فإنَّ مَعْنَى لا إِلَهَ إلا اللَّهُ: أنَّهُ لا يُؤَلَّهُ غَيْرُهُ حُبًّا وَرَجَاءً، وَخَوْفًا وَطَاعَةً، فَإِذَا تَحَقَّقَ القَلْبُ بِالتَّوحيدِ التَّامِّ لمْ يَبْقَ فيهِ مَحَبَّةٌ لِغَيْرِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلا كَرَاهَةَ لِغَيْرِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ.
ومَنْ كانَ كذلكَ لمْ تَنْبَعِثْ جَوَارِحُهُ إِلا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّما تَنْشَأُ الذُّنُوبُ منْ مَحَبَّةِ ما يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أوْ كَرَاهَةِ مَا يُحِبُّه اللَّهُ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ منْ تَقْدِيمِ هَوَى النَّفسِ على مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وذلكَ يَقْدَحُ فِي كمالِ التَّوحيدِ الواجبِ، فَيَقَعُ العَبْدُ بِسَبَبِ ذلكَ في التَّفْرِيطِ في بعضِ الواجباتِ، أو ارْتِكَابِ بعضِ المَحْظُورَاتِ.
فَأَمَّا مَنْ تَحَقَّقَ قَلْبُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَلا يَبْقَى لهُ هَمٌّ إلا في اللَّهِ وَفِيمَا يُرْضِيهِ بهِ.
وقدْ وَرَدَ في الحديثِ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ)).
خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ مَوْقُوفًا قالَ: ((مَنْ أَصْبَحَ وَأَكْبَر? هَمِّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ)).
قالَ بعضُ العَارِفِينَ: (مَنْ أَخْبَرَكَ أنَّ وَلِيَّهُ لهُ هَمٌّ في غيرِهِ فلا تُصَدِّقْهُ).
كانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يُنَادِي باللَّيْلِ: هَمُّكَ عَطَّلَ عَلَيَّ الهُمُومَ، وَحَالَفَ بَيْنِي وَبَيْنَ السُّهَادِ، وَشَوْقِي إلى النَّظرِ إليكَ أَوْثَقَ مِنِّي اللَّذَّاتِ، وحالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَوَاتِ، فَأَنَا فِي سِجْنِكَ أيُّهَا الكريمُ مطلوبٌ.
وفي هذا يقولُ بعضُهُم: قَالُوا: تَشَاغَلَ عَنَّا وَاصْطَفَى بَدَلاً مِنَّا ** وَذَلِكَ فِعْلُ الْخَائِنِ السَّالِي
وَكَيْفَ أَشْغَلُ قَلْبِي عَنْ مَحَبَّتِكُمْ ** بِغَيْرِذِكْرِكُمْ يَاكُلَّ أَشْغَالِي
قولُهُ: ((وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأَُعِيذَنَّهُ))، وفي الروايَةِ الأُخْرَى: ((إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ)).
يَعْنِي: أَنَّ لهذا المحبوب المُقَرَّب لهُ عندَ اللَّهِ مَنْزِلَةً خَاصَّةً، تَقْتَضِي أنَّهُ إذا سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِن اسْتَعَاذَ بهِ منْ شيءٍ أَعَاذَهُ منهُ، وإنْ دَعَاهُ أَجَابَهُ، فَيَصِيرُ مُجَابَ الدعوةِ؛ لِكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقدْ كانَ كَثِيرٌ مِن السَّلفِ الصَّالحِ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
وفي (الصَّحِيحِ) أنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِم الأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَطَلَبُوا منهم العَفْوَ، فَأَبَوْا.
فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بالقِصَاصِ، فَقَالَ أنسُ بنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.
فَرَضِيَ القَومُ وَأَخَذُوا الأَرْشَ، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ)).
وفِي (صَحِيحِ الْحَاكِمِ): عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ)).
وأنَّ البَرَاءَ لَقِيَ زَحْفًا من المُشْرِكِينَ، فقالَ لهُ المسلمونَ: أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ؟ فقالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ. فَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَهُم.
ثُمَّ الْتَقَوْا مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: أَقْسِمْ على رَبِّكَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عليكَ يا ربِّ لَمَّا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ، وَأَلْحَقْتَنِي بِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ.
ورَوَى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ لهُ، أنَّ النعمانَ بنَ قَوْقَلٍ قالَ يَوْمَ أُحُدٍ: اللَّهُمَّ إنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أنْ أُقْتَلَ فَأُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فقُتِلَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ النُّعْمَانَ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ فَأَبَرَّهُ)).
وَرَوَى أبو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عنْ سعدٍ، أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ قالَ يومَ أُحُدٍ: يَا رَبِّ، إِذَا لَقِيتُ الْعَدُوَّ غَدًا فلَقِّنِي رجل شدِيدًا بَأْسُهُ، شدِيدًا حرَدُهُ، أُقاتلُه فيكَ ويُقاتلُنِي، ثمَّ يأْخُذُنِي فيَجْدَعُ أنْفِي وأُذُنِي، فإِذَا لقِيتُكَ غدًا قلْتَ: يا عبْدَ اللَّه منْ جدَعَ أنْفَكَ وأُذُنَكَ؟ فأقولُ: فيكَ وفِي رَسُولِكَ، فَتَقُولُ: صَدَقْتَ.
قالَ سَعْدٌ: فلقدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النهارِ وإنَّ أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ لَمُعَلَّقَتَانِ في خَيْطٍ.
وكانَ سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ مُجَابَ الدعوةِ، فَكَذَبَ عليهِ رَجُلٌ، فقالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ.
فَأَصَابَ الرجلَ ذلكَ كُلُّهُ، فَكَانَ يَتَعَرَّضُ للجَوَارِي في السِّكَكِ وَيَقُولُ: شَيْخٌ كبيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
وَدَعَا على رجُلٍ سَمِعَهُ يَشْتُمُ عَلِيًّا، فما بَرِحَ منْ مَكَانِهِ حتَّى جاءَ بَعِيرٌ نَادٌّ، فَخَبَطَهُ بِيَديْهِ وَرِجْلَيْهِ حتَّى قَتَلَهُ.
ونازَعَت امْرَأةٌ سعيدَ بن زَيْدٍ في أرْضٍ لهُ، فَادَّعَتْ أنَّهُ أَخَذَ منها أَرْضَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا في أَرْضِهَا.
فَعَمِيَتْ، وَبَيْنَا هيَ ذاتَ ليلةٍ تَمْشِي في أَرْضِهَا إذْ وقَعَتْ فِي بِئْرٍ فيها، فَمَاتَتْ.
وكانَ العَلاءُ بنُ الحَضْرَمِيِّ في سَرِيَّةٍ، فَعَطِشُوا، فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ، يا عَلِيُّ يا عَظِيمُ، إنَّا عَبِيدُكَ وَفِي سَبِيلِكَ نُقَاتِلُ عَدُوَّكَ، فَاسْقِنَا غَيْثًا نَشْرَبُ منْهُ وَنَتَوَضَّأُ، وَلا تَجْعَلْ لأَِحَدٍ فيهِ نَصِيبًا غَيْرَنَا.
فَسَارُوا قَلِيلاً، فَوَجَدُوا نَهَرًا منْ ماءِ السماءِ يَتَدَفَّقُ، فَشَرِبُوا وَمَلأَُوا أَوْعِيَتَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا.
فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلى مَوْضِعِ النهرِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِهِ مَاءٌ قطُّ.
وشُكِيَ إلى أَنَسِ بنِ مَالِك عَطَشُ أَرْضٍ لهُ بالبصرةِ، فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلى البرِّيَّةِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا.
فَجَاءَ المَطَرُ فَسَقَى أَرْضَهُ، ولمْ يُجَاوِز المَطَرُ أَرْضَهُ إلا يَسِيرًا.
واحْتَرَقَتْ خِصَاصٌ بالبصرةِ في زمنِ أبي موسَى الأَشْعَرِيِّ، وَبَقِيَ في وَسَطِهَا خُصٌّ لَمْ يَحْتَرِقْ، فَقَالَ أبو مُوسَى لِصَاحِبِ الخُصِّ: مَا بَالُ خُصِّكَ لَمْ يَحْتَرِقْ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَقْسَمْتُ عَلَى رَبِّي أَنْ لا يُحْرِقَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((فِي أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُءُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَابُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُمْ)).
وكانَ أبو مسلمٍ الخَوْلانِيُّ مَشْهُورًا بإجابةِ الدعوةِ، فكانَ يَمُرُّ بهِ الظَّبْيُ، فَيَقُولُ لهُ الصِّبْيَانُ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا يَحْبِسْ عَلَيْنَا هذا الظَّبْيَ، فَيَدْعُو اللَّهَ، فَيَحْبِسُهُ حتَّى يَأْخُذُوهُ بِأَيْدِيهِمْ.
وَدَعَا على امرأةٍ أَفْسَدَتْ عليهِ عِشْرَةَ امْرَأَتِهِ لهُ بِذَهَابِ بَصَرِهَا، فَذَهَبَ بَصَرُهَا في الحالِ، فَجَاءَتْهُ فَجَعَلَتْ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وتَطْلُبُ إِلَيْهِ، فَرَحِمَهَا وَدَعَا اللَّهَ فَرَدّ عَلَيْهَا بَصَرَهَا، وَرَجَعَت امْرَأَتُهُ إلى حَالِهَا مَعَهُ.
وكَذَبَ رَجُلٌ على مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ، فقالَ لهُ مُطَرِّفٌ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَعَجَّلَ اللَّهُ حَتْفَكَ، فَمَاتَ الرجلُ مَكَانَهُ.
وكانَ رَجُلٌ من الخوارجِ يَغْشَى مَجْلِسَ الحسنِ البَصْرِيِّ فيُؤْذِيهِمْ.
فَلَمَّا زَادَ أَذَاهُ قالَ الحسنُ: (اللَّهُمَّ قدْ عَلِمْتَ أَذَاهُ لنا، فَاكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ.
فَخَرَّ الرَّجُلُ مِنْ قَامَتِهِ، فَمَا حُمِلَ إلَى أَهْلِهِ إلا مَيِّتًا على سَرِيرِهِ).
وكانَ صِلَةُ بنُ أَشْيَمَ فِي سَريَّةٍ، فَذَهَبَتْ بَغْلَتُهُ بِثَقَلِهَا، وَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَقَامَ يُصَلِّي وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي وَثَقَلَهَا، فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَكَانَ مرَّةً فِي بَرِّيَّةٍ قَفْرٍ، فَجَاعَ، فَاسْتَطْعَمَ اللَّهَ، فَسَمِعَ وَجْبَةً خَلْفَهُ، فَإِذَا هُوَ بِثَوْبٍ أوْ مِنْدِيلٍ فيهِ دَوْخَلةُ رُطَبٍ طَرِيٍّ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، وَكَانَتْ مِن الصَّالِحَاتِ.
وكانَ مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْكَدِرِ في غَزَاةٍ، فقالَ لهُ رجلٌ منْ رُفَقَائِهِ: أَشْتَهِي جبْنًا رَطِبًا، فقالَ ابنُ المنكدرِ: (اسْتَطْعِمُوا اللَّهَ يُطْعِمْكُمْ؛ فَإِنَّهُ القَادِرُ).
فَدَعَا القومُ، فَلَمْ يَسِيرُوا إلا قَلِيلاً حتَّى رَأَوْا مِكْتَلاً مَخِيطًا، فَإِذَا هوَ جبْنٌ رَطِبٌ.
فقالَ بعضُ القومِ: لوْ كانَ عَسَلاً، فقالَ ابنُ المُنْكَدِرِ: إنَّ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ جُبْنًا هَا هُنَا قَادِرٌ على أنْ يُطْعِمَكُم عَسَلاً؛ فَاسْتَطْعِمُوهُ.
فَدَعَوْا، فَسَارُوا قَلِيلاً، فَوَجَدُوا ظَرْفَ عَسَلٍ على الطريقِ، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا.
وَكَانَ حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدعوةِ، دَعَا لغُلامٍ أَقْرَعَ الرأسِ، وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَمْسَحُ بِدُمُوعِهِ رَأْسَ الغُلامِ، فَمَا قَامَ حتَّى اسْوَدَّ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَعَادَ كَأَحْسَنِ النَّاسِ شَعْرًا.
وَأُتِيَ بِرَجُلٍ زَمِنٍ في مَحْمَلٍ، فَدَعَا لهُ، فَقَامَ الرجلُ على رِجْلَيْهِ، فَحَمَلَ مَحْمَلَهُ على عُنُقِهِ، وَرَجَعَ إلى عِيَالِه.
واشْتَرَى في مَجَاعَةٍ طَعَامًا كَثِيرًا، فَتَصَدَّقَ بهِ على المساكِينِ، ثُمَّ خَاطَ أَكْيِسَةً فَوَضَعَهَا تَحْتَ فِرَاشِهِ، ثمَّ دَعَا اللَّهَ، فَجَاءَهُ أَصْحَابُ الطَّعامِ يَطْلُبُونَ ثَمَنَهُ، فَأَخْرَجَ تلكَ الأكيسةَ، فإذا هيَ مَمْلُوءَةٌ دَرَاهِمَ، فَوَزَنَهَا، فإذا هيَ قَدْرُ حُقُوقِهِمْ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ.
وَكَانَ رَجُلٌ يَعْبَثُ بهِ كَثِيرًا، فَدَعَا عليهِ حَبِيبٌ فَبَرِصَ.
وكانَ مَرَّةً عِنْدَ مَالِكِ بنِ دِينَارٍ، فَجَاءَهُ رجلٌ فَأَغْلَظَ لِمَالِكٍ مِنْ أجْلِ دَرَاهِمَ قَسَّمَهَا مَالِك، فَلَمَّا طَالَ ذلكَ منْ أَمْرِهِ رَفَعَ حَبِيبٌ يَدَيْهِ إِلَى السَّماءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هذا قدْ شَغَلَنَا عنْ ذِكْرِكَ، فَأَرِحْنَا منهُ كيفَ شِئْتَ، فَسَقَطَ الرَّجُلُ على وَجْهِهِ مَيِّتًا.
وَخَرَجَ قومٌ في غَزاةٍ في سبيلِ اللَّهِ، وكانَ لِبَعْضِهِمْ حِمَارٌ فَمَاتَ، وَارْتَحَلَ أَصْحَابُهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وقالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي خَرَجْتُ مُجَاهِدًا في سَبِيلِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ تُحْيِي المَوْتَى، وَتَبْعَثُ مَنْ في القبورِ، فَأَحيِ لِي حِمَارِي.
ثمَّ قامَ إلى الحمارِ فَضَرَبَهُ، فَقَامَ الحِمَارُ يَنْفُضُ أُذُنَيْهِ، فَرَكِبَه وَلَحِقَ أَصْحَابَهُ، ثمَّ بَاعَ الحِمَارَ بَعْدَ ذلكَ بالكُوفَةِ.
وَخَرَجَتْ سَرِيَّةٌ في سبيلِ اللَّهِ، فَأَصَابَهُم بَرْدٌ شَدِيدٌ حتَّى كَادُوا أنْ يَهْلِكُوا، فَدَعَوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وإلى جَانِبِهِم شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فإذا هيَ تَلْتَهِبُ نَارًا، فَجَفَّفُوا ثِيَابَهُم، وَدَفِئُوا بها حتَّى طَلَعَت الشمسُ عليهم، فانْصَرَفُوا، وَرُدَّت الشجرةُ على هَيْئَتِهَا.
وَخَرجَ أبو قِلابةَ [صَائِمًا] حَاجًّا، فتَقَدَّمَ أَصْحَابَهُ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فَأَصَابَه عَطَشٌ شَدِيدٌ، فقالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَادِرٌ على أنْ تُذْهِبَ عَطَشِي مِنْ غيرِ فِطْرٍ، فَأَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَأَمْطَرَتْ عليهِ حتَّى بَلَّتْ ثَوْبَه، وَذَهَبَ العطش عنهُ، فَنَزَلَ فَحَوَّضَ حِيَاضًا فَمَلأََهَا، فَانْتَهَى إليهِ أَصْحَابُهُ فَشَرِبُوا، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابُه مِنْ ذلكَ المَطَرِ شَيْءٌ.
ومِثْلُ هذا كَثِيرٌ جِدًّا، وَيَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
وَأَكْثَرُ مَنْ كانَ مُجَابَ الدعوةِ من السلفِ كانَ يَصْبِرُ على البلاءِ، ويَخْتَارُ ثَوَابَه، ولا يَدْعُو لِنَفْسِهِ بالفَرَجِ منهُ.
وقدْ رُوِيَ أنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كانَ يَدْعُو للناسِ لِمَعْرِفَتِهِم بإجابةِ دَعْوَتِهِ، فقيلَ لهُ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ لِبَصَرِكَ، وكانَ قدْ أُضِرَّ، فقالَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ منْ بَصَرِي.
وابْتُلِيَ بَعْضُهم بالجُذَامِ، فقيلَ لهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَعْرِفُ اسمَ اللَّهِ الأعظمَ، فلوْ سَأَلْتَهُ أنْ يَكْشِفَ ما بِكَ؟ فقالَ: يا ابنَ أَخِي، إنَّهُ هوَ الذي ابْتَلانِي، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُرَادَّهُ.
وقيلَ لإبراهيمَ التَّيْمِيِّ، وهوَ في سِجْنِ الحَجَّاجِ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ تَعَالَى، فقالَ: أَكْرَهُ أنْ أَدْعُوَهُ أنْ يُفَرِّجَ عَنِّي مَا لِي فيهِ أَجْرٌ.
وكذلكَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ صَبَرَ على أَذَى الحَجَّاجِ حَتَّى قَتَلَهُ، وكانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، كانَ لهُ دِيكٌ يَقُومُ باللَّيْلِ بِصِيَاحِهِ للصلاةِ، فلمْ يَصِحْ لَيْلَةً في وَقْتِهِ، فلمْ يَقُمْ سَعِيدٌ للصلاةِ، فَشَقَّ عليهِ فقالَ: ما لَهُ؟ قَطَعَ اللَّهُ صَوْتَهُ.
فَمَا صَاحَ الدِّيكُ بعدَ ذلكَ، فقَالَتْ لهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لا تَدْعُ بَعْدَ هذا على شَيْءٍ.
وذُكِرَ لرابعةَ رَجُلٌ لَهُ مَنْزِلَةٌ عندَ اللَّهِ، وهوَ يَقْتَاتُ مِمَّا يَلْتَقِطُهُ مِن المَنْبُوذَاتِ على المَزَابِلِ، فقالَ رجلٌ: ما ضَرَّ هذا أنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أنْ يُغنِيَهُ عنْ هذا؟ فَقَالَتْ رَابِعَةُ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِذَا قُضِيَ لهم قَضَاءٌ لمْ يَتَسَخَّطُوهُ.
وكانَ حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ ضَيِّقَ العَيْشِ جِدًّا، فقيلَ لهُ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ.
فَأَخَذَ حَصَاةً من الأرضِ فقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذَهَبًا، فَصَارَتْ تِبْرَةً في كَفِّهِ، وقالَ: مَا خَيْرٌ في الدُّنيا إلا الآخرةُ، ثمَّ قالَ: هوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلحُ عبادَهُ.
ورُبَّمَا دَعَا المؤمنُ المُجَابُ الدعوةِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ الخِيَرَةَ لهُ في غيرِهِ، فَلا يُجِيبُهُ إلى سُؤَالِهِ، وَيُعَوِّضُهُ عنهُ ما هوَ خيرٌ لهُ؛ إمَّا في الدنيا أوْ في الآخرةِ.
وقدْ تَقَدَّمَ في حديثِ أنسٍ المرفوعِ: ((إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَسْأَلُنِي بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ كَيْلا يَدْخُلهُ الْعُجْبُ)).
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ سالمِ بن أبي الجَعْدِ، عنْ ثَوْبَانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ جَاءَ أَحَدَكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ فِلْسًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ لأََعْطَاهُ إِيَّاهَا، ذُو طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ)). وَخَرَّجَهُ غيرُهُ منْ حديثِ سالمٍ مُرْسَلاً، وَزَادَ فيهِ: ((وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَكْرُمَةً لَهُ)).
وقولُهُ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)). المرادُ بهذا أنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى على عبادِهِ بالموتِ، كما قالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمرانَ: 185].
والموتُ: هوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ للجسدِ، ولا يَحْصُلُ ذلكَ إلا بِأَلَمٍ عظيمٍ جِدًّا، وهوَ أَعْظَمُ الآلامِ التي تُصِيبُ العبدَ في الدُّنيا.
قالَ عمرُ لِكَعْبٍ: (أَخْبِرْنِي عن الموتِ، قالَ: يا أميرَ المُؤْمِنِينَ، هوَ مِثْلُ شَجَرَةٍ كَثِيرَةِ الشَّوْكِ في جَوْفِ ابنِ آدمَ، فليسَ منهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا ورَجُلٌ شديد الذِّرَاعَيْنِ، فهوَ يُعَالِجُهَا يَنْزِعُهَا، فَبَكَى عُمَرُ).
ولَمَّا احْتُضِرَ عَمْرُو بنُ العاصِ سَأَلَهُ ابْنُهُ عنْ صِفَةِ الموتِ، فقالَ: (واللَّهِ لَكَأَنَّ جَنْبَيَّ في تَخْتٍ، وَلَكَأَنِّي أَتَنَفَّسُ منْ سَمِّ إِبْرَةٍ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بهِ منْ قدَميَّ إلى هَامَتِي).
وَقِيلَ لرجلٍ عندَ الموتِ: كيفَ تَجِدُكَ؟ فقالَ: (أَجِدُنِي أُجْتَذَبُ اجْتِذَابًا، وَكَأَنَّ الخَنَاجِرَ مُخْتَلِفَةٌ في جَوْفِي، وَكَأَنَّ جَوْفِي تَنُّورٌ مُحَمًّى يَلْتَهِبُ تَوَقُّدًا).
وقيلَ لآخَرَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: (أَجِدُنِي كَأَنَّ السَّمَاوَاتِ مُنْطَبِقَةٌ على الأرضِ عَلَيَّ، وأَجِدُ نَفْسِي كَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُقْبِ إبرةٍ).
فَلَمَّا كانَ الموتُ بهذهِ الشِّدَّةِ، واللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَتَّمَهُ على عبادِهِ كُلِّهم، وَلا بُدَّ لهم منهُ، وهوَ تَعَالَى يَكْرَهُ أَذَى المُؤْمِنِ وَمَسَاءَتَهُ، سَمَّى ذلكَ تَرَدُّدًا في حقِّ المؤمنِ.
فَأَمَّا الأنبياءُ عليهم السلامُ فلا يُقْبَضُونَ حتَّى يُخَيَّرُوا.
قالَ الحسنُ: (لمَّا كَرِهَت الأنبياءُ الموتَ هَوَّنَ اللَّهُ عليهم بلقاءِ اللَّهِ، وَبِكُلِّ ما أَحَبُّوا منْ تُحْفَةٍ أوْ كَرَامَةٍ، حتَّى إنَّ نَفْسَ أحدِهِم تُنْزَعُ منْ بينِ جَنْبَيْهِ وهوَ يُحِبُّ ذلكَ لِمَا قدْ مُثِّلَ له)ُ.
وقدْ قَالَتْ عائشةُ: ما أَغْبِطُ أَحَدًا يُهَوَّنُ عليهِ الموتُ بعدَ الذي رَأَيْتُ منْ شِدَّةِ مَوْتِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قالَتْ: وكانَ عِنْدَهُ قَدَحٌ منْ ماءٍ، فيُدْخِلُ يَدَهُ في القَدَحِ، ثمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بالمَاءِ ويقولُ: ((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ)).
قالَتْ: وَجَعَلَ يَقُولُ:((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ)).
وجاءَ في حديثٍ مُرْسَلٍ، أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَأْخُذُ الرُّوحَ مِنْ بَيْنِ الْعَصَبِ وَالْقَصَبِ وَالأَنَامِلِ، اللَّهُمَّ فَأَعِنِّي عَلَى الْمَوْتِ، وَهَوِّنْهُ عَلَيَّ)).
وقدْ كانَ بعضُ السلفِ يَسْتَحِبُّ أنْ يُجْهَدَ عندَ الموتِ، كما قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (ما أحبّ أَنْ تُهَوَّنَ عَلَيَّ سَكَرَاتُ الموتِ؛ إنَّهُ لآخِرُ ما يُكَفَّرُ بهِ عن المؤمنِ).
وقالَ النَّخَعِيُّ: (كانوا يَسْتَحِبُّونَ أنْ يُجْهَدُوا عندَ الموتِ).
وكانَ بَعْضُهُمْ يَخْشَى منْ تشديدِ الموتِ أنْ يُفْتَنَ، وإذا أَرَادَ اللَّهُ أنْ يُهَوِّنَ على العبدِ المَوْتَ هَوَّنَهُ عليهِ.
وفي (الصحيحِ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ)).
وقالَ ابنُ مسعودٍ: ((إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ، قَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ)).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَقُولُ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، اللَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ، ثُمَّ تَلا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [النحل: 32].
وقالَ زيدُ بنُ أَسْلَمَ: (تَأْتِي الْمَلائِكَةُ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ، وَتَقُولُ لهُ: لا تَخَفْ مِمَّا أنتَ قادِمٌ عليهِ -فيذهبُ اللَّهُ خَوْفَهُ- وَلا تَحْزَنْ على الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَبْشِرْ بالْجَنَّةِ. فَيَمُوتُ وقدْ جَاءَتْهُ البُشْرَى).
وَخَرَّجَ البَزَّارُ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ أَضَنُّ بِمَوْتِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِكَرِيمَةِ مَالِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَى فِرَاشِهِ)).
وقالَ زيدُ بنُ أَسْلَمَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا هُمْ أَهْلُ الْمُعَافَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)).
وَقَالَ ثَابِتٌ البُنَانِيُّ: (إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَضِنُّ بهم في الدُّنْيَا عن القتلِ والأوْجَاعِ، يُطِيلُ أَعْمَارَهُمْ، وَيُحْسِنُ أَرْزَاقَهُم، وَيُمِيتُهُم على فُرُشِهِم، وَيَطْبَعُهُم بِطَابِعِ الشُّهَدَاءِ).
وَخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا والطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا منْ وُجُوهٍ ضعيفةٍ، وفي بعضِ ألفاظِهَا: ((إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ، يَأْبَى بِهِمْ عَنِ الْبَلاءِ، يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ، وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فِي عَافِيَةٍ)).
قالَ ابنُ مسعودٍ وغيرُهُ: (إنَّ مَوْتَ الفُجَاءَةِ تَخْفِيفٌ على المؤمنِ).
وكانَ أبو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ يقولُ: (إني لأََرْجُو أَنْ لا يَخْنُقَنِيَ اللَّهُ كما أَرَاكُمْ تُخْنَقُونَ عندَ الموتِ).
وكانَ لَيْلَةً فِي دَارِهِ فَسَمِعُوهُ يُنَادِي: يا عبدَ الرحمنِ، وكانَ عبدُ الرحمنِ قدْ قُتِلَ معَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ أَتَى مَسْجِدَ بَيْتِهِ فَصَلَّى، فَقُبِضَ وهوَ سَاجِدٌ.
وَقُبِضَ جَمَاعَةٌ من السلفِ في الصلاةِ وهم سُجُودٌ، وكانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لأصحابِهِ: إنِّي لا أَمُوتُ مَوْتَكُم، ولَكِنْ أُدْعَى فَأُجِيب فكانَ يَوْمًا قَاعِدًا معَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ، ثُمَّ خَرَّ مَيِّتًا.
وكانَ بَعْضُهُم جالسًا معَ أصحابِهِ فَسَمِعُوا صَوْتًا يقولُ: يَا فُلانُ أَجِبْ، فهذهِ واللَّهِ آخِرُ سَاعَاتِكَ مِن الدُّنْيَا، فَوَثَبَ وقالَ: هذا واللَّهِ حَادِي المَوْتِ، فَوَدَّعَ أَصْحَابَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثمَّ انْطَلَقَ نحوَ الصوتِ وهوَ يقولُ: سَلامٌ على المُرْسَلِينَ، والحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمينَ.
ثمَّ انْقَطَعَ عنهم الصوتُ، فَتَتَبَّعُوا أَثَرَهُ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا.
وكانَ بَعْضُهُم جَالِسًا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفٍ، فَوَضَعَ القَلَمَ منْ يَدِهِ وقالَ: إنْ كانَ مَوْتُكُمْ هكَذَا، فواللَّهِ إنَّهُ لَمَوْتٌ طَيِّبٌ، ثمَّ سَقَطَ مَيِّتًا.
وَكَانَ آخَرُ جَالِسًا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَوَضَعَ الْقَلَمَ منْ يَدِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُواللَّهَ ، فَمَاتَ.