97 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ ضعيفٌ، ومِنهم مَن قَوَّاهُ.
رَوَاهُ الحاكِمُ (1/267) وقالَ: على شرطِ الشيخيْن. ووَافَقَه الذهبيُّ، ونَقَلَ ابنُ عبدِ الهادي في المُحَرَّرِ عن الإمامِ البُخَارِيِّ، أنه قالَ: رُوَاةُ هذا الحديثِ كلُّهم ثِقَاتٌ. وتَرَكَه مسلمٌ فلم يُخَرِّجْه، ولا أُرَاهُ تَرَكَه إلاَّ لطعنِ بعضِ الحفَّاظِ فيه، في حِينَ نَقَلَ المُنْذِرِيُّ في تهذيبِ سُنَنِ أبي داودَ عن الإمامِ البُخَارِيِّ، أن حديثَ عائشةَ في هذا البابِ ليسَ بذاكَ، ونَقَلَ عن أبي داودَ أنه حديثٌ ضعيفٌ، وأنه منسوخٌ.
وعِلَّةُ ضَعفِه أنَّ في سَنَدِهِ مُصْعَبَ بنَ شَيْبَةَ، قالَ ابنُ حَجَرٍ في تهذيبِ التهذيبِ: قالَ أحمدُ: رَوَى أحاديثَ مناكِيرَ. وقالَ أبو حاتِمٍ: لا يَحْمَدُونَه، وليسَ بالقَوِيِّ. وقالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرُ الحديثِ. وقالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ليسَ بالقويِّ ولا بالحافظِ. وقالَ ابنُ عَدِيٍّ: تَكَلَّمُوا في حِفْظِه.
ووَثَّقَه كلٌّ مِن يَحْيَى بنِ مَعِينٍ والعِجْلِيِّ، ولكِنَّ الجَرْحَ المُفَسَّرَ مُقَدَّمٌ على التعديلِ.
والحديثُ الذي معَنا صَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وضَعَّفَه كلٌّ مِن البُخَارِيِّ والشافعيِّ وأبي داودَ وابنِ المُنْذِرِ والخَطَّابِيِّ.
والغُسْلُ مِن الجَنابَةِ, وللجُمُعَةِ، ومِن غَسْلِ المَيِّتِ: ثَبَتَ بأحاديثَ أُخَرَ.
مفرداتُ الحديثِ:
- أَرْبَعٍ: لفظُ العددِ يُؤَنَّثُ معَ المذكَّرِ: فيُقالُ: أربعةُ رجالٍ، ويُذَكَّرُ معَ المؤنَّثِ، فيُقالُ: أربعُ نِساءٍ، وذلكَ مِن الثلاثةِ إلى التسعةِ، وكذلك العَشَرَةُ إنْ لم تُرَكَّبْ.
- الْحِجَامَةِ: بكسرِ الحاءِ: حِرْفَةُ الحَجَّامِ، وهي: امتصاصُ الدَّمِ بالمِحْجَمِ.
- غَسْلِ الْمَيِّتِ: بفتحِ الغينِ: تغسيلُه بعدَ وَفاتِه، وغاسِلُ المَيِّتِ: هو مَن يُباشِرُ تَقْلِيبَه ودَلْكَه ولو بحائلٍ، لا مَن يَصُبُّ الماءَ ونحوَه.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- يَدُلُّ الحديثُ على مشروعيَّةِ الاغتسالِ مِن هذه الأمورِ الأربعةِ الآتيةِ:
(أ) الجَنَابَةُ: والاغتسالُ منها واجبٌ إجماعاً، ونصوصُ ذلك في القرآنِ الكريمِ وصحيحِ السنَّةِ، كما تَقَدَّمَ بعضُه.
(ب) غُسْلُ يومِ الجُمُعَةِ: مُسْتَحَبٌّ عندَ جمهورِ العلماءِ، وأَوْجَبَه بعضُهم، وسَيَأْتِي ذِكْرُ خِلافِه إنْ شاءَ اللَّهُ، وسَنَدُ مَن يَرَى الوُجُوبَ قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2665)، ومسلمٌ (846).
(ج) الغُسْلُ مِن الحِجَامَةِ: سُنَّةٌ، وليسَ بواجبٍ؛ لهذا الحديثِ الذي ليسَ فيه إلا فِعْلُه عليه السلامُ، وقِيلَ: مباحٌ، ودليلُ الإباحةِ حديثُ أَنَسٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ، والحديثُ ليسَ بالقويِّ.
(د) الغُسْلُ مِن تَغْسِيلِ المَيِّتِ: لحديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلْ)). رَوَاهُ أحمدُ (9553)، والتِّرْمِذِيُّ (991)، وهو ضعيفٌ؛ فقد قالَ الإمامُ أحمدُ وابنُ المَدِينِيِّ: لا يَصِحُّ في هذا البابِ شيءٌ. وقالَ الذَّهَبِيُّ: لا أَعْلَمُ فيه حديثاً. وحديثُ البابِ ضعيفٌ كما تَقَدَّمَ في بيانِ درجةِ الحديثِ.
2- في الحديثِ دليلٌ على القاعدةِ الأصوليَّةِ: إنَّ دليلَ المقارنةِ ليسَ صحيحاً؛ فإنَّ الحديثَ جَمَعَ بينَ ما هو واجبٌ إجماعاً، وهو الغُسْلُ مِن الجَنابَةِ، وما ليسَ بواجبٍ إجماعاً، وهو الغُسْلُ مِن الحِجامَةِ، فهذا التفريقُ في نصٍّ واحدٍ دليلُ ضعفِ دَلالةِ المقارنةِ.
98 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ عِنْدَمَا أَسْلَمَ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ صحيحٌ؛ فقدْ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ (9/66) من طريقِ عبدِ الرَّزَّاقِ، وسَنَدُه صحيحٌ مِن رِجالِ الشيخيْنِ: وأصلُه فيهما، وصَحَّحَهُ أيضاً ابنُ خُزَيْمَةَ (1/125).
مفرداتُ الحديثِ:
- ثُمَامَةَ: بضمِّ الثاءِ المثلَّثَةِ وفتحِ الميمِ المخفَّفَةِ.
- ابنِ أُثالٍ: بضمِّ الهمزةِ، هو الحَنَفِيُّ، مِن ساداتِ بني حَنِيفَةَ في اليمامَةِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- أنَّ مِن مُوجِباتِ الغُسْلِ إسلامَ الكافرِ، ولو مُرْتَدًّا.
2- ظاهِرُ الحديثِ وجوبُ الغُسْلِ، سواءٌ وُجِدَ منه في كفرِه ما يُوجِبُ الغُسلَ أو لا.
3- قالَ الفقهاءُ: الحكمةُ في وجوبِ الغُسْلِ عليه: أنَّ الكافرَ لا يَسْلَمُ غالباً مِن جنابةٍ، فأُقِيمَتِ المَظِنَّةُ مُقامَ الحقيقةِ؛ كالنومِ.
4- قالَ الفقهاءُ: ولا يَلْزَمُ الذي أَسْلَمَ غُسْلٌ آخَرُ، بسببِ حَدَثٍ وُجِدَ مِنه في حالِ كُفْرِه، بل يَكْفِيه غُسْلُ الإسلامِ.
5- قالَ الفقهاءُ: يُسْتَحَبُّ للكافرِ إذا أَسْلَمَ أنْ يَحْلِقَ شَعَرَه ويَغْسِلَ ثِيابَه أو يُبَدِّلَها بغيرِها؛ لِمَا رَوَى أبو داودَ (356)، والبَيْهَقِيُّ (8/323) عن عُثَيْمِ بنِ كَثيرِ بنِ كُلَيْبٍ الحَضْرَمِيِّ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنه أَسْلَمَ، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلْقِ عَنْكَ شَعَرَ الْكُفْرِ)). قالَ النوويُّ: إسنادُه ليسَ بالقويِّ؛ لأنَّ عُثَيْماً ليسَ بمشهورٍ، ولم يُوَثَّقْ، لكنَّ أبا داودَ رَوَاهُ ولم يُضَعِّفْه، وقد قالَ: إنه إذا ذَكَرَ حديثاً، ولم يُضَعِّفْه، فهو عندَه صالحٌ؛ فهذا الحديثُ عندَه حَسَنٌ.
خِلافُ العلماءِ:
ذَهَبَ الإمامانِ مالكٌ وأحمدُ: إلى وُجُوبِ الغُسْلِ عندَ الإسلامِ مِن الكُفْرِ، سواءٌ حَصَلَ مِنه حالَ كُفْرِه ما يُوجِبُ الغُسْلَ أو لا، وهو مذهَبُ أبي ثَوْرٍ وابنِ المُنْذِرِ؛ مُسْتَدِلِّينَ بحديثِ البابِ وبما رَوَاهُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ، أنَّ قيسَ بنَ عاصِمٍ لَمَّا أَسْلَمَ أَمَرَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ، قالَ الشيخُ الأَلْبَانِيُّ: إسنادُه صحيحٌ، والأمرُ يَقْتَضِي الوجوبَ.
وذَهَبَ الإمامُ الشافعيُّ: إلى أنه لا يَجِبُ عليه الغُسْلُ إلاَّ أنْ يكونَ وُجِدَ منه حالَ كُفْرِهِ ما يُوجِبُ الغُسْلَ.
وذَهَبَ الإمامُ أبو حَنِيفَةَ: إلى أنه لا يَجِبُ عليه الغُسْلُ بحالٍ.
ودليلُ هؤلاءِ: أنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَه، وأنَّ الجَمَّ الغفيرَ أَسْلَمُوا، فلو أمَرَ كلَّ مَن أَسْلَمَ بالغُسْلِ، لنُقِلَ نقلاً متواتراً، أمَّا حديثُ قَيْسِ بنِ عاصِمٍ: فيُحْمَلُ على الاستحبابِ، قالَ الخَطَّابِيُّ: وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ.
تحقيقُ الخلافِ:
قولُ الإمامِ الشافعيِّ بأنَّ مَن وُجِدَ مِنه حالَ كُفْرِه ما يُوجِبُ الغُسْلَ وَجَبَ عليه الغُسْلُ عندَ إسلامِه، ومَن لا فلا يَجِبُ عليه- قولٌ لا يُؤَيِّدُه دليلٌ؛ لأنه لم يُنْقَلْ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَسْتَفْسِرُ ممَّن دخَلَ الإسلامَ عن ذلكَ، ولو كانَ واجباً لَسَأَلَهُم، ولو سَأَلَهم لنُقِلَ نقلاً متواتراً؛ لكثرةِ مَن يُسْلِمُ بمَحْضَرِ الصحابةِ.
يَبْقَى علينا القولُ بوجوبِه مطلقاً, أو استحبابِه مطلقاً، فقِصَّةُ ثُمَامَةَ بنِ أُثالٍ فيها روايتانِ:
إحداهما: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ)).رَوَاهُ أحمدُ (7977)، وابنُ خُزَيْمَةَ (1/125).
ويُؤَيِّدُهُ حديثُ قيسِ بنِ عاصمٍ، أنه أَسْلَمَ فَأَمَرَه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَغْتَسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ. رَوَاهُ أحمدُ (20088)، والتِّرْمِذِيُّ (605) وحَسَّنَه.
أما الروايةُ الثانيةُ – التي في الصحيحيْن في قِصَّةِ إسلامِ ثُمامَةَ – فأنه هو الذي ذَهَبَ بنفسِه واغْتَسَلَ ثمَّ أَسْلَمَ، فيكونُ اغتسالُه من بابِ إقرارِه عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أمرِه به، وهذا لا يَدُلُّ على الوجوبِ، كما هو عندَ الأصولِيِّينَ.
ولذا فالراجِحُ: أنَّ غُسْلَ الكافرِ إذا أَسْلَمَ مستحبٌّ وليسَ بواجبٍ؛ لما يأتي:
أولاً: أنَّ العددَ الكثيرَ والجمَّ الغفيرَ أَسْلَمُوا، فلو أَمَرَ كلَّ مَن أَسْلَمَ بالغُسْلِ لنُقِلَ نقلاً متواتراً أو ظاهراً.
ثانياً: بَعَثَ النبيُّ مُعاذاً إلى اليمنِ وقالَ: ((ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)). ولو كانَ الغُسْلُ واجباً لأَمَرَهُم به؛ لأنه أوَّلُ واجباتِ الإسلامِ.
قالَ الخَطَّابِيُّ: أكثرُ أهلِ العلمِ على استحبابِ الغُسْلِ، لا على إيجابِه.
والاستحبابُ هو الروايةُ الأخرى عن الإمامِ أحمدَ، اخْتَارَها جماعةٌ مِن الحنابلةِ، قالَ في الإنصافِ: وهو أولَى.
وبهذا فحديثُ قَيْسِ بنِ عاصمٍ وحديثُ ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ يُحْمَلانِ على الاستحبابِ.
وقدْ أَجْمَعَ العلماءُ على مشروعيَّةِ الاغتسالِ، إلاَّ أنَّ بَعْضَهُم يَرَى الوجوبَ، وبعضَهم يَرَى الاستحبابَ.
99 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)). أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ.
مفرداتُ الحديثِ:
- وَاجِبٌ: الواجبُ لغةً: الساقِطُ؛ قالَ تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ.
وشرعاً: ما يُثابُ فاعلُه امْتِثالاً ويَسْتَحِقُّ العقابَ تارِكُه.
- مُحْتَلِمٍ: بضمِّ الميمِ وسكونِ الحاءِ المهملةِ، ثمَّ تاءٍ ولامٍ وميمٍ: بَلَغَ سِنَّ الحُلُمِ.
قالَ في النهايةِ: بَلَغَ الحُلُمَ: جَرَى عليه حُكْمُ الرجالِ، سواءٌ احْتَلَمَ أو لم يَحْتَلِمْ، فالمُحْتَلِمُ هو البالِغُ المُدْرِكُ؛ ولذا فإنَّ الاحتلامَ هنا مجازٌ، والقرينةُ المانعةُ عن الحقيقةِ أن الاحتلامَ إذا كانَ معَه الإنزالُ فهو مُوجِبٌ للغُسْلِ، سواءٌ كانَ يومَ الجُمُعَةِ أو لا.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- يَحْتَمِلُ نسبةَ الغُسْلِ إلى زمانِه، وهو يومُ الجُمُعَةِ، فيكونُ الغُسْلُ خاصًّا لليومِ، وفضيلتُه حاصلةً وَقَعَ الغُسْلُ قبلَ الصلاةِ أو بعدَها.
ويَحْتَمِلُ أنْ تكونَ نسبتُه إلى صلاةِ الجُمُعَةِ، فهو من إضافةِ الشيءِ إلى سَبَبِه، وحينَئذٍ لا تَحْصُلُ فضيلةُ الغُسْلِ إلاَّ إذا وَقَعَ للصلاةِ قبلَها، وهذا هو الراجِحُ؛ لأنَّ سببَ الحديثِ يُشِيرُ إلى هذا المعنَى، ولِمَا جاءَ في البُخَارِيِّ (877)، ومسلمٍ (844) عن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ)). وهو مذهبُ جمهورِ العلماءِ.
2- قولُه: ((عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)). يَدُلُّ على أنَّ غُسْلَ الجُمُعَةِ – وإنْ كانَ واجباً للصلاةِ نفسِها – فإنه لا يَجِبُ على الصِّغارِ، وإنْ أَتَوْا إليها وصَلَّوها، ولولا قَيْدُ الاحتلامِ لوَجَبَ على كلِّ مَن صَلاَّها مِن الذُّكُورِ، ولو كانوا صِغاراً؛ لأنهم إذا تَلَبَّسُوا بها وَجَبَ عليهم كلُّ ما لا تَتِمُّ عبادتُهم إلاَّ به مِن الأركانِ والشروطِ والواجباتِ، وإلاَّ لَمَا صَحَّتْ عبادتُهم.
3- ظاهرُ الحديثِ وجوبُ غُسْلِ يومِ الجُمُعَةِ على كلِّ بالغٍ، وفيه خلافٌ، يأتي تحقيقُه قريباً إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
4- مَن لم يَبْلُغْ لا يَجِبُ عليه الغُسْلُ؛ لأنَّ التكاليفَ الشرعيَّةَ لا تَجِبُ على الصغيرِ والمجنونِ.
5- تخصيصُ مشروعيَّةِ الغُسْلِ يومَ الجُمُعَةِ، وتخصيصُه للرجالِ دونَ النساءِ دليلٌ على أنَّ الغُسْلَ هو لصلاةِ الجُمُعَةِ، فلا يُجْزِئُ بعدَها، وتَقَدَّمَ ذِكْرُه.
6- الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ وُجُوبَ الأحكامِ الشرعيَّةِ مَنُوطٌ بالبلوغِ، فلا يَجِبُ قبلَه شيءٌ، وتَقَدَّمَ بَحْثُه.
7- جاءَ في مسلمٍ (854) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ)).
8- ذِكْرُ اليومِ في الحديثِ دليلٌ على أنَّ الغُسْلَ لا يُجْزِئُ في ليلةِ الجُمُعَةِ، بل وَقْتُه هو من طلوعِ الفجرِ.
9- فيه دليلٌ على تعظيمِ هذا اليومِ الجليلِ، ويكونُ تعظيمُه بشعورِ القلبِ بذلكَ، وبالاستعدادِ للصلاةِ واجتماعِه بالغُسْلِ والطِّيبِ واللِّباسِ الحَسَنِ، والتفرُّغِ للعبادةِ فيه.
10- أَخَذَ بعضُ العلماءِ من مشروعيَّةِ اغتسالِ صلاةِ الجُمُعَةِ، استحبابَ الاغتسالِ لكلِّ اجتماعٍ عامٍّ للعبادةِ؛ كصلاةِ العيدِ.
11- قالَ العلماءُ: يُسَنُّ أنْ يَتَنَظَّفَ للجُمُعَةِ بقَصِّ شاربِه وتقليمِ أظفارِه وقطعِ الروائحِ الكريهةِ بالسواكِ وغيرِه، وأنْ يَتَطَيَّبَ ويَلْبَسَ أحسنَ ثيابِه؛ لِمَا رَوَى البُخَارِيُّ (883) عن سَلْمَانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى)).
100 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ)). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
درجةُ الحديثِ: الحديثُ صحيحٌ.
مَدارُ صِحَّةِ الحديثِ مِن ضَعْفِه على صِحَّةِ سماعِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ مِن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ؛ فقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في ذلكَ:
فعليُّ بنُ المَدِينِيِّ والتِّرْمِذِيُّ والحاكمُ يَحْمِلُونَ روايةَ الحَسَنِ عن سَمُرَةَ على الاتِّصالِ، ويُصَحِّحُونَ الحديثَ.
وقالَ البَزَّارُ وغيرُه: لم يَسْمَعْ منه، وإنما يُحَدِّثُ مِن كتابِه.
قالَ ابنُ المُلَقِّنِ: وهو صحيحٌ على طريقةِ البُخَارِيِّ؛ لأنه يُصَحِّحُ حديثَ الحَسَنِ عن سَمُرَةَ مطلقاً.
قالَ الألبانيُّ: رِجالُه ثِقاتٌ، وله شواهِدُ كثيرةٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- مَنْ: اسمُ شرطٍ جازمٌ يَجْزِمُ فعليْن؛ الأوَّلُ فِعْلُ الشرطِ، والثاني جوابُه وجزاؤُه.
- تَوَضَّأَ: فِعْلُ الشرطِ، وجوابُه (بها)، والفاءُ رابطةٌ.
- فَبِهَا: أي: بالسنَّةِ أَخَذَ المُتَوَضِّئُ.
- نِعْمَتْ: قالَ أبو عليٍّ القالِيُّ: ولا يجوزُ نِعْمَةٌ، بالهاءِ؛ لأنَّ مَجْرَى التاءِ فيها مَجْرَى التاءِ في قامَتْ وقَعَدَتْ.
قالَ ابنُ السِّكِّيتِ: التاءُ ثابتةٌ في الوَقْفِ.
قالَ في المِصباحِ: نِعْمَ الرجلُ زيدٌ، مبالغةٌ في المدحِ. وقولُه في الحديثِ: ((فَبِهَا وَنِعْمَتْ)) أي: نِعْمَتِ الخَصْلَةُ السنَّةُ.
- أَفْضَلُ: أفعلُ التفضيلِ؛ إذ الجانِبُ المفضولُ فيه فَضْلٌ أَقَلُّ من الجانِبِ الآخَرِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- استحبابُ غُسْلِ يومِ الجُمُعَةِ في يَوْمِها قبلَها؛ إذ إنه شُرِعَ لأجلِ الصلاةِ.
2- أنَّ مَن لم يَتَمَكَّنْ من الغُسْلِ لعُذْرٍ، أو لم يُرِدْ الاغتسالَ مِن دونِ عُذْرٍ كفَاه الوضوءُ، ولكنْ فاتَه الأجرُ والفضيلةُ.
3- هذا الحديثُ دليلٌ على عدمِ وجوبِ الغُسْلِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، وهو معارِضٌ للحديثِ السابقِ الذي يُفِيدُ الوجوبَ.
خلافُ العلماءِ:
ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ، ومِنهم الأئمَّةُ الأربعةُ: إلى أنَّ غُسْلَ يومِ الجُمُعَةِ مُسْتَحَبٌّ غيرُ واجبٍ.
واسْتَدَلُّوا على ذلك بحديثِ سَمُرَةَ الذي معَنا، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ)). أي: أنَّ مَن تَوَضَّأَ فقدْ أَخَذَ بالرُّخْصَةِ وَنِعْمَتِ الرخصةُ التي أَخَذَ بها، ومَنِ اغْتَسَلَ فقدْ زادَ خيراً، وهو أفضلُ مِن الاقتصارِ على الوضوءِ، وهذا حديثٌ صحيحٌ صريحٌ بعدمِ الوجوبِ، قالَ الألبانيُّ: رجالُه ثِقاتٌ، وله شواهدُ كثيرةٌ.
وذَهَبَ أهلُ الظاهرِ: إلى أنه واجبٌ؛ عملاً بحديثِ: ((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ))، وبما في البُخَارِيِّ (894)، ومسلمٍ (844) أيضاً: ((مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ)). وتَأَوَّلَ الجمهورُ حديثَ أبي سعيدٍ بأنه وجوبُ اختيارٍ، لا وجوبُ إلزامٍ؛ كقولِ الإنسانِ لصاحبِه: حَقُّكَ واجبٌ عليَّ.وأنَّ الحديثَ وَرَدَ مَوْرِدَ التأكيدِ والاهتمامِ بالغُسْلِ لهذه الشعيرةِ الكبيرةِ.
وتَوَسَّطَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ فقالَ: هو مستحبٌّ، ولكنه يَجِبُ على مَن فيه رائحةٌ كريهةٌ وعندَه عَرَقٌ يُؤْذِي به المصلِّينَ والملائكةَ، فلا يجوزُ أنْ يَحْضُرَ الجُمُعَةَ واجْتِماعَ المسلمينَ بهذه الرائحةِ حتى يَقْطَعَها بالاغتسالِ والتنظيفِ.
ويُؤَيِّدُ ما ذَهَبَ إليه الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ما جاءَ في البُخَارِيِّ (902)، ومسلمٍ (847) عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالَتْ: كانَ الناسُ يَنْتَابُونَ الجُمُعَةَ مِن منازلِهم ومن العوالي، فيَأْتُون بالعَبَاءِ ويُصِيبُهُمُ الغُبَارُ؛ فيَخْرُجُ منهم الرِّيحُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا)).
أمَّا ابنُ القيِّمِ فقال في الهَدْيِ: الأمرُ بالغُسْلِ يومَ الجُمُعَةِ مؤكَّدٌ جدًّا، ووجوبُه أقوَى من وجوبِ الوِتْرِ وقراءةِ البسملةِ في الصلاةِ، ووجوبِ الوضوءِ من مسِّ النساءِ، ووجوبِه مِن مَسِّ الذَّكَرِ، ومن الرُّعَافِ والحِجَامَةِ.