83 - وَعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- لَقَدْ: (اللامُ) للابتداءِ، وهي و(قد) جاءَتَا لتوكيدِ الخبرِ.
- الْقِبْلَةَ: بكسرِ القافِ وسكونِ الباءِ الموَحَّدَةِ: هي الكعبةُ المشرَّفةُ.
- أَحْجَارٍ: كُسارةُ الصخورِ الصلبةِ، واحِدُه حَجَرٌ، وجَمْعُه أحجارٌ وحِجارةٌ.
- رَجِيعٍ: الرَّجِيعُ: بفتحِ الراءِ وكسرِ الجيمِ، بعدَها ياءٌ، وبعدَ الياءِ عينٌ مُهْمَلَةٌ، هو رَوْثُ ذِي الحافرِ, وفي الحُكْمِ يَشْمَلُه وغيرَه، وسيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
- عَظْمٍ: جَمْعُه عِظامٌ وأَعْظُمٌ، هو قَصَبُ الحيوانِ الذي عليه اللحمُ.
قالَ الأطباءُ: العظمُ عضوٌ صُلْبٌ، تَبْلُغُ صلابتُه إلى أنه لا يُثْنَى.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- النهيُ عن استقبالِ القبلةِ أثناءَ البوْلِ أو الغائطِ؛ لأنها قِبْلَةُ الصلاةِ وغيرِها من العباداتِ، وهي أشرفُ الجهاتِ، وظاهرُ الحديثِ: أنه لا فَرْقَ في الاستقبالِ بينَ الفضاءِ وبينَ البُنيانِ، وسيأتي الخلافُ فيه إنْ شاءَ اللَّهُ، كما أنَّ النهيَ متوجِّهٌ إلى الاستدبارِ؛ لِمَا في الصحيحيْنِ من حديثِ أبي أيُّوبَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا)). كما سيأتي في الحديثِ الذي بعدَه إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، فلا تكونُ القبلةُ مُتَّجَهاً للنجاساتِ؛ قالَ تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
2- تعظيمُ الكعبةِ المشرَّفَةِ؛ بتَجَنُّبِ كلِّ ما يَمَسُّ قُدُسِيَّتَها ومقامَها مِن المعاصِي حولَها؛ قالَ تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
3- تقديسُها بالطاعاتِ؛ كالحَجِّ والاعتمارِ والطوافِ والصلاةِ وسائرِ العباداتِ والقُرُباتِ؛ قالَ تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96].
4- تعظيمُ البيتِ العَتيقِ يَشْمَلُ حَرَمَه ممَّا أَدْخَلَتْه الحدودُ التي تَفْصِلُ الحَرَمَ مِن الحِلِّ، ويَشْمَلُ المشاعرَ المقدَّسَةَ مِن مقامِ إبراهيمَ وزَمْزَمَ والصَّفا والمروةِ والمسعَى وعَرَفَاتٍ ومُزْدَلِفَةَ ومِنًى والجَمَرَاتِ؛ فكلُّها من شعائرِ اللَّهِ تعالى.
5- على قاعدةِ أنَّ العباداتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، لا يُشْرَعُ منها إلا ما شَرَعَه اللَّهُ ورسولُه؛ فإنها لا تَدْخُلُ هذه المشاعرُ في الحُكْمِ معَ الكعبةِ المشرَّفَةِ بالنهيِ عن استقبالِها واستدبارِها بالبوْلِ والغائطِ، وإنما تُوَافِقُها في أصلِ التعظيمِ.
6- النهيُ عن الاستنجاءِ أو الاستجمارِ باليدِ اليُمنَى؛ تكريماً لها، فيكونُ الاستنجاءُ باليدِ اليسرَى، ما لم يَكُنْ فيها خاتَمٌ فيه ذِكْرُ اسمِ اللَّهِ، فيَجْعَلُه في باطنِ يَدِهِ اليُمْنَى.
7- النهيُ عن الاستجمارِ بأقلَّ مِن ثلاثةِ أحجارٍ، ويُقَيَّدُ هذا النهيُ بما إذا لم يُرِدْ إتْباعَ الحِجارةِ الماءَ، أمَّا إِذَا أَرادَ إِتْباعَها فلا بَأْسَ مِن الاقْتِصارِ على أقلَّ من ثلاثةٍ؛ لأنَّ القصدَ هنا هو تخفيفُ النجاسةِ عن المكانِ فقطْ، لا التطهُّرُ الكامِلُ.
8- ذَكَرَ الأحجارَ بِناءً على الأغلبِ في أعمالِ المُسْتَجْمِرِينَ، وإلاَّ فالقَصْدُ التطهُّرُ بالحجارةِ، أو ما قامَ مقامَها في الإنقاءِ مِن الأخشابِ أو الخِرَقِ أو الوَرَقِ المُنَشِّفِ ونحوِ ذلكَ؛ لأنَّ الغرضَ التطهيرُ، لا نوعٌ بعينِه.
9- ليسَ المرادُ بالأحجارِ عَدَدَها، وإنما المرادُ بذلك المَسَحَاتُ.
قالَ في الرَّوْضِ وحاشيتِه: ويُشْتَرَطُ ثلاثُ مَسَحَاتٍ مُنَقِّيَةٍ فأكثرُ إنْ لم يَحْصُلِ الإنقاءُ بثلاثٍ، ولو كانَتِ الثلاثُ بحجرٍ ذِي شُعَبٍ أَجْزَتْ إنْ أَنْقَتْ؛ لحديثِ جابرٍ: ((فَلْيَمْسَحْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ)). فبَيَّنَ أنَّ الغرضَ عددُ المَسَحاتِ لا الأحجارُ؛ ولأنه يَحْصُلُ بالشُّعَبِ الثلاثِ ما يَحْصُلُ بالأحجارِ الثلاثةِ مِن كلِّ وجهٍ، فلا فَرْقَ.
10- والإنقاءُ بالحَجَرِ أنْ لا يَبْقَى أثرٌ يُزِيلُه إلاَّ بالماءِ، قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: علامةُ الإنقاءِ أنْ لا يَبْقَى في المَحَلِّ شيءٌ يُزِيلُه الحَجَرُ.
11- النهيُ عن الاستجمارِ بالرَّجِيعِ؛ لأنه إمَّا نَجِسٌ، وإما لأنه عَلَفُ دوابِّ الجِنِّ.
12- النهيُ عن الاستجمارِ بالعظمِ؛ لأنه إما نَجِسٌ، وإما لأنه طعامُ الجِنِّ أَنْفُسِهِم.
13- لعلَّ قائلاً يقولُ: إننا لا نَرَى الجِنَّ ولا دوابَّهُم، ولا نَتَصَوَّرُ وجودَ لحمٍ يَنْبُتُ على العَظْمِ لِيَكُونَ طعاماً لهم، ولا نَتَصَوَّرُ كيفَ يكونُ الروْثُ عَلَفاً لدوابِّهم.
والجوابُ: أنَّ مثلَ هذه الأمورِ من الأحكامِ السمعيَّةِ التوقيفيَّةِ، يَجِبُ الإيمانُ بها متَى صَحَّتْ أخبارُها، ولو لم نُدْرِكْ كيفِيَّتَها، فنحنُ لم نُؤْتَ مِن العلمِ إلاَّ قليلاً، وهناكَ عالَمٌ غَيْبِيٌّ لم نَطَّلِعْ عليه، ولا على أحوالِه، والإيمانُ به من الإيمانِ بالغَيْبِ الذي مَدَحَ اللَّهُ تعالى أهلَه بقولِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]
14- قالَ الفُقهاءُ: والإنقاءُ بالماءِ: الصبُّ معَ الدَّلْكِ حتى يَعُودَ المَحَلُّ كما كانَ قبلَ خُرُوجِ الخارِجِ ويَسْتَرْخِيَ قليلاً.
84 - ولِلسَّبْعَةِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)).
مفرداتُ الحديثِ:
- لاَ تَسْتَقْبِلُوا: (لا) ناهيةٌ، والفعلُ بعدَها مجزومٌ بها.
- شَرِّقوا أو غَرِّبوا: من التشريقِ أو التغريبِ؛ أي: اجْعَلُوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشْرِقِ أو قِبَلَ المَغْرِبِ حالَ قضاءِ الحاجةِ، وهو خطابٌ لأهلِ المدينةِ ولمَن كانَتْ قِبْلَتُه على ذلكَ، ممَّن إذا شَرَّقُوا أو غَرَّبُوا لا يَسْتَقْبِلُونَ القبلةَ ولا يَسْتَدْبِرُونَها.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- النهيُ عن استقبالِ أو استدبارِ القبلةِ أثناءَ البوْلِ أو الغائطِ.
2- الأمرُ بالتشريقِ أو التغريبِ حتى يَنْحَرِفَ عن استقبالِ القبلةِ واستدبارِها.
3- الأصلُ: أنَّ أَمْرَ الشارعِ ونَهْيَهُ عامَّانِ لجميعِ الأُمَّةِ، ولَكِنْ قدْ يَكونانِ خاصَّيْنِ لبعضِ الأُمَّةِ؛ فإنَّ قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)). أمرٌ بالنسبةِ لأهلِ المدينةِ المنوَّرَةِ ومَن هم في سَمْتِهِم، ممَّن إذَا شَرَّقَ أو غَرَّبَ لا يَسْتَقْبِلُ القبلةَ.
4- الحكمةُ في هذا هو تعظيمُ الكعبةِ المشرَّفَةِ، وتَقَدَّمَ الكلامُ عليه.
5- حُسْنُ تعليمِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه لَمَّا بَيَّنَ الجهةَ المحرَّمَةَ في الاستقبالِ والاستدبارِ؛ عَلَّمَهُم مخرجاً مُباحاً، فلم يَسُدَّ عليهم البابَ ويَتْرُكْهُم، ولكِنَّه أَرْشَدَهم إلى الطريقِ المباحةِ، وله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مِثْلِ هذا قضايا كثيرةٌ؛ مثلُ إرشادِه جابِيَ التمرِ مِن خَيْبَرَ: ((بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً)).
6- هذا المنهجُ الحكيمُ في الفتوَى هو الذي يَتَعَيَّنُ على المُفْتِينَ أنْ يَسْلُكُوه، فإنَّ وَصْدَ البابِ أمامَ المُسْتَفْتِي بالتحريمِ والسكوتِ عن مسألةِ الناسِ وهم في حاجةٍ إليها، ويُوجَدُ في الشريعةِ طريقٌ مُباحٌ بدلاً عنها يُمْكِنُ سُلُوكُها- مِمَّا يُسَبِّبُ للناسِ الحَرَجَ والضِّيقَ في شريعةٍ وَسَّعَها اللَّهُ عليهم، أَوْ يُسَبِّبُ الإقدامَ على الحرامِ.
خِلافُ العلماءِ:
جاءَ في البُخَارِيِّ (145)، ومسلمٍ (266) عن ابنِ عُمَرَ قالَ: رَقِيتُ يوماً على بيتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حاجَتَه مُسْتَقْبِلاً الشامَ، مُسْتَدْبِراً الكعبةَ. ومِن أجلِ هذا الحديثِ اخْتَلَفَ العلماءُ:
فذهَبَ ابنُ حَزْمٍ: إلى تحريمِ استقبالِ القبلةِ واستدبارِها أثناءَ قضاءِ الحاجةِ مُطلقاً؛ في الفضاءِ والبُنيانِ، ويُرْوَى هذا القولُ عن أبي أيُّوبَ ومُجَاهِدٍ والنَّخَعِيِّ والثَّوْرِيِّ والشيخِ تَقِيِّ الدِّينِ وابنِ القَيِّمِ.
واحْتَجُّوا بحديثِ أبي أيُّوبَ؛ فإنَّ القولَ لا يُعَارِضُ الفعلَ في حديثِ ابنِ عمرَ؛ فإنَّ الفعلَ يُحْكَى ويَحْتَمِلُ الخصوصيَّةَ أو النِّسيانَ أو العُذْرَ، وأمَّا القَوْلُ: فهو مُحْكَمٌ لا تَتَطَرَّقُ إليه احتمالاتٌ.
وذَهَبَ إلى جوازِ الاستدبارِ مُطلقاً: عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ ورَبِيعَةُ وداودُ، مُحْتَجِّينَ بحديثِ ابنِ عمرَ الذي في الصحيحيْنِ؛ فقدْ خَصَّصَ الاستدبارَ من حديثِ أبي أيُّوبَ، أمَّا الاستقبالُ فيَبْقَى داخلاً في عمومِ حديثِ أبي أيُّوبَ مِن عدمِ الجوازِ.
وذَهَبَ إلى التفصيلِ، وهو جوازُه في البناءِ وتحريمُه في الفضاءِ الأَئِمَّةُ: مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابنِ عُمَرَ والشَّعْبِيِّ.
وقالوا: إن الأدلَّةَ تَجْتَمِعُ في هذا القولِ، ويَحْصُلُ إعمالُها كلِّها.
قالَ الصَّنْعَانِيُّ: وهذا القولُ ليسَ ببعيدٍ؛ لإبقاءِ أحاديثِ النهيِ على بابِها وأحاديثِ الإباحةِ كذلك.
قُلْتُ: وهذا هو الراجِحُ من الأقوالِ الثلاثةِ. وباللَّهِ التوفيقُ.