بابُ الآنِيَةِ
الآنِيَةُ: جَمْعُ إنَاءٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا بَوَّبَ لَهَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ نَهَى عَنْ بَعْضِهَا، فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامٌ.
1/14- عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(عَنْ حُذَيْفَةَ) أَيْ: أَرْوِي أَوْ أَذْكُرُ، كَمَا سَلَفَ، وَحُذَيْفَةُ بِضَمِّ الحَاءِ المُهْمَلَةِ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَفَاءٍ، هُوَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ (ابْنِ اليَمَانِ) بِفَتْحِ المُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ المِيمِ، آخِرَهُ نُونٌ.
وَحُذَيْفَةُ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ جَلِيلانِ شَهِدَا أُحُداً، وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَمَاتَ بِالمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
(قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا) جَمْعُ صَحْفَةٍ.
قَالَ الكَشَّافُ وَالكِسَائِيُّ: الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخَمْسَةَ (فَإِنَّهَا) أَيْ: آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَصِحَافُهُمَا (لَهُمْ) أَيْ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرُوا فَهُمْ مَعْلُومُونَ (فِي الدُّنْيَا) إخْبَارٌ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ لا إخْبَارٌ بِحِلِّهَا لَهُمْ (وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ.
وَالحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَصِحَافِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ الإِنَاءُ خَالِصاً ذَهَباً أَوْ مَخْلُوطاً بِالفِضَّةِ؛ إذْ هُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ أَنَّهُ إنَاءُ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِمَا.
وَاخْتُلِفَ فِي العِلَّةِ فَقِيلَ: لِلْخُيَلاءِ. وَقِيلَ: بَلْ لِكَوْنِهِ ذَهَباً وَفِضَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي الإِنَاءِ المَطْلِيِّ بِهِمَا هَلْ يُلْحَقُ بِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ أَوْ لا؟ فَقِيلَ: إنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلُهُمَا حَرُمَ إجْمَاعاً؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَإِنْ كَانَ لا يُمْكِنُ فَصْلُهُمَا لَم يَحْرُمْ. والأقربُ أنه إذا أُطْلِقَ عليه أنه إناءُ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ, وسُمِّيَ به, شَمِلَه لفظُ الحديثِ, وإلاَّ فلا, والعِبرةُ بتسميتِه في عصرِ النبوَّةِ، فإنْ جُهِلَتْ فالأصلُ الحِلُّ.
وَأَمَّا الإِنَاءُ المُضَبَّبُ بِهِمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ إجْمَاعاً، وَهَذَا فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيمَا ذُكِرَ لا خِلافَ فِيهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الأكلِ والشُّرْبِ مِنْ سَائِرِ الِاسْتِعْمَالاتِ فهل يَحْرُمُ؟ فإنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَقِيلَ يَحْرُمُ أيضاً سَائِرُ الِاسْتِعْمَالاتِ إجْمَاعاً؛ وَنَازَعَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ: النَّصُّ وَرَدَ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ لا غَيْرُ، وَإِلْحَاقُ سَائِرِ الِاسْتِعْمَالاتِ بِهِمَا قِيَاساً لا تَتِمُّ فِيهِ شَرَائِطُ القِيَاسِ.
وَالحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ القَائِلُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ غَيْرِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِمَا، إذْ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ، وَدَعْوَى الإِجْمَاعِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا مِنْ شُؤْمِ تَبْدِيلِ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ بِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ.
فَعَدَلُوا عَنْ عِبَارَتِهِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَهَجَرُوا العِبَارَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَجَاؤُوا بِلَفْظٍ عَامٍّ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَهَا نَظَائِرُ فِي عِبَارَاتِهِمْ، وَكأنه ذَكَرَ المُصَنِّفُ هَذَا الحَدِيثَ هُنَا لِإِفَادَةِ تَحْرِيمِ الوُضُوءِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَبَابُ هَذَا الحَدِيثِ بَابُ الأَطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ.
ثُمَّ هَلْ يُلْحَقُ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ نَفَائِسُ الأَحْجَارِ كَاليَاقُوتِ وَالجَوَاهِرِ؟ فِيهِ خِلافٌ، وَالأَظْهَرُ عَدَمُ إلْحَاقِهِ، وَجَوَازُهُ عَلَى أَصْلِ الإِبَاحَةِ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهَا.
2/15 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، كَانَتْ تَحْتَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، هَاجَرَتْ إلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي المَدِينَةِ بَعْدَ عَوْدَتِهِمَا مِن الحَبَشَةِ، وَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِن الهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سنةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَتْ بِالبَقِيعِ، وَعُمْرُهَا أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
(قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الفِضَّةِ) هَكَذَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: ((فِي إنَاءِ الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ))، (إنَّمَا يُجَرْجِرُ) بِضَمِّ المُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَجِيمٍ فَرَاءٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ. وَالجَرْجَرَةُ: صَوْتُ وُقُوعِ المَاءِ فِي الجَوْفِ، وَصَوْتُ البَعِيرِ عِنْدَ الجِرَّةِ، جَعَلَ الشُّرْبَ وَالجَرْعَ جَرْجَرَةً (فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرْوَى بِرَفْعِ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ مَجَازاً، وَإِلَّا فَنَارُ جَهَنَّمَ عَلَى الحَقِيقَةِ لا تُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ، إنَّمَا جَعَلَ جَرْعَ الإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الأَوَانِي المَنْهِيِّ عَنْهَا، وَاسْتِحْقَاقَ العِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، كَجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِهِ مَجَازاً، هَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ، وَذُكِّرَ الفِعْلُ - يَعْنِي (يُجَرْجِرُ) - وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ النَّارَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ؛ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِهَا؛ وَلِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَالأَكْثَرُ عَلَى نَصْبِ نَارِ جَهَنَّمَ، وَفَاعِلُ الجَرْجَرَةِ هُوَ الشَّارِبُ، وَالنَّارُ مَفْعُولُهُ.
وَالمَعْنَى: كَأَنَّمَا يَجْرَعُ نَارَ جَهَنَّمَ، مِنْ بَابِ {إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالنَّصْبُ هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّارِحُونَ وَأَهْلُ الغريبِ وَاللُّغَةِ. وَجَزَمَ بِهِ الأَزْهَرِيُّ.
وَجَهَنَّمُ عَجَمِيَّةٌ لا تَنْصَرِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالعَلَمِيَّةِ، إذْ هِيَ عَلَمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا، وَقِيلَ: لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي العذَابِ. وَالحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الأَوَّلُ.
3/16- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهَرَ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
- وَعِنْدَ الأَرْبَعَةِ ((أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ)).
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذَا دُبِغَ الإِهَابُ) بِزِنَةِ كِتَابٍ، هُوَ الجِلْدُ، أَوْ مَا لَمْ يُدْبَغْ كَمَا فِي القَامُوسِ، وَمِثْلُهُ فِي النِّهَايَةِ ((فَقَدْ طَهَرَ)) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالهَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا كَمَا يُفِيدُهُ القَامُوسُ.
(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) بِهَذَا اللَّفْظِ (وعِنْدَ الأَرْبَعَةِ) وَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ: (أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ) تَمَامُهُ: ((فَقَدْ طَهَرَ)).
وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ وإنَّمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ، وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ، وَذُكِرَ لَهُ سَبَبٌ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ لِمَيْمُونَةَ فَقَالَ: ((أَلاَّ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَإِنَّ دِبَاغَ الأَدِيمِ طَهُورٌ)).
وَرَوَى البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَوْدَةَ قَالَتْ: "مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا". وَالحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجِلْدِ مَيْتَةِ كُلِّ حَيَوَانٍ، كَمَا يُفِيدُهُ عُمُومُ كَلِمَةِ ((أَيُّمَا)) وَأَنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ.
وَفِي المَسْأَلَةِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُ جِلْدَ المَيْتَةِ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ وَلا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ، عَمَلاً بِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهوَابْنِ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي: وهو أظهرُ الأَقْوَالِ دليلاً: لا يُطَهِّرُ الدِّبَاغُ شَيْئاً، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الهَادَوِيَّةِ.
وَيُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَه الشَّافِعِيُّ، وأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالأَرْبَعَةُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ: ((أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِن المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ)) وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ: "قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ". وفي روايةٍ: "بشهرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ".
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَكَانَ أَحْمَدُ يَذْهَبُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: هَذَا آخِرُ الأَمْرَيْنِ. ثُمَّ تَرَكَهُ، قَالُوا: فَهَذَا نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِدَلالَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ مِن المَيْتَةِ بِإِهَابِهَا وَعَصَبِهَا.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ فِي سَنَدِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ تارَةً عَنْ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَارَةً عَنْ مَشَايِخَ مِنْ جُهَيْنَةَ، وتَارَةً عَمَّنْ قَرَأَ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُضْطَرِبٌ أَيْضاً فِي مَتْنِهِ.
فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي رِوَايَةِ الأَكْثرِ، وَرُوِيَ بِالتَّقْيِيدِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْماً أَوْ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ إنَّهُ مُعَلٌّ أَيْضاً بِالإِرْسَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالِانْقِطَاعِ؛ فِإنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى مِنِ ابْنِ عُكَيْمٍ؛ وَلِذَلِكَ تَرَكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ القَوْلَ بِهِ آخِراً، وَكَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ أَوَّلاً كَمَا قَالَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَثَانِياً: بِأَنَّهُ لا يَقْوَى عَلَى النَّسْخِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الدِّبَاغِ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَه مُسْلِمٌ وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ، فَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَانِ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ثَلاثَةٌ، وَعَنْ أَنَسٍ حَدِيثَانِ، وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ المُحَبِّقِ وَعَائِشَةَ وَالمُغِيرَةِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَلِأَنَّ النَّاسِخَ لا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ تَأَخُّرِهِ، وَلا دَلِيلَ عَلَى تَأَخُّرِ حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، وَرِوَايَةُ التَّارِيخِ فِيهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ مُعَلَّةٌ، فَلا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ عَلَى النَّسْخِ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رِوَايَةُ التَّارِيخِ صَحِيحَةً مَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الأَمْرَيْنِ جَزْماً، وَلا يُقَالُ: فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ النَّسْخُ تَعَارَضَ الحَدِيثَانِ، حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَعَ التَّعَارُضِ يُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ أَو الوَقْفِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لا تَعَارُضَ إلَّا مَعَ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ كَمَا عَرَفْتَ مِنْ صِحَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِن الرُّوَاةِ، وَعَدَمِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ.
وَثَالِثاً: بِأَنَّ الإِهَابَ كَمَا عَرَفْتَ مِنَ القَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ اسْمٌ لِمَا لم يُدْبَغْ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الإِهَابُ لِمَا لَمْ يُدْبَغْ، وَبَعْدَ الدَّبْغِ يُقَالُ لَهُ: شَنٌّ وَقِرْبَةٌ، وَبِهِ جَزَمَ الجَوْهَرِيُّ. قِيلَ: فَلَمَّا احْتَمَلَ الأَمْرَيْنِ ووَرَدَ الحَدِيثَانِ فِي صُورَةِ المُتَعَارِضَيْنِ، جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَن الِانْتِفَاعِ بِالإِهَابِ مَا لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا دُبِغَ لَمْ يُسَمَّ إهَاباً، فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَهُوَ حَسَنٌ.
الثَّالِثُ: يُطَهِّرُ جِلْدَ مَيْتَةِ المَأْكُولِ لا غَيْرَهُ. ويَرُدُّهُ عُمُومُ ((أَيُّمَا إهَابٍ)).
الرَّابِعُ: يُطَهِّرُ الجَمِيعَ إلَّا الخِنْزِيرَ، فَإِنَّهُ لا جِلْدَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
الخَامِسُ: يُطَهِّرُ إلَّا الخِنْزِيرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَالضَّمِيرُ لِلْخِنْزِيرِ، فَقَدْ حُكِمَ بِرِجْسِيَّتِهِ كُلِّهِ، وَالكَلْبُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ بِجَامِعِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
السَّادِسُ: يُطَهِّرُ الجَمِيعَ لَكِنْ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي اليَابِسَاتِ دُونَ المَائِعَاتِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ جَمْعاً مِنْهُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ لَمَّا تَعَارَضَتْ.
السَّابِعُ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ المَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ تُدْبَغْ ظَاهِراً وَبَاطِناً؛ لِمَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: ((هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟)) قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ! قَالَ: ((إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا)). وَهُوَ رَأْيُ الزُّهْرِيِّ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدَتْهُ أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ الَّتِي سَلَفَتْ.
4/17- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ المُحَبِّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دِبَاغُ جُلُودِ المَيْتَةِ طَهُورُهَا)) صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ المُحَبِّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هُوَ بِضَمِّ المِيمِ، وَفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ المَكْسُورَةِ، وَالقَافِ، وَسَلَمَةُ صَحَابِيٌّ يُعَدُّ فِي البَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سِنَانٌ، وَلِسِنَانٍ أَيْضاً صُحْبَةٌ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِبَاغُ جُلُودِ المَيْتَةِ طَهُورُهَا. صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) أَيْ: أَخْرَجَهُ وَصَحَّحَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ غَيْرُ ابْنِ حِبَّانَ هَذَا الحَدِيثَ لَكِنْ بِأَلْفَاظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالبَيْهَقِيِّ وابنِ حِبَّانَ، عَنْ سَلَمَةَ بِلَفْظِ: ((دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ)) وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: ((دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا)).
وَفِي آخَرَ: ((دِبَاغُهَا طَهُورُهَا)).
وَفِي لَفْظٍ: ((ذَكَاتُهَا دِبَاغُهَا)).
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: ((ذَكَاةُ الأَدِيمِ دِبَاغُهُ)) وَفِي البَابِ أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي تَشْبِيهِهِ الدِّبَاغَ بِالذَّكَاةِ إعْلامٌ بِأَنَّ الدِّبَاغَ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ تَذْكِيَةِ الشَّاةِ فِي الإِحْلالِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يُطَهِّرُهَا وَيُحِلُّ أَكْلَهَا.
5/18- وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: ((لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا)). فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ! فَقَالَ: ((يُطَهِّرُهَا المَاءُ وَالقَرَظُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
(وَعَنْ مَيْمُونَةَ) هِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحَارِثِ الهِلالِيَّةُ، كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ، تَزَوَّجَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: إحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ؛ وَهِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا.
(قَالَتْ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا؟ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ! فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا المَاءُ وَالقَرَظُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: ((أَلَيْسَ فِي المَاءِ وَالقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا؟)) وَأَمَّا رِوَايَةُ: ((أَلَيْسَ فِي الشَّثِّ وَالقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا؟)) فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ لا أَصْلَ لَهُ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يَجُوزُ الدِّبَاغُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُنَشِّفُ فَضَلاتِ الجِلْدِ، وَيُطَيِّبُهُ وَيَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الفَسَادِ عَلَيْهِ كَالشَّثِّ - بالمعجمةِ، وجزَمَ الأَزْهَرِيُّ بأنَّ آخِرَه مُوَحَّدَةٌ, وقالَ: هو من الجواهرِ التي جعَلَها اللَّهُ في الأرضِ, تُشْبِهُ الزَّاجَ. وجَزَمَ غيرُه بأنَّ آخِرَه مُثَلَّثَةٌ, قالَ الجَوْهَرِيُّ: إنه طَيِّبُ الرائحةِ، مُرُّ الطعْمِ يُدْبَغُ به - وَالقَرَظِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الأَدْوِيَةِ الطَّاهِرَةِ، وَلا يَحْصُلُ بِالشَّمْسِ إلَّا عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ وَلا بِالتُّرَابِ وَالرَّمَادِ وَالمِلْحِ عَلَى الأَصَحِّ.