سورة آل عمران
فإن قيل: كيف قال تعالى: (نزّل عليك الكتاب بالحقّ).
ثم قال تعالى: (وأنزل التّوراة والإنجيل)؟
قلنا: لأن القرآن نزل منجمًا، والتوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة
كذا أجاب الزمخشري وغيره، ويرد عليه قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزل الفرقان). فإن الزمخشري قال: أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصًا، أو أراد به الزبور أو أراد به القرآن، وكرر ذلك تعظيمًا، ويرد عليه بعد ذلك: (هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ).
وقوله تعالى: (والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك).
وقوله تعالى: (وقال الّذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً).
والذي وقع لي فيه -والله أعلم -أن التضعيف في نزل، والهمزة في أنزل كلاهما للتعدية، لأن نزل فعل لازم في نفسه وإذا كانا للتعدية لا يكونان لمعنى آخر وهو التكثير أو نحوه لأنه لا نظير له، فإنما جمع بينهما والمعنى واحد، وهو التعدية جريًا على
عادة العرب في افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه على وجوه شتى.
ويؤيد هذا قوله تعالى: (لولا نزل عليه آية من ربه). وقال
[أنموذج جليل: 38]
في موضع آخر: (لولا نزّل عليه آيةٌ من ربّه).
فإن قيل: كيف قال: (منه آياتٌ محكماتٌ). ومن للتبعيض.
وقال في موضع آخر: (كتابٌ أحكمت آياته) وهذا يقتضى كون جميع آياته محكمة؟
قلنا: المراد بقوله: "منه آيات محكمات " أي ناسخات وآخر متشابهات " أي منسوخات، وقيل: المحكمات العقليات والمتشابهات الشرعيات، وقيل: المحكمات ما ظهر معناها والمتشابهات ما كان في معناها غموض ودقة، والمراد بقوله تعالى "كتاب أحكمت آياته ".
أن جميع القرآن صحيح ثابت مصون عن الخلل والزلل فلا تنافى.
فإن قيل: كيف قال هنا: (وأخر متشابهاتٌ).
جعل بعضه متشابهًا، وقال في موضع آخر: (كتابًا متشابهًا). وصفه كله بكونه متشابهًا.
قلنا: المراد بقوله: (وأخر متشابهاتٌ).
ما سبق ذكره، والمراد بقوله: (كتابًا متشابهًا).
أنه يشبه بعضه بعضًا في الصحة وعدم
التناقض وتأييد بعضه البعض فلا تنافى.
فإن قيل: ما فائدة إنزال المتشابه بالمعنى الأخير، والمقصود من إنزال القرآن إنما هو البيان والهدى، والغموض والدقة في المعاني ينافى هذا المقصود أو يبعده؟
[أنموذج جليل: 39]
قلنا: لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعًا ولا يحتمل غير ظاهره، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح والمعاني فيه متعارضة متزاحمة، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم نزل القرآن بالنوعين تحقيقًا لمعنى الإعجاز، كأنه قال عارضوه بأي النوعين شئتم فإنه جامع لهما، وأنزله الله محكمًا ومتشابهًا ليختبر من يؤمن بكله ويرد علم ما تشابه منه إلى الله، فيثيبه، ومن يرتاب فيه ويشك وهو المنافق فيعاقبه، كما ابتلى عباده
بنهر طالوت وغيره أو أراد أن يشتغل العلماء برد المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة، ولو كان كله ظاهرًا جليًا لاستوى فيه العلماء والجهال ولماتت الخواطر لعدم البحث والاستنباط، فإن زناد الفكر إنما يقدح بزيادة المشكلات، ولهذا قال بعض الحكماء: عيب الغنى أنه يورث البلادة ويميت الخاطر، وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر واستنباط الحيل في الكسب.