باب إزالة النجاسة
قوله رحمه الله :[ باب إزالة ] الإزالة : المحو ، وزوال الشيء : ذهابه .
والنجاسة مأخوذة من النجس ، وهو الشيء المستقذر ، والمراد بها النجاسة الشرعية أي : التي حكم الشرع بقذارتها ، ووجوب إزالتها لعبادة صلاة ، ونحوها كالطواف بالبيت .
[ باب إزالة النجاسة ] : أولاً : ما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله ؟
والجواب : أن المصنف رحمه الله شرع في هذا الباب في بيان النوع الثاني من أنواع الطهارة ، وهو طهارة الخبث بعد بيانه للنوع الأول منهما ، وهو طهارة الحدث ، وطهارة الحدث السابقة بيّن فيها الوضوء ، ونواقضه ، والغسل ، وموجباته ، والبدل عنهما ، وهو التّيمم ، وبعد الفراغ من بيان جميع ذلك ناسب أن يعتني ببيان النوع الثاني من الطهارة ، وهو طهارة الخبث ، وهذا النوع يتحقق بإزالة النجاسة عن الثوب ، والبدن ، والمكان ، وهو ما سيبينه رحمه الله .
ثم إنّ الشرع قد أمر بإزالة النجاسة عن بدن المصلي ، وثوبه ، والمكان الذي يصلي فيه .
أما أمره بإزالة النجاسة عن البدن فيدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح :[ إِغْسِلي عَنْكِ الدمَ ، وصلّ ] فأمرها بطهارة بدنها من نجاسة الدم ، وكذلك قوله كما في الصحيح :[ إِذَا إسْتَيقظَ أحدُكمْ منْ نومِه فليغسلْ يدَيْه ثَلاثاً قبلَ أنْ يُدخلَهما في الإِناءِ ] وغير ذلك من النصوص الواردة .
وأما طهارة الثوب فقد أشار الله تعالى إليها بقوله :{ وثيابك فطهر } فأمر بطهارة الثوب للصلاة ، وأما طهارة المكان فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح في قصّة بول الأعرابي لما بال على أرض المسجد حيث قال صلى الله عليه وسلم :[ أَرِيقُوا عليه سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ] وكذلك أمر المصلي في نعليه إذا وجد فيهما الأذى أن يدلكهما .
فهذه النصوص تدل على وجوب إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع في : البدن، والثوب ، والمكان ، ثم إزالة النجاسة إما أن تكون بالماء ، وإمـا أن تكون بما في حكم الماء في صور مخصوصة ، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل ؛ لأن الله-تعالى- بيّن في كتابه ، وعلى لسان رسوله-r- أن الماء أصل المطهرات ؛ فقال تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }(1) أي : طاهراً في نفسه مُطهراً لغيره ، وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر :[ هُو الطَهُور مَاؤُه ] فدلّ هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير ، وقد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة ، مثال ذلك : طهارة الخارج من السبيلين تكون بكل طاهر كالتراب ، والحصى ، والمنديل .
قوله رحمه الله :[ يُجْزِئُ في غَسْل النّجاساتِ كلّها إِذا كانتْ عَلى الأرضِ غسلةٌ واحدةٌ ] : يجزئ : أي يكفي ، وقوله :[ في غَسْلِ النّجاساتِ ] أي : في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض ، مثال ذلك : لو وقع بول على أرض مسجد ، وكانت من تراب ، يجزئ في طهارتها أن يَصبّ المكلفُ صبّةً من ماء تكون أكثر من البول ، أما إذا كانت مثله ، أو أقل ، فإنها لا تُجزئ ، إنما تكون مجزئة إذا كانت أكثر من النجاسة ، ولذلك قال-r- :[ أَريقُوا عَليْه سَجْلاً منْ ماءٍ ] وذلك في تطهير موضع بول الأعرابي ، وفي رواية : (( دلواً مِنْ مَاءٍ )) ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي-r- لم يقل : أريقوا عليه ماءً ، ولكن قال : (( سجلاً )) فدل على أن المكاثرة مطلوبة ، وأنه لا يكفي أن تَصُبّ أيُّ ماء ، بل لا بد من أن يكون أكثر من النجاسة المصبوب عليها ، وجه ذلك في قوله : (( سجلاً )) فإن السجل كما هو معلوم الدّلو ، بل قال بعض شراح الحديث : هو الدلو الكبير ، وإن كان ظاهر الحديث السجل العرفي ، وهو الدلو المعتاد ، فإن الدلو إذا نظرت إليه قرابة السطل ، وقرابة السطل إذا صببته على بول فإنه أضعاف البول ، وهذا يدل على أن النجاسة تطهر بالمكاثرة ، وعليه فيكون قول المصنف :[ غَسْلةٌ واحدة ] ليس هو على إطلاقه بحيث يشمل أيّ صبة ، بل لابد من أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيلها ، وهذا ما أكده بقوله بعد ذلك :[ تذهب بعين النجاسة ] ، وهذا الحكم من سماحة الشريعة ، ويسرها ، ورحمة الله-U- بالعباد ، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة إذا أصابت الأرض الترابية في مسجد ، أو غرفة فإنه لا يمكن للمكلف أن يقلع التراب ويغسله مثل ما يفعل بثوبه ، ولو أمر بذلك لكان فيه حـرج ، ومشقّةٌ ، فقال عليه الصلاة والسلام :[ أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ ] فدلّ على سماحة الشريعة ، ويسرها ، فإنّ صَبَّ الماء على هذا الوجه أرفق بالناس .
وقوله رحمه الله :[ غسلة واحدة ] ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :[ أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ ] فلم يشترط سجلين ، أو ثلاثة ، فدلّ على أنّ الواجب ، والمجزئ صبّةٌ واحدةٌ بشرط ما قدمنا ، وهو أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يحصل بها التطهير ، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله :
[ تَذْهَبُ بِعَيْنِ النّجاسةِ ] : فلا بد من كونها تذهب بالنجاسة فلا يجزئ ما كان أقل من النجاسة ، أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها به ، فيلزمه أن يزيد عليها فتكون أكثر من صبة إذا لم تزل ؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة ، فإذا بقي أثرها كان صب الماء وجوده ، وعدمه على حدٍّ سواء في إزالتها ، ولذلك لا بد من أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن بزوالها ، هذا كله إذا كانت الأرض ترابية ، أما إذا كان ما على الأرض من القماش ، ونحوه مما يُمكن رفعُه ، وغسله ، وتطهيره فإنه حينئذ يُرفع ، ويُغسل ؛ كالثوب ؛ ولذلك يرفع القدر الذي أصابته النجاسة ، ويصب عليه الماء هذه طريقة ، أو يعصره إذا أمكن عصره ، وأما إذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد البساط الموكيت ، ونحوه مما يشقُّ فيه العصر فإنه يكفيه صب الماء ، ثم يسحبُ ، ويُشْفَط ، أو يُنْصَبُ ، ويجفّفُ حتى يغلب على ظنك أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصبّ تُذهب عينَ النجاسة ، وأثرها ، ولا يشترط أمر زائد على ذلك .
قوله رحمه الله :[ وعَلى غَيْرِها سَبعٌ ، إحداها بترابٍ في : نجاسَةِ كلبٍ ، وخنـزيرٍ ] : عندنا النجاسات إما مخصوصة ، وإما عامة ، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة قلنا يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة ، ولا يشترط العصر في ذلك كما ذكرناه .
ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب ، والخنـزير : أما نجاسة الكلب ؛ فورد فيها حديث أبي هريرة ، وعبدالله بن مُغفلٍ رضي الله عنهما الثابتان في الصحيح أنّ النبي-r- قال :[ طُهُورُ إِناءِ أحدِكُمْ إِذا ولغَ فِيه الكلبُ أنْ يَغْسِلَه سبعَ مَرّاتٍ ] في رواية (( إِحدَاهُنّ )) ، وفي رواية (( أولاهُنّ بالتّرابِ )) وفي رواية (( وعَفّروهُ الثّامِنَة بِالتُّرابِ )) هذا الحديث دل على مسائل :
المسألة الأولى : أنه إذا ولغ الكلب في الإناء ، والولوغ أن يُدخل رأسه فيشرب من الإناء ، أو يلحسه بلسانه ، فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب ، وفي التراب ثلاث روايات رواية : (( أولاهُنَّ )) وصورتها أن تأخذ كفاً من تراب ، وترميه في السطل ، أو الماعون الذي ولغ الكلب فيه ، ثم إذا رميت هذا الكفّ من التراب صببت الصبة الأولى من الماء ، ثم الثانية ، والثالثة ، والرابعة ، والخامسة ، والسادسة ، والسابعة ، ويطهر الإناء بذلك ، هذا إذا كانت غسلة التراب الأولى .
وأما رواية : (( إحداهُنَّ )) فهي مطلقة ، إن شئت في الأولى كما ذكرنا ، وإن شئت صببت الماء وغسلت الإناء الغسلة الأولى ، ثم ترمي التراب بعد الغسلة الأولى ، ثم تصب الماء للغسلة الثانية ، فيكون التراب في الثانية ، وهكذا بقية الغسلات بشرط أن لا تتأخر عن الغسلة السابعة من الماء لأنها إذا تأخرت بعد السابعة إحتاج إلى غسلة ماء ثامنة ، وهي زائدة على النصِّ .
أما رواية : (( عَفّروه الثّامنةَ )) فهي محل إشكال ؛ لأنّ الظّاهر أنّ معناه أنْ يكون بعد غسله سبع مـرات يصبّ التراب ، ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب ، وهو قول شاذٌ قال به بعض السلف ، والصحيح أن قول : (( عَفّروهُ الثّامنةَ بالتُّرابِ )) أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب ، وإنما هي ثامنة من حيث العدد ، فتشمل جميع الصور السابقة في رواية " أولاهُنَّ ، و" إِحْدَاهُنَّ " ، ولا تشمل الصورة الشاذّة التي تفهم من ظاهرها ، وبهذا يكون معناها أن يكون التراب في إِحدى الغسلات فيما قبل الغسلة الأخيرة ، فهو غسلة ثامنة من حيث العدد ، والحساب لا أنه يكون غسلة ثامنة ترتيباً ، وبهذا يزول الإشكال ، وتتفق الروايات ، ولا تتعارض .
وتلخص مما سبق : أن الحديث دلّ على وجوب غسل الإناء سبعاً ، وتعفيره الثامنة بالتراب على الصّفة التي ذكرناها ، متى ؟ إذا حصل الولوغ ، وينبني عليه : أنه لو أدخل رأسه ، ولم يصب لسانه الماء ، أو الإناء ، فإنه لا يجب الغسل ، ويبقى الإناءُ على أصله من كونه طاهراً ، بمعنى أنه لا يكفي أن يدخل رأسه فقط ، بل لا بد أن يلغ وهذا هو مفهوم الشرط في قوله عليه الصلاة والسلام : (( إِذا وَلَغَ )) فقيّد الحكم بوجود الولوغ .
إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً ، والثامنة بالتراب ؛ فإنه يرد السؤال : هل الحكم مخصوص بالكلب ؟ أو يُقاسُ عليه غيرُه ؟
قال بعض العلماء : يُقاس على الكلب غيره ، فلو أن خنـزيراً أدخل رأسه ، وولغ في الإناء يغسل سبعاً والثامنة بالتراب ، وهذا مذهب الحنابلة كما نصّ عليه المصنف رحمه الله ، وهو قول مرجوح ، والصحيح أن الحكم يختص بالكلب ، وأما الخنـزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم .
والدليل على ذلك : أن النبي-r- نصّ على الكلب وحده ، وكان الخنـزير موجوداً في زمانه ، فلو كان يأخذ حكم الكلب لنصّ على ذلك عليه الصلاة والسلام ولقال : ( والخنـزير ) ، فاقتصاره على الكلب يدل على أن الحكم مختص به ، وأنه لا يقاس عليه غيره .
قال رحمه الله :[ ويُجْزِئُ عَنِ التُّرابِ أُشْنانٌ ، ونَحوُهُ ] : لا زال المصنف-رحمه الله- يتكلم عن طهارة الإناء إذا ولغ فيه الكلب ، وقد ذكرنا في المجلس الماضي أنّ النبي-r- أمـر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعاً ، وأن يكون ضمن غسلات الماء غسلةٌ بالتراب ، فقال-r- :[ طُهُور إِناءِ أحدِكمْ إذا وَلَغَ فيهِ الكلبُ أنْ يَغْسلَه سبعَ مراتٍ أُولاهُنَّ - وفي رواية - إِحداهُنَّ بالتُّرابِ ] وإذا ثبت أن الكلب إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبعاً ، والثامنة بالتراب .
فإنه يرد السؤال : هل التراب مُتعينٌ ، فلا يُجزئ عنه غيره ، أم أنه غير متعين ؟
في مذهب الشافعية ، والحنابلة رحمهم الله ، وهم الذين يقولون بالتسبيع ، والتتريب ثلاثة أوجه :
الأول : أنه متعيّن ؛ إلا إذا لم يجد غيره ، فيحلُّ محلَّه الأُشْنانُ ، ونحوه .
والثاني : أنه غير متعيّن فيحلُّ محلَّه الأُشنان ، فالمكلف مخيّرٌ إن شاء وضع التراب ، وإن شاء وضع غيرَه.
والثالث : أنه متعيّن ، ولا يحلُّ غيرُه محلَّه ، سواء وجد التراب ، أو لم يجده .
وأقوى هذه الأوجه الأول ، فإذا لم يجد تراباً نظر إلى ما هو أقرب إليه ، وهو الأُشنان ، والصابون ، ونحوه ، ومشى المصنف رحمه الله على القول بعدم التّعيين ، وينبني عليه أنّ المكلف إِنْ شاء غسله بالتّراب ، وإن شاء غسله بالأُشنان ، فهو مخيّر ، ولا يتعيّن عليه التراب .
قوله رحمه الله :[ وفِي نَجاسَةِ غَيْرِهِمَا سَبْعٌ بِلا تُرابٍ ] : قوله :[ وفي نجاسَةِ غيرهما ] : أي غير الكلب والخنـزير تغسل النجاسة سبع مرات بلا تراب ، وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا يجزي أقل من ثلاث غسلات ، وهذا القول وجه عند الحنابلة ، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهرُ العمدة .
القول الثاني : جميع النجاسات من غير الكلب ، والخنـزير بجزيء أن تَصبَّ عليها صَبّةً واحدةً تُذْهِبُ عينَ النجاسة ، وأَثرَها ، وهذا القول مذهب جمهورِ العلماء ، واختاره شيخ الإسلام ابن تميمية-رحمة الله على الجميع- .
القول الثالث : لابد في التطهير بسبع غسلات ، فلو غسلت بأقل لا زال المحل نجساً ، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله ، وهي التي مشى عليها المصنف رحمه الله هنا في اختصاره .
وعند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي :
أن أصحاب القول الأول إستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ إِذَا استيقظَ أحدُكمْ مِنْ نَومِه ؛ فَليغْسِلْ يَديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدْخِلَهُما في الإِنَاءِ ] ، قالوا : إن النبي-r- أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء ؛ فدلّ على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات تزول بها النجاسة .
والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال ، والحكم في الشرع إنما يُنَاط بالغَالبِ .
واستدل أصحاب القول الثاني : بأن الصبّةَ الواحدةَ التي تذهبُ بعين النجاسة مجزئة بدليل السنة في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين في قصة بول الأعرابي ، ووجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ صُبّوا عليْهِ ذَنوباً منْ مَاءٍ ] ووجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الصبة الواحدة مجزئة فدل على أن غسل النجاسة مرة واحدة يعتبر كافياً إذا أذهب عينها .
واستدل الذين قالوا : بالسبع بحديث أيوب بن جابر ، وهو حديث ضعيف :[ أنّ النّبي-r- أمرَ بغسْلِ النجاسةِ سَبْعاً ] .
والذي يترجح في نظري ، والعلم عند الله هو القول الأول ، وذلك لما يلي :
أولاً : لظاهر حديث أبي هريرة-t- ، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع أن النجاسة مشكوك فيها ، يقول عليه الصلاة والسلام :[ فَلْيغْسِلْ يديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدخِلهُما فِي الإِنَاءِ].
ثانياً : أما حديث الأعرابي الذي فيه صبّة واحدة ، فمحمول على الخصوص لأن الأرض لا يمكن عصر النجاسة التي عليها كما تقدم معنا في شرح الحديث ، فنقول : الأصل التثليث إلا إذا كانت النجاسة على الأرض فصبّة واحدة تذهب بعينها ، فنستثني هذا الخاصَّ من العامِّ .
ومما يقوي دليل التثليث : أنّ النبي-r- أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار ، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث .
ثم إن شاهد الحس أن الغالب في الثلاث أنها تزيل النجاسة فصار الإعتداد بها لأن الحكم للغالب .
تنبيه : محلُّ الخلافِ : إذا زالت النجاسة في كل قول بحسبه ، أما إذا لم تزل النجاسة بثلاث ، فإنه بالإجماع يطالب بالزيادة عليها حتى تزول ، فهو مطالب بإزالة النجاسة حتى ولو وصل إلى عشر غسلات عند الجميع .
قوله رحمه الله :[ ولا يَطْهُر مُتنَجّسٌ بِشمسٍ ، ولا بِريحٍ ، ولا دَلْكٍ ] مراده رحمه الله : أن إزالة النجاسة تكون بالماء على الأصل ، ولا يحصل إزالتها بالتبخر بالشمس أو بالريح ، أو بالدّلك ، ومن أمثلة ذلك : لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض تصلي عليه ، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً ، ثم إنك وقفت عليه بعد ذلك فلم ترَ أثراً للنجاسة فقد زال أثر النجاسة عنه بالشمس فهل نحكم بطهارته ، إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : ان النجاسة لا تطهر بالشمس ، بل لا بد من الغسل ، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله .
القول الثاني : ان النجاسة تطهر بالشمس ، وبه قال الإمام أبو حنيفة ، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله.
إستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الصحيح في قصة الأعرابي أنّه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام :[ أَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلاً منْ ماءٍ ] قالوا : لو كانت الأرض تَطْهُر بالشمس لما أمر النبي-r- الصحابة بأن يتكلفوا بصبّ الماء على الموضع ، ولترك الموضع حتى يطهر بالشمس خاصة ، وأن أكثر مسجده عليه الصلاة والسلام لم يكن مسقوفاً ، والغالب أن البول يكون في غير المسقوف ، لأن الغالب في الأعرابي في مثل هذه الحالة أن يقصد الموضع المكشوف من المسجد ، دون المسقوف .
واستدل أصحاب القول الثاني بأن الشّمس تُطهّر كالماء بدليل العقل ، وقالوا : " إِنّ الحُكْمَ يدورُ مع علتهِ وجُوداً ، وعَدما " فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب ؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة ، وقد زالت بالشمس ، فنرجع إلى الأصل الموجب لطهارة الموضع.
والذي يترجح في نظري ، والعلم عند الله هو القول بعدم التّطهير بالشمس ، وذلك لما يلي :
أولاً : أنّ الأصل في الطهارة أن تكون بالماء ، وهو الذي دلت عليه نصوص الشريعة : ففي الكتاب قوله تعالى :{ وأنْزَلْنَا مِنَ السَّمآءِ مَآءً طَهُورَاً } أي : مطهراً ، وفهم منه بعض العلماء رحمهم الله : أن التطهير لا يكون بغيره ؛ إلا ما استثناه الشرع ، ولم يرد في الشمس إستثناء فبقيت على الأصل .
ثانياً : قوة ما ذكره أصحاب هذا القول من دليل السنة .
قوله رحمه الله :[ ولا رِيحٍ ] أي لا يطهر الموضع المتنجس بالرّيح إذا أذهبت الريح النجاسة ، مثال ذلك : لو أن إنساناً أصابت ثوبه نجاسةٌ ، فنشره ، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب ؛ فحينئذٍ نقول : إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن من كونه نجساً ، بل لابد من الغسل .
قوله رحمه الله :[ ولا دَلكٍ ] مراده أن الدّلك لا يُزيل النجاسة ، وهذا هو الأصل فيه : أنه لا يزيل النجاسة إلا أن الشرع استثنى بعض الأحوال ، فاعتبره مزيلاً فيها ، ومن هنا فإن للدّلك حالتين :
الحالة الأولى : ثبت الشرع باعتبارها مُطَهِّرةً .
والحالة الثانية : بقيت على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل .
أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدّلك فيها مطهراً فهي في نجاسة الحذاء ، وثوب المرأة ؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي-r- أنه أمر بالصلاة بالنعال ، ومخالفة اليهود فقال :[ صَلُّوا في نِعَالِكُمْ ] ثم قال : [ فإِنْ وجَدَ أحَدكُم فِيهما أذَىً فليدْلكهما بالأرضِ ، ثم ليُصلِّ فِيهِما ] ، فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدّلك ، لعموم الأذى .
ولما سُئل-عليه الصلاة والسلام- عن ثوب المرأة يصيب النجاسة عند جرّها له ؛ لأن السُّنة في المرأة إذا لبست العباءة أن تكون سابغة بحيث تزيد إلى شبر ، أو ذراع ، وهذا أبلغ في السّتر ، وهذه سنّة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان ، فلما سُئلَ عما يُصيبهُ ذلك الثوب من النجاسة فقال : [ يُطَهّرهُ ما بَعْده ] يعني : لو مرّت المرأة بعباءتها على نجاسة ، ثم مرّت على موضعٍ يابسٍ أو على تراب يابس ؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً لـه ، كما لو صبّ الماء عليه ، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أنه سيمر على تراب ، واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمرُّ على تراب دلّ هذا على أن الأصل في النجاسات أنها تغسل ، إِذْ لو كانت بكل طاهر تزول لما استشكل الصحابة رضي الله عنهم كون المرأة تمرُّ بعباءتها ، وتجرها على الأرض اليابسة .
إذا ثبت هذا ؛ فإن الدّلك في الأصل غير مزيل للنجاسة إلا ما ورد الشرع باعتباره فيه مزيلاً كما في مسألة الحذاء ، وثوب المرأة .
قوله رحمه الله :[ ولا استحالة غير الخمرة ] : الإستحالة : إستفعال من التحوّل ، وهو الإنتقال ، والتبدل ، والإستحالة تكون بنفس الشيء فتتحول المادة النجسة مع مرور الزمن إلى طاهرة ، وقد تتحول بفعل فاعل .
فأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من نفس الشيء فالأصل أنه متنجس لا يحكم بطهارته إلا بالغسل إعمالاً للأدلة الشرعية التي أمرت بغسل النّجس ، إلا أن الشرع استثنى الخمر إذا تخلّلت بنفسها كما سيأتي بإذن الله .
وأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من فعل المكلف ؛ فإنْ كان بصبّ الماء الطهور ، أو الطاهر على الماء المتنجس بأكثر منه حتى يغلب على الظن تغيّره به ، فإن كان طهوراً صار الماء المتنجس طهوراً بالمكاثرة ، وإن كان طاهراً صار طاهراً كذلك ، وهذا النوع راجع إلى تطهير النجاسة بالماء ، ولا إشكال فيه ، وقد ثبتت السنة باعتبار أصله ، كما في حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين في قصّة بول الأعرابي حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم إعتبر التطهير بالمكاثرة ، فصب الطهور على النجس ، وكان الطهور أكثر فاعتبره مطهراً ، فدلّ على اعتبار المكاثرة مؤثرة في الحكم بالطهارة وزوال النجاسة .
قوله رحمه الله :[ غير الخمرة ] غير : استثناء ، الخَمْرةُ : والخَمرُ مأخوذ من قولهم : خمّر الشيء : إذا غطاه وستره ، ومنه الخمار ، إذا غطى الوجه ، وسميت الخمر خمراً ؛ لأنها-والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان ، وتذهب إدراكه ، وشعوره ، والخمرة تكون مائعة في الأصل ، ولكن العلماء إذا أطلقوا الخمر ، فإن مرادهم بها الشراب المائع ، الذي يكون من العنب ، والتمر ، والزبيب ، وغيره من سائر الثمار ، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها ، وقد تكلمنا على هذه المسألة ، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام ، فإن الذين قالوا بنجاستها ، وهم جماهير العلماء حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ }(1) والرِّجْس : هو القذر في أصل اللغة ، والقذر في الشرع أصله النّجس ، وقالوا خرجت الأزلام ، والأنصاب ، فأما الأنصاب فإنها نجسة ؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها كما قال تعالى :{ وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ } ، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي نجسة ، والميسر ، والأزلام خرجا من وصف النجاسة الحسّية بدلالة الحسِّ ، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة تخرجها فبقيت على الأصل ، وهي مستقذرة فتبقى على وصف الرّجس في الشرع ، والشرع قد خصّ الرجس بالنّجس ، فخَصّص الحقيقة اللغوية به .
واستدل من قال بطهارة الخمر : بأمر النبي-r- بإراقة مزادتي الخمر فإنه أمر الصحابي أن يُريقَ الخمرَ من المزادتين ، قالوا : ولم يأمره بغسلهما ، وهذا استدلال ضعيف كما نبّه عليه غير واحد من أهل العلم ، فإن سكوت النبي-r- عن أمره بغسل مزادة الخمر ؛ إنما سكت للعلم به بداهة ، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً ، وأرقت اللبن ماذا تفعل ؟ معلوم بداهة أنك ستغسلها ، فسكت-عليه الصلاة والسلام- عن الأمر بالغسل لكونه واقعاً لا محالة .
وقال بعض العلماء في جوابه : لو قيل بظاهر سكوت النبي-r- أنه يدل على خلوها لاحتج بذلك محتج ، وقال : يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها ، وصبَّ فيها لبناً قبل غسلها ؛ فإنه لا ينكر عليه ؛ لأن النبي-r- لم يأمر بغسلها ، فيكون الجواب : بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة ، فكما أنه في المشروبات المباحة نأمر بالغسل ، ونقول سكت عنه للعلم به بداهة ، كذلك هنا نقول : سكت عن الأمر بغسل نجاسة الخمر للعلم به بداهة ، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن صاحبها سيغسلها لا محالة ، فلم يأمره بالغسل ، ولم يصحّ الإستدلال بسكوته عن أمره بذلك على طهارة الخمر.
وأما صبّها في سكك المدينة فقد بيّن العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها ؛ وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم إذا صبّوها في سكك المدينة فإن الغالب فيهم أنهم يتقونها ، ولو فرض أنهم مشوا عليها بالنعال ، فإن المشي على الأرض اليابسة بعد ذلك يطهّر النِّعال ، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مُرَاقةٍ ، ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة ؛ فإنها تطهره بذلك الجرِّ ، وبناءً على ذلك لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبّه عليه الشيخ الأمين-رحمة الله عليه- وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } وبيّن أن قول الصحابي :[ جَرتْ بِها سِكَكُ المدينةِ ] وصف فيه مبالغة ، وليس على ظاهره ، فأقوى الأقوال القول بنجاستها ، وهو مذهب جماهير السلف ، والخلف ، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة ) ولم يحك قولاً مخالفاً في نجاستها .
وقال بعض العلماء : في إِستدلالهم على طهارة الخمر بدليل غريب حيث قال : إن الله تعالى يقول : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }(1) فوصف الخمر بكونها طهوراً ؛ وقد فاته أن الله-U- حكم بأن خمر الآخرة لا غولٌ فيها ، والغَول ، والكحول هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا ، فإذاً نجاسة الخمر في الدنيا مبنيّة على وجود هذه المادة التي تستحيل إذا صارت الخمر خلاً ، ويُحكم بطهارته ، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى :{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال : بل هو دليل على نجاستها ؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا ، والآخرة متساويتين لما قال :{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } فلما كانت خمرة الدنيا نجسة وصف خمر الآخرة بعكسها ، كما أنه لما كانت خمرة الدنيا تصدّع الرأسَ ، وصف خمرة الآخرة بضدّها فقال سبحانه : { لا يُصَدّعونَ عَنْها ولا يُنزِفُونَ } فصار الإستدلال بهذه الآية مقلوباً ، حيث دلَّ على نجاسة الخمر ، لا على طهارتها .
وإذا ثبت أن الخمر نجسة فإنها إذا إِستحالت ، وصارت خَلاً فلا تخلو تلك الإستحالة من حالتين :
الحالة الأولى : أن تتخلّل بنفسها .
الحالة الثانية : أن تتخلّل بفعل المكلّف .
فإن تخلّلت بنفسها ؛ فإنها تطهر ؛ لدليل الشرع كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي-r- قال :[ نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ ] فأثنى عليه ، والثناء يدلُّ على الإباحة ، فأجاز لك أن تأتدم بالخل ، والخل : أصله خمر ، إذا ثبت هذا ، فإنها إذا تخلّلت بنفسها طَهُرَتْ على ظاهر هذا الحديث .
فقد يقول قائل : إن النبي-r- أثنى على الخلّ مطلقاً ، سواء تخلّل بنفسه ، أو تخلّل بفعل المكلف ؛ فجوابه ما رواه أحمد ، وأبو داود أنّ النبي-r- :[ نهى عَنْ تَخْلِيلِ الخَمْرِ ] ، وذلك لما سئل عن تخليلها ، وقال : (( لا )) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يُريقَ الخمر ، ويَكْسِر الدِّنَّان وهي أوعية الخمر ، ومعلوم أن هذا مال أيتام ، فلو كانت الخمر تتخلّل بفعل المكلف لقال له : خَلّلْهَا ؛ لأنه مال يتيم يُحفظ ، ولا يُراق إذا أمكن استصلاحه ، وبهذا يزول الإشكال ، ويتبيّن أن الحديث الدّال على حلِّ الخل ، وإباحته شرطه أن تكون الخمرة قد تخلّلت بنفسها ، لا بفعل الغير .
قوله رحمه الله :[ أو تَنجّس دهنٌ مائعٌ ؛ لم يَطْهُرْ ] الدهن مثل : السمن ، والزيت ، والسّمنُ من أمثلته : ما يُستخلص من الشحوم من بهيمة الأنعام ، والزيت مثاله : ما يُستخلص من النباتات ، مثل زيت الزيتون ، والسِّمْسِم ، واللّوز ، ونحوه ، فالدهن إذا كان سمناً جامداً ، ووقعت فيه نجاسة ، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها ، لظاهر حديث الفأرة إذا ماتت في السمن الجامد ، فإن النبي-r- أمر بإلقائها ، وما حولها ، فدلّ هذا على أنّ الدهن إذا كان جامداً طَهُر بزوال عين النجاسة بإلقائها ، وما حولها .
وأما إذا كان مائعاً ، ووقعت فيه النجاسة فإنّ المصنف رحمه الله نصّ على أنه متنجس لا يَطْهُر ، وهذا مبني على القول بأن نجاسة الدهن نجاسة ممازجة ، وقد بيّنا هذه المسألة في الشروح في دروس الجامعة وأن للعلماء رحمهم الله قولين مشهورين فيها : هل نجاسة الدهن نجاسة عين ، أو نجاسة مجاورة ؟ فعلى القول الأول لا يمكن تطهيره ، وهو مبنيّ على حديث الفأرة في روايته الضعيفة أنه إذا كان الدهن مائعاً لا يُقْرب ، وهو قولٌ عند المالكية ، والشافعية ، والحنابلة رحمهم الله ، ونصّ عليه المصنف رحمه الله ، بقوله :[ دُهنٌ مائعٌ ] .
والقول الثاني عندهم جميعاً يقول : نجاسة الدهون نجاسة مجاورة ، لا نجاسة عين ، لأن النجاسة إذا وقعت في السمن انحازت ، وتميزت عنه ، فلو وقعت في زيت وجدتها تَنْحازُ ، ولا تختلط به ، قالوا : فنجاسته نجاسة مجاورة ، ونجاسة المجاروة ليست كنجاسة العين التي تحصل بها الممازجة بين النجس والطاهر كما نشاهده في البول ، حينما يقع في الماء ، فإنه يتحلّل فيه ويمتزجا كالشيء الواحد ، ففرّق العلماء بين النجاسة بالمجاورة وهي التي يكون فيها جرم النّجس منفصلاً عن الطاهر ، وبين النجاسة التي تمازج الطاهر .
إذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما ؟ الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن نجاسة الزيوت ، والدهون نجاسة مجاورة ، وليست ممازجة ، فإن دليل الحس ظاهر في قوة هذا القول حيث يشاهد عدم اختلاط النجس بالزيت ، وعدم ممازجته له مما يدل على ضعف تأثيره عن الممازج المخالط ، فنجاسة هذه المائعات ، والدهون نجاسة مجاورة ، وليست بنجاسة ممازجة .
قوله رحمه الله :[ وإِنْ خَفِي موضعُ نجاسةٍ غَسلَ حَتّى يَجزمَ بِزَوالهِ ] : مراده رحمه الله أن يجزم بإصابة النجاسة ، ووقوعها على الطّاهر ، ولكنه لا يستطيع أن يحدّد موضعها حتى يزيلها .
مثال ذلك : لو أن إنساناً مرّ على موضع ، فتطاير من ذلك الموضع النّجس ذرّاتٌ من نجاسة ، وتحقّق أنها أصابت ثوبه ، ولكن لا يعلم أين المكان الذي أصابته النجاسة من الثوب ؟ وحكمه حينئذ : أنه يجب عليه أن يغسل من ثوبه الموضع الذي أصابته النجاسة بقدر ما يجزم معه أنه قد أصاب فيه موضعها.
فلو جزم أن النجاسة أصابت أسفل ثوبه بحدود الربع ، ولكن لا يدري : هل هي في الجانب الأيمن من الثوب ، أو الأيسر فإننا نقول له : إغسل ربع الثوب السُّفلي كلّه حتى يَجزم ، ويَستيقنَ أنّ ثوبه طاهر ، وهكذا بقية الصور والمسائل .
قوله رحمه الله :[ ويَطْهُر بَولُ غلامٍ لَمْ يَأكُلِ الطَّعامَ بِنَضْحِهِ ] أي أن الشرع خفّف في نجاسة الغلام الذي لم يأكل الطعام ، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ قيسٍ بنتَ مِحْصَنٍ رضي الله عنها أَتتْ بِصبِّيها إلى النّبي-r- فأجْلَسه في حِجْرِه ، وكان-صلوات الله وسلامه عليه- يؤتى له بالمولود فيحنّكه ، ويدعو لـه بالخير-صلوات الله وسلامه عليه- ، وهذا من مكارم خلقه-صلوات الله وسلامه عليه- ، فأجلسه في حِجْره ، فلما أجلسه بالَ عليه ؛ قالت أم المؤمنين رضي الله عنها : " فأخَذَ مَاءً فَرشَّه" وفي رواية " فَنَضَحَه بماءٍ ، ولم يَغْسِلْه " كما هي رواية السنن ، هذا الحديث دلّ على أن بول الغلام يُنضح ، والنضح : أن تأخذ كفّاً من ماءٍ ، وتَرشُّه به ، وأما الغسل : فإنك تصبّ الماء على الموضع ، وتُعمّمه به ، فالرّشُ ، والنّضْحُ أخفّ من الغسل ، فخُفف في نجاسة الغلام ، وأكد هذا حديث علي-t- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ يُغسلُ منْ بولِ الجاريةِ ، ويُنضحُ منْ بولِ الغُلامِ ] هذا القول هو قول الجمهور من العلماء رحمهم الله : إن بول الغلام يُرشُّ ، ولا يُغسلُ ، وبول الجارية يغسل ، وهنا مسائل :
المسألة الأولى : أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أي مدة رضاعـه ، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله ؛ قالوا : إن الحديث الوارد في المسألة نصّ على ذلك بالمنطوق في الذي لم يأكل ، ومفهومه : وجوب الغسل في الذي فُطِمَ ، وأكل ، وذلك في قولها في الرواية الصحيحة :[ لمْ يَأكُلِ الطَّعامَ ] ، ولذلك يقولون : إنه إذا فطم يجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء ، ثم يرد السؤال عن مسألة وهي : لماذا فُرِّقَ بين الغلام ، وبين الجارية ؟
والجواب :
أولاً : ينبغي على المكلف أن يسلِّم بالشَّرع ، وأن لا يتكلّف البحثَ عن العلل ، وأن يتعبّد الله-U- بما ثبت به دليل الكتاب ، والسُّنة ؛ قال بعض السلف رحمه الله : على الله الأمر ، وعلى الرسول-r- البلاغ ، وعلينا الرضا ، والتسليم ، فمن الإيمان بالله أن المكلف إذا جاءه الحكم قال : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربّنا ، وإليك المصير ، وأثنى الله على هؤلاء الذين يُسلِّمون ، ولا يتكلّفون في بحث العلل ، والتّقصي فيها .
لكن إذا وجدت الحاجة للبحث عن العلّة ، كما يفعل العلماء رحمهم الله في النصوص التي تحتمل التَّعليلَ فلا حرج ، أما الأصل فهو التّسليم ، والرِّضا بحكم الله سواء علمنا العلّة ، أو لم نعلمها ، ثم إنهم إِختلفوا فيما يظهر لهم في العلّة :
فقال بعض العلماء : خُفّف في بول الغلام ، وشُدّد في بول الجارية لسبب موجود في ذات البول ، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام ، فخُفف في بول الغلام دون بولها قبل الفطام ، لضعف مادته .
والوجه الثاني : أنه خفف لصورة بول الغلام ، وذلك أنه لا ينتشر، وبول الجارية ينتشر .
وهاتان العلتان ضعيفتان .
أما علة من قال : إن بول الجارية أثقل من بول الغلام فهذا لم يسلّم به حتى إنَّ بعض الأطباء أكدّ ردّه وعدم صحّته .
وأما التعليل بالإنتشار ، وعدمه ، فضعيف لأنه لا فرق في النّجس بين كونه منتشراً ، أو غير منتشر فالقطرة من البول منجّسة ، سواء انحصرت ، أو انتشرت ، فالحكم واحد ، ثم إن كلا البولين سينتشر بالسّريان فاستوى أن يكون في حاله الأول منتشراً ، أو غير منتشر .
وأقوى العلل هي قولهم : إن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية ؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس ، فتجدهم يحملون الغلمان ؛ لأنهم يستحيون وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة حتى في حال الصّغر ، فكانوا يحملون الصبيان ، ويحضرونهم المجالس أكثر، وقد يحضرون الصبية كما في حديث أُمامة لما حملَها النبي-r- ولكنّه نادر ، والحمل أكثر ما يكون للذكور بالنسبة لمجامع الناس ، فخُفّف من أجل المشقة في الصبيان أكثر من الجواري غالباً .
هذا بالنسبة لقضية بول الغلام ، وبول الجارية .
وإذا قلنا ان الحكم يختص بالبول ، فإنه لا يسري إلى غيره كالدّم مثلاً ؛ لأن الحكم جاء على سبيل الإستثناء فانحصر في الوارد ، ولم يلتحق به غيره .
قوله رحمه الله :[ ويُعْفَى في غيرِ مَائعٍ ، ومطْعومٍ عنْ يَسيرِ دَمٍ نَجِسٍ منْ حَيوانٍ طَاهرٍ ] : بيّن المصنف رحمه الله في هذه العبارة بعض المستثنيات في باب إزالة النجاسة ، وهو يسير الدم ، وأن محلّ الإستثناء ألا يكون في مائع ، ومطعوم ، والـدّم نجس ، وهو قـول جماهير العلماء-رحمة الله عليهم- لقوله عليه الصلاة والسلام :[ إِغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ] ، وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة :[ إِنَّما ذَلكِ عِـرْقٌ ] قالوا : فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان في أصله خارج من عرق ، وظاهر القرآن دال على نجاسته كما في قـولـه تعالى :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ... } إلى قوله :{ ... فَإِنَّهُ رِجْس }(1) والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها ، وتذكيتها ، ويكون من الآدمي فهو الدم الذي يخرج من الجسد في حال الحياة ، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يخرج عند ذبح الشاة ، أو نحر البعير أنه نجس هذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع فقال : " أجمع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية أنه نجس " ، وذلك لظاهر قوله تعالى :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ...} إلى قوله : { ... فَإِنَّهُ رِجْس } فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا : إن القرآن أطلق فوصف كل دمٍ مسفوحٍ بكونه رجساً ، والدم المسفوح : هو الخارج في الحياة ؛ لأن الذي عند الذكاة خرج والبهيمة حية ، ولذلك إذا سكنت ، وماتت بالتذكية ؛ فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً .
والذين قالوا بطهارة الدم إحتجوا بأنه -عليه الصلاة والسلام- نحر الجزور ، ثم سلخه ، وصلّى ، ولم يغسل أثر الدم ، وهذا مردود بأن الدم الذي يكون عند السلخ طاهر ، ولا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع ، ألا ترى أنه يؤخذ كتف البهيمة ، ويُطبخ ، ويُشوى ، ويؤكل مع أن فيه الدم لكنه يعتبر طاهراً لأنه خارج بعد الذكاة من غير موضعها ، فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النـزاع .
واستدلوا بحديث عبّاد بن بشر رضي الله عنه لما أصابه السهم وهو قائم يصلي في حراسته ، فنـزعه فنـزف قالوا لو كان نجساً لقطع صلاته ، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه في قوله صلى الله عليه وسلم :[ إغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ] ، وجوابه كما نبّه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي رضي الله عنه في النـزف ، والنـزيف سواءً كان بسهم ، أو باستحاضة متفق على أنه يُعتبر رخْصَة يعني يصلي الإنسان ، ولو جرى معه الدم ، كما صلّى عمرُ-t- وجُرحه يَثْعُب ؛ لأنه لا يستطيع إيقافه غالباً ؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها من غير نزف بمعنى أنه يمكنه إيقافه ، فلو كان كذلك لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ، ولكنه ليس كذلك ، ولذلك لا تعتبر هذه الأدلة حجة على الجمهور ؛ لأن الجمهور يقولون : إن المرأة المستحاضة إذا غلبها الدم تُصلي على حالتها ، وكذلك الذي معه رعاف لو غلبه الرعاف يُصلي على حالته ولو كان الدم على ثوبه ، أو بدنه إذا غلبه ، وكان كثيراً ؛ لأن التكليف شرطه الإمكان ، فليس هذا الدليل في موضع النـزاع ، وكذلك الإستدلال بما ورد في قصة عمر رضي الله عنه لأنها بصورة النزيف الموجب للرّخصة .
ولذلك قال جمهور العلماء : إنّ الدمَ نَجِسٌ ، وهو الراجح لدلالة النّصوص القويّة على رجحانه كما قدمنا ، ولم يُخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر ، وبعض أهل الحديث رحمهم الله .
وإذا قلنا بمذهب الجماهير بنجاسة الدم ، فإنه يُفرّق بين كثيره ، وقليله ، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه ، وفيه حديث ضعيف ، وهو حديث الدّرهم البَغْلِي ، والصحيح أنه لا يثبت عن النبي-r- إستثناء هذا القدر ؛ وإنما اُستثني بدليل الكتاب ، والإجماع أما دليل الكتاب فقوله سبحانه :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحَاً أوْ لَحمَ خِنْزيرٍ فَإِنّه رِجْسٌ } فلما حكم بنجاسة الدم ، وصفه بكونه مسفوحاً ، والمسفوح : هو الكثير ، ومفهوم ذلك أن اليسير لا يأخذ حكم الكثير المسفوح فاستثني ، وتأيّد هذا بفعل الصحابة رضي الله عنهم كما صحّ عن عبدالله بن عمر ، وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم أنهما لم يريا في البثرة شيئاً بل كان أحدهم يعصرها فيخرج منها الدم ، ويصلي ، ولا يغسلها ، وأما الإجماع : فلأن جميع من قال بنجاسة الدم إستثنى اليسير ، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في حدِّ اليسير كما تقدم معنا ، فهم بهذا متفقون على أن اليسير معفو عنه .
ونظراً لدلالة الكتاب ، والإجماع إستثنى العلماء رحمهم الله يسير الدم ، ولم يحكموا فيه بالأصل ، لأنّه محلّ العفو من الشرع .
ويستوي عند العلماء رحمهم الله في هذا الإستثناء أن يكون قدر الدرهم منحصراً في موضع معين ، أو متفرقاً في مواضع ، فما دام أنه بمجموعه لا يبلغ قدر الدرهم ، فهو يسير ، وعفو .
ثم إذا قلنا على القول المرجوح في مسألة القُلتين إن التّحديد بهما معتبر ، فإن يسير الدم لو وقع في إناء دون القلتين حكمنا بنجاسته ، ولا تدخل هذه المسألة معنا ، وهذا هو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بالتّعبير بالقيد في قوله :[ في غيرِ مائعٍ ، ومطعومٍ ] ، وأما على مذهب المالكية ، والظاهرية الذي قدمنا رجحانه فإن العبرة بالتغيّر ، فإن حصل تغيّر لم يُعفَ ، وإلا كان عفواً ، والمائع طاهر ، وطهور بحسبه .
وإذا قلنا : إن يسير الدم معفو عنه ؛ فإنه يرد السؤال هل يلتحقُ بغيرِ الدّم غيرُه ؟ فمن العلماء من قال : أقْصُر الرّخصةَ على محلّها ، فأعفو عن الدم وحدَه ، لأنه هو الذي دل عليه دليل الكتاب ، وهو الذي فعله الصحابة -رضوان الله عليهم- فيبقى غيره على الأصل .
وقال بعض العلماء : ما دامت العلّة التخفيف ، وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير ، فنطرد ذلك في كل نجاسة ، فنقول : يسير النجاسة معفو عنه سواء كان دماً ، أو غيره ، والمذهب الأول : أرجح ، لإعماله لدليل الأصل ، وقصر الرخصة على محلِّها ، وعليه فإن الحكم باستثناء اليسير يختصّ بالدم وحده ، ولا يلتحقُ به غيره من النّجاسات ؛ كيسير المَذْي ، والودْي ، والبول ، والغائط ، فكلُّها باقيةٌ على الأصل لضعف دليل الإستثناء .
قوله رحمه الله :[ وعن أَثَرِ استجمارٍ بمَحَلِّهِ ] : أي : يُعفى عن أثر استجمار في محلِّه ، والمحلُّ المراد به : مخرج البول ، والغائط ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته ؛ فإنه ربما غسل بالماء ، وربما استجمر بالحجارة ، أما لو غسل بالماء ؛ فبالإجماع : أنه يجب عليه غسل الموضع ، وإنقاؤه هذا إذا كان بالماء .
أما إذا تطهّر بالحجارة فمن المعلوم أن إنقاء الحجارة للموضع ليس كإنقاء الماء ، بل لابد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع فخفّف الشرع في هذا الأثر اليسير ، ولكن بشرط أن يكون في موضعه فلا يتجاوزه وهذا ما عبّر عند المصنف رحمه الله بقوله :[ بِمَحلّهِ ] ، ومن أمثلته أيضاً : الجروح يُعفَى عن الدّم النّجِسِ الموجود في فتحاتها ، ولا يجب غسله لوجود الضرر ، والحرج ، فكلّها من اليسير المعفو عنه .
قوله رحمه الله :[ ولا يَنْجُسُ الآدميُّ بالموتِ ] : قوله :[ لا يَنْجُسُ ] : أي : لا يُحكم بكونه نجساً ، فلو سئلت عن آدمي مات ؟ تقول : هو طاهر ، هذا هو أحد قولي العلماء-رحمة الله عليهم- أن الآدمي لا ينجس بالموت .
وقال بعض العلماء : الأصل في الميتة أنها نجسة ، واُسْتُثْني الآدمي المسلمَ ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : [ المؤْمنُ لا يَنْجُس ] وأُبْقِيتْ ميتة المشرك على الأصل ، وأكدوا هذا بقوله تعالى :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس } قالوا : لما كانت الميتة في أصل حكم الشّرع نجسة كما نصّ الله-U- في غير موضع ؛ فإننا نقول : إنّ كلَّ ميتةٍ نجسةٍ ، إلا مـا ورد الشرع بإستثنائه ، فلما قال النبي r :[ إنَّ المؤمنَ لا يَنجُسُ ] وجدنا قوله (( المؤمن )) مطلقاً في حال الحياة ، والموت فلا نحكم بنجاسته لا حياً ، ولا ميتاً وكما استثنى الشّرع المؤمنَ من الحكم بنجاسة الميتة بقوله عليه الصلاة والسلام :[ إنّ المؤمنَ لا ينجُسُ ] كذلك إستثنى ميتة البحر بقوله عليه الصلاة والسلام :[ هُو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيتتُهُ ] فلم نحكم بنجاسة ميتة البحر ، وبقي ما عدا ذلك على الأصل ، ومنهم الكافر ، والمشرك ، هذا بالنسبة للمذهب الثاني .
وهناك مذهب ثالث : أن المشرك نجس حياً ، وميتاً لقوله سبحانه :{ إِنّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ولقول النبي-r- :[ إِنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ ] ومفهومه : إن الكافر نجس حياً ، وميتاً .
اعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها : إن نساء أهل الكتاب يحل لنا نكاحهنَّ ، وإذا جاز لنا نكاحَهنَّ فإنه لابد من مخالطة ، فكيف نخالط النجس ؟!
كذلك اُعترضَ عليهم بقصة ثُمامةَ بنِ أثالٍ الحنفيّ رضي الله عنه ، فإنه-t- أخذتهُ خَيلُ النبي-r- وهو ماضٍ إلى العُمرة فأَمر النّبي-r- بِربطهِ في المسجدِ ، قالوا : ولو كان نَجِساً لما أدخله النبي-r- المسجد ، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اُعترض بها عليهم .
وأجيب عنها : بأنّ النّص بالنجاسة في قوله سبحانه :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس }(1) ورد في المشركين ولم يرد في عموم الكفار ، إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال : إنما الكفار نجس ، لكنه قال : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين ، وأهل الكتاب كما في قوله تعالى :{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ }(2) فلما فرق بينهم علمنا أن قوله :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس } المراد به عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي .
وأما حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه فأجيب عنه : بأنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة ؛ لأن المقصود دلالته على الإسلام ، وتعريفه به فاغتُفِرَ ما يحصل من المفاسد في جنب ما يحصل من المصلحة العظمى وهي إسلامه ؛ كما اغتفر النظر إلى المخطوبة ، وهو محرم في الأصل في جنب ما يقصد من حصول المصلحة من الزواج ، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب من يقول بعدم نجاسة الكافر حياً كان ، أو ميتاً .
قوله رحمه الله :[ وما لا نفْسَ لهُ سائلةٌ مُتَولِّدٍ مِنْ طَاهِرٍ ] : النّفْسُ : تطلق ويراد بها الدّمُ ، وسمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج ، كما في الصحيحين من قول النبي r لعائشة :[ مالَكِ أَنُفِسْتِ ؟ ] ، وسُمِّيَ النِّفاس نِفاساً لوجود الدّم فيه ، ومن هذا الإستعمال قول الفقهاء رحمهم الله في وصف بعض الحشرات ما لا نَفْس له سائلة ، ويعنون به الحشرات من غير ذوات الدّماء ؛ كبنات وردان ، والصراصير ، والبعوض ، والبراغيث ، ونحوها ، وهكذا دود السُّوسِ في التمر ، والدقيق ، والحبِّ كلُّه طاهرٌ ، والدليل على طهارته ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :[ أُحلّتْ لَنا مَيْتتانِ ، ودَمانِ ، أمّا المَيْتَتَانِ فَالجَرادُ ، والحوت ، وأمّا الدّمان فالكبدُ ، والطُّحالُ ] ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من هديه أنّه حرّم سوسَ التّمرِ ، أو أمر الصحابة رضي الله عنهم بإخراجه ، وإنقائه .
فلهذا نصّ جماهير العلماء رحمهم الله ، والأئمة على طهارة ما لا نَفْسَ له سائلة .
ثم إن ما لا نفس له سائلة يكون في بعض الأحوال متولداً من غيره ، وحينئذ لا يخلو من حالتين :
الأولى : أن يكون متولداً من شيءٍ طاهر ؛ مثل : التَّمر ، والحبِّ ، والدقيق ، والأجبان ، ونحو ذلك ؛ فهو طاهر وهذا هو الذي قصده المصنف رحمه الله ، وأشار إليه بقوله :[ مُتَولِّدٍ منْ طَاهرٍ ] .
الثانية : أن يكون مُتولِّداً من نجس مثل : الدودِ المتولّدِ من عذرة الآدمي ، ونحوها من النجاسات ، فهو نجس لأن الفرع تابعٌ لأصله .
فبيّن المصنف رحمه الله أنه يُستثنى من الحكم بطهارة ما لا نفس له سائلة ما كان متولداً من النجاسة ، وهذا هو ما يدل عليه مفهوم قوله [ من طاهرٍ ] .
قال رحمه الله :[ وبَوْلُ مَا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ، ورَوْثُهُ ] : التقدير طاهر ، ومراده رحمه الله أن الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها ، مثل الإبل ، والبقر ، والغنم ، والحمام ، والدجاج ، ونحوها كلها طاهرة الفضلة سواء كانت بولاً ، أو روثاً .
وقد دلّ على طهارتها ما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :[ قدم على النّبي صلى الله عليه وسلم أقوامٌ منْ عُكلٍ ، أو عُريْنَة ، واجْتَوَوْا المَدِينَة ] أي : أصابهم الجَوى ، والجوى : نوع من الأمراض ؛ لأن أهل البادية تكون مناطقهم نقيّة ، ونافهة ، فإذا دخلوا المدن يصيبهم هذا النوع من المرض ، ويُسمّى الجوى ، وسببه كما ذكر الإمام النووي ، وغيره : إختلاف الموضع ، والطعام عليهم ؛ لأنهم ألفوا طلاقة الجوِّ ، ونظافة ما يؤكل ويشرب ، بخلاف المدن التي تكون وخيمة ، ووبيئة عادة ؛ بسبب كثرة الناس بها ، وضيق أماكنها ، فأمرهم النبي-r- أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ، وهذا من طبِّ النبي-r- عالج المريض بمألوفه ، والأطباء يعتبرون هذا ، وهو أن بعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي أَلِفَه ، وإعتاد عليه ، حتى قالوا : إنه يتأثر بأرضه ، وهوائها ، ومائها ، وكان بعض الأطباء يُداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي وُلِدَ فيه الإنسان ، وما فيه من مأكل ، ومشرب ، كما بيّنَهُ الإمام ابن القيم رحمه الله في الطبِّ النّبوي ، ووجه دلالة هذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه ، وروثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أذنَ لهم بشرب البول ، فلو كان نجساً لما أذن لهم بذلك ؛ لأنّ النجس محرّمٌ شربه والله لم يجعل شفاء الأُمّةِ فيما حرمه عليها كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :[ إِنّ اللهَ لمْ يجعلْ شِفاءكمْ فِيمَا حَرَّمَ عَليكمْ ] فأَمَرُهُ عليه الصلاة والسلام بالإستشفاء ببول الإبل يدلُّ على طهارته ، وأكّد ذلك طوافه عليه الصلاة والسلام على بعيره ، وصلاته النّافلة عليه في السفر كما ثبت في الصحيحين ، ومن المعلوم أن البعير لا يسلم غالباً من طشاش بوله ، وروثه على فخذيه ، وما قارب مخرج البول ، والروث ، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يُصلي ، ويطوف وهو راكب عليه فدلّ على طهارة روثه وبوله .
ولما جاءت السنة أيضاً بالإذن بالصلاة في مرابض الغنم ؛ دلّ ذلك على : أن العلّة هي كون الإبل ، والغنم من الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها .
فصحّ القول بطهارة فضلة مأكول اللحم سواء كانت بولاً ، أو روثاً ، كما نصَّ عليه المصنف رحمه الله في هذه العبارة ، وقد قوى هذا المعنى المستنبط مما ذكرنا من الأحاديث السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُرّمَتْ لُحومُ الحُمُرِ الأهليةِ حكم بنجاستها ، فقال كما في الصحيح :[ إِنّها رِجْسٌ ] فدلّ على أن تحريم الأكل يوجب الحكم بالنجاسة ؛ وعكسه يدل على الطهارة ، ولذلك وصف الله مباح الأكل بالطيب فقال سبحانه :{ كُلُوا مِنْ طيّبَاتِ ما رزقناكم } ، ولا طيب لنجسٍ .
قوله رحمه الله :[ ومنيّه ، ومنيّ الآدميِ ] : قوله :[ ومنيّه ] : أي : منيُّ ما يؤكل لحمه ؛ فإنه يُعتبر طاهراً ، لأنه فضلة ، وقد تقدم بيان الدليل على ذلك ، ولأنه إذا كان روثه ، وبوله طاهر ، فمن باب أولى المني ؛ لأن فضلة البول ، والروث أشدّ في حكم النجاسة من المنيّ ، أصله الآدمي .
وأما منيُّ الآدمي فقد تقدم وصفه ، وضبطه في باب الغسل .
وهو طاهر في أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله كما بيّناه في شرح البلوغ حيث ذكرنا فيه قولي العلماء رحمهم الله بالنجاسة والطهارة ، وهل نجاسته مخففة ، أو باقية على الأصل ؟
وقد دلّ على طهارته دليل السنة ، كما بيّنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي بثوبه ، وأثر الجنابةِ فيه .
وقد أنكرت رضي الله عنها على ضيفها حينما غسل الثوب من المنيّ ، وجاء في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عند البيهقي ، وغيره أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ إنّما هو بمنْزِلةِ المُخَاطِ يَكْفِيكَ أَن تَحُتّه عَنْكَ بإِذْخِرَةٍ ] فأكّد القول بطهارته .
وظاهر قول المصنف رحمه الله :[ الآدميّ ] العموم في الرجال ، والنساء .
قوله رحمه الله :[ ورُطوبةُ فَرْجِ المَرأة ] : الرطوبة : ( سائل يخرج من رحم المرأة في حال الجماع ، وغيره ) فيخرج تارة بشهوة ، وتارة بدونها ، هذا السائل نصّ المصنف رحمه الله على طهارته ، وهو رواية عند الحنابلة ، ووجه عند الشافعية رحمة الله على الجميع ، وقد بنوا مذهبهم على أن الأصل الطهارة ، ولا دليل يخالفها ، فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بالطهارة .
وذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى القول بنجاسته وهو الرواية الثانية عند الحنابلة ، والوجه الثاني عند الشافعية رحمة الله على الجميع .
واستدلوا على نجاسته بدليل النّقل ، والعقل : أما دليلهم من النّقل فما ثبت في الحديث الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :[ لِيَغْسِلْ مَا أَصابَه مِنْها ] وهذا الحديث وارد فيمن جامع زوجته ، ولم يُنزل حيث كان في أول الإسلام لا يلزمه غسلٌ للجنابة ، ولكن يُؤمر بغسل فرجه ، وما أصابه من رطوبة فرج المرأة ، وهذا النصّ واضح في دلالته على نجاسة رطوبة فرج المرأة ، ووجه الدلالة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر مما أصابه ، والذي أصابه أثناء الجماع إذا وقع بدون إنزال للمني إنما هو رطوبة الفرج ، فدلّ هذا على نجاستها ، ووجوب غسل ما أصابته .
وأما دليل العقل ؛ فهو القياس : حيث إن رطوبة فرج المرأة تخرج عند شهوتها ، فهي كالمذي في الرجل ؛ فتكون نجسة .
وإذا ثبت أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإنه يرد الإشكال ، والسؤال : بأنه قد تعم البلوى بهذه الرطوبة ومن النساء من تجلس ساعاتٍ مبتلاةً بهذه الرطوبة ؛ فهل نحكم بالنجاسة أيضاً ، وكيف تكون طهارتها ؟ نقول : إنها كالمستحاضة ، فكما أن المرأة يصيبها دم الاستحاضة ، ويستمر معها أحياناً شهوراً ، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجساً ، كما بين ذلك عليه الصلاة والسلام وذلك حينما أمر بغسله ، ويكاد يكون بالإجماع : أن دم الاستحاضة نجس ، ولم تَمْنَعْ كثرةُ دم الإستحاضة الحكمَ بنجاسته شرعاً ؛ كذلك كثرةُ رطوبةِ الفرج لا تمنع الحكم بالأصل ، لكن إذا كثرت على المرأة فإنّها تترخص برخص المستحاضة فيما تشبهها به ، فتضع قطنة تشدُّ بها الموضع ، فإن غلبها الدم فإنها تصلي على حالتها ، وتتوضأ لدخول كل وقت ، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة ، وتصل بها إلى درجة المشقة حكمها حكم الاستحاضة سواء بسواء على التفصيل الذي سنذكره فيها – بإذن الله تعالى – في كتاب الحيض ، وهذا لا حرج فيه ، ولا مشقة ؛ لأن القاعدة في الشريعة : " أَنَّ الأمرَ إِذَا ضَاقَ إِتَّسَعَ " ، فمادام أنه يضيق على المرأة ، ويحرجها ؛ فإنّها تتعبد الله-U- على قدر وسعها ، وطاقتها كما قال سبحانه :{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا }(1) .
وقوله :[ رُطُوبةُ ] : فيه تخصيص ، حيث دلّ على أن غير الرطوبة من فضلات بدن المرأة الأخرى تُعتبر طاهرة ، ولا يُحكم بنجاستها مثل العرق والبصاق والريق واللعاب .
قوله رحمه الله :[ وسؤرُ الهِرّةِ ، وما دُونَها فِي الخِلْقَةِ طَاهِرٌ ] : قوله :[ وسؤرُ الهِرّةِ ] : السؤر : الفضلة من الشراب ، واحد الآسَار ، وصورة المسألة : أن تشرب الهرة من إناء ، ثم تُبْقِي فضلةً بعد شربها فهذه الفضلة باقية على الأصل ، ولا يُحكم بنجاستها لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنّه كانَ يتوضّأ من إناءٍ ، فجاءت هرة فَأَصْغَى لها الإناءَ حتّى شربتْ ، ثُمّ أتم وضُوءَه من سؤرها ، وكبشةُ بنتُ كعبِ بنِ مالكٍ تنظرُ إليه فقال : أتَعْجبينَ يا إِبنَة أخي ؟ فقالت : نعمْ ، فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :[ إِنّها ليستْ بِنَجسٍ إنّها من الطّوافينَ عليكُمْ ، والطَّوافاتِ] ، فدلّ هذا الحديث على طهارة الهرة حيث صرّح عليه الصلاة والسلام بعدم نجاستها ، وفي هذا الحكم تيسير ، ورحمة بالناس ؛ لأن الهرة تخالطهم ، وتكون معهم ، وقد قال-عليه الصلاة والسلام- مشيراً إلى هذه العلّة :[ إنّها منَ الطَّوافينَ عَليْكُمْ ، والطَّوافَاتِ ] ومن أهل العلم من قال : هي نجسة ، ولكن خُفِّفَ في حكمها لمكان المشقة ؛ وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام :[ إِنّها منَ الطّوافينَ عَليكمْ ، والطّوافَاتِ ] قالوا : إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال : إنها طاهرة ، لكن كونه يقول :[ إنّها من الطّوافينَ عليكمْ ، والطّوافاتِ ] كأنه يقول : إن فيها من الحرج ، والمشقة ما يوجب التخفيف في نجاستها وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ولكنّ قوله عليه الصلاة والسلام :[ إِنّها ليستْ بِنَجَسْ ] صريح في الدلالة على نفي نجاسة الهرة ، فترجّح به مذهب الجمهور رحمهم الله .
قوله رحمه الله :[ وما دُونَها في الخِلْقَةِ ] الضمير عائد إلى الهرة ، ودون الشيء : أقلّ منه ؛ ضدّ الأعلى ، وظاهر كلام المصنف رحمه الله العموم أي : أن كل ما كان من السباع دون الهرة في الخِلْقَة فهو طاهر مثل : النِّمْسِ ، والنّسْناسِ ، والقُنْفذِ ، وابنِ عُرْسٍ ، والفَأرِ .
وأما ما كان فوق الهرة في الخِلقة من السباع فنَجِسٌ ، ومثاله : الأسدُ ، والنّمرُ ، والذِّئبُ ، والفَهْدُ ، والكَلْبُ ، وكذلك سباع الطير مثل : النّسرِ ، والصّقرِ ، والبَازِ .
ويدخل في ذلك ما لا يؤكل لحمه فيلتحق بالسباع كما نصَّ عليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله ، ومثاله : الفيل ، والحمار .
وكذلك ما توالد من مأكول اللحم ، وغيره كالسِّمع ولد الضَّبع من الذِّئب .
فأصبح القدر المعتبر عندهم بالهرّة فما كان مثلها ، أو زاد عليها من السباع ، أو كان محرم الأكل فإنه نجس وسؤره كذلك ، وما كان دونها فإنه طاهر ، وسؤره طاهر ، وهذا القول مرجوح لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم إستثنى الهِرَّة من أصل عام ، فبقي ما عداها على الأصل ؛ لكننا لا نحكم بنجاسة سؤره إلا إذا تغيّر كما تقدم معنا في مسألة القُلّتين ، والحنابلة إحتاجوا إلى هذا لأن مذهبهم : أن ما دون القُلّتين ينجُس بمباشرة النجاسة سواء تغيّر ، أو لم يتغيّر ، وأما الحكم بطهارة الحيوان ، ونجاسته فهذا راجع إلى حِلِّ أكله ، وحرمته على تفصيل سيأتي -بإذن الله تعالى- في محله في كتاب الأطعمة .
وإذا تبيّن أن الهرة طاهرة ، وأن سؤرها طاهر ، فإن هنا مسألة ينبغي التّنبيه عليها ، وتُعتبر مستثناةً من هذا الحكم ، وهي : أن تراها قد أصابت نجاسة ورأيتها على فمها ؛ فإن سؤرها نجس إذا تغيّر بذلك النجس .
صورة ذلك : لو رأيتها إِغتذت بميتةٍ ، فنهَشَتْ من لحمها ، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته على فمها ، وشَرِبَتْ من إِناءٍ بعد ذلك ، وأفضلت السؤر متغيّراً لونه ، أو طعمه ، أو رائحته بتلك النجاسة ؛ حكمنا بكون الماء متنجساً ؛ لكن هذا في بعض الأحوال ؛ لا في كلّها فيقتصر الحكم بنجاسة السؤر عليها ، وعلى أمثالها من الصُّور مما يتغير فيها الماء بعد شرب الهِرّة منه ، وهذا معنى قول الإمام خليل بن إسحاق في مختصره [ وإِنْ رِيئَتْ على فَمِهِ عُمِل عَليْها ] فقوله :[ وإن رِيئَتْ ] يعني : رُئيت النجاسة ، وقوله : [ على فَمِه ] يعني فَمَ الهِرِّ عُمِل عليها يعني حُكِمَ بِحُكْمِها إن أثّرت في الماء فالماء نجس ، وإن لم تؤثر فالماء طهور .
قوله رحمه الله :[ وسباعُ البهائمِ ، والطّيرِ ، والحمارُ الأهليُّ ، والبغلُ مِنْه نجسةٌ ] أي : أن جميع هذه الحيوانات محكوم بنجاستها فيدخل في قوله :[ سِباعُ البَهائمِ ] الأسد ، والنّمر ، والفَهْد ، والذِّئب ، ونحوها ، وقوله :[ والطّيرِ ] أي : سباعُ الطّير ، وهي الطيور الجارحة كالصّقر ، والبَاز ، والنِّسر ، والعُقَاب ، والشَّاهين ، ونحوها كلُّها نجسة .
وقوله :[ والحمارُ الأهليُّ ] أي : أنه نجس ، ومفهوم قوله :[ الأهْلِيُّ ] أن الحكم خاص به ، فلا يشمل حمار الوحش لأنه مباح الأكل طاهر ، كما دلّت السّنة على ذلك في حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح .
وقوله :[ والبَغْلُ ] هو الحيوان المعروف ، وهو متولد من طاهر مباح الأكل ، وهو الخيل ، ونجس محرم الأكل وهو الحمار الأهلي ، ولذلك أشار إلى تولّده من الحمار الأهلي بقوله :[ والبغلُ مِنْه ] فالضمير عائد إلى الحمار ، دون ما تولد من الخيل .
أما الدليل على تحريم هذه الأشياء ، ونجاستها فهو مبني على أنّ السنة دلّت على أنَّ محرَّم الأكل نجسٌ في الأصل ، وذلك لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنّه لما نزلَ تحريم الحُمُرِ الأهليّةِ أمر بإِكْفاءِ القدور ، وإراقتها وقال :[ إِنّها رِجْسٌ ] ، وفي هذا دليل على أن المطعوم إذا صار حراماً حُكِمَ بنجاسته فصار كالميتة التي لا تَعْملُ فيها الذكاة ، فلا يَطْهُر حياً ، ولا ميتاً ، وأما الدليل على تحريم أكل هذه الحيوانات فسيأتي بيانه بإذن الله تعالى في كتاب الأطعمة ، وتفصيل أحكامه ، والله تعالى أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) / الفرقان ، آية : 48 .
(1) / المائدة ، آية : 90 .
(1) / الإنسان ، آية : 21 .
(1) / الأنعام ، آية : 145 .
(1) / التوبة ، آية : 21 .
(2) / البينة ، آية : 1 .
(1) / البقرة ، آية : 286 .