دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العام للمفسر > منتدى المسار الثاني

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 شعبان 1443هـ/24-03-2022م, 04:38 AM
هيئة الإشراف هيئة الإشراف متواجد حالياً
معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,809
افتراضي مجلس مذاكرة القسم الثاني عشر من تفسير سورة آل عمران

مجلس مذاكرة القسم الثاني عشر والأخير من تفسير سورة آل عمران
(الآيات 187- 200)



اكتب رسالة تفسيرية في واحد مما يلي:
1: قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}.

2: قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}.


والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.




تنبيه:
يذكر نوع الأسلوب المختار، كذلك مراجع الرسالة.


تعليمات:
- دراسة تفسير سورة آل عمران سيكون من خلال مجالس المذاكرة ، وليست مقررة للاختبار.
- مجالس المذاكرة تهدف إلى تطبيق مهارات التفسير التي تعلمها الطالب سابقا.
- لا يقتصر تفسير السورة على التفاسير الثلاثة الموجودة في المعهد.
- يوصى بالاستفادة من التفاسير الموجودة في جمهرة العلوم، وللطالب أن يستزيد من غيرها من التفاسير التي يحتاجها.

- تبدأ مهلة الإجابة من اليوم إلى الساعة السادسة صباحاً من يوم الأحد القادم، والطالب الذي يتأخر عن الموعد المحدد يستحق خصم التأخر في أداء الواجب.



تقويم أداء الطالب في مجالس المذاكرة:
أ+ = 5 / 5
أ = 4.5 / 5
ب+ = 4.25 / 5
ب = 4 / 5
ج+ = 3.75 / 5
ج = 3.5 / 5
د+ = 3.25 / 5
د = 3
هـ = أقل من 3 ، وتلزم الإعادة.

معايير التقويم:
1: صحة الإجابة [ بأن تكون الإجابة صحيحة غير خاطئة ]
2: اكتمال الجواب. [ بأن يكون الجواب وافيا تاما غير ناقص]
3: حسن الصياغة. [ بأن يكون الجواب بأسلوب صحيح حسن سالم من ركاكة العبارات وضعف الإنشاء، وأن يكون من تعبير الطالب لا بالنسخ واللصق المجرد]
4: سلامة الإجابة من الأخطاء الإملائية.
5: العناية بعلامات الترقيم وحسن العرض.

نشر التقويم:
- يُنشر تقويم أداء الطلاب في جدول المتابعة بالرموز المبيّنة لمستوى أداء الطلاب.
- تكتب هيئة التصحيح تعليقاً عامّا على أجوبة الطلاب يبيّن جوانب الإجادة والتقصير فيها.
- نوصي الطلاب بالاطلاع على أجوبة المتقنين من زملائهم بعد نشر التقويم ليستفيدوا من طريقتهم وجوانب الإحسان لديهم.


_________________

وفقكم الله وسدد خطاكم ونفع بكم

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 محرم 1444هـ/25-08-2022م, 11:11 PM
صلاح الدين محمد صلاح الدين محمد غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 1,868
افتراضي

اكتب رسالة تفسيرية في:
1: قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد, فهذ رسالة تفسيرية بالأسلوب الاستنتاجي, لما تضمنته هذه الآية من الفوائد العظيمة, إذ فيها الحث على التفكر في خلق الله تعالى, وإعمال العقل في ذلك, والمداومة على ذكره, وشكره, وفيها الرد على أهل الباطل من الملاحدة الذين ينكرون الخالق سبحانه وتعالى, ومعنى الآية: أنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآياتٍ لأولي الألباب، الذّاكرين اللّه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم وقعودًا في تشهّدهم وفي غير صلاتهم وعلى جنوبهم نيامًا.

فمن فوائد هذه الآيات:
- الحث على التفكر في خلق الله تعالى. (لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
- أن في التفكر في خلق السموات والأرض, يستدل به على وجود الخالق. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
- أن الإيمان بوجود الخالق دليل على الفطرة السليمة, والعقول المستقيمة. (لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
- أن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما, وفي سعة السموات والأرض دليل على قدرة الله تعالى, وعظيم سلطانه, وأن ما في هذا الكون من حركة أو سكون لا يكون إلا بأمره سبحانه. (إِنَّفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
- أن في هذه الآيات رد على الملاحدة الذين ينكرون وجود خالق لهذا الكون. (إِنَّفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
- ينبغي على العبد أن يعلق قلبه بالله تعالى, فهو الخالق لهذا الكون وهو المتصرف فيه.
- إذا علمت أن الله تعالى هو الخالق لهذا الكون وكل ما فيه تحت تصرفه؛ أورث ذلك اطمئنان القلب وسكون الجوارح.
- أبهم قوله: {آيات} ولم يقل: "على المطلب الفلاني" إشارة لكثرتها وعمومها.
- خص الله بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.
- أن التفكر في في خلق السموات والأرض؛ يورث ثبات عقيدة التوحيد في القلب, ونبذ الشرك. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
- أن من صفات أصحاب العقول السليمة أنهم يذكرون الله تعالى في كل أحيانهم, وعلى جميع أحوالهم. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).
- مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره.
- أن أصحاب العقول حينما يتفكروا في خلق السموات والأرض يوقنون أنها لم تخلق عبثا, أو باطلا, ولكن لحكم جليلة. (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا).
- ينبغي على العبد مداومة دعاء الله تعالى أن يقيه عذاب النار. (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
- أن ذكر الله تعالى يشمل جميع أنواع الذكر سواء باللسان, أو بالقلب, أو بالتفكر. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).
- أن سؤال المؤمنين أن يقيهم الله تعالى النار يتضمن سؤالهم الجنة. (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
- {إن في خلق السماوات} جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهر والقدرة التامة صدرت بكلمة التأكيد اعتناء بتحقيق مضمونها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتها من الأمور التي يحار في فهم أجلاها العقول.
- أن حقيقة الموحد لله تعالى يذكرون الله في جميع أحوالهم.
- قوله عزّ وجلّ: {ربّنا ما خلقت هذا باطلا}معناه: يقولون {ربّنا ما خلقت هذا باطلا}أي: خلقته دليلا عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. لأن الأنبياء تأتي بما يعجز عنه المخلوقون، فهو كالسماوات والأرض في الدليل على توحيد اللّه.
- ينبغي على العبد أن ينزه الله تعالى عن النقائص, فهو سبحانه الكامل كمالا مطلقا من كل وجه. (سُبْحَانَكَ).
وقد نقل ابن كثير بعض كلام السلف في التفكر أنقله لفائدته فقال:
- قال الشّيخ أبو سليمان الدّارانيّ: إنّي لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيءٍ إلّا رأيت للّه علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة. رواه ابن أبي الدّنيا في كتاب "التّفكّر والاعتبار".
- وعن الحسن البصريّ أنّه قال: تفكّر ساعة خيرٌ من قيام ليلةٍ. وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيّئاتك.
- وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نورٌ يدخل قلبك. وربّما تمثّل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرةٌ = ففي كلّ شيءٍ له عبرة
- وعن عيسى، عليه السّلام، أنّه قال: طوبى لمن كان قيله تذكّرًا، وصمته تفكّرًا، ونظره عبرًا.
- وقال لقمان الحكيم: إنّ طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليلٌ على طرق باب الجنّة.
- وقال وهب بن منبّه: ما طالت فكرة امرئ قطّ إلّا فهم، وما فهم امرؤٌ قطّ إلّا علم، وما علم امرؤٌ قطّ إلا عمل.
- وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر اللّه، عزّ وجلّ، حسن، والفكرة في نعم اللّه أفضل العبادة.
- وقال مغيثٌ الأسود: زوروا القبور كلّ يوم تفكّركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنّة أو النّار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النّار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتّى يرفع صريعا من بين أصحابه، قد ذهب عقله.
- وقال عبد اللّه بن المبارك: مرّ رجلٌ براهبٍ عند مقبرة ومزبلة، فناداه فقال: يا راهب، إنّ عندك كنزين من كنوز الدّنيا لك فيهما معتبر، كنز الرّجال وكنز الأموال.
- وعن ابن عمر: أنّه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخربة فيقف على بابها، فينادي بصوتٍ حزينٍ فيقول: أين أهلك؟ ثمّ يرجع إلى نفسه فيقول: {كلّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه}.
- وعن ابن عبّاسٍ أنّه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خيرٌ من قيام ليلةٍ والقلب ساهٍ.
- وقال الحسن: يا ابن آدم، كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفّس للفكرة.
- وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدّنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة.
- وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكّر النّاس في عظمة اللّه تعالى لما عصوه.
- وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيسٍ قال: سمعت غير واحدٍ ولا اثنين ولا ثلاثةً من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: إنّ ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التّفكّر.
والله أعلم
المراجع:
- تفسير الزجاج.
- تفسير ابن جرير.
- تفسير ابن عطية.
- تفسير ابن كثير.
- تفسير أبي السعود.
- تفسير ابن عاشور.
- تفسير السعدي.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 7 صفر 1444هـ/3-09-2022م, 05:21 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تقويم مجلس مذاكرة القسم الثاني عشر من تفسير سورة آل عمران

صلاح الدين محمد أ+
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك وأتمّ عليك نعمته.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18 ربيع الثاني 1444هـ/12-11-2022م, 04:36 PM
إيمان جلال إيمان جلال غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Sep 2019
المشاركات: 380
افتراضي

مجلس مذاكرة القسم الثاني عشر والأخير من تفسير سورة آل عمران
(الآيات 187- 200)

اكتب رسالة تفسيرية في واحد مما يلي:
2: قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}.

الأسلوب الاستنتاجي يستهدف طلبة العلم.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد،
فنستهل تفسيرنا لتلك الآيات المباركات بالتعريف بسياقها، فلما ذكر تعالى حسن عاقبة أهل الإيمان به يوم القيامة، انتقل إلى الإجابة عن سؤال مفترض أو متوقع من السامع يتعلق بحال أهل الكفر في الدنيا، فنبّه إلى عدم الاغترار بحالهم في هذه الحياة، لأن متاع الدنيا قليل، وسيعاقبون بعده في دار البوار، وما تراه من تقلبهم في البلاد ما هو إلا لمدة قصيرة مهما طالت، وأن العقاب الأبدي ينتظرهم في الآخرة، ولأن القرآن مثاني، فإنه يذكر المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى من هذه الدنيا الفانية، فلا تذهب نفوسهم حسرات أن تمتع أهل الكفر بهذه الدنيا، بينما لحقتهم هم المنغصات والهموم.

قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}:

ذكر الواحدي في أسباب النزول: أن الآية نزلت في مشركي مكة، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي رَخَاءٍ وَلِينٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَكَانُوا يَتَّجِرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ. [1]
أما الفراء فقال أنها نزلت في اليهود، حيث كانوا يضربون في الأرض فتصيب أموالهم. [2]
فنهى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده عن الاغترار بما يرونه من تردد الكفار من بلد لآخر، والجنان التي أعطاهم إياها تعالى.
فالآية وإن كان الخطاب فيها متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها تصلح لأمته عليه الصلاة والسلام كذلك، فقد قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.
فجاءت "لا" ناهية، دخلت على الفعل المضارع "يغرنك" فصار مبنيا على الفتح وليس مبنيا في محل جزم وذلك لاتصاله لفظا وتقديرا بنون التوكيد. والغرة: هي غفلة في اليقظة، يقال: غرني ظاهره أي قبلته في غفلة عن امتحانه، والغر والغرور مشتقة من الغِرة وهي الغفلة. وقال ابن عاشور: هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضر في صورة النافع. و "يغرنك" هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه، لذلك جاء النهي عنه في الآية.
و "تقلب" تعني تردد. قال الماتريدي في تفسيره للآية في تأويلات أهل السنة: ويحتمل تأويل هذا التقلب:
تقلبهم وجوهًا، وذلك نعمة من اللَّه عليهم؛ لترْكِهِم يَتَّجِرون في البلدان مع كفرهم بربهم.
والثاني: أعطاهم أموالًا يتنعمون فيها ويتلذذون
والثالث: ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت.
و "الذين كفروا": أي الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله، وَخَالَفُوا كِتَابَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِوَحْيِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ.
و"البلاد": جمع؛ والمفرد بلد، ويجمع البلد أيضًا على بلدان، والمعنى: لا يخدعنك أيها الرائي ما تراه من حال الكفار حين تراهم يذهبون من هذا البلد إلى هذا البلد يتنقلون ويحملون تجارتهم في أمن وطمأنينة يتاجرون ويربحون، فيغتر الإنسان بذلك.

• من الفوائد المستنبطة من هذه الآية المباركة:

1) رحمة الله بعباده المؤمنين أن نبههم وحذرهم من كل ما من شأنه أن يلبس عليهم دينهم ويبذر الشكوك في قلوبهم تجاه دينهم، وتسليته تعالى جبرا لخواطرهم وصورته هو أن عرفهم بحقيقة الأمور وليس الانخداع بما تراه أعينهم وتسمعه آذانهم، من رفاهية يتنعم بها الكفار؛ لقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}.
2) أنواع الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن:
- إما أنه خاص به عليه الصلاة والسلام.
- وإما أن الخطاب يصلح له ولأمته.
والقاعدة في التفسير: أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين متباينين لكن لا يتناقضان حملت عليهما جميعًا، وإذا احتملت معنيين أحدهما أعم حملت على الأعم؛ لأن الأخص يدخل في الأعم ولا عكس، وهنا: إن قلنا بأن الخطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجنا عنه بقية الأمة، وإذا قلنا: إن الخطاب عام لكل من يتأتى خطابه صار شاملًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولغيره، وعلى هذا فيكون الخطاب هنا عام يعني {لَا يَغُرَّنَّكَ} أيها الرائي الذي ترى تقلب الكفار في البلاد.
3) من فوائد نهي الله تعالى عباده من الاغترار بحال أهل الكفر: هو تحقيق اعتزاز المرء بدينه، فإن من أكثر ما عمت به البلوى مؤخرا بين شباب وشابات هذا الجيل هو شعورهم بالهزيمة النفسية لما يرونه من تمتع للكفار في بلدانهم، وجمال طبيعتهم وأجوائهم، وتطور عمرانهم، ونظافة شوارعهم، فيقارن حال بلاده المتدهورة ببلدانهم المتطورة، فيخدعه تقلبهم في التجارات وفي أنواع الصناعات وفي غيرها مما فتح الله عليهم، فيظن أن سبب ذلك هو ما هم عليه من الكفر، فيفقد الاعتزاز بدينه، ويرغب فيما عندهم من معاص وفجور، فيصل الحال ببعضهم إلى التسلل شيئا فشيئا من الدين، حتى وصل بعضهم للإلحاد والعياذ بالله.
4) الحذر من لعب أعداء المسلمين بالمسلمين حيث يغرونهم بوسائل الترفيه، ويفتحون لهم وسائل الترفيه ليلهوهم عما خلقوا له من عبادة الله، وعما ينبغي أن يكونوا عليه من العزة والكرامة، فإن هذه الوسائل "الترفيهية" هي في الحقيقة حَبٌّ مسموم للدجاج، والحب المسموم للدجاج تغتر به؛ تجده حبًّا منتفخًا لينًا فتفرح به وتأخذه بطرف مناقيرها وتبتلعه بسرعة ولكنه يقطع أمعاءها، فهكذا أعداؤنا فتحوا علينا أبواب الترفيه من كل ناحية، من أجل أن ننغمس فيها ولا يكون لنا هَمٌّ إلا الرفاهية، وننسى ما خلقنا له من عبادة الله، وننسى ما ينبغي لنا أن نكون عليه من العزة والكرامة.
5) لا يغرك أن ترى الباطل منتفشاً أو منتفخاً وترى أهل الحق ضعفاء! {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
6) أن القياس الخاطئ والغير متكافئ سبب في ورود الشبهات على القلب، فكيف يقارن المسلم ذو العقيدة الصحيحة حاله بحال من فسدت عقائدهم؟ وكيف يقيس الآخرة الباقية على الدنيا الفانية؟ فشتان بين الثرى والثريا.
7) أن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب. قال تعالى في كتابه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ويقول تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} فما فيه الكفار ما هو إلا استدراج، فلا تغتر، هذا ليس إلا زيادة حسرة فيما عليهم.
8) من يغتر بالظاهر يندم، وقد حكى الله سبحانه وتعالى ما حكاه عن أولئك الذين نظروا إلى قارون في زينته فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وبين تعالى كيف أنهم خدعوا بالظاهر وعرفوا ذلك أن هلك عدو الله قارون.
9) لا تتداخلنك تهمة بأنّ لهم عندنا قدرا وقيمة إنما هى أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة.
10) أن المقياس لرضا الله عن العبد هو اتباع العبد لشرع الله. أما ما يعطيه الله العبد من الرخاء وسعة الرزق والانطلاق في الأرض يمينًا وشمالًا ليس دليلًا على رضاه عن العبد.
11) أهمية الإيمان بالقدر، وعدم السخط على ما يقدره الله على البعض من خير وعافية وسعة رزق، وينبغي أن يعلم أنه كله فتنة، للمعطى له ولمن يراه. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
12) أن المؤمن قد يضيِّق الله عليه في الرزق أحيانًا ليرجع إليه بخلاف الكافر، وفي هذا رد على من يستدل بالآية: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. فالمؤمنون يُبتلون بالضراء من أجل أن يرجعوا إلى الله عزّ وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. أما الكفار فقد تمهد لهم الدنيا ويعطون ما يريدون وتكون جنتهم دنياهم بخلاف المؤمنين.


قوله تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
قال النحاس في القطع والائتناف: فإن الوقف عند "في البلاد" غلط ولكنه وقف صالح، لأن ما بعده متعلق بما قبله لأن المعنى تقلبهم في البلاد وتصرفهم في متاع قليل ومنفعة يسيرة ثم يصبرون إلى المجازاة بالأعمال والخلود في النار.
أما قوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}: فإنها خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو متاع، هو: أي تقلبهم {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}. والمتاع ما تقوم به المتعة سواء كانت متعة نفسية أو متعة جسدية، وكل متعة أضيفت إلى الدنيا أو إلى الكفار فهي متعة جسدية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، والمتاع ما تحصل به المتعة.
والمتعة نوعان:
الأولى: متعة قلبية روحية، وهذه لا تكون إلا للمؤمن؛ يتمتع بذكر الله وبما أنعم الله عليه من الإيمان.
والثانية: متعة جسدية يشترك فيها الإنسان والبهائم، وهي ما يحصل للجسد من اللذة والنعيم وغير ذلك.
ولقد قال قتادة: {مَتاعٌ قَلِيلٌ}: أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل.
وقال يزيد بن معاوية النخعي: إن الدنيا جعلت قليلا فما بقي منه إلّا القليل من قليل. بينما روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع». [3]
وقوله تعالى: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: يعني ثم بعد هذا المتاع القليل مأواهم جهنم، وأتى بـ "ثم" وإن كانت دالة على التراخي للإشارة إلى أنه مهما طالت بهم المدة في هذه الحياة فإن مآلهم هذا المآل الخبيث والعياذ بالله.
"مأواهم" بمعنى: ما يأوي إليه الإنسان، فهو اسم مكان، أي: المصير الذي يصيرون إليه وهو جهنم؛ و "جهنم" اسم من أسماء النار -أعاذنا الله منها- وسميت بذلك؛ لأنها مشتقة من التجهم، أو من الجهمة وهي السواد، وقيل: إنه اسم أعجمي وأصله "كهنام" لكن عرِّب إلى جهنم، وهو اسم من أسماء النار فهو غير مشتق، وأيًّا كان فهو اسم من أسماء النار.
{وَبِئْسَ الْمِهَادُ} "بئس" فعل من أفعال الذم له فاعل وله مخصوص، فالفاعل هو "المهاد" والمخصوص محذوف والتقدير: وبئس المهاد هي، وإنما احتاج النحويون إلى هذا التقدير لأن المهاد غير النار، والذم للنار، فكان لابد من ذكر مخصوص بالذم غير فاعل الفعل، والمخصوص بالذم هو الضمير المحذوف، أي: وبئس المهاد هي، هذا ما قدره النحاة. و"المهاد" ما يكون مهدًا للإنسان، أي: مقرًا له، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}، ف "مهادًا" أي مقرًا تستقرون فيه.

• ومن الفوائد المستنبطة من الآية الكريمة:

1) أن الدنيا مهما أعطي الإنسان فيها من النعيم فإنها متاع قليل، قليل في زمنه، وفي كميته، وفي كيفيته، لكن الآخرة خلاف ذلك، يقول تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} فهو:
- قليل في زمنه: فالزمن قليل محدود وهو عمر الإنسان؛ ذلك العمر المجهول الذي لا يدري الإنسان متى ينتهي.
- قليل في كميته: لأن الإنسان لا يملك كل شيء.
- قليل في كيفيته: لأن الإنسان قد يحرم التمتع في هذه الدنيا بأمراض تعتريه ولا يتمتع بها.
2) أن أقل ما في الجنة لهو خير من الدنيا وما فيها، وليست الدنيا الحاضرة فقط بل خير من كل الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، "السوط" متر أو أقل، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}.
3) أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فعن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي صلّى الله عليه وسلّم انحرافة فرأى عمر (رضي الله عنه) أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال: «هو كذلك». [4]
4) ليكن المسلمون على خندق واحد مع إخوانهم المسلمين في كل مكان، وليقيموا العزم في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز، وأما أهل الكفر والإلحاد فقد كفاناهم الله بقوله: {‌لا ‌يَغُرَّنَّكَ ‌تَقَلُّبُ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌فِي ‌الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
5) أن الله يمهل الكفار مع شركهم، ويمتعهم في تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها مع جحودهم نعمه وعبادتهم غيره حتى يبلغوا آجالهم فتخترمهم منياتهم، ثم مأواهم جهنم، فلا تغتر بهم أيها العبد، ولتكن لك عين فاحصة، وقلب فطن.
6) العبرة بالخواتيم وبعاقبة الأمور، فالمؤمن مأواه الجنة، والكافر مصيره إلى النار.
7) أنه لا يمكن للكافر أن يدخل الجنة؛ لقوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، لا يمكن أن تكون مأواهم الجنة أبدًا لأنهم كفار. وهذا ما يجب أن ينشأ عليه أبناء هذا الجيل وكل جيل، حتى لا يترحمون - كما أصبحنا نرى ونسمع مؤخرا – على من مات من الكفار فقط لأنه خدم البشرية، فالترحم لا يجوز على الكفار أبدا.
8) الإشارة إلى أن هذا النعيم الذي يدركه الكافر في الدنيا سوف ينسى بهذا المأوى السيئ، فإذا كان المأوى هو النار نسوا كل شيء كما جاء في الحديث: (أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة من أهل النار من أنعم أهل الدنيا -يعني أكثرهم نعمة ورفاهية- فيغمس في النار غمسة واحدة فيقال: هل رأيت خيرًا قط؟ فيقول: لا، ما رأيت خيرًا قط). لأنه نسيه بهذه الغمسة الواحدة، فقد نسي كل ما حصل له في الدنيا من نعيم. (ويؤتى بأبئس أهل الدنيا من أهل الجنة -أي أشدهم بؤسًا- فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال: هل رأيت شرًّا قط؟ فيقول: ما رأيت شرًّا قط)، لأنه نسيه بهذا النعيم الذي هو لحظة، فقد نسي كل ما حصل له في الدنيا من بؤس وفقر وأذى، وهذه الحقائق نحن نؤمن بها لكن الغفلة تستولي علينا، نسأل الله العافية، وأن يوقظ قلوبنا بذكره.
9) بيان قبح هذا المأوى؛ لأن الله أثنى عليه بأسوأ الثناء فقال: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهذا يدل على قبح مأوى أهل النار، نسأل الله السلامة منها.

قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}.

وَهَكَذَا لَمَّا ذَكَرَ حال الكفار في الدنيا وذكر أن مَآلَهُمْ إِلَى النَّارِ، قَالَ بَعْدَهُ:
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}، "لكن" حرف استدراك، لأن الاستدراك إنما يكون فيما يتوقع دخوله فيما سبق، تقول العرب: (قام القوم لكن فلان لم يقم) ممن يتوقع أن يكون فيهم قائم، وهنا وجه الاستدراك أن الذين اتقوا ربهم لو حصل لهم في الدنيا مثل ما حصل لهؤلاء الكفار لم يكن ذلك حائلًا بينهم وبين ما عند الله، يعني قد يحصل تقلب المؤمنين في البلاد كتقلب الكفار، فهل يكون مأوى المتقين كمأوى الكافرين؟
الجواب: لا، ولهذا قال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} فالاستدراك هنا من ألطف ما يكون لئلَّا يظن الظان أن الله لو مكَّن للمؤمنين أن يتقلبوا في البلاد تقلب الكفار لفاتهم ما عند الله، فبيَّن أنه لن يفوتهم فقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}.
أما {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}: فإن من أحسن ما فسرت به التقوى أنها: اتخاذ ما يقي من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، أي اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وقوله: {الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} ولم يقل: (اتقوا الله) إشارة إلى أن ربوبية الله لهم ربوبية خاصة أعانهم فيها على التقوى، ووفَّقهم لها، فكانت ربوبيته لهم ربوبية خاصة بهم كربوبيته لبعض الأنبياء مثل {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}، فهي ربوبية خاصة لا يشركهم فيها أحد.
{اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ}: فإذا رجعنا إلى الإعراب بعد معرفة المعنى نقول: (لكن): حرف استدراك غير عاملة، و {الَّذِينَ}: مبتدأ، و {لَهُمْ جَنَّاتٌ}: مبتدأ وخبر، والمبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: جنات: جمع جنة، وأصلها: البستان الكثير الأشجار، سمي بذلك لأنه يجن مَنْ كان فيه أي يستره.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}:
{مِنْ تَحْتِهَا} يدل على علو قصورها وأشجارها، وأن الأنهار أربعة، وأنها تجري بلا أخدود وبلا شق ساق، بل تجري حيث شاء صاحبها،
يقول ابن القيم رحمه الله في (النونية):
أنهارها من غير أخدود جرت … سبحان ممسكها عن الفيضان
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهلها.
يقول: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}: الخلود: هو البقاء، باقون فيها أبدا كما قال الله تعالى في آيات أخرى متعددة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.
{نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: نزلًا: هذه منصوبة على الحال، أي: حال كون هذه الجنات نزلًا.
والقاعدة في النحو: أن بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، وهنا جاءت "جنات" نكرة والحال لا تأتي من النكرة، بل لابد أن يكون صاحبها معرفة، فيفسر ذلك بأنه: وإن كانت "جنات" نكرة إلا أنها خصصت بالنعت: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والنكرة المخصصة تأتي منها الحال كما تأتي من المعرفة.
والنزل: هو اسم جامد وليس بمشتق، فإن قيل: إن الحال لا يكون جامدًا بل لابد أن يكون مشتقًا.
فالجواب أن يقال: إنه قد تأتي الحال جامدة، لكنها مؤولة بالمشتق، يعني: أنهم مكرمين بهذا النزل.
والنزل اسم لأول ما يقدم للضيف من الطعام، ومعلوم أن أول يوم للضيف يقدم له أطيب وأحسن شيء، فجعل الله هذه الجنة كلها نزلًا لا يختلف آخرها عن أولها بخلاف نُزل الضيافة في الدنيا، فإنه يكون أول يوم من أطيب ما يكون ثم يقل في اليوم الثاني وهكذا.
{نزلا}: ثوابا ورزقا.
وقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: أي: أن هذا النُزل ليس من فلان أو فلان بل من عند أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وهو الله، والنُزل من الأكبر يكون عظيمًا وكريمًا وكثيرًا.
قال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: (ما) اسم موصول، يعني والذي عند الله خير فتكون مبتدأ "وخير" خبره.
يعني: وما عند الله خير مما ذكر من وصف الجنات، وهذا كقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}. ففي الجنة أكثر مما يتمناه الإنسان وأكثر مما يتصوره؛ وهو النظر إلى وجه الله عزّ وجل، فإن النظر إلى وجه الله أعظم ما يكون من النعيم ولهذا سماه الله "زيادة" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: والأبرار: جمع بَر، والبَرُّ كثير الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}. أي كثير الخيرات، فالأبرار جمع بر، وهم كثيرو الخيرات، وذلك بفعلهم ما أمر الله به وتركهم ما نهى الله عنه.
ذكر ابن كثير ما رواه ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر، حدثنا أَبُو طَاهِرٍ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ محارب بن دثار، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّمَا سُمُّوا الْأَبْرَارَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، كَمَا أَنَّ لِوَالِدَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا كَذَلِكَ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ» كَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مرفوعا. فالبر: هو الموصوف بالمبرة والبر، وهو حسن العمل ضد الفجور.

• من الفوائد المستنبطة من الآية:

1) القرآن كتاب حياة للعباد، فهو دليلهم في الدنيا للحياة الكريمة، وفي الآخرة إلى جنات النعيم، فمن قرأ هذه الآية أدرك كيف أن الله سبحانه يخبرهم بحقيقة ما قد يواجهونه في الدنيا، والمآل الحقيقي الذي يجب أن تكون أنظار العباد مصوبة إليه.
فالله إذ يواجههم بالتحذير من جهة، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم، ويدفىء قلوبهم بالأمل والرجاء، في حياة طيبة ونعيم مقيم، وبهذا تتوازن النظرتان: نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته، إلى طريق الضلال والغواية- ثم نظرتهم إلى ربّهم، وما يدعوهم إليه من رضوانه، ونعيم جناته. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف، وإلى أي الطريقين منزع! فبالتوازن بين محصّل النظرتين، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير، وأن ما أعد الله لهم هو الجدير بأن يحرص عليه، ويعمل العاملون له، وأن ما يسوس لهم به الشيطان، هو الضلال المهلك، والخسران المبين
2) ينبغي لطالب العلم أن يفسر القرآن بمعناه، ولكن إذا خاف فتنة فليفسره بما يوافق العقول ولا يخالف النصوص. فإذا قلت عند العامة: الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالتفسير هذا صحيح. لكن عندما تتكلم مع طالب علم يقول: ما معنى الجنة؟ ولماذا سميت بهذا؟ نأتي إلى المادة (الجيم والنون) نجد أنها كلها تدل على الاستتار، فتقول: هي في الأصل البستان الكثير الأشجار، ولنا أن نقول: إن الجنة في الأصل هي هذا المعنى، لكن نقلت شرعًا إلى الدار التي أعدها الله للمتقين كما نقلت الصلاة والزكاة والحج والعمرة إلى معناها الشرعي.
3) أن المتقين وإن تقلبوا في البلاد فليس مآلهم كمآل الكافرين؛ لقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}.
4) أن من فوائد التقوى هو ما حصل لهؤلاء المتقين من النزل العظيم عند الله عزّ وجل، وهي هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
5) أن هؤلاء المتقين ثوابهم عند الله عزّ وجل أكثر بكثير مما يعطى هؤلاء الذين يتقلبون في البلاد؛ لأن الله قال في المتقلبين: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}، أما هؤلاء فقال: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} دائمًا وأبدًا.
6) عظم هذا الجزاء والثواب الذي يحصل لهم؛ لأنه نُزل من عند أكرم الأكرمين وهو الله عزّ وجل؛ لقوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
7) ما استنبطه بعض أهل العلم من أن قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} يفيد العلو، وذلك لأنه لا يمكن أن يفيد السفلى؛ لأن ذلك نقص ينزه الله عنه، فتعيَّن أن يكون ذلك في العلو {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}.
8) لا يدخل الجنة أحد بعمله، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {نزلا من عند الله}، فالله بفضل محض خالص من الله، وما الأعمال سوى أسباب تنال بها رحمة الله التي بها يرزق العباد الجنة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، وقال بيده فوق رأسه). [5]
9) شتان بين حال المؤمن التقي، والكافر الشقي في الحال والمآل، فالذين وسمناهم بذلّ الفرقة بئست حالتهم، والذين رفعوا قدما لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة وصلوا إلى الثواب المقيم، وبقوا فى الوصلة والنعيم، وما عند الله مما ادّخرنا لهم خير مما أمّلوه باختيارهم.
10) أن الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء لما كانوا بررة كثيري الخيرات كان لهم عند الله هذا النزل العظيم.
11) أن في الجنات أنهار عظيمة تجري من تحت غرفها وأشجارها؛ لقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
12) أن مَنْ مَنَّ الله عليه بالتقوى فإن ذلك من مقتضى ربوبية الله تعالى الخاصة، حيث قال: {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} فتخصيص الربوبية هنا بهؤلاء المتقين هو من باب الربوبية الخاصة، فربوبية الله عزّ وجل لخلقه نوعان: "عامة، وخاصة"، فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق. والخاصة هي الخاصة بالمؤمنين، كما أن "العبودية لله عزّ وجل" أيضًا نوعان: عامة: وهي التي لجميع الخلق كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. وخاصة: وهي للمؤمنين كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}.
وهذه الخاصة منها ما هو أخص كما في عبودية الرسول فهي أخص من العبودية العامة للمؤمنين المتقين، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. وعلى هذا ففي العبودية عموم مطلق وعموم نسبي.
13) أن هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار إذا كانت نزلًا، وهو ما يقدم للضيف من الكرامة، فما بالك بما يكون بعد هذا؟ لا شك أنه سيكون خيرًا كثيرًا. جعلنا الله وإياكم من أهلها.

--------------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكره الواحدي ولم يعزه إلى قائل وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 447": "لم أقف عليه".
[2] ذكره الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما.
[3] مسند أحمد (4/299)
[4] إسناده صحيح على شرط البخاري، عبد العزيز روى له البخاري ومن فوقه على شرطهما، يحيى بن سعيد هو الأنصاري.
- خرجه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» (4913) عن عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بهذا الإسناد. وأخرجه مسلم 1479 ح 31 من طريق سليمان بن بلال به مطوّلا.
وأخرجه البخاري 89 و2468 و5191 ومسلم 1479 ح 34 والترمذي 3315 والنسائي 4/ 137 وأحمد 1/ 33 وأبو يعلى 164 من طرق عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثور، عن ابن عباس
[5] [صححه الألباني في صحيح الترغيب (3599)].


المراجع
- معاني القرآن للفراء (207 ه).
- المغازي للواقدي (207 ه).
- غريب القرآن لابن قتيبة (276 ه)
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير (310 ه)
- معاني القرآن للزجاج (311 ه).
- تأويلات أهل السنة للماتريدي (333 ه).
- القطع والائتناف للنحاس (338 ه).
- الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي (427 ه).
- النكت والعيون للماوردي (450 ه).
- لطائف الإشارات تفسير القشيري (465 ه).
- أسباب النزول للواحدي (468 ه)
- معالم التنزيل في تفسير القرآن (510 ه).
- تفسير القرآن العظيم (774 ه).
- تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1376 ه).
- التفسير القرآني للقرآن لعبد الكريم الخطيب (1390 ه).
- التفسير الواضح للحجازي (1392 ه).
- التحرير والتنوير لابن عاشور (1393 ه).
- تفسير ابن عثيمين (1421 ه).
- التفسير الموضوعي للقرآن لمصطفى مسلم (2021 ه).
- دروس للشيخ سعيد بن مسفر القحطاني.
- تفسير القرآن العظيم لمحمد إسماعيل المقدم.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 29 ربيع الثاني 1444هـ/23-11-2022م, 05:03 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع التقويم


إيمان جلال أ+
أحسنت بارك الله فيك.
ولا يشترط في الأسلوب الاستنتاجي التقديم بتفسير الآيات إلا في حدود ما هو مهمّ، ويكون في أثناء كتابة الفائدة.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 4 جمادى الأولى 1445هـ/16-11-2023م, 10:56 AM
رولا بدوي رولا بدوي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Sep 2019
المشاركات: 341
افتراضي

رسالة بالأسلوب المقاصدي
قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}

بسم الله نحمده و نسستعينه و نستهديه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدًا عبده و رسوله
أما بعد
إن القرآن كتاب الهدى أنزله الله لعباده لمقاصد عدة، منها التعريف به عز و جل، و التعريف بالصراط المستقيم و أهله، و أسباب الثبات عليه و ما يخل به، و التبشير لمن سار فيه، و الوعيد لمن حاد و أعرض، و التعريف بأسباب السعادة الحقيقية في الدنيا و الآخرة.
قال تعالى في سورة آل عمران: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
القرآن كله من أسباب ثبات القلب على الدين بنص كلام العليم الخبير، قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102].
و سورة آل عمران من يتدبرها يجد أن آياتها جاءت في نظم متكامل لتثبيت الرسول صلى الله عليه و سلم و تثبيت المؤمنين، وهذه الآيات منها؛ رعاية من رب العالمين لعباده المخلصين الذين اتقوا.
هذه الآيات شفاء للصدور التي أصابتها شبهة النعيم الدنيوي الذي يرفل به الكافرون، من مشركي مكة و اليهود ، و هم من بارزوا الله بالمعصية و أعرضوا عن الحق، هذه الشبهة التي تسربت لبعض المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قالوا: قَدْ أهْلَكَنا الجَهْدُ، وأعْداءُ اللَّهِ فِيما تَرَوْنَ.
تضافرت ألفاظ الآيات لتبين للعباد حقيقة الدنيا، و الثواب و العقاب، وعدًا لمن اتبع و كان على الصراط و ترغيبًا للاتباع، و وعيدًا لمن أعرض و نأى بجانبه.
قال الفخر الدين الرازي في تفسيره : الغُرُورَ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: غَرَّرْتُ الرَّجُلَ بِما يَسْتَحْسِنُهُ في الظّاهِرِ ثُمَّ يَجِدُهُ عِنْدَ التَّفْتِيشِ عَلى خِلافِ ما يُحِبُّهُ، فَيَقُولُ: غَرَّنِي ظاهِرُهُ أيْ قَبِلْتُهُ عَلى غَفْلَةٍ عَنِ امْتِحانِهِ، وتَقُولُ العَرَبُ في الثَّوابِ إذا نُشِرَ ثُمَّ أُعِيدَ إلى طَيِّهِ: رَدَدْتُهُ عَلى غِرَّةٍ
ناسب النهي بلفظ ( يغرنكم) مقصود الآية بالنهي فيها عن أن يخدع المؤمنون بما يتقلب فيه الكافرون من نعيم دنيوي، و تجارة و مال و زينة، و إمهال من الله لهم، و هذا شبيه بقوله تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) غافر 4
ومِن مَظاهر التقلب: التسلُّط، والمكانة، والاستعلاء، والإعجاب بالقوة، الذي يقود إلى إلى التَّمَرُّد، ويزيد أصحابه بَطَرًا ولجاجًا في الشرِّ والفساد، و ما هم عليه لا يعاقبون و لا يعذبون بما كسبت أيديهم، لماذا قد يُخدع بعض المؤمنين بذلك، و يداخل قلبوهم الحيرة و القلق، و الاضطراب و الشك بالحق الذي هم عليه؟
لجهلهم بحقيقة الحياة الدنيا و بالصراط و بمعوقات الطريق؛ جهل لعدم العلم البتة، أو نسيانًا أو غفلة تصيب قلوبهم، فيعيث الشيطان فسادًا فيها، مطيته هوى أنفسهم الضعيفة التي تحب الركون لما تهواه من زينة الدنيا و بهرجها و تنفر من ضيقها، تتقلب قلوبهم في الأفكار و الشبهات التي توردهم المهالك ما لم يجاهدوا أنفسهم، بالعلم و المعرفة و بتزكية أنفسهم.
ما يظنه الرائي من أن نعيم عيش الكافرين الغاية التي تكمل بها سعادته، بين الله حقيقته أنه متاعٌ قليل، هكذا القرآن يغير المفاهيم و يصححها، الدنيا متاع قليل، و ذلك لأنه متاعُ فانٍ، فكل ما يفنى قل و لو كثر، هو قليل بالمقارنة بنعيم الآخرة، دار الخلد التي فيها ما لاعين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، كتبها الله لعباده المتقين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
و قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) أي الحياة الدائمة الحق التي لا زوال لها ولا انقضاء بل هي مستمرة أبد الآباد).
و قال صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه، مبينًا الحق الذي يجب عليه أن يربط المؤمن عليه قلبه، عندما جاءه يحدثه فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ.
نعم لهم الدنيا و لنا الآخرة، لهم الدنيا المتاع القليل، الحقير، الفان.
و قد تكرر وصف الحياة الدنيا بالمتاع في القرآن في مواضع كثيرة مما يدل على أهمية هذه المعرفة للعبد في طريقه إلى الله، فلا يلتفت لها و لا تقعده عن غايته ، منها ؛ قوله تَعالى في سورة آل عمران الآيات سبقت ( كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [آل عمران ١٨٥]
و في سورة النساء ( وقال: "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ" (النساء: من الآية77).
و قوله تعالى في سورة الرعد ( وما الحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا مَتاعٌ﴾ ( ٢٦)
و في سورة غافر (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ" (غافر: من الآية39)،
و في الحديث: أنه «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا » -يعني أكثرهم نعمة ورفاهية-« فَيُغْمَسُ بِالنَّارِ غَمْسَةً وَاحِدَةً فَيُقَالُ: هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا مَا رَأَيْتُ خَيْرًا قَطُّ»، لماذا؟ لأنه نسيه، هذه الغمسة الواحدة تنسيه كل ما حصل له في الدنيا من نعيم؛ لأنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا «وَيُؤْتَى بِأَبْأَسِ أَهْلِ الدُّنْيَا » -أي أشدهم بأسًا- «فَيُغْمَسُ فِي الْجَنَّةِ غَمْسَةً فَيُقَالُ: هَلْ رَأَيْتَ شَرًّا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ شَرًّا» »، لأنه نسيه بهذا النعيم الذي هو لحظة، كل ما حصل له في الدنيا من بئس وفقر وأذى.
و قال النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فلينظر بماذا يَرْجِعُ).
هذه هي الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
بتدبرآي القرآن يظهر أن ما الكافرين فيه ليس خيرًا كما يظن ضعيف الإيمان أعمى البصيرة، فالله كلامه حق و وعده حق، قال في أول سورة آل عمران( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)
فكيف نجمع بين ذلك و ما يظهر من حياتهم؟
تقلبهم في البلاد ليس ببعيد عن علم الله و حكمته، بل هو من تقديره و تدبيره، بعلمه و حكمته، و ليس لاستحقاق منهم، بل هو من الاستدراج و الإملاء، و بين الله هذا في الآيات ، قال تعالى ﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) آل عمران/178 .﴾ .
.و في سور أخرى قال تعالى ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣
. ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢)
و تأخر وقوع العذاب ليس عن غفلة و حاشاه عز و جل بل لحكمة عند الله، قال تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) إبراهيم/42
قال الله تعالى : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ٍ) ابراهيم/47
و ما يظنه الناظر لهم أنهم في سعادة؛ فظاهرهم إطمئنان و سعادة و ركون بأمان، بين الله حقيقته فقال سبحانه : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) أي: في الدنيا؛ فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ؛ بل صدره ضيِّق حَرَج لضلاله ، وإن تنعَّم ظاهرُه ، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء ، وسكنَ حيث شاء ؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلق وحيرة وشَكّ ، فلا يزال في ريبه يتردَّد ، فهذا من ضَنَك المعيشة.
و بعد أن بين الله حقيقة الدنيا و حقارتها، و عاقبة الكفار الذين ارتضوها لأنفسهم، ذكر مايدل أن هذا النعيم قليل لن يغنيهم يوم القيامة، قال تعالى: ( ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) ، هذا ما يخلدون فيه، لن ينفعهم مال و لا بنون، كما قال تعالى في أول سورة آل عمران ( إنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَن تُغۡنِیَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لُهُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ﴾ 10.
و قال أيضًا فيها : ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَن تُغۡنِیَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لُهُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [١١٦]
حتى أعمالهم التي يُثنِى عليها من يعرفها و ظاهرها الصلاح، ليست بشئ يوم القيامة، لأنهم لم يقصدوا بها و جه الله، و تذهب هباءً منثورًا، قال تعالى في سورة الفرقان :( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] وقال تعالى: في سورة الأنعام ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [88] ، في سورة المائدة( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) 5.
فإن هذا هو الحال يوم القيامة، فكيف يغتر المؤمن بحالهم في الدنيا؟
لذا لا يوجد ما يدعو للاغترار بحالهم، بعد هذا البيان في آيات الله، و يجب على المؤمن أن يزن الأمور بميزان الحقائق الشرعية، و يزن الرجال بالحق و لا يزن الحق بالرجال.
و هذا التحذير من الاغترار بالدنيا تكرر وروده في القرآن، قال تعالى ﴿ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ [لقمان/33]، فالغرور: كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، لماذا يحذر القرآن من الاغترار بالدنيا؟
لأن الإنسان جبل على حبها، و حب زينتها، قال تعالى( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (آية 14)آل عمران
و جبل على حب النعيم العاجل ، قال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُورا)[الإسراء: 18]،
و جبل على الميل لها، قال تعالى : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 16 ، 17 ]
و في بيان حقيقة الدنيا و ضعف الإنسان أمامها، تحذير بما قد يخل بالطريق إلى الله، التعلق بالدنيا؛ فمن ترك نفسه لها أخذت بلباب قلبه و جعل يدور في فلكها ، فارق بالتعلق بها الغاية من خلقه ( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون) ، ليعبد الدنيا لا يشبع منها ، متبعًا هواه، شبه الله حاله بالكلب، قال تعالى:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)الأعراف
و قد توعد الله من تعلق بالدنيا و كانت أحب إليه من الله ، قال تعالى( ﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نُكُمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ [التوبة ٢٤]

فمن يركن للدنيا مغترًا بها، ينسى الله معبوده و يغفل عن حقيقة خلقه، و الجزاء من جنس العمل، فينسى الله أهل الدنيا يوم القيامة، كما قال تعالى( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) الأعراف
و من يرضى بها يتثاقل إلى الأرض، فيعرض عن الجهاد في سبيل الله، قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)التوبة
و حق أن يخاف الرسول صلى الله عليه و سلم أن تفتح علينا الدنيا، قال صلى الله عليه و سلم (ابشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على مَن كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُلهيكم كما ألهتهم، وفي اللفظ الآخر: فتُهلككم كما أهلكتهم)
و قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى"(الألباني صحيح لغيره .
و حكى فخر الدين الرازي هن على رضي الله عنه قوله في الدنيا: لِينُ مَسِّها قاتِلُ سُمِّها.
هذه هي الدنيا التي يجب أن نجاهد قلوبنا ألا تتعلق بها، و ألا نسقط في دوامتها، تتقاذفنا يمنة و يسرة، نعيشها لله و بالله و في الله ، و نقول كما قال تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام. (162).
و لا يجب أن يًفتن العبد بحاله إن كان في ضيق و الكافر في سعة، و ذلك لما ذكرنا من حقيقة الدنيا و حقيقة ما هم فيه من سعة و و كذلك لأن نظرة العبد للأحوال التي يتقلب فيها في الدنيا يستمدها من القرآن منهجًا و طريقة، و هي غير نظرة ضعاف الإيمان و االكافرين الذين غايتهم في الدنيا المتع الجسدية ، قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)، إذا ضُيق عليهم ضاقت انفسهم و أصابهم القلق و السخط و الاكتئاب و يصل الأمر بهم للإإنتحار، فلا ملجأ لهم قادرٌ أن يرفع عنهم ما يصيبهم ، و لا باب يقفون عليه يسلمون له الأمر.
المؤمن يرى ببصيرته تربية الله له في جميع أحواله المتنوعة، و هذه البصيرة عنوان لما في قلبه من إيمان؛ كالغنى و الفقر و الصحة و المرض و السراء و الضراء، يعلم أنه مختبرً بكل حال، قال تعالى في سورة الأنبياء( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) محمد (35)
و قال رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. رواه مسلم.
فهو دائرُ بين الشكر و الصبر، يرجو ما عند الله من الأجر.
و النجاة كل النجاة في تقوى الله، و قد تضافرت الآيات في ذلك، و منها هذه الآيات التي نحن بصددها، فقد ثنى الله بعد أن حذر من الاغترار بحال الكافرين و بالدنيا و بين عاقبة أمر الكافرين، ثنى بذكر من ينجو و هم المتقون، و افتتحت الىية ب( لكن) حرف استدراك لينفي الحكم عما قبلها و يثبته لما بعدها، قال تعالى: ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
الذين اتقوا ربهم؛ الذين أنعم الله عليهم بالهداية و علموا حقيقة الدنيا وأسباب السير في الطريق و عوائقه، مقابل الذين كفروا؛ الذين جحدوا نعم ربهم و كفروا به، و اطمأنوا للحياة الدنيا.
للذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار، هذا هو النعيم المقيم الذي سعوا له سعيه، فكان لهم نزلًا لا حول لهم عنه، هذا ثوابهم عند ربهم.
و في بيان هذا الثواب ؛ ترغيبًا للعباد أن يكونوا من المتقين، فيتصفون بصفاتهم التي جاءت في القرآن: قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16) * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)﴾
و جمعت هذه الأيات من صفاتهم : التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به، طلَبُ المغفرة منه،و طلبهم الوقاية من عذاب النار، و الصبر على طاعة الله وعن محارم الله، وعلى أقدار الله المؤلمة و الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال، و القنوت الذي هو دوام الطاعة مع الخشوع، و الإنفاق في سبيل الخيرات على الفقراء وأهل الحاجات، و الاستغفار، خصوصًا وقت الأسحار.
و قال أيضًا عز من قائل في نفس السورة ﴿۞ وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ( ١٣٣)الَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ( ١٣٤) وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران ١٣٥]
جاءت هذه الآيات ففصلت ما أجمل في الآيات الأولىـ و أكدت على صفات المتقين، تبيينًا لصفات أهل الصراط ، وترغيبًا في الاتصاف بها، فالله يحب المحسنين.
و من علم جزاء المتقين أحب أن يكون منهم ، فإذا كان منهم أعرض عن الدنيا، و أقبل على ربه؛ بجناحي الخوف و الرجاء؛ يرجو ما عند الله من الثواب الذي كتبه لهم، و يخاف فواته.
كما أن في ذكر هذا الثواب تثبيتًا للمؤمنين؛ بتذكيرهم بالغاية التي تقصدها قلوبهم، و بأن النعيم الأخروي هو النعيم الحقيقي الدائم في جنات الخلد، هذه هي السعادة الحقيقة و التي تنشرح بها الصدور و ترضى، فالمؤمن ينشد معالي الأمور، و الدنيا ما سميت دنيا إلا لأنها دُنيا في كل شئ، لا يقف عندها المؤمن، هي دار ممر لدار المقر.
كل ما بينته الآيات يضئ الطريق و يبين عائق عظيم الأثر لمن لم ينتبه له؛ الاغترار بحال الكافرين الظاهر، الذي حمل نهي عن الاغترار بالدنيا التي غرتهم، مع بيان حقيقة الدنيا، و أسباب السعادة الحقيقة في الدنيا و الآخرة، كل ذلك مما يجعل المؤمن على باب الثبات قائم، يحفظ دينه عليه، ينقض عرى الشبهة في قلبه، يدفعه لقطع علائق القلب بالدنيا، كل ذلك تزكية و جهادًا ليكون من المتقين الأبرار لينال وعد الله.
و في الختام ندعو الله بدعاء نبينا الكريم صلى الله عليه و سلم ،الذي كان يردده في مجالسه (اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا ، اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا ، وأبصارِنا ، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا ، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا ، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا ، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا ، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا ، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا ، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا ، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا)
و هذا ما تيسر و استغفر الله لي و لكم .
المراجع:
1- تفسير السعدي
2- تفسير ابن كثير
3- تفسير فخر الدين الرازي
4- تفسير ابن عطية
5- التحيري و التنوير للطاهر ابن عاشور.
6- كتاب المقاصد للشاطبي

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14 جمادى الآخرة 1445هـ/26-12-2023م, 12:25 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع التقويم

رولا بدوي أ+

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك وأحسن الله إليك.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مذاكرة, مجلس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:16 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir