دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة البناء في التفسير > منتدى المسار الثاني

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 شوال 1443هـ/22-05-2022م, 09:48 AM
رولا بدوي رولا بدوي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Sep 2019
المشاركات: 341
افتراضي

المجموعة الثانية:
لخّص مسائل الموضوعات التالية وبيّن فوائد دراستها:

1. أحكام المواريث.
قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]
والتي في آخر السورة:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرها [النساء: 176] .
فوائد دراسة أحكام المواريث:
١- توصية الله العباد بأبنائهم فيها دليل على كمال رحمة الله و عنايته بعباده،
٢- كمال عدل الله و حكمته، و لا يستطيع أي قانون وضعي تحقيق مثل هذا المقصد و لا ان يجاريه، و الوصول لهذه الحقيقة مما يثبت الإيمان و يزيده في قلوب المؤمنين
٣- هذه الأحكام فيها من محاسن الإسلام ما كان سببًا لدخول الناس الإسلام، فهي باب للدعوة لمن أحسنه.
حالات الميراث :حالات الأولاد( ينتبه إلى أن من يدخل تحت هذا المسمى( الأولاد) هم ؛ الذكر والأنثى من أولاد الصلب وأولاد الابن وإن نزل، وأما أولاد البنات فلا يدخلون في إطلاق اسم الأولاد في المواريث.(
١- قال تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ؛ هذه الحالة حين اجتماع الذكور و الإناث، يتقاسمون المال وفق هذه القسمة، سواء أولاد صلب أو أولاد ابن.
٢- إن كان الأولاد ذكورا فقط؛ فإنهم يتقاسمونه متساوين، ومن ارتفعت درجته حجب ما نزل من الأولاد إذا كان الأعلى من الذكور.
٣-إذا كن إناثا فلها أحوال:
- (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فإن كانت واحدة فلها النصف، سواء كانت بنت صلب أو بنت ابن.
- (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان.
من فوائد هذه الإية:
١- لا يزيد نصيب البنت بزيادة عددهم قياسًا على الزيادة عندما زاد عددهم لاثنتين
٢- في الآية نص من الله على أن الأختين فرضهما الثلثان، فيستنبط من ذلك؛ أن البنتين من باب أولى وأحرى، بنات صلب تحجب بنات الابن فلا يكون لهن نصيب، وصار البقية بعد فرض البنات للعاصب، وإن كانت العالية واحدة أخذت النصف، وباقي الثلثين وهو السدس لبنت أو بنات الابن.

٤-وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
حالات ميراث الأبوين:
١- وجود ولد( أولاد صلب أو ابن، منفردين أو متعددين): للأم السدس
٢- لا يوجد له ولد و لا إخوة: للأم الثلث
٣- وجود إخوة( اثنين فأكثر) : للأم السدس.
يستفاد من قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ثلث الباقي في زوج أو زوجة وأبوين؛ فإذا كان معهما أحد الزوجين خرجت عن هذا فلم يكن لها ثلث كامل، و بتعبير آخر ؛من إضافة الميراث للأبوين - وهو الأب والأم - يستفاد أن للزوجة ثلث ما ورثه الأبوان، ويكون ما يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغريم.
٥- وأما الأب؛ فله السدس مع وجود أحد من الأولاد؛
- فإن كان الأولاد ذكورا لم يزد الأب على السدس، وصار الأبناء أحق بالتقديم من الأب بالتعصيب بالإجماع.
- وإن كان الأولاد إناثا واحدة أو متعددات فله السدس ولهن أو لها الفرض، فإن بقي شيء فهو لأولى رجل، وهو الأب هنا، وإن استغرقت الفروض التركة لم يبق للأب زيادة عن السدس;مثال ذلك لو خلف أبوين وابنتين؛ فلكل واحد من الأبوين السدس، وللبنتين الثلثان.
ومفهوم الآية الكريمة أنه إذا لم يكن أولاد ذكور ولا إناث، أن الأب يرث بغير تقدير، بل بالعصب، بأن يأخذ المال كله إذا انفرد، أو ما أبقت الفروض إن كان معه أصحاب فروض، وهو إجماع.
٦- الجد و الجدة؛
- حكم الجد حكم الأب فيما سبق من الأحكام إلا في العمريتين؛ فإن الأم ترث ثلثا كاملا مع الجد.
- ميراث الجدة عند غياب الأم يؤخذ من السنة :السدس .
٧- حكم الأزواج:
قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]
- الزوج له نصف ما تركت زوجته إن لم يكن لها ولد،
- و إن كان لها ولد فله الربع.
- الزوجة واحدة أو متعددات لها الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له ولد.
- إن كان للزوج ولد منها أو من غيرها ذكر أو أنثى، ولد صلب أو ولد ابن فلها أو لهن الثمن.
٨- ميراث الإخوة من الأم:
قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث)
حكمهم ؛ أنهم لا يرثون إلا إذا كانت الورثة كلالة ليس فيهم أحد من الفروع ولا الأب والجد، فللواحد من الإخوة من الأم أو الأخوات السدس، وللأنثيين فأكثر الثلث، يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم.
٧- إذا كان هناك وصية أو دين يقدمان على توزيع الميراث.
و يقدم الدين على الوصية و ذلك من السنة و اتفاق العلماء
الوصية لها ضابط أن لا تكون على وجه المضارة بالورثة، فإن كانت كذلك فإنها وصية إثم وجنف يجب تعديلها ورد الظلم الواقع فيها.
٩- هذه الأحكام حدود الله ،تؤدى كما هي دون زيادة أو نقصان، و لا يعطى وارث فوق حقه، أو يحرم وارث، أو ينقص عن حقه.
١٠-ميراث الإخوة لغير أم وأخواتهم
قال تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
١ -إناث فقط:
- الأنثى الواحدة لها النصف،
- وللثنتين فأكثر الثلثان،
٢- وإن اجتمع رجال ونساء:
- فللذكر مثل حظ الأنثيين،
* إذا كانوا ذكورا أشقاء أو لأب،تساووا.
* فإن وجد هؤلاء وهؤلاء حجب الأشقاء الإخوة للأب.
*وإن كن نساء شقيقات وأخوات لأب، واستغرق الشقيقات الثلثين لم يبق للأخوات للأب شيء؛ فإن كانت الشقيقة واحدة أخذت نصفها، وأعطيت الأخت للأب أو الأخوات السدس تكملة الثلثين.
١٠- وما سوى هذه الفروض فإن الورثة من إخوة لغير أم وبنيهم وأعمام وبنيهم وهؤلاء يدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الصحيح: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . رواه مسلم.
-يقدم الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم ثم الولاء؛ ويقدم منهم الأقرب منزلة، فإن استوت منزلتهم قدم الأقوى وهو الشقيق على الذي لأب. والله أعلم.
س 2- أحكام الأطعمة و الأشربة والصيد.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29]؛ الأصل في الأشياء الحل.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]
الطيبات ؛ال الاستغراق ،كل الطيبات حلال
الأصل في الأشياء الحل من طعام وشراب وغيرها؛ الدليل: ( خلق لكم ما في الأرض) الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا، سخر كل شئ لننتفع به بكل وجوه الانتفاعات، من أكل وشرب واستعمال.
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وفصل لنا ما حرم علينا، فما لم يعين في القرإن أو السنة بذاته حرام فهو حلال .
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]؛ إلا ؛ استثناء ما ذكر من محرم من الكل الذي هو حلال.
مما حرمه الله من الخبائث:
1- الميتة ، وهي ما مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية -يستثنى منها ما ذكر في السنة: ميتة الجراد والسمك.
من أمثلة الميتة
* {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] أي: التي تخنق بالحبال أو غيرها، أو تختنق فتموت،
*{وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تضرب بالحصى أو بالعصا حتى تموت، ومن هذا إذا رمى صيدا فأصاب الصيد بعرضه فقتله،
* {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تسقط من موضع عال كسطح وجبل فتموت، *{وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] التي تنطحها غيرها فتموت بذلك، وما أكله ذئب أو غيره من السباع،
* {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] كل هذه الأنواع من أشكال الميتة غير المذكاة حرام، فإن أدركت حية فذكيت كانت حلالا طيبا.
2-ومن المحرمات ما ذكي ذكاة غير شرعية؛
* إذا كان من يتولى الذبح غير مسلم ولا كتابي
*إذا ذبحت في غير محل الذبح وهي مقدور عليها
*وإذا لم يقطع حلقومها ومريها.
*أذا ذبحت بغير ما ينهر الدم أو بأداة كعظم أو ظفر.
3- والدم المسفوح ،قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ، وأما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه طيب حلال( الكبد و الطحال حلال من السنة).
4-{وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] الذبح الذي لا يبتغي وجه الله.
كمن ذبح للأصنام أوملائكة أو إنس أو جن أو غيرها من المخلوقات.
5- ومن الخبائث كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، يؤخذ ذلك من السنة الصحيحة.
6- ومن المحرمات الحشرات وخشاش الأرض من فأرة وحية ووزغ، ونحوها من المستخبثة شرعا وطبا.
* كل ما أمر الله بقتله أو نهى عن قتله فهو خبيث و محرم
هذا التحريم في حال لا ضيق فيها و لا حرج، و العسر و الضرورة تبيحها من غير بغي و لا عدوان.
8- وسع الله دائرة طرق الحلال؛
- فأباح الصيد إذا جرح في أي موضع من بدنه،
- وأباح صيد السهام إذا سمى الرامي عند رميها،
- وأباح أيضا صيد الكلاب المعلمة والطيور المعلمة، فإذا أمسك الكلب و لم يأكل مما اصطاده لقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] .
فائدة دراسة هذه الأحكام تحري الحلال و الحرام، اليقين برحمة الله بعباده الذي يورث محبته و تعظيمه؛ فالله وسع دائرة الحلال و ضيق دائرة الحرام، مع الأخذ في الاعتبار مواطن التضييق و العسرة و الحرج، فيها من محاسن الإسلام ما يدفع الناس للإيمان بهذا الدين السمح.
س3- فوائد دراسة قصص الأنبياء.
قال تعالى( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
في وصف القصص أنها أحسن القصص ما يدل على عظيم ما فيها من فوائد و حكم و عظات ، مما يستفاد من قراءة القصص:
١- بالقصص يتم ويكمل الإيمان بالأنبياء صلى الله عليهم وسلم،فالإيمان المطلوب بهم هو الإيمان التفصيلي و الذي لا يتأتى إلا عبر معرفة قصصهم الصحيحة من القرآن،التي تبين كمال وصفهم بالأخلاق من صدق و أمانة و صبر و إنابة و ما لهم من فضل على الأمم و فضل على سائر الناس.
٢- عبر قراءة و تدبر قصصهم نجد تقرير للإيمان بالله و رسالة التوحيد الواحدة التي جاءوا بها و نبذ الشرك و أهله، و أسباب الثبات على التوحيد و سنة الله في خسارة أهل الضلال و الشرك في الدنيا والآخرة.
٣- يجد المؤمنون سبل الهداية للصراط المستقيم و أسباب الثبات على التوحيد، و يجدون القدوة التي يأتمون بها في طريقهم : في تحقيق التوحيد والقيام بالعبودية، وفي القيام بأعباء الدعوة، في التزود بأسباب الصبر والثبات في مقابلة عوائق الطريق من ابتلاءات و أعداء، فيصيب قلوبهم الطمأنينة والسكون والثبات التام،يرون أن الصدق و الإخلاص لله باب لقبول الأعمال و نيل النصرة في للدنيا و الآخرة، فيجددون النية و يجدون الطلب و لا يرجون من الناس جزاء و لا شكور، بل الأجر من الله غاية سعيهم.
٤- في القصص القدوة لكل خلق طيب و عمل حسن ، فيها مدح للإصلاح و أهله و ذم للفساد و أهله، هداية لمن يتدبر ليتبع ما يرضي الله عز و جل.
٥- يستفاد من القصص بعض الأحكام و القواعد الفقهية والأحكام الشرعية و ما تحمل من سر
٦- يستفاد من القصص بصفة عامة ما حوت من وعظ وتذكير وترغيب وترهيب، و مشاهدة رحمة الله بعباده و عنايته بهم بتيسير الأمور بعد تعسرها.
7- في القصص تسلية لكل صحب ابتلاء و لكل من ضاق به السبيل لإقامة الدين.
8- نتعلم من القصص أولويات الدعوة و طرقها و أساليبها، و نتعلم الكفايات التي يحتاجها الداعي.
9- نتعلم سنة الله في خلقه، و سنة الابتلاء.

4. قصة لوط عليه السلام
لوط عليه السلام هو تلميذ إبراهيم عليه السلام، و كان منه كالابن، فكان للتوحيد رسولاً عند قرى سدوم من غور فلسطين، دعاهم دعوة الأنبياء جميعًا ؛ عبادة الله وحده لا شريك له، و كان أهل هذه القرى مع شركهم بالله يقومون على فاحشة هي من الفاحشة المعظمة، اللواط؛ يأتون الرجال شهوة دون النساء، فحذرهم لوط عليه السلام منها و من مغبة القيام على مثل هذه الفاحشة، لكنهم عاندوا و أعرضوا، و ثبتوا على ما هم عليه من الباطل، بل إزدادوا عتوًا و ضلالًا، حتى أرسل الله ملائكة إلى لوط عليه السلام ليقضي بينهم بالحق، و يصيبهم ما توعدوا من الهلاك، مرت هذه الملائكة في طريقها إليه بإبراهيم عليه السلام و أعلموه بوجهتهم، فقال من شفقته و حلمه .{إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]
فقيل: {يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]
، جاءوا لوطًا عليه السلام بصورة أضياف آدميين شباب فلما رآهم ضيق به، خوفًا عليهم من قومه،{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]
فطمأنوه أنهم رسل الله له ليهلك أهل الضلال، و قد خانته زوجته فأبلغت قومه بضيوفه فجاؤوا يدفعهم حب الفاحشة لبيت لوطٍ عليه السلام يريدون ضيوفه، فجزع لوطًا عليه السلام و قال لهم من عجزه و هلعه {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: لدافعتكم، فلما رآهم جازمين على مرادهم الخبيث قال لقومه: فَاتَّقُوا {اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]
قال قولته هذه متعجبًا أليس فيكم رجل عاقل فيردكم عن طغيانكم، و إن قال ذلك تعجبا فهو يريد من يعينه عليهم منهم لعلهم يستجيبون له، و حدثهم حديث الفطرة السوية {يا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]
؛ قيل فيهم بناته من صلبه و قيل أزواجهم و لكن يرد ذلك أن الخطاب للحاضر و أنه لا يكون أبًا للمشركين و لم يعهد ذلك في الحديث، و لم يردهم حديثه فالشهوة الضالة ملكت عليهم قلوبهم، و أعميت بصيرتهم عن الحق، و ردوا عليه {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]
و هنا كان لضيوف لوطًا حديثًا بالأفعال، فطمس جبريل أو غيره من الملائكة أعين الطغاة فلا يرون شيئًا، وأمروا لوطًا عليه السلام أن يسير بأهله خفية في أول الليل و لا ينظر خلفه، و أنه منجيهم إلا إمراته كانت من الغابرين، فالتفتت لتنال عقابها معهم، هذا العقاب الذي كان من جنس عملهم، انقلبت فطرتهم، فقلب قراهم عليهم، و أهلكهم وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين الذين يعملون عملهم ببعيد.
١-مما يستفاد من قصة لوط عِظم فاحشة للواط، و أن البعد عن الدين مظنة الإنغماس فسي الفواحش و سبب لانقلاب الفطرة و تقبل كل ما هو شاذ و ردئ.
٢- في القصة جواز التعريض في الحديث بما يكون سببًا في هداية الآخرين، أو استجلابًا لخير و دفعًا لشر .
٣- الرجل الرشيد من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يتبع الحق ، و ينصره و ينصر أهله على أهل الباطل، قال لوط: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] .
٤- الاستعانة بأهل الباطل في نصرة الحق جائز، فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم عند الله، ولهذا قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، و عندنا في قصص الأنبياء دليل ذلك أيضًا، فالنبي محمد صلى الله عليه و سلم كان أبو طالب له نصيرًا على قومه و لم يؤمن.
5- يستفاد أن الجزاء من جنس العمل، فمن انتكست فطرته، فلينتظر انقابًا في حياته.
6- إلف الباطل و كثرته ليست داعيًا لشرعيتها، فالباطل باطل و أن ظهر في وقت الضعف للحق.
س4- . قصة عيسى وأمّه وزكريا ويحيى عليهم السلام
اصطفى الله و اختار آل عمران على العالمين و جعلهم ذرية بعضها من بعض، قال تعالى(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
امرأة عران كانت من علية القوم في بني إسرائيل، عابدة لله مطيعة، و من حبها لربها نذرت ما تحمل بطنها من وليد لله، أن يكون عاملًا لدين الله و عابدًا مطيعًا، و دعت ربها أن يتقبل نذرها، ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
و لكن فوجئت بوليدها الأنثى فعظم في قلبها أن لا تكون كالولد في عبادة الله لضعف البنات ، و قالت و هي تعلم أن ربها يعلم ما رزقت من ولد، ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
حصنتها و ذريتها من الشيطان الرجيم ، هذا من حكمتها و بليغ معرفتها بمصاب من يتسلط عليه عدو الله الشيطان، (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا )، تقبل الله مريم عليها السلام و عني بها حسيا و معنويًا ، فضمن لها الغذاء الجسدي و النفسي ( الإيماني)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران
اقترع القوم من يكفل مريم ابنة كبيرهم فكانت القرعة من نصيب زكريا عليه السلام، و كان هذا رزقه من الله قال تعالى (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)آل عمران
الله عز و جل الرزاق الوهاب، يرزق من يشاء بغير حساب، يرزق بالأسباب و بدون الأسباب، هذه عقيدة القلب المؤمن، و كان في كلمات مريم عليها السلام التذكرة لزكريا، فوقف على باب ربه يدعوه و يتوسله بضعفه و قلة حيلته و مطلوبه ،و قال تعالى عن زكريا عليه السلام كيف دعا الله بأدب العبد الخاضع الذليل، يناجي ربا قريبًا فيخفت صوته بالدعاء (إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يريد من يرث ميراث آل عمران من النبوة، و كان فضل الله عظيما، فبشرته الملائكة و هو قائم بين يديه ربه منصرف عن هذه الدنيا بيحي ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
و يا عجبا يا زكريا ، ترزق الولد و أنت كهل و زوجك عاقر، لكن هذا أمر الله الذي لا يرد ( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)آل عمران
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)مريم
و ليتيقن زكريا كانت له الآية بالصوم عن الكلام الذي كان مشروعا عند بني إسرائيل( غير جائز للمسلمين)، ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) آل عمران
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)مريم
لا يحدث للناس إلا وحيًا و لا يفتر لسانه عن ذكر الله و التسبيح.
و رزق يحي، نبي الله الذي لم يكن له سميًا، (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) مريم
هذا هو يحي عليه السلام، حسن في نفسه و محسن مع ربه و مع الخلق، و أقرب الخلق له هما والديه، فكان بارًا لهما.
و مريم ابنة عمران التي كانت نذر أمها لله، و التي اصطفاها الله و طهرها ، كانت العابدة القائمة على طاعة الله المقيمة الصلاة ،وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) آل عمران
كانت تختلي بربها فجاء إليها في خلوتها جبريل عليه السلام( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
كان في صورة بشر، فخافت مريم عليها السلام، و هذا لعفة قلبها وطهارتها،( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) تعوذت بالله منه، و كان في تعوذها مصد أن تذكره بالله فيرده ذلك إن كان يريد بها شرًا، فجاءت الإجابة من جبريل عليه السلام سلامًا لقلبها ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
رسول ربك الذي خلقك و دبر أمرك، لأهب لك من دون أسباب ولدًا طاهرًا و ليس للفاحشة له سبيل، و كان السؤال بعد اطمئنان القلب( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) فما تخشاه هو أن توصم بما لا تحب من البغاء و فعل الفاحشة، كيف يكون ولدًا طاهرًا، فسنة الله أن يجتمع ماء الرجل و ماء المرأة ليكون الولد في الرحم، فأجابها جبريل عليه السلام( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
إنه آية من الله لبني إسرائيل، فالله قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، عيسى آية و رحمة ممن ، من الله ربها الذي تولى تدبير أمرها من صغرها، فاطمئني يا مريم، قال عز وجل ( ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) شهادة من الله بطهارتها القانتة لربها.، فحملت به( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) لجأت لجذع نخلة و قلبها به غصة تحمل هم قومها و ما قد يصيبها منهم ، قال تعالى على لسان عيسى (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) و هذه عناية الله بك يا مريم، علمك ابنك كيف تتقوين بثمرات من الرطب ، و تشربين الماء ، ثم صومي يا مريم عن الكلام و أشيري إلي أحدث قومك و أصرف عنك بحول الله و قوته ما قد يخول في خلد قومك و يصرحون به لك، قال تعالى(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
تعجبوا منها، أجنت ابنة عمران، نحدث طفلًا رضيعًا؟ فجاءهم الرد على تعجبهم على لسان عيسى عليه السلام الرضيع (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)مريم
هذا هو عيسى عليه السلام، آية من الله، عبده و رسوله إلى بني إسرائيل، البار بأمه، جاءهم ليعلمهم دينهم و كتبهم و جاءهم بمعجزات هي من فضل الله عليه و ليس من عند نفسه (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
كل ما جاءهم به مصدق لما في التوراة التي بين أيديهم، ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
فانقسم القوم إلى أحزاب، من صدقه و هم الحواريون، و من كفروا به و من غلوا فيه فجعلوه ربًأ،
قال تعالى( من فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
و لما مكروا مكر الله بهم فتوفى الله نبيه عيسى عليه السلام و رفعه إليه و شبه لبني غسرائيل أحد الحواريين أنه هو فصلبوه، و ظنوا أنهم إنما صلبوا عيسى عليه السلام و ما كان ذلك حقًا.( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قال تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]
* قصة عيسى عليه السلام حملت لنا كثير من الفوائد، منها أن النذر جائز في الشريعة، , أن الكرامات للأولياء موجودة و أن عيسى هو عبد الله و رسوله و ليس إله، أن آيات عيسى عليه السلام هي من عند الله، أن الله هو الرزاق الوهاب من غير حول الهبد و لا قوته، يهئ الأسباب، ويرزق بأسباب و بدون أسباب، من آداب الدعاء خفوت الصوت، و التضرع بضعف الحال و اليقين بإجابة المطلوب من الله، أن التعبد لله في المحراب فيه مزيد صفاء و مزيد حضور قلبي، أن التسبيح و ذكر الله من العبادات التي لا يمنعها شيء، و أن الإنسان إذا دعا يدعو بما يحب من الخير، فليس الدعاء بأي ولد بل بالولد الطيب الذي يرضى الله عنه، الذي يرث ميراث النبوة، فلا يكون إلإنسان بخيلا ضعيفًا في دعائه بل يدعو بمعالي الأمور.

6. قصة نبيّنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين سيد الخلق أجمعين، دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129
نشأ يتيمًا، توفي والده قبل ولادته و ماتت أمه و هو صغير،حضنته أم أيمن ، و نكفل به جده عبد المطلب، الذي توفي و هو في الثامنة من عمره ليكون عمه أبو طالب هو كافله من بعد جده و من يقوم على شأنه و تربيته، عمل برعاية الغنم، و عرف بالصدق و الأمانة بين قومه، حتى عُرف بالصادق الأمين، فكان له رصيد في قلوبهم، ما كانوا ليكون تكذيبهم له إلا عن كبر و عناد و لس عن حق، فكيف لمن نشأ بينهم و عرفوا حاله أن يأتي بغير ما عرفوا عنه.
تزوج خديجة بنت خويلد و كان لها شأن في قومها، و قام على تجارتها ينميها و يحافظ عليها، أنجب منها أبناءه جميعًا ما عدا إبراهيم.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله.
هذه هي التهيئة العملية لنبي الله صلى الله عليه و سلم، نبذ الشرك و أهله، نبذ مخالطة الباطل،كان يخلو إلى ربه يتعبد له بما وصل له من طرق التعبد، سبق ذلك ما كان من حادثة شق صدره التي طهر الله بها قلبه ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً،
فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَط فِي صَدْرِهِ.
و لما كانت تنفذ مؤنته في خلوته يعود للسيدة خديجة رضي الله عنها طالبًا الزاد، ،ثم يعود لخلوته، حتى جاءه الوحي.
قالت عائشة رضي الله عنها : فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ. ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]
كانت هذه الآيات أول ما نزل من الوحي، فيها إعلان أن العلم ركن في التكليف، و أن من منن الله العلم و الكتابة، و أن الإنسان جاهل ما لم يعلمه الله، فالله هو الأكرم.
سمع الرسول صلى الله عليه و سلم هذه الكلمات من جبريل عليه السلام بقلب مرتجف فأسرع لزوجه الكريمة الرحيمة العظيمة، فأخبَرَها الخبر وقال (لقد خشيتُ على نفسي!)،فكانت كلماتها بلسمًا له: قالت له رضي الله عنها:كلَّا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، وقال ابن حجر: "وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: وتؤدِّي الأمانة".
هكذا هي الزوجة الحكيمة، التي تقدر زوجها و تعلم حاله مع ربه، و تعلم من ربها، تثبت زوجها و تدعمه و تقوي إزره.
ثم سعت معه خديجة رضي الله عنها إلى من رأت بعلمها أنه سيكون لديه تفسير لما حدث مع النبي صلى الله عليه و سلم( ورقة بن ونوفل) الشيخ الكبير الذي تبحر في النصرانية، و الذي لما سمع حديث الرسول صلى الله عليه و سلم، علم أنه النبي المنتظر فقال: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره، فقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، قال: “أو مخرجي هم؟” قال: نعم، إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عُودِيَ وأُوذِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه و سلم، حتى نزلت آيات سورة المدثر، قال تعالى(
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
فكانت هذه الآيات دعوة للقيام بالدعوة و إعلاء كلمة الله، و كان أول من اسلم من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها و أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق وأول من اسلم من الفتيان علي بن أبي طالب، و تابعهم الرجال و النساء ، كانت الدعوة في أولها سرية ، بدار الأرقم بن الأرقم، يجتمع فيها من يسلم ليتعلموا ما أنزل من آيات الله، إلى أن أمره الله بالجهر بالدعوة فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
و عن عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه لَمَّا نَزَل قولُه تعالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فأمَرَ اللهُ سُبحانه نبيَّه أنْ يَذهَبَ لِإبلاغِ الدَّعوةِ لقَرابتِه، وهُم قُريشٌ، وهُم آلُ عَبدِ المُطَّلبِ، وآلُ هاشِمٍ، وآلُ عَبدِ مَنافٍ، وقُصَيٌّ، صَعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على جَبَلِ الصَّفَا عند البيتِ الحرامِ، ونَادَى: «يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ؛ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ»، والبَطْنُ: أَقَلُّ مِن القَبِيلةِ، فاجْتَمَعوا عندَه، ومَنْ لم يَستطِعِ المَجِيءَ أَرْسَلَ رسولًا لِيَرَى ما الأَمْرُ، وما الذي يُرِيد أنْ يُخبِرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا اجتَمَعوا وجاء أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أخبرتُكم أنَّ جَيْشًا يُريد أن يَهجُمَ عليكم؛ فهلْ كُنتُم تُصدِّقونني؟ فقالوا: نَعَمْ، وأَقرُّوا بصِدْقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالوا: ما جَرَّبْنا عليك إلَّا صِدقًا، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإنِّي نَذِيرٌ لكم» من اللهِ «بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَديدٍ»، فأُحَذِّرُكم ما أنتم عليه من الكُفرِ قبل وقوعِ العَذابِ الشَّديدِ بكم، فلما سَمِعَه عَمُّه أبو لَهَبٍ قال له: «تَبًّا لك سَائِرَ اليومِ!» أي: خَسِرْتَ بقيَّةَ اليومِ؛ «أَلِهَذَا جَمَعْتَنا؟!» فكان ممَّن أعْرَضَ عن دَعوةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنزَل اللهُ تعالَى فيه سُّورةَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
كان الرجال و النساء يتلصصون على النبي صلى الله عليه و سلم و يستمعون له يتلو القرآن، حتى جاء وقت فتر الوحي فيه، و اشْتَكَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً - أوْ لَيْلَتَيْنِ - فأتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقالَتْ: يا مُحَمَّدُ ما أُرَى شيطَانَكَ إلَّا قدْ تَرَكَكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَالضُّحَى واللَّيْلِ إذَا سَجَى ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى}
فبين الله أنه لم يترك النبي صلى الله عليه و سلم، و لا نبذه بل الله يشمله برعايته و تدبيره، و بشره أن آخر كل أمر له هو خير له، و ذكره بنعمته السابقة و تدبيره لأمره، بلا حول له و لا قوة.
حاصرت قريش بنى هاشم فى شعب أبى طالب لمدة ثلاث سنوات كاملة بعهد باطل بينها،أكلت هذه الصحيفة حشرة و لم تترك غير اسم الله، و انفض العد و أهله، و كان الفرج بعد الشدة وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الحصار ويعد ذلك أول أسباب خروج الرسول من مكة إلى الطائف.
هذا الخروج سبق حادثة الإسراء والمعراج، رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، تلك الرحلة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أدرك وعَلِم أنَّه لا مقام له بمكة بعد موت عمِّه أبي طالب، وزوجته السيدة خديجة -رضي الله عنها- وكثرة إيذاء المشركين له، فلقد تضاعف أذاهم له و لصحبه.
كان النبِيُّ صلى الله عليه وسلم يمرُّ في السوق، فيَنْثرون على رأسه التُّراب، فيذهب الصابر المحتسب إلى بيته فتغسله السيدة فاطمة، وعمرها آنذاك ثلاث عشرة سنة، تسأله السيدة فاطمة وهي تبكي: ما هذا الذي أرى يا أبتاه؟ فيجيبها صلى الله عليه وسلم مبتسمًا: "لا تَبْكي يا بُنيَّة، إنَّ الله مانِعٌ أباك".
وتظَلُّ السيِّدة فاطمة تبكي، وتقول له: وهل يَبقى هذا يتبعك يا أبتاه؟ فيردُّ عليها النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "سأغادر مكَّة يا فاطمة".. إلى أين يا أبتَاه؟ "إلى مكانٍ يُسمَع فيه صوت الحق، ويعينني على أعدائي". حتَّى إنَّه صلى الله عليه وسلم صوَّرَ هذه الحقيقة بقوله: "ما نالت منِّي قريشٌ شيئًا أكرهه حتَّى مات أبو طالب".
و انطلق النبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف؛ يدعو أهلها للتوحيد و يطلب النصرة و العون من أهلها. و لم يختلف أهل الطائف عن أهل مكة في ردهم، فقد علموا أن دين الإسلام سيصيب مصالحهم الدنيوية، فردوا النبي صلى الله عليه و سلم ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لَم يترك دعوته، بل جلس بينهم يدعوهم أيامًا، لعل الله يهديهم.
سلطوا عليه صبيانهم و جهلتهم، يرمونه و صاحبه زيد بن حارة الذي كان يحاول أن يدفع عنه الأذى بجسده،فسالت الدِّماء من قدَميْه الشريفتين بسبب الحجارة التي كان يسير عليها، وشجَّ رأس سيدنا زيد بن حارثة -رضي الله عنه- ،و دخل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى بستانٍ لعُتبة وشيبة ابنَيْ ربيعة، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم و أقبل على ربه يدعوه و يشتكي إليه،
دعا النبي صلى الله عليه وسلم و قال: "اللَّهمَّ إليك أشكو ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات، وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك".
عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُدٍ؟ قال: "لقَد لقيتُ من قومِك، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذْ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليلَ بن عبد كلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلاَّ وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السَّلام فناداني، فقال: إنَّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؛ إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبَيْن".
فقال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به .
و بعد هذه الأحداث العظام في حياة النبي صلى الله عليه و سلم كانت المنة و التسلية من الله برحلة الإسراء و المعراج، فأسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، وجاوز السبع الطباق، وارتفع فوق السماء السابعة -عليه الصلاة والسلام-، معه جبرائيل، فأوحى الله إليه ما أوحى، و فرضت الصلاة في هذه الرحلة، و صدق أبو بكر صاحبه و رمته قريش بالجنون و الكذب.
في العام الحادي عشر للبعثة حدثت بيعة العقبة الأولى في موسم الحج تمت البيعة في مكان يسمى العقبة بالقرب من منطقة مِنَى، جاء ستة رجال من أهل المدينة قابلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج من العام الحادي عشر للبعثة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم انطلقوا لتبليغ قومهم الدين وفاء لعهد وعدوه الرسول صلى الله و سلم ، على أن يعودوا في العام القادم، فلما رجعوا إلى المدينة، دعوا أهلها إلى الإسلام، فأسلم عدد منهم، و عاد الستة في موسم الحج التالي ومعهم ستة آخرون، و بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم البيعة الأولى، وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ يقرأ لهم القرآن ويعلمهم أحكام الإسلام.
تلت بيعة العقبة الأولى ( الصغرى) بيعة العقبة الكبرى، وقعت في العام التالي للبيعة الأولى، حضر من الأوس والخزرج بضع وسبعون نفرا قد أسلموا، جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، و بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم سرًا،عند العقبة على: السمع والطاعة في النشاط والكسل (أي في الحرب والسلم)، والنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى القيام في الله لا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى نصر رسول الله ﷺ إذا قدم إليهم، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ولهم الجنة.
تلت هذه البيعة هجرة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة، بعد أن أذن له الله عز و جل بالهجرة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
و قد سبقه إليها عدد من المسلمين، خرج النبي صلى الله عليه و سلم مهاجرًا معه رفيقه أبو بكر الصديق، فكانت نعمة الصحبة، أخبر أبو بكر الصديق فقال :كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما، وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.
و استقبل الأنصار رسول الله صلى الله عليه و سلم، بالفرح، و بركت ناقته في موضع مسجده، و آخى بين المهاجرين و الأنصار حتى أنهم كانوا يرثون بعضهم البعض ،و وصف الله تعالى حال الأنصار مع المهاجرين فقال تعالى -: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ) [الحشر: 9].
في السنة الثانية من الهجرة فرضت الزكاة والصيام ، و حدثت وقعة بدر، التي كانت إعلان لقوة المسلمين، و إعلاء لكلمة الله، و تسلية للمسلمين، رأت سرايا المسلمين عيرا لقريش محملة ببضاعة عظيمة قادمة من الشام، فخرج المسلمون على رأسهم الرسول صلى الله عليه و سلم طلبًا لها ، و علمت قريش بذلك فخرجوا لحماية أموالهم و بضاعتهم، و التقى الجمعان في بدر، كان جيش المشركين ألف من الجنود فرسان على الخيل و ركبان، و والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها، فهزُم الأعداء شر هزيمة، وفقتل من قتل و أسر من أسر، نجد تفصيل هذه الغزوة في سورة الأنفال.
و هنا مع ظهور المسلمين بدأ يدخل الإسلام فئة جديدة آمنت ظاهرًا لا باطنًا خوفًا من قوة المسلمين، و هم منافقي المدينة، على رأسهم عبدالله بن سلول، رأس النفاق.
توالت الغزوات بعد بدر، ففي السنة الثالثة كانت غزوة أحد، التي كان فيها الاختبار لطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم و لصدق طلب المسلمين، حين غادر الرماة أماكنهم طلبًا للغنيمة، فخالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم، استعجالًأ منهم و طلبًا للدنيا، ذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران.
في السنة الخامسة للهجرة كانت غزوة الخندق،اجتمع الأحزاب ، و هم؛ أهل الحجاز وأهل نجد، و بنو قريظة من اليهود ،على غزو المسلمين بالمدينة، فاستشار الرسول صلى الله عليه و سلم صحبه، فكانت الشورى بحفر الخندق حول المدينة، قال تعالى في وصف اجتماع الأحزاب:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]
و حاصر الأحزاب المدينة عدة أيام و سبب الله أسبابًأ فرقت جمعهم و خذلتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}
ثم حاصر المسلمين بني قريظة ممن خانوا العهد و كانوا عونًا للمشركين فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب من قوله:
[الأحزاب: 9] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} ثم و في السنة السادسة هفت القلوب و اشتاقت للعمرة و زيارة بيت الله الحرام، فتهيأ النبي صلى الله عليه و سلم و صحبه و أحرموا ، و ساروا للعمرة، و لم يكن أهل مكة يمنعون أحدًا من العمرة، لكن عندما بلغ أمر الرسول صلى الله عليه و سلم و صحبه المشركين، عزموا على قتالهم و منعهم من العمرة، و حدثت بينهم و بين رسول الله أحاديث، كان نتاجها صلح الحديبية، الذي كان ظاهره أنه مجحف، و أن ليس فيه خير للمسلمين، لكنه كان فتحًا مبينًا قدره الله، فكان فيه أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام ولا يدخل البيت، و يرجع العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين ، فرجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله في هذه القضية سورة الفتح بأكملها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]
كانت هدنة جعلت الرسول صلى الله عليه و سلم يرسل الرسل بالدعوة إلى القبائل و البلاد، يدعوهم للإسلام، و دخل أناس كثيرون في الإسلام، بل قبائل كاملة كانت تعلن إسلامها.
نقضت قريش العهد في السنة الثامنة، فخرج النبي صلى الله عليه و سلم و صحبه في جيش كبير عظيم العدة ليدخل مكة فاتحًا لها منتصرًا دون قتال ، ليعود الرسول صلى الله و سلم إلى داره و بلده، تلا فتح مكة غزو حنين على هوازن وثقيف، ذكر ذلك في أول سورة التوبة.
و تلا ذلك غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ،التي ذكرت في سورة التوبة و ما كان فيها من تخلف أصحاب الأعذار و قصة الثلاثة الذين خلفوا و عدد من المنافقين، و ما واجه جيش العسرة من عسر من شدة حر و قلة الزاد و الماء، مكث الجيش في تبوك عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى المدينة.
و خلال هذه الأحداث لا يتوقف الوحي الذي ينزل وفق الأحداث، و تتنزل الأحكام، و التكاليف، و الحدود
و قد فرض الله الحج في هذه السنة أو التي تليها ، فحج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر ، وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله وفعله، وأنزل الله الآيات التي في الحج وأحكامه، وأنزل الله يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
و جاءت السنة الحادية عشر لتكون فيها وفاته عليه الصلاة والسلام، وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
و كان هناك تمهيد و إعلام من الله لرسوله بقرب وفاته،فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أنزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع.
وقوله تعالى في سورة المائدة على لسان النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
وقد أشعر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أكثر من موطن بقرب أجله وانتقاله إلى جوار ربه، فعن معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ـ أو قال: ـ لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري))، فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحباً بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكي؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إليَّ: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي)) فبكيت، فقال: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين))
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال: ((إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله))، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
وتقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخيَّر))، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))، فقلت: إذًا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وعن أنس رضي الله عنه قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة: وا كرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))
و قد اختلف في عمر النبي صلى الله عليه و سلم حين وفاته ،و قد جمع النووي بين الأقوال، فقال: "توفي صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح.
قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمساً وستين عد سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثاً وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون". [تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ص23)].

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 شوال 1443هـ/26-05-2022م, 03:21 PM
هيئة التصحيح 9 هيئة التصحيح 9 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Dec 2015
المشاركات: 1,649
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رولا بدوي مشاهدة المشاركة
المجموعة الثانية:
لخّص مسائل الموضوعات التالية وبيّن فوائد دراستها:

1. أحكام المواريث.
قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]
والتي في آخر السورة:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرها [النساء: 176] .
فوائد دراسة أحكام المواريث:
١- توصية الله العباد بأبنائهم فيها دليل على كمال رحمة الله و عنايته بعباده،
٢- كمال عدل الله و حكمته، و لا يستطيع أي قانون وضعي تحقيق مثل هذا المقصد و لا ان يجاريه، و الوصول لهذه الحقيقة مما يثبت الإيمان و يزيده في قلوب المؤمنين
٣- هذه الأحكام فيها من محاسن الإسلام ما كان سببًا لدخول الناس الإسلام، فهي باب للدعوة لمن أحسنه.
حالات الميراث :حالات الأولاد( ينتبه إلى أن من يدخل تحت هذا المسمى( الأولاد) هم ؛ الذكر والأنثى من أولاد الصلب وأولاد الابن وإن نزل، وأما أولاد البنات فلا يدخلون في إطلاق اسم الأولاد في المواريث.(
١- قال تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ؛ هذه الحالة حين اجتماع الذكور و الإناث، يتقاسمون المال وفق هذه القسمة، سواء أولاد صلب أو أولاد ابن.
٢- إن كان الأولاد ذكورا فقط؛ فإنهم يتقاسمونه متساوين، ومن ارتفعت درجته حجب ما نزل من الأولاد إذا كان الأعلى من الذكور.
٣-إذا كن إناثا فلها أحوال:
- (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فإن كانت واحدة فلها النصف، سواء كانت بنت صلب أو بنت ابن.
- (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان.
من فوائد هذه الإية:
١- لا يزيد نصيب البنت بزيادة عددهم قياسًا على الزيادة عندما زاد عددهم لاثنتين
٢- في الآية نص من الله على أن الأختين فرضهما الثلثان، فيستنبط من ذلك؛ أن البنتين من باب أولى وأحرى، بنات صلب تحجب بنات الابن فلا يكون لهن نصيب، وصار البقية بعد فرض البنات للعاصب، وإن كانت العالية واحدة أخذت النصف، وباقي الثلثين وهو السدس لبنت أو بنات الابن.

٤-وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
حالات ميراث الأبوين:
١- وجود ولد( أولاد صلب أو ابن، منفردين أو متعددين): للأم السدس
٢- لا يوجد له ولد و لا إخوة: للأم الثلث
٣- وجود إخوة( اثنين فأكثر) : للأم السدس.
يستفاد من قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ثلث الباقي في زوج أو زوجة وأبوين؛ فإذا كان معهما أحد الزوجين خرجت عن هذا فلم يكن لها ثلث كامل، و بتعبير آخر ؛من إضافة الميراث للأبوين - وهو الأب والأم - يستفاد أن للزوجة ثلث ما ورثه الأبوان، ويكون ما يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغريم.
٥- وأما الأب؛ فله السدس مع وجود أحد من الأولاد؛
- فإن كان الأولاد ذكورا لم يزد الأب على السدس، وصار الأبناء أحق بالتقديم من الأب بالتعصيب بالإجماع.
- وإن كان الأولاد إناثا واحدة أو متعددات فله السدس ولهن أو لها الفرض، فإن بقي شيء فهو لأولى رجل، وهو الأب هنا، وإن استغرقت الفروض التركة لم يبق للأب زيادة عن السدس;مثال ذلك لو خلف أبوين وابنتين؛ فلكل واحد من الأبوين السدس، وللبنتين الثلثان.
ومفهوم الآية الكريمة أنه إذا لم يكن أولاد ذكور ولا إناث، أن الأب يرث بغير تقدير، بل بالعصب، بأن يأخذ المال كله إذا انفرد، أو ما أبقت الفروض إن كان معه أصحاب فروض، وهو إجماع.
٦- الجد و الجدة؛
- حكم الجد حكم الأب فيما سبق من الأحكام إلا في العمريتين؛ فإن الأم ترث ثلثا كاملا مع الجد.
- ميراث الجدة عند غياب الأم يؤخذ من السنة :السدس .
٧- حكم الأزواج:
قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]
- الزوج له نصف ما تركت زوجته إن لم يكن لها ولد،
- و إن كان لها ولد فله الربع.
- الزوجة واحدة أو متعددات لها الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له ولد.
- إن كان للزوج ولد منها أو من غيرها ذكر أو أنثى، ولد صلب أو ولد ابن فلها أو لهن الثمن.
٨- ميراث الإخوة من الأم:
قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث)
حكمهم ؛ أنهم لا يرثون إلا إذا كانت الورثة كلالة ليس فيهم أحد من الفروع ولا الأب والجد، فللواحد من الإخوة من الأم أو الأخوات السدس، وللأنثيين فأكثر الثلث، يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم.
٧- إذا كان هناك وصية أو دين يقدمان على توزيع الميراث.
و يقدم الدين على الوصية و ذلك من السنة و اتفاق العلماء
الوصية لها ضابط أن لا تكون على وجه المضارة بالورثة، فإن كانت كذلك فإنها وصية إثم وجنف يجب تعديلها ورد الظلم الواقع فيها.
٩- هذه الأحكام حدود الله ،تؤدى كما هي دون زيادة أو نقصان، و لا يعطى وارث فوق حقه، أو يحرم وارث، أو ينقص عن حقه.
١٠-ميراث الإخوة لغير أم وأخواتهم
قال تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
١ -إناث فقط:
- الأنثى الواحدة لها النصف،
- وللثنتين فأكثر الثلثان،
٢- وإن اجتمع رجال ونساء:
- فللذكر مثل حظ الأنثيين،
* إذا كانوا ذكورا أشقاء أو لأب،تساووا.
* فإن وجد هؤلاء وهؤلاء حجب الأشقاء الإخوة للأب.
*وإن كن نساء شقيقات وأخوات لأب، واستغرق الشقيقات الثلثين لم يبق للأخوات للأب شيء؛ فإن كانت الشقيقة واحدة أخذت نصفها، وأعطيت الأخت للأب أو الأخوات السدس تكملة الثلثين.
١٠- وما سوى هذه الفروض فإن الورثة من إخوة لغير أم وبنيهم وأعمام وبنيهم وهؤلاء يدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الصحيح: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . رواه مسلم.
-يقدم الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم ثم الولاء؛ ويقدم منهم الأقرب منزلة، فإن استوت منزلتهم قدم الأقوى وهو الشقيق على الذي لأب. والله أعلم.
س 2- أحكام الأطعمة و الأشربة والصيد.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29]؛ الأصل في الأشياء الحل.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]
الطيبات ؛ال الاستغراق ،كل الطيبات حلال
الأصل في الأشياء الحل من طعام وشراب وغيرها؛ الدليل: ( خلق لكم ما في الأرض) الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا، سخر كل شئ لننتفع به بكل وجوه الانتفاعات، من أكل وشرب واستعمال.
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وفصل لنا ما حرم علينا، فما لم يعين في القرإن أو السنة بذاته حرام فهو حلال .
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]؛ إلا ؛ استثناء ما ذكر من محرم من الكل الذي هو حلال.
مما حرمه الله من الخبائث:
1- الميتة ، وهي ما مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية -يستثنى منها ما ذكر في السنة: ميتة الجراد والسمك.
من أمثلة الميتة
* {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] أي: التي تخنق بالحبال أو غيرها، أو تختنق فتموت،
*{وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تضرب بالحصى أو بالعصا حتى تموت، ومن هذا إذا رمى صيدا فأصاب الصيد بعرضه فقتله،
* {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تسقط من موضع عال كسطح وجبل فتموت، *{وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] التي تنطحها غيرها فتموت بذلك، وما أكله ذئب أو غيره من السباع،
* {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] كل هذه الأنواع من أشكال الميتة غير المذكاة حرام، فإن أدركت حية فذكيت كانت حلالا طيبا.
2-ومن المحرمات ما ذكي ذكاة غير شرعية؛
* إذا كان من يتولى الذبح غير مسلم ولا كتابي
*إذا ذبحت في غير محل الذبح وهي مقدور عليها
*وإذا لم يقطع حلقومها ومريها.
*أذا ذبحت بغير ما ينهر الدم أو بأداة كعظم أو ظفر.
3- والدم المسفوح ،قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ، وأما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه طيب حلال( الكبد و الطحال حلال من السنة).
4-{وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] الذبح الذي لا يبتغي وجه الله.
كمن ذبح للأصنام أوملائكة أو إنس أو جن أو غيرها من المخلوقات.
5- ومن الخبائث كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، يؤخذ ذلك من السنة الصحيحة.
6- ومن المحرمات الحشرات وخشاش الأرض من فأرة وحية ووزغ، ونحوها من المستخبثة شرعا وطبا.
* كل ما أمر الله بقتله أو نهى عن قتله فهو خبيث و محرم
هذا التحريم في حال لا ضيق فيها و لا حرج، و العسر و الضرورة تبيحها من غير بغي و لا عدوان.
8- وسع الله دائرة طرق الحلال؛
- فأباح الصيد إذا جرح في أي موضع من بدنه،
- وأباح صيد السهام إذا سمى الرامي عند رميها،
- وأباح أيضا صيد الكلاب المعلمة والطيور المعلمة، فإذا أمسك الكلب و لم يأكل مما اصطاده لقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] .
فائدة دراسة هذه الأحكام تحري الحلال و الحرام، اليقين برحمة الله بعباده الذي يورث محبته و تعظيمه؛ فالله وسع دائرة الحلال و ضيق دائرة الحرام، مع الأخذ في الاعتبار مواطن التضييق و العسرة و الحرج، فيها من محاسن الإسلام ما يدفع الناس للإيمان بهذا الدين السمح.
س3- فوائد دراسة قصص الأنبياء.
قال تعالى( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
في وصف القصص أنها أحسن القصص ما يدل على عظيم ما فيها من فوائد و حكم و عظات ، مما يستفاد من قراءة القصص:
١- بالقصص يتم ويكمل الإيمان بالأنبياء صلى الله عليهم وسلم،فالإيمان المطلوب بهم هو الإيمان التفصيلي و الذي لا يتأتى إلا عبر معرفة قصصهم الصحيحة من القرآن،التي تبين كمال وصفهم بالأخلاق من صدق و أمانة و صبر و إنابة و ما لهم من فضل على الأمم و فضل على سائر الناس.
٢- عبر قراءة و تدبر قصصهم نجد تقرير للإيمان بالله و رسالة التوحيد الواحدة التي جاءوا بها و نبذ الشرك و أهله، و أسباب الثبات على التوحيد و سنة الله في خسارة أهل الضلال و الشرك في الدنيا والآخرة.
٣- يجد المؤمنون سبل الهداية للصراط المستقيم و أسباب الثبات على التوحيد، و يجدون القدوة التي يأتمون بها في طريقهم : في تحقيق التوحيد والقيام بالعبودية، وفي القيام بأعباء الدعوة، في التزود بأسباب الصبر والثبات في مقابلة عوائق الطريق من ابتلاءات و أعداء، فيصيب قلوبهم الطمأنينة والسكون والثبات التام،يرون أن الصدق و الإخلاص لله باب لقبول الأعمال و نيل النصرة في للدنيا و الآخرة، فيجددون النية و يجدون الطلب و لا يرجون من الناس جزاء و لا شكور، بل الأجر من الله غاية سعيهم.
٤- في القصص القدوة لكل خلق طيب و عمل حسن ، فيها مدح للإصلاح و أهله و ذم للفساد و أهله، هداية لمن يتدبر ليتبع ما يرضي الله عز و جل.
٥- يستفاد من القصص بعض الأحكام و القواعد الفقهية والأحكام الشرعية و ما تحمل من سر
٦- يستفاد من القصص بصفة عامة ما حوت من وعظ وتذكير وترغيب وترهيب، و مشاهدة رحمة الله بعباده و عنايته بهم بتيسير الأمور بعد تعسرها.
7- في القصص تسلية لكل صحب ابتلاء و لكل من ضاق به السبيل لإقامة الدين.
8- نتعلم من القصص أولويات الدعوة و طرقها و أساليبها، و نتعلم الكفايات التي يحتاجها الداعي.
9- نتعلم سنة الله في خلقه، و سنة الابتلاء.

4. قصة لوط عليه السلام
لوط عليه السلام هو تلميذ إبراهيم عليه السلام، و كان منه كالابن، فكان للتوحيد رسولاً عند قرى سدوم من غور فلسطين، دعاهم دعوة الأنبياء جميعًا ؛ عبادة الله وحده لا شريك له، و كان أهل هذه القرى مع شركهم بالله يقومون على فاحشة هي من الفاحشة المعظمة، اللواط؛ يأتون الرجال شهوة دون النساء، فحذرهم لوط عليه السلام منها و من مغبة القيام على مثل هذه الفاحشة، لكنهم عاندوا و أعرضوا، و ثبتوا على ما هم عليه من الباطل، بل إزدادوا عتوًا و ضلالًا، حتى أرسل الله ملائكة إلى لوط عليه السلام ليقضي بينهم بالحق، و يصيبهم ما توعدوا من الهلاك، مرت هذه الملائكة في طريقها إليه بإبراهيم عليه السلام و أعلموه بوجهتهم، فقال من شفقته و حلمه .{إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]
فقيل: {يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]
، جاءوا لوطًا عليه السلام بصورة أضياف آدميين شباب فلما رآهم ضيق به، خوفًا عليهم من قومه،{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]
فطمأنوه أنهم رسل الله له ليهلك أهل الضلال، و قد خانته زوجته فأبلغت قومه بضيوفه فجاؤوا يدفعهم حب الفاحشة لبيت لوطٍ عليه السلام يريدون ضيوفه، فجزع لوطًا عليه السلام و قال لهم من عجزه و هلعه {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: لدافعتكم، فلما رآهم جازمين على مرادهم الخبيث قال لقومه: فَاتَّقُوا {اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]
قال قولته هذه متعجبًا أليس فيكم رجل عاقل فيردكم عن طغيانكم، و إن قال ذلك تعجبا فهو يريد من يعينه عليهم منهم لعلهم يستجيبون له، و حدثهم حديث الفطرة السوية {يا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]
؛ قيل فيهم بناته من صلبه و قيل أزواجهم و لكن يرد ذلك أن الخطاب للحاضر و أنه لا يكون أبًا للمشركين و لم يعهد ذلك في الحديث، و لم يردهم حديثه فالشهوة الضالة ملكت عليهم قلوبهم، و أعميت بصيرتهم عن الحق، و ردوا عليه {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]
و هنا كان لضيوف لوطًا حديثًا بالأفعال، فطمس جبريل أو غيره من الملائكة أعين الطغاة فلا يرون شيئًا، وأمروا لوطًا عليه السلام أن يسير بأهله خفية في أول الليل و لا ينظر خلفه، و أنه منجيهم إلا إمراته كانت من الغابرين، فالتفتت لتنال عقابها معهم، هذا العقاب الذي كان من جنس عملهم، انقلبت فطرتهم، فقلب قراهم عليهم، و أهلكهم وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين الذين يعملون عملهم ببعيد.
١-مما يستفاد من قصة لوط عِظم فاحشة للواط، و أن البعد عن الدين مظنة الإنغماس فسي الفواحش و سبب لانقلاب الفطرة و تقبل كل ما هو شاذ و ردئ.
٢- في القصة جواز التعريض في الحديث بما يكون سببًا في هداية الآخرين، أو استجلابًا لخير و دفعًا لشر .
٣- الرجل الرشيد من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يتبع الحق ، و ينصره و ينصر أهله على أهل الباطل، قال لوط: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] .
٤- الاستعانة بأهل الباطل في نصرة الحق جائز، فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم عند الله، ولهذا قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، و عندنا في قصص الأنبياء دليل ذلك أيضًا، فالنبي محمد صلى الله عليه و سلم كان أبو طالب له نصيرًا على قومه و لم يؤمن.
5- يستفاد أن الجزاء من جنس العمل، فمن انتكست فطرته، فلينتظر انقابًا في حياته.
6- إلف الباطل و كثرته ليست داعيًا لشرعيتها، فالباطل باطل و أن ظهر في وقت الضعف للحق.
س4- . قصة عيسى وأمّه وزكريا ويحيى عليهم السلام
اصطفى الله و اختار آل عمران على العالمين و جعلهم ذرية بعضها من بعض، قال تعالى(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
امرأة عران كانت من علية القوم في بني إسرائيل، عابدة لله مطيعة، و من حبها لربها نذرت ما تحمل بطنها من وليد لله، أن يكون عاملًا لدين الله و عابدًا مطيعًا، و دعت ربها أن يتقبل نذرها، ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
و لكن فوجئت بوليدها الأنثى فعظم في قلبها أن لا تكون كالولد في عبادة الله لضعف البنات ، و قالت و هي تعلم أن ربها يعلم ما رزقت من ولد، ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
حصنتها و ذريتها من الشيطان الرجيم ، هذا من حكمتها و بليغ معرفتها بمصاب من يتسلط عليه عدو الله الشيطان، (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا )، تقبل الله مريم عليها السلام و عني بها حسيا و معنويًا ، فضمن لها الغذاء الجسدي و النفسي ( الإيماني)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران
اقترع القوم من يكفل مريم ابنة كبيرهم فكانت القرعة من نصيب زكريا عليه السلام، و كان هذا رزقه من الله قال تعالى (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)آل عمران
الله عز و جل الرزاق الوهاب، يرزق من يشاء بغير حساب، يرزق بالأسباب و بدون الأسباب، هذه عقيدة القلب المؤمن، و كان في كلمات مريم عليها السلام التذكرة لزكريا، فوقف على باب ربه يدعوه و يتوسله بضعفه و قلة حيلته و مطلوبه ،و قال تعالى عن زكريا عليه السلام كيف دعا الله بأدب العبد الخاضع الذليل، يناجي ربا قريبًا فيخفت صوته بالدعاء (إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يريد من يرث ميراث آل عمران من النبوة، و كان فضل الله عظيما، فبشرته الملائكة و هو قائم بين يديه ربه منصرف عن هذه الدنيا بيحي ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
و يا عجبا يا زكريا ، ترزق الولد و أنت كهل و زوجك عاقر، لكن هذا أمر الله الذي لا يرد ( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)آل عمران
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)مريم
و ليتيقن زكريا كانت له الآية بالصوم عن الكلام الذي كان مشروعا عند بني إسرائيل( غير جائز للمسلمين)، ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) آل عمران
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)مريم
لا يحدث للناس إلا وحيًا و لا يفتر لسانه عن ذكر الله و التسبيح.
و رزق يحي، نبي الله الذي لم يكن له سميًا، (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) مريم
هذا هو يحي عليه السلام، حسن في نفسه و محسن مع ربه و مع الخلق، و أقرب الخلق له هما والديه، فكان بارًا لهما.
و مريم ابنة عمران التي كانت نذر أمها لله، و التي اصطفاها الله و طهرها ، كانت العابدة القائمة على طاعة الله المقيمة الصلاة ،وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) آل عمران
كانت تختلي بربها فجاء إليها في خلوتها جبريل عليه السلام( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
كان في صورة بشر، فخافت مريم عليها السلام، و هذا لعفة قلبها وطهارتها،( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) تعوذت بالله منه، و كان في تعوذها مصد أن تذكره بالله فيرده ذلك إن كان يريد بها شرًا، فجاءت الإجابة من جبريل عليه السلام سلامًا لقلبها ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
رسول ربك الذي خلقك و دبر أمرك، لأهب لك من دون أسباب ولدًا طاهرًا و ليس للفاحشة له سبيل، و كان السؤال بعد اطمئنان القلب( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) فما تخشاه هو أن توصم بما لا تحب من البغاء و فعل الفاحشة، كيف يكون ولدًا طاهرًا، فسنة الله أن يجتمع ماء الرجل و ماء المرأة ليكون الولد في الرحم، فأجابها جبريل عليه السلام( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
إنه آية من الله لبني إسرائيل، فالله قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، عيسى آية و رحمة ممن ، من الله ربها الذي تولى تدبير أمرها من صغرها، فاطمئني يا مريم، قال عز وجل ( ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) شهادة من الله بطهارتها القانتة لربها.، فحملت به( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) لجأت لجذع نخلة و قلبها به غصة تحمل هم قومها و ما قد يصيبها منهم ، قال تعالى على لسان عيسى (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) و هذه عناية الله بك يا مريم، علمك ابنك كيف تتقوين بثمرات من الرطب ، و تشربين الماء ، ثم صومي يا مريم عن الكلام و أشيري إلي أحدث قومك و أصرف عنك بحول الله و قوته ما قد يخول في خلد قومك و يصرحون به لك، قال تعالى(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
تعجبوا منها، أجنت ابنة عمران، نحدث طفلًا رضيعًا؟ فجاءهم الرد على تعجبهم على لسان عيسى عليه السلام الرضيع (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)مريم
هذا هو عيسى عليه السلام، آية من الله، عبده و رسوله إلى بني إسرائيل، البار بأمه، جاءهم ليعلمهم دينهم و كتبهم و جاءهم بمعجزات هي من فضل الله عليه و ليس من عند نفسه (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
كل ما جاءهم به مصدق لما في التوراة التي بين أيديهم، ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
فانقسم القوم إلى أحزاب، من صدقه و هم الحواريون، و من كفروا به و من غلوا فيه فجعلوه ربًأ،
قال تعالى( من فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
و لما مكروا مكر الله بهم فتوفى الله نبيه عيسى عليه السلام و رفعه إليه و شبه لبني غسرائيل أحد الحواريين أنه هو فصلبوه، و ظنوا أنهم إنما صلبوا عيسى عليه السلام و ما كان ذلك حقًا.( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قال تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]
* قصة عيسى عليه السلام حملت لنا كثير من الفوائد، منها أن النذر جائز في الشريعة، , أن الكرامات للأولياء موجودة و أن عيسى هو عبد الله و رسوله و ليس إله، أن آيات عيسى عليه السلام هي من عند الله، أن الله هو الرزاق الوهاب من غير حول الهبد و لا قوته، يهئ الأسباب، ويرزق بأسباب و بدون أسباب، من آداب الدعاء خفوت الصوت، و التضرع بضعف الحال و اليقين بإجابة المطلوب من الله، أن التعبد لله في المحراب فيه مزيد صفاء و مزيد حضور قلبي، أن التسبيح و ذكر الله من العبادات التي لا يمنعها شيء، و أن الإنسان إذا دعا يدعو بما يحب من الخير، فليس الدعاء بأي ولد بل بالولد الطيب الذي يرضى الله عنه، الذي يرث ميراث النبوة، فلا يكون إلإنسان بخيلا ضعيفًا في دعائه بل يدعو بمعالي الأمور.

6. قصة نبيّنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين سيد الخلق أجمعين، دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129
نشأ يتيمًا، توفي والده قبل ولادته و ماتت أمه و هو صغير،حضنته أم أيمن ، و نكفل به جده عبد المطلب، الذي توفي و هو في الثامنة من عمره ليكون عمه أبو طالب هو كافله من بعد جده و من يقوم على شأنه و تربيته، عمل برعاية الغنم، و عرف بالصدق و الأمانة بين قومه، حتى عُرف بالصادق الأمين، فكان له رصيد في قلوبهم، ما كانوا ليكون تكذيبهم له إلا عن كبر و عناد و لس عن حق، فكيف لمن نشأ بينهم و عرفوا حاله أن يأتي بغير ما عرفوا عنه.
تزوج خديجة بنت خويلد و كان لها شأن في قومها، و قام على تجارتها ينميها و يحافظ عليها، أنجب منها أبناءه جميعًا ما عدا إبراهيم.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله.
هذه هي التهيئة العملية لنبي الله صلى الله عليه و سلم، نبذ الشرك و أهله، نبذ مخالطة الباطل،كان يخلو إلى ربه يتعبد له بما وصل له من طرق التعبد، سبق ذلك ما كان من حادثة شق صدره التي طهر الله بها قلبه ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً،
فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَط فِي صَدْرِهِ.
و لما كانت تنفذ مؤنته في خلوته يعود للسيدة خديجة رضي الله عنها طالبًا الزاد، ،ثم يعود لخلوته، حتى جاءه الوحي.
قالت عائشة رضي الله عنها : فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ. ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]
كانت هذه الآيات أول ما نزل من الوحي، فيها إعلان أن العلم ركن في التكليف، و أن من منن الله العلم و الكتابة، و أن الإنسان جاهل ما لم يعلمه الله، فالله هو الأكرم.
سمع الرسول صلى الله عليه و سلم هذه الكلمات من جبريل عليه السلام بقلب مرتجف فأسرع لزوجه الكريمة الرحيمة العظيمة، فأخبَرَها الخبر وقال (لقد خشيتُ على نفسي!)،فكانت كلماتها بلسمًا له: قالت له رضي الله عنها:كلَّا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، وقال ابن حجر: "وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: وتؤدِّي الأمانة".
هكذا هي الزوجة الحكيمة، التي تقدر زوجها و تعلم حاله مع ربه، و تعلم من ربها، تثبت زوجها و تدعمه و تقوي إزره.
ثم سعت معه خديجة رضي الله عنها إلى من رأت بعلمها أنه سيكون لديه تفسير لما حدث مع النبي صلى الله عليه و سلم( ورقة بن ونوفل) الشيخ الكبير الذي تبحر في النصرانية، و الذي لما سمع حديث الرسول صلى الله عليه و سلم، علم أنه النبي المنتظر فقال: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره، فقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، قال: “أو مخرجي هم؟” قال: نعم، إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عُودِيَ وأُوذِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه و سلم، حتى نزلت آيات سورة المدثر، قال تعالى(
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
فكانت هذه الآيات دعوة للقيام بالدعوة و إعلاء كلمة الله، و كان أول من اسلم من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها و أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق وأول من اسلم من الفتيان علي بن أبي طالب، و تابعهم الرجال و النساء ، كانت الدعوة في أولها سرية ، بدار الأرقم بن الأرقم، يجتمع فيها من يسلم ليتعلموا ما أنزل من آيات الله، إلى أن أمره الله بالجهر بالدعوة فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
و عن عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه لَمَّا نَزَل قولُه تعالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فأمَرَ اللهُ سُبحانه نبيَّه أنْ يَذهَبَ لِإبلاغِ الدَّعوةِ لقَرابتِه، وهُم قُريشٌ، وهُم آلُ عَبدِ المُطَّلبِ، وآلُ هاشِمٍ، وآلُ عَبدِ مَنافٍ، وقُصَيٌّ، صَعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على جَبَلِ الصَّفَا عند البيتِ الحرامِ، ونَادَى: «يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ؛ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ»، والبَطْنُ: أَقَلُّ مِن القَبِيلةِ، فاجْتَمَعوا عندَه، ومَنْ لم يَستطِعِ المَجِيءَ أَرْسَلَ رسولًا لِيَرَى ما الأَمْرُ، وما الذي يُرِيد أنْ يُخبِرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا اجتَمَعوا وجاء أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أخبرتُكم أنَّ جَيْشًا يُريد أن يَهجُمَ عليكم؛ فهلْ كُنتُم تُصدِّقونني؟ فقالوا: نَعَمْ، وأَقرُّوا بصِدْقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالوا: ما جَرَّبْنا عليك إلَّا صِدقًا، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإنِّي نَذِيرٌ لكم» من اللهِ «بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَديدٍ»، فأُحَذِّرُكم ما أنتم عليه من الكُفرِ قبل وقوعِ العَذابِ الشَّديدِ بكم، فلما سَمِعَه عَمُّه أبو لَهَبٍ قال له: «تَبًّا لك سَائِرَ اليومِ!» أي: خَسِرْتَ بقيَّةَ اليومِ؛ «أَلِهَذَا جَمَعْتَنا؟!» فكان ممَّن أعْرَضَ عن دَعوةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنزَل اللهُ تعالَى فيه سُّورةَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
كان الرجال و النساء يتلصصون على النبي صلى الله عليه و سلم و يستمعون له يتلو القرآن، حتى جاء وقت فتر الوحي فيه، و اشْتَكَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً - أوْ لَيْلَتَيْنِ - فأتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقالَتْ: يا مُحَمَّدُ ما أُرَى شيطَانَكَ إلَّا قدْ تَرَكَكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَالضُّحَى واللَّيْلِ إذَا سَجَى ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى}
فبين الله أنه لم يترك النبي صلى الله عليه و سلم، و لا نبذه بل الله يشمله برعايته و تدبيره، و بشره أن آخر كل أمر له هو خير له، و ذكره بنعمته السابقة و تدبيره لأمره، بلا حول له و لا قوة.
حاصرت قريش بنى هاشم فى شعب أبى طالب لمدة ثلاث سنوات كاملة بعهد باطل بينها،أكلت هذه الصحيفة حشرة و لم تترك غير اسم الله، و انفض العد و أهله، و كان الفرج بعد الشدة وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الحصار ويعد ذلك أول أسباب خروج الرسول من مكة إلى الطائف.
هذا الخروج سبق حادثة الإسراء والمعراج، رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، تلك الرحلة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أدرك وعَلِم أنَّه لا مقام له بمكة بعد موت عمِّه أبي طالب، وزوجته السيدة خديجة -رضي الله عنها- وكثرة إيذاء المشركين له، فلقد تضاعف أذاهم له و لصحبه.
كان النبِيُّ صلى الله عليه وسلم يمرُّ في السوق، فيَنْثرون على رأسه التُّراب، فيذهب الصابر المحتسب إلى بيته فتغسله السيدة فاطمة، وعمرها آنذاك ثلاث عشرة سنة، تسأله السيدة فاطمة وهي تبكي: ما هذا الذي أرى يا أبتاه؟ فيجيبها صلى الله عليه وسلم مبتسمًا: "لا تَبْكي يا بُنيَّة، إنَّ الله مانِعٌ أباك".
وتظَلُّ السيِّدة فاطمة تبكي، وتقول له: وهل يَبقى هذا يتبعك يا أبتاه؟ فيردُّ عليها النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "سأغادر مكَّة يا فاطمة".. إلى أين يا أبتَاه؟ "إلى مكانٍ يُسمَع فيه صوت الحق، ويعينني على أعدائي". حتَّى إنَّه صلى الله عليه وسلم صوَّرَ هذه الحقيقة بقوله: "ما نالت منِّي قريشٌ شيئًا أكرهه حتَّى مات أبو طالب".
و انطلق النبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف؛ يدعو أهلها للتوحيد و يطلب النصرة و العون من أهلها. و لم يختلف أهل الطائف عن أهل مكة في ردهم، فقد علموا أن دين الإسلام سيصيب مصالحهم الدنيوية، فردوا النبي صلى الله عليه و سلم ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لَم يترك دعوته، بل جلس بينهم يدعوهم أيامًا، لعل الله يهديهم.
سلطوا عليه صبيانهم و جهلتهم، يرمونه و صاحبه زيد بن حارة الذي كان يحاول أن يدفع عنه الأذى بجسده،فسالت الدِّماء من قدَميْه الشريفتين بسبب الحجارة التي كان يسير عليها، وشجَّ رأس سيدنا زيد بن حارثة -رضي الله عنه- ،و دخل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى بستانٍ لعُتبة وشيبة ابنَيْ ربيعة، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم و أقبل على ربه يدعوه و يشتكي إليه،
دعا النبي صلى الله عليه وسلم و قال: "اللَّهمَّ إليك أشكو ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات، وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك".
عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُدٍ؟ قال: "لقَد لقيتُ من قومِك، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذْ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليلَ بن عبد كلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلاَّ وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السَّلام فناداني، فقال: إنَّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؛ إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبَيْن".
فقال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به .
و بعد هذه الأحداث العظام في حياة النبي صلى الله عليه و سلم كانت المنة و التسلية من الله برحلة الإسراء و المعراج، فأسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، وجاوز السبع الطباق، وارتفع فوق السماء السابعة -عليه الصلاة والسلام-، معه جبرائيل، فأوحى الله إليه ما أوحى، و فرضت الصلاة في هذه الرحلة، و صدق أبو بكر صاحبه و رمته قريش بالجنون و الكذب.
في العام الحادي عشر للبعثة حدثت بيعة العقبة الأولى في موسم الحج تمت البيعة في مكان يسمى العقبة بالقرب من منطقة مِنَى، جاء ستة رجال من أهل المدينة قابلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج من العام الحادي عشر للبعثة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم انطلقوا لتبليغ قومهم الدين وفاء لعهد وعدوه الرسول صلى الله و سلم ، على أن يعودوا في العام القادم، فلما رجعوا إلى المدينة، دعوا أهلها إلى الإسلام، فأسلم عدد منهم، و عاد الستة في موسم الحج التالي ومعهم ستة آخرون، و بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم البيعة الأولى، وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ يقرأ لهم القرآن ويعلمهم أحكام الإسلام.
تلت بيعة العقبة الأولى ( الصغرى) بيعة العقبة الكبرى، وقعت في العام التالي للبيعة الأولى، حضر من الأوس والخزرج بضع وسبعون نفرا قد أسلموا، جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، و بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم سرًا،عند العقبة على: السمع والطاعة في النشاط والكسل (أي في الحرب والسلم)، والنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى القيام في الله لا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى نصر رسول الله ﷺ إذا قدم إليهم، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ولهم الجنة.
تلت هذه البيعة هجرة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة، بعد أن أذن له الله عز و جل بالهجرة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
و قد سبقه إليها عدد من المسلمين، خرج النبي صلى الله عليه و سلم مهاجرًا معه رفيقه أبو بكر الصديق، فكانت نعمة الصحبة، أخبر أبو بكر الصديق فقال :كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما، وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.
و استقبل الأنصار رسول الله صلى الله عليه و سلم، بالفرح، و بركت ناقته في موضع مسجده، و آخى بين المهاجرين و الأنصار حتى أنهم كانوا يرثون بعضهم البعض ،و وصف الله تعالى حال الأنصار مع المهاجرين فقال تعالى -: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ) [الحشر: 9].
في السنة الثانية من الهجرة فرضت الزكاة والصيام ، و حدثت وقعة بدر، التي كانت إعلان لقوة المسلمين، و إعلاء لكلمة الله، و تسلية للمسلمين، رأت سرايا المسلمين عيرا لقريش محملة ببضاعة عظيمة قادمة من الشام، فخرج المسلمون على رأسهم الرسول صلى الله عليه و سلم طلبًا لها ، و علمت قريش بذلك فخرجوا لحماية أموالهم و بضاعتهم، و التقى الجمعان في بدر، كان جيش المشركين ألف من الجنود فرسان على الخيل و ركبان، و والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها، فهزُم الأعداء شر هزيمة، وفقتل من قتل و أسر من أسر، نجد تفصيل هذه الغزوة في سورة الأنفال.
و هنا مع ظهور المسلمين بدأ يدخل الإسلام فئة جديدة آمنت ظاهرًا لا باطنًا خوفًا من قوة المسلمين، و هم منافقي المدينة، على رأسهم عبدالله بن سلول، رأس النفاق.
توالت الغزوات بعد بدر، ففي السنة الثالثة كانت غزوة أحد، التي كان فيها الاختبار لطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم و لصدق طلب المسلمين، حين غادر الرماة أماكنهم طلبًا للغنيمة، فخالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم، استعجالًأ منهم و طلبًا للدنيا، ذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران.
في السنة الخامسة للهجرة كانت غزوة الخندق،اجتمع الأحزاب ، و هم؛ أهل الحجاز وأهل نجد، و بنو قريظة من اليهود ،على غزو المسلمين بالمدينة، فاستشار الرسول صلى الله عليه و سلم صحبه، فكانت الشورى بحفر الخندق حول المدينة، قال تعالى في وصف اجتماع الأحزاب:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]
و حاصر الأحزاب المدينة عدة أيام و سبب الله أسبابًأ فرقت جمعهم و خذلتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}
ثم حاصر المسلمين بني قريظة ممن خانوا العهد و كانوا عونًا للمشركين فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب من قوله:
[الأحزاب: 9] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} ثم و في السنة السادسة هفت القلوب و اشتاقت للعمرة و زيارة بيت الله الحرام، فتهيأ النبي صلى الله عليه و سلم و صحبه و أحرموا ، و ساروا للعمرة، و لم يكن أهل مكة يمنعون أحدًا من العمرة، لكن عندما بلغ أمر الرسول صلى الله عليه و سلم و صحبه المشركين، عزموا على قتالهم و منعهم من العمرة، و حدثت بينهم و بين رسول الله أحاديث، كان نتاجها صلح الحديبية، الذي كان ظاهره أنه مجحف، و أن ليس فيه خير للمسلمين، لكنه كان فتحًا مبينًا قدره الله، فكان فيه أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام ولا يدخل البيت، و يرجع العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين ، فرجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله في هذه القضية سورة الفتح بأكملها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]
كانت هدنة جعلت الرسول صلى الله عليه و سلم يرسل الرسل بالدعوة إلى القبائل و البلاد، يدعوهم للإسلام، و دخل أناس كثيرون في الإسلام، بل قبائل كاملة كانت تعلن إسلامها.
نقضت قريش العهد في السنة الثامنة، فخرج النبي صلى الله عليه و سلم و صحبه في جيش كبير عظيم العدة ليدخل مكة فاتحًا لها منتصرًا دون قتال ، ليعود الرسول صلى الله و سلم إلى داره و بلده، تلا فتح مكة غزو حنين على هوازن وثقيف، ذكر ذلك في أول سورة التوبة.
و تلا ذلك غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ،التي ذكرت في سورة التوبة و ما كان فيها من تخلف أصحاب الأعذار و قصة الثلاثة الذين خلفوا و عدد من المنافقين، و ما واجه جيش العسرة من عسر من شدة حر و قلة الزاد و الماء، مكث الجيش في تبوك عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى المدينة.
و خلال هذه الأحداث لا يتوقف الوحي الذي ينزل وفق الأحداث، و تتنزل الأحكام، و التكاليف، و الحدود
و قد فرض الله الحج في هذه السنة أو التي تليها ، فحج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر ، وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله وفعله، وأنزل الله الآيات التي في الحج وأحكامه، وأنزل الله يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
و جاءت السنة الحادية عشر لتكون فيها وفاته عليه الصلاة والسلام، وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
و كان هناك تمهيد و إعلام من الله لرسوله بقرب وفاته،فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أنزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع.
وقوله تعالى في سورة المائدة على لسان النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
وقد أشعر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أكثر من موطن بقرب أجله وانتقاله إلى جوار ربه، فعن معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ـ أو قال: ـ لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري))، فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحباً بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكي؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إليَّ: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي)) فبكيت، فقال: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين))
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال: ((إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله))، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
وتقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخيَّر))، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))، فقلت: إذًا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وعن أنس رضي الله عنه قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة: وا كرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))
و قد اختلف في عمر النبي صلى الله عليه و سلم حين وفاته ،و قد جمع النووي بين الأقوال، فقال: "توفي صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح.
قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمساً وستين عد سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثاً وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون". [تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ص23)].
وفقك الله
المطلوب تلخيص مسائل الموضوعات؛
فبداية نستخلص المسائل, ثم نختار عنوانا مناسبا كاشفا لكل مسألة, ونلخص ما جاء في هذه المسألة من كلام للمصنف رحمه الله تعالى تلخيصا واضحا لكن دون أن نستطرد.
ج+

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مذاكرة, مجلس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir