سورة الجاثية
(مكّيّة)
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله عزّ وجلّ: (إنّ في السّماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3)
المعنى - واللّه أعلم إن في خلق السّماوات والأرض لآيات ويدل عليه قوله: (وفي خلقكم وما يبثّ من دابّة آيات لقوم يوقنون (4)
يقرأ (آيات) و (آيات) بخفض التاء ورفعها وهي في موضع نصب على النسق على قوله: (إنّ في السّماوات والأرض لآيات).
المعنى إن في خلقكم لآيات، ومن قرأ (لآيات) فعلى ضربين: على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آيات.
وعلى موضع أن مع ما عملت فيه.
تقول: إن زيدا قائم وعمرا وعمر.
فتعطف بعمرو على زيد إذا نصبت، وإذا رفعت فعلى موضع إنّ مع زيد، فإن معنى إنّ زيدا قائم زيد قائم.
وقوله: (واختلاف اللّيل والنّهار وما أنزل اللّه من السّماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرّياح آيات لقوم يعقلون (5)
(آيات لقوم يعقلون)
يقرأ بالرفع وبكسر التاء والتنوين، والموضع موضع نصب ويكون قوله: (واختلاف اللّيل والنّهار) عطف على قوله: (وفي خلقكم)، وعلى قوله:
[معاني القرآن: 4/431]
(إن في السّماوات والأرض)، وإن في (اختلاف اللّيل والنّهار) آيات.
وهذا عطف على عاملين
ومثله من الشعر:
أكلّ امرىء تحسبين امرأ... ونار توقّد بالليل نارا
عطف على ما عملت فيه كل، وما عملت فيه أتحسبين.
وقد أباه بعض النحويين، وقالوا: لا يجوز إلا الرفع في قوله: (وتصريف الرّياح آيات)
وجعله عطفا على عامل واحد على معنى واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات، وهذا أيضا عطف على عاملين لأنه يرفع (آيات) على العطف على ما قبلها كما خفض (واختلاف) على العطف على ما قبلها.
ويكون معطوفا إن شئت على موضع أن وما عملت فيه، وإن شئت على قراءة من قرأ: (وفي خلقكم وما يبثّ من دابّة آيات).
وقوله عزّ وجلّ (فبأيّ حديث بعد اللّه وآياته يؤمنون (6)
و(تؤمنون) جميعا، والمعنى - واللّه أعلم - فبأيّ حديث بعد كتاب اللّه وآياته يؤمنون.
قال اللّه عزّ وجلّ: (اللّه نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) فجعل القرآن أحسن الحديث.
وقوله: (ويل لكل أفاك أثيم).
(أفاك) كذاب.
وقوله: (هذا بصائر للنّاس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)
[معاني القرآن: 4/432]
(هذا) إشارة إلى القرآن، المعنى هذا القرآن بصائر للناس.
وقوله (أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)
(سواء محياهم ومماتهم)
ويقرأ (سواء محياهم ومماتهم)، وقد قرئت سواء محياهم ومماتهم بنصب الممات.
وحكى بعض النحويين أن ذلك جائز في العربية.
ومعنى (اجترحوا) اكتسبوا، ويقال: فلان جارحة أهله أي كاسبهم، والاختيار عند سيبويه والخليل وجميع البصريين (سواء) برفع سواء.
وعليه - أكثر القراء، ويجيزون النصب، وتقول: ظننت زيدا - سواء أبوه وأمّه، وسواء أبوه وأمّه.
والرفع أجود، لأن سواء في مذهب المصدر كما تقول: ظننت زيدا ذو استواء أبوه وأمّه.
ومن قرأ (سواء) بالنصب جعله في موضع مستويا محياهم ومماتهم ومن نصب محياهم ومماتهم، فهو عند قوم من النحويين (سواء) في محياهم وفي مماتهم، ويذهب به مذهب الأوقات، وهو يجوز على غير ذلك على أن يجعله بدلا من الهاء والميم، ويكون المعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومماتهم.
وقوله: (أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون (23)
وقد رويت آلهة هواه، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشا كانت تعبد العزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجرا أشد بياضا منه وأحسن اتخذت ذلك الأحسن واطّرحت الأول، فهذا يدل على آلهته، وكذلك أيضا إلهه.
وقوله (وأضلّه اللّه على علم).
أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.
[معاني القرآن: 4/433]
(وجعل على بصره غشاوة).
ويقرأ غشوة بفتح الغين بغير ألف، ويقرأ غشاوة - بضم الغين والألف.
وقوله: (وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدّنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدّهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون (24)
فإن قال قائل: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث.
فالدليل على أنهم لا يقرون بالبعث قولهم ما هي إلا حياتنا، وفي نموت ونحيا ثلاثة أقوال.
يكون المعنى (نموت ونحيا)، يحيا أولادنا، فيموت قوم ويحيا قوم.
ويكون معنى (نموت ونحيا) نحيا ونموت، لأن الواو للاجتماع.
وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر.
ويكون (نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدّهر) أي ابتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا ثم يهلكنا الدّهر.
فاعلم اللّه - عزّ وجلّ - أنهم يقولون ذلك ضلّالا، شاكين فقال: (وما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون).
المعنى ما هم إلّا يظنّون.
وقوله - عزّ وجلّ -: (ما كان حجّتهم إلّا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25)
يجوز في (حجّتهم) الرفع، فمن رفع جعل (حجّتهم) اسم كان و (أن قالوا) خبر كان.
ومن نصب (حجّتهم) جعل اسم كان أن مع صلتها.
ويكون المعنى ما كان (حجّتهم) إلّا مقالتهم ائتوا بآبائنا.
وقوله عزّ وجلّ: (وترى كلّ أمّة جاثية كلّ أمّة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28)
أي كل أحد يجزى بما تضمنه كتابه، كما قال عزّ وجلّ:
(وكلّ إنسان
[معاني القرآن: 4/434]
ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك).
فهذا مثل قوله: (كلّ أمّة تدعى إلى كتابها).
رفع (كلّ) بالابتداء، والخبر (تدعى إلى كتابها).
ومن نصب جعله بدلا من " كلّ " الأول، والمعنى وترى كل أمة تدعى إلى كتابها.
ومعنى (جاثية) جالسة على الركب، يقال قد جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته، ومثله جذا يجذو.
والجذؤ أشا استيفازا من الجثو لأن الجذو أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه.
وقوله: (إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون (29)
الاستنساخ لا يكون إلا من أصل، وهو أن يستنسخ كتابا من كتاب.
فنستنسخ ما يكتب الحفظة ويثبت عند اللّه - عزّ وجلّ -.
وقوله: (وأمّا الّذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
جواب (أمّا) محذوف، لأن في الكلام دليلا عليه، المعنى وأما الذين كفروا فيقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم، ودلت الفاء في قوله (أفلم) على الفاء المحذوفة في قولك فيقال لهم.
وقوله عزّ وجلّ: (وإذا قيل إنّ وعد اللّه حقّ والسّاعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما السّاعة إن نظنّ إلّا ظنّا وما نحن بمستيقنين (32)
(والسّاعة)
(والسّاعة)، فمن نصب فعطف على الوعد.
المعنى: وإذا قيل إنّ وعد اللّه حقّ وأنّ الساعة.
ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعة لا ريب فيها.
[معاني القرآن: 4/435]
وقوله عزّ وجلّ: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين (34)
أي اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم.
والدليل على ذلك قوله:
(فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35)
لا يردون ولا يلتمس منهم عمل ولا طاعة.
وقوله: (وله الكبرياء في السّماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)
أي له العظمة في السّماوات والأرض.
وقوله: (وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعا منه).
ويقرأ (منّة)
(جميعا) منصوب على الحال، والمعنى كل ذلك منه تفضّل وإحسان.
و (منّة) على معنى المفعول له، والمعنى فعل ذلك منّة، أي منّ منّة.
لأن تسخيره بمعنى منّ عليكم.
[معاني القرآن: 4/436]