سورة الرّوم
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله عزّ وجلّ: (الم (1) غلبت الرّوم (2)
قد شرحنا ما جاء في (الم)، وقرئت غلبت بضم الغين.
وقرأ أبو عمرو (غلبت) - بفتح الغين - والمعنى على غلبت.
وهي إجماع القراء.
وذلك أن فارس كانت قد غلبت الروم في ذلك الوقت، والروم مغلوبة.
فالقراءة غلبت.
وقوله: (في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3)
قيل في أطراف الشام، وتأويله أدنى الأرض من أرض العرب.
وقوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين).
هذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند اللّه، لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا اللّه - عزّ وجلّ - وكان المشركون سرّوا بأن غلبت فارس الرّوم، وذلك لأنّهم قالوا: أئنكم أيها المسلمون تزعمون بأنكم تنصرون بأنكم أهل كتاب، فقد غلبت فارس الروم.
وفارس ليست أهل كتاب، والروم أهل كتاب، فكذلك سنغلبكم نحن.
فأعلم اللّه - عزّ وجلّ - أن الروم سيغلبون في بضع سنين، وسيسرّ المسلمون بذلك فراهن المسلمون المشركين وبايعوهم على صحة هذا الخبر.
والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، فلما مضى بعض البضع
[معاني القرآن: 4/175]
طالب المشركون المسلمين وقالوا قد غلبناكم، لأنه قد مضت بضع سنين ولم تغلب الروم فارس، واحتج عليهم المسلمون بأن البضع لم يكمل، وزادوهم وأخروهم إلى تمام البضع، فغلبت الروم فارس وقمر المسلمون وذلك قبل أن يحرّم القمار وفرح المسلمون وخزي الكافرون.
وقوله عزّ وجلّ: (للّه الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)
القراءة الضم، وعليه أهل العربية، والقراء كلّهم مجمعون عليه، فأمّا النحويون فيجيزون من قبل ومن بعد بالتنوين.
وبعضهم يجيز من قبل ومن بعد - بغير تنوين، وهذا خطأ لأن قبل وبعد ههنا أصلهما الخفض ولكن بنيتا على الضم لأنهما غايتان.
ومعنى (غاية) أن الكلمة حذفت منها الإضافة، وجعلت غاية الكلمة ما بقي بعد الحذف. وإنما بنيتا على الضم لأن إعرابهما في الإضافة النصب والخفض.
تقول: رأيته قبلك ومن قبلك، ولا يرفعان لأنهما لا يحدّث عنهما لأنهما استعملتا ظرفين، فلما عدلا عن بابهما حركا بغير الحركتين اللتين كانتا تدخلان عليهما بحق الإعراب.
فأمّا وجوب ذهاب إعرابهما، وبناؤهما فلأنهما عرفا من غير جهة التعريف، لأنه حذف منهما ما أضيفتا إليه.
والمعنى للّه الأمر من قبل أن يغلب الروم ومن بعد ما غلبت، وأما الخفض والتنوين فعلى من جعلهما نكرتين.
المعنى: للّه الأمر من تقدّم وتأخّر.
والضم أجود، فأما الكسر بلا تنوين فذكر الفراء أنه تركه على ما كان يكون عليه في الإضافة ولم ينوّن، واحتج بقول الأول:
[معاني القرآن: 4/176]
بين ذراعي وجبهة الأسد
وبقوله:
ألا غلالة أو بداهة قارح نهد الجرارة
وليس هذا كذلك لأن معنى بين ذراعي وجبهة الأسد. بين ذراعيه وجبهته فقد ذكر أحد المضافين إليهما، وذلك لو كان للّه الأمر من قبل ومن بعد كذا لجاز وكان المعنى من قبل كذا ومن بعد كذا.
وليس هذا القول - مما يعرّج عليه ولا قاله أحد من النحويين المتقدمين.
وقوله عزّ وجلّ: (من بعد غلبهم)..
الغلب والطلب مصدران، تقول: غلبت غلبا، وطلبت طلبا.
وزعم بعض النحويين أنه في الأصل من بعد غلبتهم، وذكر أن الإضافة لما وقعت حذفت هاء الغلبة، وهذا خطأ.
الغلبة والغلب مصدر غلبت مثل الجلب والجلبة.
وقوله: (وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون (6)
القراءة النصب في وعد، ويجوز الرفع، ويجوز النصب، ولا أعلم أحدا قرأ بالرفع.
فالنصب على أنه مصدر مؤكد، لأن قوله (وهم من بعد غلبهم سيغلبون).
هو وعد من اللّه للمؤمنين، وقوله (وعد اللّه) بمنزلة وعد اللّه
[معاني القرآن: 4/177]
وعدا ومن قال: وعد الله كان على معنى ذلك وعد اللّه كما قال:
(كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار بلاغ).
وقوله عز وجل: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7)
هذا في مشركي أهل مكة المعنى يعلمون من معايش الحياة الدنيا، لأنهم كانوا يعالجون التجارات، فأعلم اللّه - عزّ وجلّ – لما نفى أنهم لا يعلمون ما الّذي يجهلون، ومقدار ما يعلمون فقال: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون).
" هم " الأولى مرفوعة بالابتداء، و " هم " الثانية ابتداء ثان.
و (غافلون) خبر " هم " الثانية، والجملة الثانية خبر " هم " الأولى.
والفائدة في الكلام أو ذكر " هم " ثانية، وإن كانت ابتداء تجري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عالم، فهو أوكد من قولك زيد عالم.
ويصلح أن تكون " هم " بدلا من " هم " الأولى مؤكدة أيضا، كما تقول: رأيته إيّاه.
وقوله عزّ وجلّ: (أولم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق اللّه السّماوات والأرض وما بينهما إلّا بالحقّ وأجل مسمّى وإنّ كثيرا من النّاس بلقاء ربّهم لكافرون (8)
معناه: أولم يتفكّروا فيعلموا، لأن في الكلام دليلا عليه، ومعنى بالحق ههنا " إلا للحق " أي لإقامة الحق.
(وأجل مسمّى).
أي لإقامة الحق وأجل مسمّى؛ وهو الوقت الذي توفّى فيه كل نفس ما كسبت.
وقوله: (وإنّ كثيرا من النّاس بلقاء ربّهم لكافرون).
[معاني القرآن: 4/178]
أي لكافرون بلقاء ربهم، تقدّمت الباء لأنها متصلة بكافرون، وما اتصل بخبر إنّ جاز أن يقدّم قبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضيّ الخبر. لا يجوز أن تقول إن زيدا كافر لباللّّه. لأن اللام حقها أن تدخل على الابتداء والخبر. أو بين الابتداء والخبر، لأنها تؤكد الجملة، فلا تأتي توكيدا وقد مضت الجملة.
ولا اختلاف بين النحويين في أن اللام لا تدخل بغير الخبر.
وقوله عزّ وجلّ: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان اللّه ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9)
يعني أن الذين أهلكوا من الأمم الخالية، كانوا أكثر حرثا وعمارة من أهل مكة، لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرث.
وقوله عزّ وجلّ: (ثمّ كان عاقبة الّذين أساءوا السّوأى أن كذّبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزءون (10)
القراءة بنصب (عاقبة) ورفعها، فمن نصب جعل السوءى اسم كان ومن رفع " عاقبة " جعل (السّوأى) خبرا لكان، والتفسير، في قوله (أساءوا) ههنا أنهم أشركوا، و (السّوأى) النّار، وإنما كان (أساءوا) ههنا يدل على الشرك لقوله: (وإن كثيرا من النّاس بلقاء ربّهم لكافرون).
فإساءتهم ههنا كفرهم، وجزاء الكفر النّار.
ودل أيضا على أن (أساءوا) ههنا الكفر (أن كذّبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزءون).
فالمعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النّار لتكذيبهم بآيات اللّه واستهزائهم.
وقوله عزّ وجلّ: (ويوم تقوم السّاعة يبلس المجرمون (12)
أعلم الله عزّ وجلّ أنهم في القيامة ينقطعون في الحجة انقطاع يئسين من رحمة اللّه، والمبلس الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها، تقول: ناظرت فلانا فأبلس أي انقطع وأمسك ويئس من أن يحتج.
[معاني القرآن: 4/179]
وقوله: (ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون (14)
جاء في التفسير أنه افتراق لا اجتماع بعده، وفيما بعده دليل على أن التفرق هو للمسلمين والكافرين، فقال: (يومئذ يتفرقون)، ثم بين على أي حال يتفرقون فقال: (فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون (15)
وجاء في التفسير أن " يحبرون " سماع الغناء في الجنة، والحبرة في اللغة كل نعمة حسنة، فهي حبرة، والتحبير التحسين والحبر العالم أيضا هو من هذا، المعنى أنه متخلق بأحسن أخلاق المؤمنين، والحبر المداد إنما سمّي لأنّه يحسّن به.
وقوله: (وأمّا الّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون (16)
أي حال المؤمنين السماع في الجنة، والشغل بغاية النعمة.
وحال الكافرين العذاب الأليم هم حاضروه أبدا غير مخفف عنهم، ثم أعلم عزّ وجلّ بعد هذا ما تدرك به الجنّة، ويتباعد به عن النار بقوله:
(فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السّماوات والأرض وعشيّا وحين تظهرون (18)
" جاء في التفسير عن ابن عباس أن الدليل على أن الصلوات خمس هذه الآية (فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون) فحين تمسون صلاة المغرب وعشاء الآخرة وحين تصبحون صلاة الغداة.
وعشيا صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر.
وقد قيل إن قوله:
[معاني القرآن: 4/180]
(ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) إنها الصلاة الخامسة، فيكون على هذا التفسير قوله: (حين تمسون) لصلاة واحدة.
ومعنى سبحان اللّه تنزيه اللّه من السوء.
هذا لا اختلاف فيه.
وقوله - عزّ وجلّ - (يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)
جاء في التفسير أنه يخرج النطفة - وهي الميت - من الحيّ من الإنسان، ويخرج الحيّ من الميّت، يخرج الإنسان من النطفة.
(ويحي الأرض بعد موتها).
أي يجعلها تنبت، وإحياء الأرض إخراج النّبات منها.
وقوله: (وكذلك تخرجون).
أي وكذلك تخرجون من قبوركم مبعوثين.
وموضع الكاف نصب بـ (تخرجون)
والمعنى أن بعثكم عليه كخلقكم، أي هما في قدرته متساويان.
وقوله عزّ وجلّ: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون (20)
أي من العلامات التي تدل على أن اللّه واحد لا مثيل له ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون، ومعنى خلقكم من تراب، أي خلق آدم من تراب.
(ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون).
أي: آدم وذريته.
[معاني القرآن: 4/181]
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون (21)
خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، وجعل بين المرأة والزوج المودة والرحمة من قبل اللّه، وأن الفرك وهو البغض من قبل الشيطان، يقال فركت المرأة زوجها تفركه فركا، إذا أبغضته.
وقوله عزّ وجلّ: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزّل من السّماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24)
(خوفا وطمعا) منصوبان على المفعول له، المعنى يريكم البرق للخوف والطمع، وهو خوف للمسافر، وطمع للحاضر.
المعنى ومن آياته آية يريكم بها البرق خوفا وطمعا.
هذا أجود في العطف.
لأنه قال: (ومن آياته خلق) فنسق باسم على اسم، ومثله من الشعر.
وما الدّهر إلا تارتان فمنهما... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
المعنى فمنهما تارة أموتها أي أموت فيها، ويجوز أن يكون المعنى ويريكم البرق خوفا وطمعا من آياته، فيكون عطفا بجملة على جملة.
وقوله عزّ وجلّ: (ومن آياته أن تقوم السّماء والأرض بأمره ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25)
أي تقوم السماء بغير عمد، وكذلك الأرض قائمة بأمره.
والسماء محيطة بها.
وقوله عزّ وجلّ: (ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض).
أي للبعث بعد الموت.
وقوله: (وله من في السّماوات والأرض كلّ له قانتون (26)
[معاني القرآن: 4/182]
معناه مطيعون، والمعنى: وهذا من آياته، ولم يذكر " ومن آياته " لأنه قد تقدم ذكر ذلك مرات.
ومعنى " قانتون " مطيعون طاعة لا يجوز أن تقع معها معصية، لأن القنوت القيام بالطاعة.
ومعنى الطاعة ههنا، أن من في السّماوات الأرض في خلقهم دليل على أنهم مخلوقون بإرادة الله - عزّ وجلّ - لا يقدر أحد على تغيير الخلقة، ولا يقدر عليه فلك مقرب، فآثار الصنعة والخلقة تدل على الطاعة، ليس يعني طاعة العباد، إنما هي طاعة الإرادة والمشيئة.
وقوله عزّ وجلّ: (وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السّماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)
فيه غير قول، فمنها أن الهاء تعود على الخلق، فالمعنى الإعادة والبعث أهون على الإنسان من إنشائه، لأنه يقاسي في النشء ما لا يقاسيه في الإعادة والبعث.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل اللغة: إن معناه: وهو هيّن عليه.
وإن " أهون " ههنا ليس معناه أن الإعادة أهون عليه من الابتداء، لأن الإعادة والابتداء كل سهل عليه ومن ذلك من الشعر:
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل... على أيّنا تغدو المنيّة أوّل
فمعنى لأوجل لوجل، وقالوا الله أكبر أي اللّه كبير، وهو غير منكر، وأحسن من هذين الوجهين أنه خاطب العباد بما يعقلون فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل وأهون من الابتداء
[معاني القرآن: 4/183]
والإنشاء، وجعله مثلا لهم فقال: (وله المثل الأعلى في السّماوات والأرض).
أي قوله: (وهو أهون عليه) قد ضربه لكم مثلا فبما يصعب ويسهل.
وقوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصّل الآيات لقوم يعقلون (28)
هذا مثل ضربه اللّه - عزّ وجلّ - لمن جعل له شريكا من خلقه.
فأعلم - عزّ وجلّ - أنّ مملوك الإنسان ليس بشريكه في ماله وزوجته، وأنه لا يخاف من مملوكه أن يرثه فقال: ضرب لكم مثلا من أنفسكم أن جعلتم ما هو ملك لله من خلقه مثل اللّه، وأنتم كلكم بشر، ليس مماليككم بمنزلتكم في أموالكم، فاللّه - عزّ وجلّ - أجدر ألّا يكون يعدل به خلقه.
(كذلك نفصّل الآيات).
موضع الكاف نصب.
وقوله عزّ وجلّ: (فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرت اللّه الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون (30)
الحنيف الذي يميل إلى الشيء فلا يرجع عنه كالحنف في الرجل وهو ميلها إلى خارجها خلقة.
لا يملك الأحنف إن يردّ حنفه.
وقوله - عزّ وجلّ -: (فطرت اللّه الّتي فطر النّاس عليها).
(فطرت اللّه) منصوب بمعنى اتبع فطرة اللّه، لأن معنى (فأقم وجهك)
اتبع الدين القيّم. اتبع فطرة اللّه، ومعنى فطرة الله خلقة اللّه التي خلق عليها البشر، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة
[معاني القرآن: 4/184]
حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ".
معناه أن اللّه - عزّ وجلّ - فطر الخلق على الإيمان على ما جاء في الحديث، أن اللّه - جل ثناؤه - أخرج من صلب آدم ذريته كالذّرّ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم، قال اللّه عزّ وجلّ: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى).
فكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأنّ اللّه خالقها.
فمعنى (فطرت اللّه) دين الله الذي فطر الناس عليه.
وقوله عزّ وجلّ: (لا تبديل لخلق اللّه).
أكثر ما جاء في التفسير أن معناه لا تبديل لدين اللّه، وما بعده يدل عليه، وهو قوله: (ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون) أي لا يعلمون بحقيقة ذلك.
وقوله: (منيبين إليه واتّقوه وأقيموا الصّلاة ولا تكونوا من المشركين (31)
(منيبين)
منصوب على الحال بقوله: (فأقم وجهك)
زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وجوهكم منيبين إليه، لأن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل معه فيها الأمة، والدليل على ذلك قوله: (يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء).
وقوله (منيبين) معناه راجعين إليه إلى كل ما أمر به ولا يخرجون عن شيء من أمره، فأعلمهم اللّه - عزّ وجلّ - أن الطريقة المستقيمة في دين الإسلام هو اتباع الفطرة والتقوى مع الإسلام وأداء الفرائض.
وأنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد فقال:
(ولا تكونوا من المشركين (31) من الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا كلّ حزب بما لديهم فرحون (32)
(فارقوا دينهم)
[معاني القرآن: 4/185]
وقرئت (فرّقوا دينهم).
(وكانوا شيعا).
فرقا، فأمرهم اللّه - عزّ وجلّ - بالاجتماع والألفة ولزوم الجماعة، والسنة في الهداية، والضلالة هي الفرقة.
وقوله عزّ وجلّ: (كل حزب بما لديهم فرحون).
أي كل حزب من هذه الجماعة الذين فارقوا دينهم فرح يظن أنه هو المهتدي.
ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه، أي لا يلجأون في شدائدهم إلى من عبدوه مع اللّه – عز وجل - إنما يرجعون في دعائهم إليه وحده.
(ثمّ إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربّهم يشركون (33)
أي إذا أذاقهم رحمة بأن يخلصهم من تلك الشدة التي دعوا فيها الله وحده مروا بعد ذلك على شركهم.
وقولهم عزّ وجلّ: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتّعوا فسوف تعلمون (34)
معنى " فتمتعوا " خطاب بعد الإخبار لأنه لمّا قال: " ليكفروا " كان خبرا عن غائب. فكان المعنى فتمتعوا أيها الفاعلون لهذا فسوف تعلمون.
وليس هذا بأمر لازم. أمرهم اللّه به.
وهو أمر على جهة الوعيد والتهدّد، وذلك مستعمل في كلام الناس تقول: إن أسمعتني مكروها فعلت بك وصنعت ثم تقول: افعل بي كذا وكذا فإنك سترى ما ينزل بك، فليس إذا لم يسمعك كان عاصيا لك.
فهذا دليل أنه ليس بأمر لازم، وكذلك (فمن شاء فليؤمن
[معاني القرآن: 4/186]
ومن شاء فليكفر)
وكذلك: (اعملوا ما شئتم).
لم يخيّروا بين الإيمان والكفر ولكنه جرى على خطاب العباد وحوار العرب الذي تستعمله في المبالغة في الوعيد، ألا ترى أن قوله بعد (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظّالمين نارا أحاط بهم سرادقها) فهذا مما يؤكد أمر الوعيد.
وقوله: (فآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السّبيل ذلك خير للّذين يريدون وجه اللّه وأولئك هم المفلحون (38)
جعل اللّه عزّ وجلّ لذي القربى حقّا وكذلك للمساكين وابن السّبيل الضّيف فجعل الضيافة لازمة. فأمّا القرابات فالمواريث قد بيّنت ما يجب لكل صنف منهم، وفرائض المواريث كأنها قد نسخت هذا أعني أمر حق القرابة، وجائز أن يكون للقرابة حق لازم في البر.
وقوله: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال النّاس فلا يربو عند اللّه وما آتيتم من زكاة تريدون وجه اللّه فأولئك هم المضعفون (39)
يعني به دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، فذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، ولكنه لا ثواب لمن زاد على ما أخذ.
والرّبا ربوان، والحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو يجرّ منفعة، فهذا حرام، والذي ليس بحرام هو الذي يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر منه، أو يهدي الهديّة يستدعي بها ما هو أكثر منها.
وقوله: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه اللّه).
[معاني القرآن: 4/187]
أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة وإنما يقصدون بها ما عند اللّه.
(فأولئك هم [المضعفون]).
أي فأهلها هم المضعفون، أي هم الذي يضاعف لهم الثواب.
يعطون بالحسنة عشرة أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء، وقيل (المضعفون) كما يقال رجل مقو، أي صاحب قوة، وموسر أي صاحب يسار، وكذلك مضعف، أي ذو أضعاف من الحسنات.
وقوله تعالى: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الّذي عملوا لعلّهم يرجعون (41)
ويقرأ بالياء أيضا (ليذيقهم) أي ليذيقهم ثواب بعض أعمالهم.
ومعناه ظهر الجدب في البر والقحط في البحر، أي في مدن البحر.
أي في المدن التي على الأنهار، وكل ذي ماء فهو بحر.
وقوله عزّ وجلّ: (فأقم وجهك للدّين القيّم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من اللّه يومئذ يصّدّعون (43)
معنى (فأقم وجهك) أقم قصدك واجعل جهتك اتباع الدين القيّم من قبل أن تأتي الساعة وتقوم القيامة فلا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
ومعنى: (يومئذ يصّدّعون).
يتفرقون فيصيرون فريقا في الجنة وفريقا في السّعير.
وقوله: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44)
(فلأنفسهم يمهدون).
أي لأنفسهم يوطئون.
[معاني القرآن: 4/188]
وقوله عزّ وجلّ: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرّا).
أي فرأوا النبت قد اصفر وجفّ.
(لظلّوا من بعده يكفرون).
ومعناه ليظلّنّ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء. فهم يستبشرون بالغيث ويكفرون إذا انقطع عنهم الغيث وجفّ النبات.
وقوله: (اللّه الّذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السّماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48)
(ويجعله كسفا) أي قطعا من السحاب.
وقوله: (فترى الودق يخرج من خلاله).
أي فترى المطر يخرج من خلل السحاب، فأعلم عزّ وجلّ أنه ينشئ السحاب ويحي الأرض ويرسل الرياح، وذلك كله دليل على القدرة التي يعجز عنها المخلوقون، وأنه قادر على إحياء الموتى.
وقوله تعالى: (وإن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم من قبله لمبلسين (49)
المعنى أن ينزل عليهم المطر، ويقرأ (أن ينزل) ومعنى مبلسين منقطعين انقطاع آيسين.
فأمّا تكرير قوله (من قبل) ففيه وجهان:
قال قطرب إن قبل الأولى للتنزيل، وقبل الثانية للمطر.
وقال الأخفش وغيره من البصريين: تكرير قبل على جهة التوكيد.
والمعنى وإن كانوا من قبل تنزيل المطر لمبلسين.
والقول كما قالوا لأن تنزيل المطر بمعنى المطر، لأن المطر لا يكون إلا بتنزيل كما أن الرياح لا تعرف إلا بمرورها
قال الشاعر:
[معاني القرآن: 4/189]
مشين كما اهتزّت رماح... تسفّهت أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
فمعنى مر الرياح كقولك تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم.
وقوله عزّ وجلّ: (فانظر إلى آثار رحمت اللّه كيف يحي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كلّ شيء قدير (50)
(أثر رحمت اللّه)
ويقرأ (آثار رحمت اللّه)، يعني آثار المطر الذي هو رحمة من اللّه
(كيف يحي الأرض بعد موتها)، وإحياؤها أن جعلها تنبت فكذلك إحياء
الموتى، فقال: (إنّ ذلك لمحي الموتى).
ذلك إشارة إلى اللّه عزّ وجلّ.
وقوله: (فإنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصّمّ الدّعاء إذا ولّوا مدبرين (52)
هذا مثل ضربه الله للكفار كما قال: (صمّ بكم عمي)، فجعلهم في تركهم العمل بما يسمعون ووعي ما يبصرون بمنزلة الموتى، لأن ما بيّن من قدرته وصنعته التي لا يقدر على مثلها المخلوقون دليل على وحدانيته.
(وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53)
وقوله: (إن تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا).
أي ما يسمع إلا من يؤمن بآياتنا، وجعل الإسماع ههنا إسماعا إذا قبل وعمل بما سمع، وإذا لم يقبل بمنزلة ما لم يسمع ولم يبصر.
وقوله: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم).
[معاني القرآن: 4/190]
القراءة بالجر في " العمي " والنصب جائز، بهاد العمي عن ضلالتهم. فالقراءة بالجر، فأمّا النصب فإن كانت فيها رواية، وإلا فليست القراءة بها - جائزة، لأن كل ما يقرأ به ولم يتقدم فيه رواية لقراء الأمصار المتقدّمين فالقراءة به بدعة وإن جاز في العربية، والعمل في القراءة كلها على اتباع السّنّة.
وقوله عزّ وجلّ: (اللّه الّذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوّة ثمّ جعل من بعد قوّة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54)
تأويله أنه خلقكم من النطف في حال ضعف ثم قوّاكم في حال الشبيبة ثم جعل بعد الشبيبة ضعفا وشيبة.
وروي في الحديث أن ابن عمر قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللّه الّذي خلقكم من ضعف).
قال فأقرأني من ضعف، وقرأ عطية علي ابن عمر من ضعف فأقرأه من ضعف، وقال له: قرأتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضعف فاقرأني من ضعف.
فالذي روى عطية عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من ضعف)، بالضّم، وقد قرئت بفتح الضاد، والاختيار الضم، للرواية.
وقوله عزّ وجلّ: (ويوم تقوم السّاعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55)
يعني يوم القيامة، والسّاعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة فلذلك ترك ذكر أن يعرّف أي ساعة هي.
(يقسم المجرمون) يحلف المجرمون.
(ما لبثوا غير ساعة).
أي ما لبثوا في قبورهم إلا ساعة واحدة.
(كذلك كانوا يؤفكون).
[معاني القرآن: 4/191]
أي مثل هذا الكذب كذبهم لأنهم أقسموا على غير تحقيق.
وقوله عزّ وجلّ: (وقال الّذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب اللّه إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون (56)
أي في علم اللّه المثبت في اللوح المحفوظ.
وقوله: (فاصبر إنّ وعد اللّه حقّ ولا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون (60)
أي إن ما وعدك اللّه من النصر على عدوك حقّ، وإظهار دين الإسلام حقّ.
(ولا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون).
أي لا يستفزنّك عن دينك الذين لا يوقنون، أي هم ضلّال شاكّون.
[معاني القرآن: 4/192]