سورة مريم
من الاية 1 الى الاية 52
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله عزّ وجلّ: (كهيعص (1)
فيها في القراءة ثلاثة أوجه: فتح الهاء والياء، وكسرهما.
وقرأ الحسن بضم الهاء كهيعص، وهي أقل اللغات.
فأمّا الفتح فهو الأصل. تقول: ها. با. تا... في حروف الهجاء، ومن العرب من يقول ها يا. بالكسر.
ومنهم من ينحو نحو الضم فيقول ها. يا، يشم الضمّ.
وحكى الخليل وسيبويه أن من العرب من يقول في الصلاة الصّلوة، فينحو نحو الضم، فأمّا من روى ضمّ الهاء مع الياء فشاذ، لأن إجماع الرواة عن الحسن ضم الهاء وحدها.
وفي الرواية ضم الياء قليل عنه.
واختلف في تفسير (كهيعص) فقال أكثر أهل اللغة إنها حروف التّهجّي تدل على الابتداء بالسورة نحو (الم، والر).
وقيل إن تأويلها أنها حروف يدلّ كل واحد منها على صفة من صفات اللّه - عزّ وجلّ - فكاف يدل على كريم، و " ها " يدل على هاد، و " يا " من حكيم، و " عين " يدل على عالم، و " صاد " يدلّ على صادق.
وهذا أحسن ما جاء في هذه الحروف، وقد استقصينا ذلك في أول سورة البقرة.
[معاني القرآن: 3/317]
والعين قالوا يدل على عليم.
وروي أن (كهيعص) اسم من أسماء اللّه تعالى.
وروى أن عليّا - (عليه السلام) أقسم بكهيعص، أو قال: " يا كهيعص).
والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات اللّه - جلّ وعزّ - فدعا بها.
فكأنه قال: يا كافي يا هادي يا عالم يا صادق، فكأنه دعا بكهيعص لذكرها في القرآن وهو يدل على هذه الصفات، فإذا أقسم فقال: وكهيعص، فكأنه قال والكافي والهادي والعالم والحكيم والصادق.
وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجّ النيّة فيها الوقف.
(ذكر رحمت ربّك عبده زكريّا (2)
(ذكر) مرتفع بالمضمر، المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك عبده بالرحمة، لأن ذكر الرحمن إياه لا يكون إلا باللّه - عزّ وجلّ -.
والمعنى ذكر ربك عبده بالرحمة.
و(زكريا) يقرأ على وجهين، بالقصر والمد، فأعلم اللّه - جلّ وعزّ - على لسان نبيه عليه السلام وصية زكريا ويحيى ليعلم أهل الكتاب أن محمدا - عليه السلام - قد أوحي إليه، وأنزل عليه ذكر من مضى من الأنبياء وأنهم يجدون ذلك في كتبهم على ما ذكر - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يتل كتابا ولا خطّه بيمينه، وأنه لم يعلم ذلك إلا من قبل الله تعالى وكان إخباره بهذا وما أشبهه على هذه الصفة دليلا على نبوته - صلى الله عليه وسلم -.
وقال بعض أهل اللغة إنّ قوله: (ذكر رحمت ربّك عبده زكريّا) يرتفع
بـ " كهيعص " وهذا محال لأنّ " كهيعص " ليس هو فيما أنبأنا اللّه - عزّ وجل - به عن زكريا، وقد بيّن في السورة ما فعله به وبشّره به.
ولم يجئ في شيء من التفسير أن " كهيعص " هو قصة زكريا ولا يحيى ولا شيء منه، وقد أجمع
[معاني القرآن: 3/318]
القائل لهذا القول وغيره أن رفعه بالإضمار هو الوجه.
(إذ نادى ربّه نداء خفيّا (3)
دعا اللّه - عزّ وجلّ - سرا، وبين ما الذي سأل الله عزّ وجلّ، فقال:
(قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرّأس شيبا ولم أكن بدعائك ربّ شقيّا (4)
ومعنى (وهن) ضعف.
(واشتعل الرّأس شيبا).
قيل إن كان قد أتت له في ذلك الوقت خمس وستون سنة، وقيل ستون سنة وقيل خمس وسبعون سنة.
و " شيبا " منصوب على التمييز المعنى اشتعل الرأس من الشيب، يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأس فلان.
(ولم أكن بدعائك ربّ شقيّا).
أي كنت مستجاب الدعوة.
ويجوز أن يكون أراد (لم أكن بدعائك ربّ شقيّا) أي من دعاك مخلصا فقد وحّدك وعبدك، فلم أكن بعبادتك شقيّا.
وقوله: عزّ وجلّ: (وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليّا (5)
- بإسكان الياء من ورائي - معناه من بعدي، والموالي واحدهم مولى.
وهم بنو العم وعصبة الرجل، ومعناه الذين يلونه في النسب كما أن معنى القرابة الذين يقربون منه في النسب.
وقوله: (فهب لي من لدنك وليّا).
أي قد بلغت هذه السّن وامرأتي عاقر، والعاقر من النساء التي بها علة تمنع الولد، فكذلك العاقر من الرجال، فليس يكون لي ولد إلا " وليّا " فهبه لي، فإنك على كل شيء قدير.
[معاني القرآن: 3/319]
وقوله: (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّا (6)
ويقرأ بالجزم (يرثني ويرث من آل يعقوب) على جواب الأمر ومن قرأ (يرثني ويرث) فعلى صفة الولي، وقيل يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقال قوم لا يجوز أن يقول زكريا: إنه يخاف أن يورث المال لأن أمر الأنبياء والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم، وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " فقالوا معناه يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقوله: (واجعله ربّ رضيّا).
وقوله أيضا " وليّا " يدل على أنه سأل ولدا دينا، لأن غير الدّيّن لا يكون وليا للنبي عليه السلام.
وقوله: (يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّا (7)
(إنّا نبشّرك). ونبشرك
(بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّا).
أي لم يسم أحد قبله بيحيى، كذا قال ابن عباس، وقيل سمي بيحيى لأنه حيى بالعلم وبالحكمة التي أوتيها، وقيل لم نجعل له من قبل سميا، أي نظيرا ومثلا.
كل ذلك قد جاء في التفسير.
وقوله: (قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر [عتيّا] (8)
وتقرأ (عتيّا)، وقد رويت عسيّا - بالسين - ولكن لا يجوز في القراءة لأنه بخلاف المصحف، وكل شيء انتهى فقد عتا يعتو عتيّا وعتوّا وعسوّا، وعسيّا.
[معاني القرآن: 3/320]
فأحب أن يعلم من أيّ جهة يكون له ولد، ومثل امرأته لا تلد ومثله لا يولد له.
(قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9)
معناه - واللّه أعلم. الأمر كما قيل لك.
وقوله عزّ وجلّ: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا).
معناه ولم تك شيئا موجودا، أي أوجدتك بعد أن لم تكن.
أي فخلق الولد لك كخلق آدم عليه السلام، وخلقك من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم.
(قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك ألّا تكلّم النّاس ثلاث ليال سويّا (10)
أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به.
(قال آيتك ألّا تكلّم النّاس ثلاث ليال سويّا).
أي تمنع الكلام وأنت سوي، فتعلم بذلك أن اللّه - جل وعلا – قد وهب لك الولد.
و " سويّا " منصوب على الحال.
(فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّا (11)
قيل معنى أوحى إليهم أومأ إليهم ورمز، وقيل كتب لهم في الأرض بيده.
و (بكرة وعشيّا) - منصوبان على الوقت.
وقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّا (12)
المعنى: فوهبنا له يحيى وقلنا له (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة)، أي بجد وعون من اللّه - جلّ وعزّ -.
(وآتيناه الحكم صبيّا (12) وحنانا من لدنّا وزكاة وكان تقيّا (13)
[معاني القرآن: 3/321]
أي وآتيناه حنانا، والحنان العطف والرحمة.
قال الشاعر:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا... أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف
أي أمرنا حنان، أو عطف ورحمة:
وقال أيضا:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض
المعنى وآتيناه حنانا من لدنا وزكاة، والزكاة التطهير.
(وبرّا بوالديه ولم يكن جبّارا عصيّا (14)
أي وجعلناه برا بوالديه.
وقوله عزّ وجلّ: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيّا (16)
(انتبذت) تنحّت. ويقال نبذت الشيء إذا رميت به.
(مكانا شرقيا) أي نحو المشرق.
(فاتّخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويّا (17)
قيل إنها - قصدت نحو مطلع الشمس، لأنها أرادت الغسل من الحيض.
(فأرسلنا إليها روحنا).
يعنى به جبريل - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل الروح عيسى، لأنه روح من اللّه - عزّ وجلّ -
قال اللّه - عزّ وجلّ -: (إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه).
[معاني القرآن: 3/322]
وقيل إن الروح دخل من في مريم.
ويدل على أنّ جبريل عليه السلام هو الروح قوله: (فتمثّل لها بشرا سويّا).
(قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاما زكيّا (19)
أكثر القراءة (لأهب)، ورويت (ليهب لك) وكذلك قرأ أبو عمرو: لنهب لك كلاما زكيا.
(قالت إنّي أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا (18)
تأويله إني أعوذ باللّه منك، فإن كنت تقيا فستتعظ بتعوذي باللّه منك.
أما من قرأ (ليهب) بالياء فالمعنى أرسلني ليهب.
ومن قرأ (لأهب) فهو على الحكاية وحمل الحكاية على المعنى، على تأويل قال أرسلت إليك لأهب لك.
وقوله: (قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا (20)
أي لم يمسسني بشر على جهة تزويج - ولم أك بغيّا، أي ولا قربت على غير حد التزويج.
(قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للنّاس ورحمة منّا وكان أمرا مقضيّا (21)
(قال كذلك).
أي الأمر على ما وصفت لك.
(قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للنّاس ورحمة منّا وكان أمرا مقضيّا).
أي وكان أمرا سابقا في علم اللّه - عز وجل - أن يقع.
وقوله: (فحملته فانتبذت به مكانا قصيّا (22)
(انتبذت به) تباعدت به.
وقصيّا وقاصيا في معنى واحد، معناه البعد.
[معاني القرآن: 3/323]
وقوله: (فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيّا (23)
معناه ألجأها، وهو من جئت وأجاءني غيري: وفي معناه أشاءني غيري، وفي أمثال العرب: شر أجاءك إلى مخّة عرقوب وبعضهم يقول: أشاءك.
قال زهير:
وجار سار معتمدا إليكم... أجاءته المخافة والرّجاء
واختلف في حمل عيسى عليه السلام، فقيل إنها حملت به وولدته في وقتها، وقيل إنه ولد في ثمانية أشهر، وتلك آية له لأنه لا يعرف أنه يعيش مولود ولد لثمانية أشهر غيره.
وقوله عزّ وجلّ: (فأجاءها المخاض) - يدل على مكث الحمل واللّه أعلم.
وقوله جلّ وعزّ: (قالت يا ليتني متّ قبل هذا).
معناه إني لو خيرت قبل هذه الحال بين الموت أو الدفع إلى هذه الحال لاخترت الموت، وقد علمت - رضوان الله عليها - أنها لم يكن ينفعها أن تتمنى الموت قبل تلك الحال.
وقوله: (وكنت [نسيا] منسيّا).
ويقرأ (نسيا) - بفتح النون - وقيل معنى " نسيا " حيضة ملقاة وقيل نسيا - بالكسر في معنى منسية لا أعرف، والنسيء في كلام العرب الشيء المطروح لا يؤبه له.
قال الشنفري:
[معاني القرآن: 3/324]
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه على أمّها وإن تحدّثك تبلت
وقوله: (فناداها [من تحتها] ألّا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّا (24)
وتقرأ (من تحتها)، وهى أكثر بالكسر في القراءة، ومن قرأ (من تحتها) عنى عيسى عليه السلام.
ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية في عيسى، وأنّه أعلمها أن اللّه - عزّ وجلّ - سيجعل لها في النخلة آية. ومن قرأ (من تحتها) عنى به الملك.
(قد جعل ربّك تحتك سريّا).
روي عن الحسن أنه قال يعنى عيسى، وقال: كان واللّه سريّا من الرجال، فعرف الحسن أن من العرب من يسمي النهر سريا فرجع إلى هذا القول.
ولا اختلاف بين أهل اللغة أنّ السّريّ النهر بمنزلة الجدول.
قال لبيد:
فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا... مسجورة متجاورا قلاّمها
وقال ابن عباس: السري النهر وأنشد:
سلم ترى الدّاليّ منه أزورا... إذا يعبّ في السّريّ هرهرا
وقوله عزّ وجلّ: (وهزّي إليك بجذع النّخلة تساقط عليك رطبا جنيّا (25)
يروى أنه كان جذعا من نخلة لا رأس عليه، فجعل اللّه - جلّ وعزّ – له رأسا وأنبت فيه رطبا، وكان ذلك في الشتاء.
فأمّا نصب رطبا فقال محمد بن يزيد هو مفعول به، المعنى وهزّي إليك بجذع النّخلة رطبا تسّاقط عليك.
[معاني القرآن: 3/325]
ويجوز تساقط عليك، ويجوز يساقط عليك، ويجوز نساقط عليك. بالنون ويجوز يسّاقط بالياء، ويجوز يتساقط عليك. ويجوز تساقط عليك ونساقط. ويسّاقط بالرفع. ويروى عن البراء بن عازب.
فمن قرأ يساقط عليك فالمعنى يتساقط فأدغمت التاء في السين ومن قرأ تسّاقط، فالمعنى تتساقط أيضا. فأدغمت الياء في السّين وأنّث لأن لفظ النخلة مؤنث. ومن قرأ تساقط بالتاء والتخفيف فإنه حذف التاء من - تتساقط لاجتماع التاءين، ومن قرأ يساقط، إلى معنى يساقط الجذع عليك. ومن قرأ نساقط بالنون فالمعنى إنا نحن نساقط عليك فنجعل لك بذلك آية.
والنحويون يقولون إن رطبا منصوب على التمييز، إذا قلت يساقط أو يتساقط فالمعنى يتساقط الجذع رطبا، ومن قرأ تساقط فالمعنى تتساقط النخلة رطبا.
وقوله: (فكلي واشربي وقرّي عينا فإمّا ترينّ من البشر أحدا فقولي إنّي نذرت للرّحمن صوما فلن أكلّم اليوم إنسيّا (26)
أي فكلي من الرطب، واشربي من السّريّ، (وقرّي عينا) بعيسى.
يقال: قررت به عينا أقرّ بفتح القاف في المستقبل.
وقررت في المكان أقر - بكسر القاف - في المستقبل.
و (عينا) منصوب على التمييز.
(فإمّا ترينّ من البشر أحدا).
بغير ألف في ترين، ويجوز " ترأينّ " بألف ولم يقرأ بالألف أحد وهي جيّدة بالغة لكنها لا يجوز في القراءة.
وكذلك قوله عزّ وجلّ: (إنني معكما أسمع وأرى)، ويجوز وأرأي بالألف، ولا تقرأ بها، لفظها أرأى، لأن
[معاني القرآن: 3/326]
القراءة سنة لا تخالف. والأجود أرى، وكذلك ترين الأجود بغير همز، والتاء علامة التأنيث، والأصل ترآيّن، والياء حركت لالتقاء السّاكنين. النون الأولى من النون الشديدة والياء.
وكذلك تقول للمرأة اخشينّ زيدا.
(فقولي إنّي نذرت للرّحمن صوما فلن أكلّم اليوم إنسيّا).
معنى (صوما) صمتا. يقال نذرت النذر أنذره وأنذره، ونذرت بالقوم أنذر إذا علمت بهم فاستعددت لهم.
وقوله: (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريّا (27)
أي شيئا عظيما، يقال فلان يفري الفريّ إذا كان يعمل عملا يبالغ فيه.
وقوله عزّ وجلّ: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمّك بغيّا (28)
اختلف في تفسير: " أخت هارون " في هذا الموضع.
روينا في التفسير أنّ أهل الكتاب قالوا: كيف تقولون أنتم: مريم أخت هارون وبينهما ستّمائة سنة، فقيل ذلك لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، أي فكان أخو مريم يسمى هارون.
وقيل إنهم عنوا بأخت هارون في الصلاح والدين، ويروى أن هارون هذا الدّيّن كان رجلا من قومها صالحا، وأنه حضر جنازته أربعون ألفا يسمى كل واحد منهم هارون.
والذي في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن.
[معاني القرآن: 3/327]
وقوله عزّ وجلّ: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا (29)
أي لما خاطبوها أشارت إليه، بأن جعلوا الكلام معه، ودل على أنها أشارت إليه في الكلام قولهم (كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا).
وفي هذا ثلاثة أوجه:
قال: أبو عبيدة إن معنى " كان " اللغو، المعنى كيف نكلم من في المهد صبيا، لأن كل رجل قد كان في المهد صبيّا، ولكن المعنى كيف نكلم من في المهد صبيّا لا يفهم مثله، ولا ينطق لسانه بالكلم.
وقال قوم إنّ " كان " في معنى وقع وحدث.
المعنى على قول هؤلاء: كيف نكلم صبيّا قد خلق في المهد.
وأجود الأقوال أن يكون " من " في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى: من يكن في المهد صبيّا - ويكون (صبيّا) حالا - فكيف نكلمه.
كما تقول من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه.
وروى أنّ عيسى عليه السلام لما أومأت إليه اتكأ على يساره وأشار بسبّابته فقال: (إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيّا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت) أي معلما للخير.
(وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّا (31)
ومعنى الزكاة ههنا الطهارة، (ما دمت حيّا) - دمت، ودمت جميعا.
(وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبّارا شقيّا (32)
[معاني القرآن: 3/328]
(وبرّا) عطف على (مباركا)، المعنى وجعلني مباركا وبرّا بوالدتي.
(والسّلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا (33)
(والسّلام عليّ) فيه أوجه، فالسلام مصدر سلّمت سلاما، ومعناه عموم العافية والسلامة، والسلام جمع سلامة، والسلام اسم من أسماء الله جل وعزّ، وسلام مما ابتدئ به في النكرة، لأنه اسم يكثر استعماله. تقول سلام عليك والسلام عليك. وأسماء الأجناس يبتدأ بها، لأن فائدة نكرتها قريب من فائدة معرفتها. تقول: - لبيك وخير بين يديك، وإن شئت قلت: والخير بين يديك، وتقول: السلام عليك أيها النبي، وسلام عليك أيها النبي، إلا أنه لمّا جرى ذكر " سلام " قبل هذا الموضع بغير ألف ولام كان الأحسن أن يردّ ثانية بالألف واللام، تقول: سلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، هذا قسم حسن، وإن شئت قلت سلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
وقوله عزّ وجلّ: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون (34)
أي ذلك الذي (قال إني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيا) عيسى ابن مريم لا ما يقول النصارى من أنه ابن اللّه وأنه إله - جل الله وعز.
وقوله - عزّ وجلّ: (قول الحقّ).
بالرفع، ويجوز (قول الحقّ) بالنصب، فمن رفع فالمعنى هو قول الحق ومن نصب فالمعنى أقول قول الحق الذي فيه يمترون أي يشكون.
(ما كان للّه أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون (35)
(من ولد) في موضع نصب، والمعنى أن يتخذ ولدا، و (من) مؤكدة.
تدل على الواحد والجماعة لأن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرسا يريد
[معاني القرآن: 3/329]
اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول ما اتخذت فرسين ولا أكثر يريد اتخذت فرسا واحدا، فإذا قال ما اتخذت من فرس فقد دل على نفي الواحد والجميع.
(سبحانه).
معناه تنزيها له من السوء.
وقوله: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للّذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37)
يعنى به يوم القيامة.
(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظّالمون اليوم في ضلال مبين (38)
المعنى ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة لأنهم شاهدوا من البعث وأمر اللّه عزّ وجلّ ما يسمع ويبصر بغير إعمال فكر وتروية.
وما يدعون إليه من طاعة اللّه - جل جلاله - في الدنيا يحتاجون فيه إلى فكر ونظر فضلّوا عن ذلك في الدنيا وآثروا اللهو والهوى، فقال الله تعالى: (لكن الظّالمون اليوم في ضلال مبين).
وقوله عزّ وجلّ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39)
(يوم الحسرة) يوم القيامة، روي في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النّار في النار أتي بالموت في صورة كبش أملح فيعرض على أهل النار فيشرئبون إليه.
فيقال: أتعرفون هذا، فيقولون: نعم، فيقال:
[معاني القرآن: 3/330]
هذا الموت فيذبح وينادى: يا أهل النّار، خلود لا موت بعده، وكذلك ينادى يا أهل الجنّة خلود لا موت بعده.
(وهم في غفلة).
أي هم في الدنيا في غفلة.
(واذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صدّيقا نبيّا (41)
أي اذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره.
الصّديق اسم للمبالغة في الصّدق.
ويقال لكل من صدّق بتوحيد اللّه وأنبيائه وعمل بما يصدق به صدّيق، ومن ذلك سمي أبو بكر الصّديق.
وقوله: (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)
الوقف عليه يا أبه بالهاء، والعرب تقول في النداء يا أبة، ويا أمّة ولا تقول قال أبتي كذا ولا قالت أمّتي كذا، وزعم الخليل وسيبويه أنه بمنزلة قولهم يا عمة ويا خالة، وأن أبة للمذكر والمؤنث، كأنك تقود للمذكر أبة وللمؤنث. والدليل على أنّ للأمّ حظّا في الأبوة أنه يقال أبوان، قال اللّه عزّ وجلّ: (وورثه أبواه).
وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل ربعة، وغلام يفعة.
وأن الهاء في أبة، عوض من ياء الإضافة من يا أبي ومن يا أمّي ولم يقل يا أبتي ولا يا أمّتي، ولذلك لم تقع الهاء في غير النداء، لأن حذف الياء يقع في النداء كثيرا، تقول: يا أب لا تفعل، ولا تقل قال أب كذا وكذا تريد قال أبي.
والمؤنث قد يوصف بالمذكر كقولهم امرأة طالق وطاهر، ويقال ثلاثة
[معاني القرآن: 3/331]
أنفس، والنفس أنثى سمّي بها المذكر وهذا تفسير مستقصى وقريب.
(يا أبت لا تعبد الشّيطان إنّ الشّيطان كان للرّحمن عصيّا (44)
فمن فتح حذف الألف التي أبدلت من ياء الإضافة أراد يا أبتا فالألف بدل من ياء الإضافة إلاّ أن الواجب حذفها، إذ كانت بدلا من ياء تحذف.
وقوله: (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا).
يعني الصنم.
وقوله: (إنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك).
يدل أنه كان قد أتاه الوحي.
ومعنى: (صراطا سويّا).
أي طريقا مستقيما.
وقوله جلّ وعزّ: (يا أبت لا تعبد الشّيطان إنّ الشّيطان كان للرّحمن عصيّا (44)
معنى عبادة الشيطان - واللّه أعلم - طاعته فيما يسول من الكفر والمعاصي.
وقوله: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنّك واهجرني مليّا (46)
(لأرجمنّك).
معناه لأشتمنك، يقال: فلان يرمي فلانا ويرجم فلانا معناه يشتمه.
وكذلك قوله عزّ وجلّ: (والّذين يرمون المحصنات) معناه يشتمونهنّ، وجائز أن يكون (لأرجمنّك) لأقتلنك رجما، والذي عليه التفسير أن الرجم ههنا الشتم.
وقوله: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربّي إنّه كان بي حفيّا (47)
(إنّه كان بي حفيّا)
[معاني القرآن: 3/332]
معناه لطيفا، يقال: قد تحفّى فلان بفلان، وحفي فلان بفلان حفوه إذا بره وألطفه
وقوله عزّ وجلّ: (ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّا (50)
أي أبقينا لهم ثناء حسنا، وكذلك قوله: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84).
وقوله: (واذكر في الكتاب موسى إنّه كان مخلصا وكان رسولا نبيّا (51)
(مخلصا) و(مخلصا)
يقرآان جميعا. والمخلص - بفتح اللام الذي أخلصه اللّه جلّ وعزّ، أي جعله مختارا خالصا من الدنس.
والمخلص - بكسر اللام - الذي وحّد اللّه - عزّ وجلّ - وجعل نفسه خالصة في طاعة اللّه غير دنسة.
وقوله: (وناديناه من جانب الطّور الأيمن وقرّبناه نجيّا (52)
(وقرّبناه نجيّا).
معناه مناجيا. وجاء في التفسير أن الله عزّ وجلّ قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة، ويجوز - واللّه أعلم - أن يكون، مثل: (وكلّم اللّه موسى تكليما) أي قربه في المنزلة حتى سمع مناجاة اللّه - عزّ وجلّ - وهي كلام اللّه.