بسم الله والحمد لله والصلاة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
فقد شرع الله عز وجل الكتابة والإشهاد على الديون؛ حفظا للحقوق وصيانة للذمم، وذلك في آيتين من سورة البقرة، وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين عددا من الفوائد والأحكام.
منها: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فقد روي أن هذه الآية نزلت في بيع السلم، ولكنها تعم كل بيع بأجل وكل دين. قال ابن عباس رضي الله عنه: «نزلت هذه الآية في السلم خاصة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا»
ومنها: حكم الكتابة للدين: وقد اختلف العلماء فيها؛ فذهب بعضهم إلى أنها واجبة؛ لأن مطلق الأمر للوجوب إلا أن توجد قرينة صارفة، وذهب بعضهم إلى أنه كان واجبا إلا أنه نسخ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} ، وذهب الجمهور إلى انه مندوب إليه، ولكنه يقوى في بعض الأحيان، وقد يجب إن تُيقن ضياع الحق بعدمه.
قال ابن جريجٍ: «من ادّان فليكتب، ومن ابتاع فليشهد».
وقال قتادة: «ذكر لنا أنّ أبا سليمان المرعشيّ، كان رجلًا صحب كعبًا، فقال ذات يومٍ لأصحابه: هل تعلمون مظلومًا دعا ربّه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجلٌ باع بيعًا إلى أجلٍ فلم يشهد ولم يكتب، فلمّا حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربّه فلم يستجب له؛ لأنّه قد عصى ربّه».
ومنها: شرط الكاتب: أن يكون عدلا وأن يكتب بالحق والعدل ولا يجور.
ومنها: حكم امتناع الكاتب: اختلفوا هي هي واجبة أم له الامتناع، والراجحأن يتعين إن خيف ضياع الحق، أما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: {وافعلوا الخير}[الحج: 77] وهو من باب عون الضائع.
ومنها: أن الذي يملي: هو الذي عليه الدين، وذهب قوم إلى أنه هو صاحب الدين، وضعفه ابن عطية قائلا: " وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع أن يملّ بمرضه إذا كان عاجزا عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض فقط"
ومنها: ما يجب على المملي: أن يتقي الله تعالى ولا يملي إلا بالحق والعدل وليحذر من نقصان الحق وبخسه.
ومنها: أصحاب الأعذار الذين يقوم وليهم من أب أو وصي مقامهم في الإملاء: هم السفيه: وهو الخفيف الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، والضعيف: هو المدخول في عقله الناقص الفطرة ، والعاجز: هو الصغير والغائب لمرض ونحوه والأخرس على الأرجح.
ومنها: صفة الشهداء: رجلين عدلين ، بدلالة (شهيدين من رجالكم)، فإن لم يكن فرجل وامرأتان مرضيتان
وقوله تعالى: {من رجالكم} نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: «شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية». وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: «لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان الضمير الذي في قوله يكونا».
ومنها: حكم شهادة النساء: قد اختلف فيه عن الإمام مالك رحمه الله؛ ف روى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال، ففيها قولان في المذهب.
ومنها: الحكمة من كون اثنتان من النساء تقوم مقام الرجل الواحد: هو لكي تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت بعضا، وذهب عبضهم إلى ان المعنى على قراءة التخفيف من الذكورة، فتجعلها كالذكر في الشهادة، وهو بعيد.
قال ابن عطية: " ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه الآية ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة"
ومنها: حكم الشهادة: تحملا: اختلفوا فيها بين الوجوب والندب، والندب أرجح، وأداء: اختلفوا فيها ايضا، الأرجح فيها الوجوب إن خيف ضياع الحق والا فندب
قال ابن عطية: " والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء"
ومنها: الندب لكتابة قليل الدين والبيع وكثيره وعدم السآمة من ذلك.
ومنها: الحكمة من مشروعية الكتابة: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) فهو أعدل وأضبط للشهادة وأقرب لعدم الريبة والشك.
ومنها: أنه يباح ترك الكتابة في التجارة الحاضرة التي يتم فيها العوض والتقابض والبينونة بالمقبوض
ومنها: حكم الشهادة على البيع: اختلف فيها بين الوجوب والندب، قال ابن عطية: " والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا"
ومنها: معنى مضارة الكاتب والشهيد: فيها قولان:
الأول: لا يضر طالب الشهادة أو الكتابة بالكاتب والشاهد بأن يحملهما على الكتابة والشهادة وهما مشغولان، وهذا على أن الراء الأولى المدغمة مفتوحة (يضارَر)
الثاني: لا يضر الكاتب والشاهد بالكتابة بغير الحق وشهادة الزور أو بأن يزيدا او ينقصا من الحق، وهذا على أن يضار بكسر الراء الأولى، وقد رجح بعذ المفسرين هذا القول؛ استنادا لدلالة السياق وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} فإن تغيير الحق هو الذي يسمى فسقا. والآية تعمهما معا
وحكمها: محرمة وهي من الفسق.
ومنها: الأمر بتقوى الله تعالى في كل حين، وقد تكرر هذا الأمر مرتين في هذه الآية، ومرة ثالثة في الآية التي تليها؛ إشعارا بعظم هذه الأحكام وأنه حري بنا معشر المسلمين أن نتقي الله ونلتزم بأحكامه في هذه المعاملات وغيرها من الأحكام.
ومنها: الإعلام بأن هذه الأحكام من تعليم الله تعالى لعباده؛ وعطف هذه الجملة (ويعلمكم الله) على الامر بتقواه؛ فيه إشعار بأن تقوى الله تعالى سبيل لنيل العلم، كما أن العلم النافع يحمل المؤمن على العمل والتقوى.
ومنها: ختام الآية بعلمه تعالى بكل شيء؛ مناسب لهذه الآية فتعليم الله لنا هذه الأحكام العظيمة نابع من كمال علمه تعالى وكمال حكمته وقدرته، كما أن فيه تحفيزا وتهيئة للمتلقي على امتثال هذه الأحكام؛ فالعالم بمصالح العباد هو الآمر بها.
ومنها: حكم الرهن: وهو أنه جائز في السفر بهذه الآية؛ فيجوز عدم الكتابة أو الإشهاد في حالة السفر وعدم وجود كاتب، أو عدم توفر آلة الكتابة من قرطاس وقلم ودواة ونحوها، وقد بينت السنة جواز الرهن في الحضر أيضا؛ لما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير لأهله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: جواز ترك الرهن ايضا مع الاستئمان والاستيثاق بين الطرفين، وامر تعالى الدائن برد الأمانة على الوجوب.
ومنها: حكم ترك الشهادة: نهى تعالى نهي تحريم عن كتمان الشهادة التي يضيع بكتمانها الحق {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} فكتمانها والحالة هذه إثم عظيم، وتوعد تعالى على كتمانها {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم بأعمالكم، وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس: «على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي».
قال ابن عطية: «وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق»