المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورة الأمير
تلخيص رسالة "قاعدة في المحبة" لشيخ الإسلام ابن تيمية:
قبل أن أضع المقاصد والتلخيص, لفت نظري تمكن وعمق تأصيل ابن تيمية –رحمه الله-, والأهم من ذلك تدرجه من أصل الحركات والأفعال إلى فروع هذا الأصل وما ينتج عنه, لذا فإن المقصد الأساس هو توضيح أن الحب والكره مبدؤ الأفعال والترك, وأن أعظم الحب حب الله, وأعظم الكره كره الإشراك به, وما ينتج عن ذلك من اعتقادات تخص العقيدة والولاء والبراء, بل والدين كله يرجع لهذين الأمرين: حب الله وما يحبه, وكره ما يكرهه, والمقاصد الفرعية هي ما ينتج عن ذلك ويترتيب عليه.
والحقيقة أن سعة علم الشيخ ماشاء الله لا قوة إلا بالله أتعبتني في محاولة تبيين المقاصد, لذا فالمقصد الكلي آليت أن أنقله بلسان الشيخ نفسه في ختام رسالته, إذ كأنه أشعرني بحديثه أن سبب تأصيله لهذا الموضوع هو هذا المقصد.
المقصد الكلي:
بيان أنه إذا علم أن جميع حركات العالم صادرة عن محبة وإرادة ولا بد للمحبة والإرادة من سبب فاعل يكون هو المحبوب فبذلك يعلم أنه لا بد لجميع الحركات من إله يكون المعبود المقصود المراد المحبوب لها وأنها دالة على الإله الحق من هذا الوجه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
المقاصد الفرعية:
1- بيان أن جميع الحركات ناشئة عن الحب والإرادة.
2- بيان أن أصل كل فعل ومبدؤه هو الحب, وأصل كل ترك هو البغض.
3- بيان أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له.
4- بيان أن الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
5- بيان أن الأصول التي يقوم عليها الدين الحق, والتي بها تتحقق السعادة هي: الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
6- إثبات المحبة بين الرب وعبده, والعبد وربه.
7- إثبات اللذة كنتيجة عن المحبة الصحيحة, والألم كنتيجة عن المحبة المحرمة.
8- بيان أن أصل العبادة هو كمال المحبة مع كمال الذل.
9- إثبات النعيم كمقصود لكل عمل أصله المحبة, وأن النعيم الكامل هو في الدين الحق.
10- بيان أن كل ضراء وسراء هي نعيم للمؤمن إن أحسن التعامل معها.
11- بيان أن الموالاة والمعاداة في الله من أهم مستلزمات محبته.
الملخص:
1- جميع الحركات ناشئة عن الحب الإرادة والاختيار, وهما مستلزمان للحياة والعلم, ولهذا كان أعظم آية في القرآن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
2- أصل كل فعل ومبدؤه الحب, وأصل كل ترك ومبدؤه البغض.
3- قواعد في الحب والكره:
1. أن الإنسان لا يحب الشيء ويريده حتى يكون له به شعور أو إحساس أو معرفة ونحو ذلك ويكون مع ذلك بنفسه إليه ميل.
2. بعض الأمور وإن كانت مكروهة من وجوه, فإن فعلها لمحبة وإرادة, ولم تكن المحبة لنفسها, بل لملازمها.
- مثال: حب العافية يدفع لشرب الدواء وإن كان مكروها.
3. لا يترك الحي ما يحبه ويهواه, إلا لما يحبه ويهواه, لكنه يترك أضعفمها محبة لأقواهما محبة, كما يفعل ما يكرهه لما محبته أقوى من كراهة ذلك، وكما يترك ما يحبه لما كراهته أقوى من محبة ذلك.
- مثال: محبة رحمة الله (الأقوى محبة) تدفع لترك ما قد يهواه المرء من أمور الدنيا (الأضعف محبة) :(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى).
4. المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة, وعلة لها ولازم مستلزم لها من غير علة.
- وبيان ذلك: أن فعل البغض في العالم إنما هو لمنافاة المحبوب، ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض.
5. والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده, ولا تصلح الإلهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
6. أن الحي قد يحب ما يضره, لجهله وظلمه, وهذا هو حال من اتبع هواه بغير علم, وقد يكون عن اعتقاد فاسد, كحال من اتبع الظن وما تهواه النفس.
7. أن سماع الوصف قد يورث المحبة والشوق, كما قيل: والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
8. أن الأمور الغائبة عن المشاهدة والإحساس لا تعرف وتحب وتبغض إلا بنوع من التمثيل والقياس سواء كان الغائب أكمل في الصفات المطلوبة المشتركة كالموعود به من أمر الجنة والنار وكما يصف به الرب نفسه سبحانه وتعالى أو ما كان دون ذلك كما مثل من الأمور بما هو أكمل منه.
9. قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت الناس فيها تفاوتا عظيما، ويتفاوت حال الشخص الواحد في محبة الشيء الواحد بحيث يقوي الحب تارة ويضعف تارة بل قد يتبدل أقوي الحب بأقوى البغض وبالعكس.
10. أن المحبة أصل كل دين صالحا كان أو فاسدا.
11. أن كل محبة وبغضة فإنه يتبعها لذة وألم, ففي نيل المحبوب لذة وفراقه يكون فيه ألم, وفي نيل المكروه ألم وفي العافية منه تكون فيه لذة.
12. أن المحب إذا أحب الشيء لم يحب ضده بل يبغضه, فلا يتصور اجتماع إرادتين تامتين للضدين, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن..)).
13. من تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ويشهد لهذا الحديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
ينتج عن تلك القواعد أن تعلم:
1- أنه إذا كان الحب يتبع الإحساس, والإحساس لا يكون إلا بموجود ما, فإن ما يحب لا يكون إلا بموجود, وأيضا فإن الإحساس لا يكون أولا إلا لموجود, فكذلك الحب في نفسه لا يكون إلا لموجود أو محبوب, وإن كان يحب وجود المعدوم, فهو لاشيء, وما ليس بشيء لا يكون محبوبا, وإن كان يحب وجود المعدوم ويريده, فلا بد أن يكون قبل ذلك قد ذاقه والتذ به موجودا حتى أحبه بعد ذلك, أو ذاق والتذ بنظيره أو بما يشبهه.
2- أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له, إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل, ظاهرا وباطنا.
3- وأن جماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن هذه المحبات ولوازمها وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين وذكر قصص أهل النوعين.
4- وأن أعظم المحبة في الحق محبة الله, ومحبة ما يحبه, وموالاة من يواليه, وإرادته بعبادته وحده لا شريك له، وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون له عدلا وشريكا, ويوالون من يبغضه.
ولهذا: فإن رأس الإيمان: الحب في الله, والبغض في الله.
5- إذا كان كل عمل أصله المحبة والإرادة والمقصود منه التنعم بالمراد المحبوب, فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته, فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد, كما أن التعذب والتألم هو المكروه أولا وهو سبب كل بغض وكل حركة امتناع.
6- أن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته, قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
7- إذا كانت المحبة أصل كل دين, لزم عن ذلك أن كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم، إذ لا غنى لبعضهم عن بعض، وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم, وفي دفع ما يضرهم, ولا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام وهذا هو دينهم المشترك العام.
8- وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاهد والتعاقد، ولهذا جاء في الحديث: ((لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)).
فصل: الدين, كأحد أهم نواتج المحبة: [ استعمال كاف التشبيه هنا خطأ لغوي ]
- لا بد في كل دين من شيئين:
أحدهما: الدين المحبوب المطاع وهو المقصود المراد.
والثاني: نفس صورة العمل التي تطاع ويعبد بها وهو السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والوسيلة, فالدين يجمع أمرين: المعبود, وهو الله وحده, والعبادة, وهي عبادة الله وطاعة رسله واتباع الدين الذي ارتضاه {ورضيت لكم الإسلام دينا}.
- كل دين يجتمع عليه الناس غير دين الله, فهو باطل, وكل من اتبع دين الله, فهو الحق, قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
- الدين يكون بطاعة الله وعبادته وحده دون واسطة, قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}, وطاعة الله تستلزم طاعة رسله, وينتج عن طاعة رسله طاعة أولي الأمر ما لم يكن في معصية الله, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصي الله ومن عصي أميري فقد عصاني)).’ فهذه هي درجات الطاعة, وسلم العبادة.
- يشترك الأولون والآخرون في الدين الحق, وهو عبادة الله وحده, ويختلفون فيما عبدوه وعرفوه به {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
- أصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله, كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
*الأصول التي يقوم عليها الدين الحق هي: الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
-الإتيان بهذه الأصول يستلزم السعادة في كل ملة, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
-من مقاصد الدين تحقيق المصالح الدنيوية للعباد, لكنه لا يقتصر عليها,{ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}, فجعل مقصد ما هو دنيوي أخروي, ليبين أن الآخرة مقصود يعمل لأجله في كل صغيرة وكبيرة.
فصل: الحب والكره بين الرب وعبده، والعبد وربه:
-أعظم حب قد يناله المرء هو حب الله له, وأعظم حب قد يحبه العبد هو حبه لله.
*دليل اتصاف الله بالحب والكره:
-قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
-ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه)).
*تأويل صفة الحب لله:
- تأول الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه فتكون من الأفعال.
- تأولت طائفة من الصفاتية محبة الله على أنها إرادة الإحسان، وربما قال كلا من القولين بعض المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
- أقر بعض الصفاتية محبة العبد ربه على أنها إرادة العبادة له وإرادة التقرب إليه.
- أقر سلف الأمة وأئمة السنة على المحبة على ما هي عليه, بل هم متفقون على أنه لا يكون شيء من أنواع المحبة أعظم من محبة العبد ربه, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه}
*مسألة: حكم إطلاق لفظ العشق على لله:
عرف بعضهم العشق أنه المحبة الكاملة التامة.
وإن كان العشق هو ما سبق تعريفه, فلا شك أن أولى المستحقين لذلك العشق هو الله, لكن مكمن الاستنكار على هذه اللفظة عدة أمور.
- مآخذ لفظ " العشق":
- من جهة اللفظ:
- أنه ليس مأثورا عن السلف وباب الأسماء والصفات يتبع فيها الألفاظ الشرعية فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر.
- المشهور من لفظ العشق هو محبة النكاح ومقدماته, ولا يعرف استخدامه في محبة الولد أو الوطن ونحوه, وهذا قد يوهم بالمعنى الفاسد للكلمة, وهو ما لا يليق بالله.
- من جهة المعنى:
- أن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب. وهذا المعنى ممتنع في حق الله من الجهتين فإن الله لا يحب محبة زيادة على العدل ومحبة عبادة المؤمنين له ليس لها حد تنتهي إليه حتى تكون الزيادة إفراطا وإسرافا ومجاوزة للقصد بل الواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- وقيل أن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق. وإذا كان الأمر كذلك امتنع في حق الله من الجانبين فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير مقدس منزه عن نقص أو خلل في سمعه وبصره وعلمه والمحبون له عباده المؤمنون الذين آمنوا به وعرفوه بما تعرف به إليهم من أسمائه وآياته وما قذفه في قلوبهم من أنوار معرفته فليست محبتهم إياه عن اعتقاد فاسد.
باب من ضل في حب الله:
- فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوا هذا الباب وكذبوا بحقيقته, فهؤلاء يشبهون المستكبرين, كاليهود ومن شابههم.
- وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيه من الاعتقادات والإرادات الفاسدة, وهؤلاء يشبهون المشركين والنصارى ومن شابههم.
* درجات محبة الله:
محبة الله ورسوله على درجتين:
- واجبة: وهي درجة المقتصدين, وتقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- مستحبة: وهي درجة السابقين, وهي أن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه.
*أقسام المحبوبات:
- قسم: يحب لنفسه, وهذا لا يشرع إلا لله.
- وقسم: يحب لغيره, وهو كل ما أمر الله بحبه.
فصل: اللذة والألم, كأحد نواتج الحب والبغض:
من المعلوم أن المحبة هي العلة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب المشتهى, واللذة والسرور هي الغاية.
*أجناس اللذات الدنيوية:
- جنس بالجسد, كالأكل والنكاح.
- جنس بالتخييل, كالمدح والتعظيم.
- جنس بالقلب والروح والعقل, كالتلذذ بذكر الله ومعرفته.
*قاعدة: كل لذة وإن جلت هي في نفسها مقصودة لنفسها إذ المقصود لنفسه هو اللذة, لكن من اللذات ما يكون عونا على ما هو أكثر منه أيضا فيكون مقصودا لنفسه بقدره ويكون مقصودا لغيره بقدر ذلك الغير.
فصل: النعيم التام, كحق لأهل الدين الحق الناتج عن محبة الله:
- النعيم التام هو في الدين الحق, فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم التام, وأهل الدين الباطل هم الذين لهم العذاب التام, كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع كقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}.
- الأصل أن المؤمن في نعيم, سواء أصابته سراء أم ضراء, وبيان ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن أن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له)) وإذا كان خيرا فالخير هو المنفعة والمصلحة الذي فيه النعيم واللذة.
- قد يكون ما ظاهره نعمة هو لذة عاجلة قد تكون سببا للعذاب, وما ظاهره عذاب هو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم.
- قد يبتلى المؤمن بالسراء كما يبتلى بالضراء, بل كان بعض الصحابة يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا, وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فتنة القبر وشر فتنة الغنى, وقال لأصحابه: (( والله ما الفقر أخشي عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها وتهلككم كم أهلكتهم)).
*مسألة: شبهة عدم تنعم المؤمن بالدنيا, وتنعم نظيره الكافر بها في كثير من الأحيان: ينبغي أن يعرف أن الذي اشتبه عليه ذلك في الغالب يبني كلامه على مقدمتين خاطئتين،
هما:
- حسن ظنه بدين نفسه نوعا أو شخصا, واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك.
- أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا.
والرد عليهما كالتالي:
-أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها, أو من يفعل محرمات اقتداء بأسلافه ظنا بأنها واجبات, أو غير ذلك.
-وأما الثاني: فالرد عليه من كتاب الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
لذا يجب أن يعلم:
-أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه.
-أن التنعم يكون في الأمور الدنيوية والدينية, فأما الدنيوية فيشترك فيها المؤمن والكافر, وأما الدينية فجماعها أمران: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر, وهذه لا تحصل إلا للمؤمن, لشرف الخبر الصدق عن الله, ولطاعته ما فيه صلاحه ومنفعته من أوامر الله.
*مسألة: هل النعيم الدنيوي نعمة في حق الكافر أم لا؟
- القدرية الذين يقولون لم يرد الله لكل أحد إلا خيرا له بخلقه وأمره وإنما العبد هو الذي أراد لنفسه الشر بمعصيته وبترك طاعته التي يستعملها بدون مشيئة الله وقدرته أراد لنفسه الشر, يقولون ما نعم به الكافر فهو نعمة تامة كما نعم به المؤمن سواء.
- وأهل الإثبات قالوا: ليس لله على الكافر نعمة دنيوية كما ليس له عليه نعمة دينية تخصه, إذ اللذة المستعقبة ألما أعظم منها ليست بنعمة كالطعام المسموم {إنما نملي لهم لزدادوا إثما}.
- وخالفهم آخرون من أهل الإثبات للقدر أيضا فقالوا بل لله على الكافر نعم دنيوية, والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيره, ودليلهم امتنانه تعالى على الكفار بنعمه, ومطالبته إياهم بشكرها, فكيف يقال ليست نعما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار}.
-والراجح أن هذه التنعمات هي نعمة من وجه دون وجه فليست من النعم المطلقة ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقها ومقيدها فباعتبار ما فيها من التنعم يصلح أن يطلب حقها من الشكر وغيرها وينهى عن استعمالها في المعصية فتكون نعمة في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد, وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمور ويفعل فيها المحظور الذي يزيد عذابه على نعمها كانت وبالا عليه وكان أن لا يكون ذلك من حقه خيرا له من أن يكون فليست نعمة في حقه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة وإن كان يكون نعمة في حق عموم الخلق والمؤمنين.
فصل: في الموالاة والمعاداة, كأحد أهم نواتج الحب والكره:
- تعريف الموالاة والمعاداة:
المولي من الولي وهو القرب, والعدو من العدواء وهو البعد.
فأولياء الله ضد أعدائه يقربهم منه ويدنيهم إليه ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم ويكون عليهم منه صلاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وهو إبعاد منه ومن رحمته ويبغضهم ويغضب عليهم.
قال تعالى: في حق المنافقين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
وقال تعالى: في حق المجاهدين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}.
*مظاهر الولاء وقواعده:
-أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعاداة البغض فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق والتباغض يوجب التباعد.
-مدار الولاء حب ما يحبه المحبوب, وبغض ما يبغضه.
-الولاء يوجب موافقة المحب للمحبوب.
-الولاء الفاسد يوجب ظلم المتحابين لأنفسهما ولغيرهما.
-الولاء يوجب تعاون المتحابين واتفاقهما فلا بد أن يبغضا ويعاديا من يبغض ذلك منهما ويخالفهم فيه.
|