تمهيد
مما يعين على فهم القرآن ومعرفة سعة معانيه وبركة دلالات ألفاظه دراسة معاني الحروف ودلالاتها في القرآن، وذلك أنّ الحرف الواحد قد يرد لمعانٍ متعددة، وقد يُعدَّى بما يحتمل معاني أخر، وتدبّر ذلك والتفكّر فيه يفتح للمتدبّر باباً عظيم النفع في فهم القرآن.
فمن ذلك: معنى الباء في البسملة فقد فُسّرت بالابتداء، والاستعانة، والمصاحبة، والتبرك، وكلها معانٍ صحيحة لا تعارض بينها، ودلالة الحرف تحتملها؛ فيصحّ أن يستحضر القارئ هذه المعاني كلها.
ونظير ذلك: معنى الباء في قول الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ؛ فقد فُسّرت بالسببية والمصاحبة والملابسة والاستعانة والتبرك، وكلها معانٍ صحيحة تتسّع لها دلالة هذا الحرف في هذا الموضع.
واختلاف معاني الباء في الآيتين دليل على أنّ معاني الحروف تتنوّع بحسب السياق والمقاصد وما يحتمله الكلام، وليست جامدة على معانٍ معيَّنة يكرِّرُ المفسّرُ القولَ بها في كلّ موضع.
فالأقوال المحكية في المثالين ليست هي جميع معاني الباء في اللغة؛ فقد ذكر أهل اللغة للباء معانيَ كثيرة منها: الإلصاق، والتعدية، والاستعانة، والسببية، والقسم، والبدل، والظرفية، والمجاوزة، والمصاحبة، والملابسة، والحال، والمقابلة، والاستعلاء، والتوكيد.
واختلف في دلالتها على التبعيض والغاية.
فيؤخذ من هذه المعاني في كل موضع ما يحتمله السياق، ولا يعارض دليلاً أقوى.
وما قيل في حرف الباء يُقال نظيره في الحروف الأخرى:
- فـ"ما" تأتي لمعانٍ منها: الموصولية، والمصدرية، والنفي، والاستفهام، والشرط، وتأتي زائدة، وللتعجب، وغير ذلك.
وفي قول الله تعالى: {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} اختلف في معنى "ما" على ثلاثة أقوال: فقيل هي موصولة، وقيل: نافية، وقيل: استفهامية.
ولا يخفى أثر هذا الاختلاف على المعنى، وقد قال بكل قول من هذه الأقوال طائفة من أهل العلم.
و"مِن" لها معانٍ كثيرة ذكر منها ابن أمّ قاسم المرادي في كتابه الجنى الداني اثني عشر معنى، ونظمها في قوله:
أتتنـــا من لتــــــــــــبيينٍ وبَــعْـــضٍ ... وتعـلـــــيل وبــــــــدء وانــــــــــتهــــــــاء
وإبدال وزائـــــــــــدة وفَصْـــــــــلٍ ... ومعــــنى عـــن وفي وعلى وبــــاء
وأوصلها ابن هشام في مغني اللبيب إلى خمسة عشر معنى، وفي بعض المعاني المذكورة نظر، والذي يترجّح لي منها عشرُ معانٍ:
1: ابتداء الغاية كما في قول الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد إلى المسجد الأقصى}
2: والتبعيض؛ كما في قول الله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} الأصل: [مِنْ ما] ثم أدغمت في الرسم كما أدغمت في القراءة.
3: بيان الجنس؛ كما في قول الله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}
4: السببية، كما في قول الله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا}
5: البدل، كما في قول الله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} وقوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}
6: التعدية، كما في قول الله تعالى: {وما هو بمزحزحه من العذاب}
7: معنى الباء، كما في قول الله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} على قول، والأظهر أنها جامعة للسببية والبيانية.
8: الظرفية، كما في قول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}
9: الفصل، كما في قول الله تعالى: {حتى يميز الخبيث من الطيب}
10: الاستغراق، كما في قول الله تعالى: {وما له منهم من ظهير}
وفي قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} اختلف في معنى "من" على أقوال: فقيل: هي للتعدية، وقيل: سببية، وقيل: بمعنى الباء أي يحفظونه "بأمر الله" ، وقيل: للمجاوزة أي يحفظونه عن أمر الله.
وفي قول الله تعالى: {قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} "من" الثانية قيل: بيانية، أي: كما يئس الكفار المقبورون من أسباب النجاة لموتهم على الكفر، وقيل: للتعدية، والمعنى: كما يئس الكفار الأحياء من رجوع إخوانهم من الكفار المقبورين.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، واختلافها كاختلاف الأقوال الصحيحة في المشترك اللفظي، وكاختلاف القراءات.
والمقصود من ذكر هذه الأمثلة التنبيه على نظائرها وبيان سعة دلائل معاني الحروف في القرآن.