رسالة في الأسلوب البياني في آيات سورة الذاريات
"وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (49)"
مقدمة
لما بين المولى عز وجل مصارع الأمم السابقة لما كذبت رسلها انتقل إلى بيان أدلة الوحدانية وإثبات البعث والنشور
فجاءت الآيات وكأنها جملة اعتراضية بين جملة
(وقوم نوح من قبل..) وبين جملة
(كذلك ما أتى الذين من قبلهم)
وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
سبب نصب السماء:
لأنها معطوفة على جملة فعلية
(هل أتاك حديث...)، ومثلها
(وعاداً وثمودً..) أي هل وأتاك حديث عاد وثمود، فهي جملة فعلية أيضاً أضمر فعلها والتقدير (وبنينا السماء بنيناها بأيد)، ذكره الأندلسي
دلالة تقدم الاستدلال ببناء السماء قبل فرش الأرض:
لأنها أعظم مخلوق يشاهده الناس فهذا الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشاهدوا كيفيته ينبئ عن خالق عظيم
، ثم عطف عليه خلق الأرض كضدين، ثم عطف عليهما خلق الأجناس التي تعيش بينهما
*وفي ذلك فائدة ذكرها الفخر الرزاي أن رفع السماء مقدم على بسط الرض
دلالة استخدام لفظ البناء مع السماء:في ذلك عدة أوجه ذكرها الفخر الرازي
1-أن البناء يكون ثابتاً فالسماء ثابتة إلى قيام الساعة لم تتبدل ولم يعدم منها جزء، اما الأرض فهي متبدلة غير ثابتة فكم منها صار بحراً أو عاد أرضاً منذ خلقها الله
2-أن لفظ البناء للمرفوع أليق، أما الأرض مبسوطة
3-قيل إن السماء مسكن الأرواح والبناء أليق بالمسكن، أما الأرض فموضع الأعمال
الحكمة من تقدم المفعول على الفعل:
للاهتمام به فتقديم السماء هو تقديم الدليل على عظمة الخالق، والمعنى (تلك السماء عظيمة البناء الله وحده بانيها فاعرفوه بها إن كنتم لا تعرفوه)، ذكره الفخر الرزاي
*ثم زاده تقوية بأن تعلق المفعول بفعله مرتين مرة بنفسه ومرة بضميره (ذكره ابن عاشور)
الحكمة من استخدام صيغة الجمع في سياق اثبات الوحدانية (فلم يقل بنيتها أو بناها):
الجمع هنا جمع تعظيم وهو أدل على نفي الشريك، لأنه لا يتوهم أن ما يعبدون من الأصنام بنت من السماء شيئاً، فالمعنى (بنينا نحن، ونحن غير ما يدعون، لأن كل ما هو دون السماء لا يصلح أن يكون خالقها وبانيها)
1-لما كان الكلام موجه للإنسان فالإنسان يقيس الوجاهة والعظمة في جنسه بأن العظيم لديهم لا يباشر شيئاً بنفسه وإنما يفعله خدمه وجنده، ولله المثل الأعلى فيٌقاس الشاهد على الغائب
2-أن الفعل إذا وقع من الله لا يملك أحد رده فيقال فعلنا بدل فعلت لأن الكل له منقاد لا راد لما يرد
المراد بأيد:
-أصلها جمع يد ويشهد له قول الله تعالى:
".... لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ....(75 ص", "... مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا... (71)يس"
-ثم كثر اطلاقه حتى صار اسما ً للقوة ويشهد له قول الله تعالى:
"...وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْد...ِ (17)"
-والمعنى بنيناها بقدرة لا يقدر عليها أحد
لماذا لم يقل بأيدينا كما في آية يس؟ فاكتفى هنا بالإشارة للقوة فقط:
والسبب أن السماء لا يخطر ببال أحد انها مخلوقة لغير الله فلا ضرورة لذكر (بأيدينا)
، أما الأنعام فليست كذلك فلزم التأكيد على كونها مخلوقة من الله فجاءت بأيدينا كما في آية يس (ذكره الفخر الرازي)
دلالة التوكيد في (وإنا لموسعون):
جاءت الواو اعتراضية ثم جاء التوكيد بالنون واللام، لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله بزعمهم استحالة البعث
المراد ب (موسعون):
هي اسم فاعل من أوسع , والمراد به إما:
1-السعة المكانية: فصارت الأرض وما يحيط بها من ماء وهواء بالنسبة للسماء كحلقة في فلاة
واستخدام لفظ السعة بهذا المعنى فيه دلالة على عظم خلق السماء وأنها على ترامي أطرافها بلا عمد
2-القدرة: قال تعالى:
" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..."البقرة (286)
ومتعلق القدرة هنا إما يكون رفع السماء، وأما احياء الموتى
قال تعالى:
" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)"يس
3-السعة في الرزق: فتكون في سياق الامتنان ويكون المعنى(وإنا لموسعون بالرزق على الخلق) كما نقله غير واحد عن الحسن
ولا جرم فقد سبق الإشارة للرزق في ذات السورة قال تعالى:
" وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)", وختمت السورة كذلك بالإشارة للرزق
" مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ...(57) نَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (58)
وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
سبب نصب الأرض:
هو نفسه سبب نصب السماء وهو كونها معطوفة على جمل فعلية، والمعنى (وفرشنا الأرض فرشناها..)
معنى الفرش:
الفرش مجاز عن البسط والتسوية والمعنى مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها
دلالة استخدام لفظ الفرش مع الأرض:
-فيه دلالة على رحمة الله بعبادة إذ جعلها مبسوطة ميسورة للسكنى والبناء والإقامة والمشي...
-وروعي في وصف الأرض ما يبدو للإنسان من سطحها، وما ينتفع به منها
الحكمة من تقدم المفعول على الفعل:
هي نفسها الحكمة من تقدم المفعول في السماء (على فعلها وهو البناء) وهو الاهتمام بها فتعلق المفعول بفعله كذلك مرتين مرة بنفسه ومرة بضميره
الحكمة من استخدام صيغة الجمع في سياق اثبات الوحدانية:
قلنا كما في الآية السابقة أن صيغة الجمع هنا ادل على نفي الشريك وأبين في اثبات الوحدانية
معنى الماهدون:
الماهد هو المهيء والموطيء للموضع الذي يتمهد ويفترش (ذكره الأندلسي)
المخصوص بالمدح في (فنعم الماهدون):
-أي فنعم الماهدون ماهدوها، أو فنعم الماهدون نحن، فالمولى عز وجل هو المخصوص بالمدح المقدر
-والمراد منه تلقين الناس الثناء على الله
الحكمة من عدم تكرار بأيد:
لدلالة ما قبله عليه
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (49)
المراد بالشيء:
هو الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان
المراد بالزوجين:
قيل المراد به على قولين:
1-الذكر والأنثى: أي من الآدميين دون غيرهم، قول ابن زيد
2-سائر المخلوقات من آدميين وغيرهم من الألوان والثمار والجمادات: قول مجاهد، وهو إما ضدين أو متشاكلين (ذكره ابن كثير والعيني والقسطلاني والعسقلاني...وغيرهم)
كالسماء والأرض -النهار والليل -الشمس والقمر -البر والبحر -الموت والحياة -الأسود والأبيض -مر وحامض ورجح الطبري القول الثاني
دلالة استخدام فعل الخلق:
-فيه دلالة على الوحدانية والتفرد بالألوهية وكمال القدرة، فالله قادر على خلق زوجين من نفس الجنس
-وفيه كذلك امتنان برحمة الله بعبيده إذ لو خلق كل الأجناس نوعا واحد لوقع الالتباس ولتعطلت مصالح العباد
دلالة استخدام لعلكم تذكرون:
-الجملة هنا تعليل لجملة (ومن كل شيء خلقنا زوجين)
-والغاية من ذلك هي التذكر وليس غيره وفي ذلك عدة أوجه:
1-أن خالق الأزواج لا يكون له زوج غلا فهو مخلوق لا خالق
2-أن من له هذا الكمال والتفرد في خلق الأزواج من كل الأجناس لا يعجزه إحياء الموتى من بقايا ورفات فهو أهون عليه جل وعلى
3-الترجي هنا للتذكر والتفكر في الفرق بين الممكن الغير مألوف والمستحيل فلا يحمل العبد قلة الاعتياد على استبعاد ما هو ممكن، فهو ممكن لكنكم ما ألفتموه، فقد رأيتم من قبل ما هو غريب وعجيب وهو أن خلق الله من كل زوجين اثنين من كل الأجناس وهو أمر عجيب، لكنكم ألفتموه وكذلك البعث أمر عجيب لكنكم ما ألفتموه لكنه ممكن وهين وليس مستحيل
خاتمة:
بعد أن قدم الله لمنكري الوحدانية ومنكري البعث والنشور الأدلة القاطعة والدامغة أردف بقوله تعالى:
" فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)
أمر العباد بما يستوجبه التذكر والتفكر فيما أمر أدلة وبراهين، وهذا يستوجب الفرار إلى الله بالإنابة وأن يفرد الله بالعباد وينزهه عن الشريك والند سبحانه وتعالى عما يصفون
المراجع:
الكتب:
- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: للفخر الرازي (ت: 606هـ)
- -التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور التونسي (ت:1393 هـ)
- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: للزمخشري (ت: 538هـ)
- حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي: لشهاب الدين الخفاجي (ت: 1069هـ)
مواقع وبرامج:
موقع جمهرة العلوم
المكتبة الشاملة