المجلس الأول في مذاكرة سورة آل عمران
-حرر القول في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) الآيات المحكمة والآيات المتشابهة.
القول الأول: المحكمات الآمرة الزاجرة، من القرآن ، والناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات الذي لا يعمل بهن ويؤمن بهن وهو قول ابن عباس وابن مسعود، ومجاهد والضحاك بن مزاحم، وعكرمة، وقتادة، مقاتل بن حيان والربيع بن أنس، وإسماعيل السدي، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وابن اسحاق، وسعيد بن جبير.
القول الثاني: المحكمات حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، والمتشابه ما سوى المحكم متشابه بعضه يصدق بعض كأمثاله وقصصه ومقدمه ومؤخره وما يؤمن به ولا يعمل به وهو قول ابن عباس ومجاهد.
ومثله من قال:ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته " والمتشابه " هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ، أخرجه الطبري عن يونس عن ابن وهب، ونقله ابن عطية عن ابن زيد.
القول الثالث: المحكمات حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما ووضعت ، والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف ابتلى الله بهن العباد وهو وقول محمد بن جعفر الزبير، محمد بن اسحاق، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومحمد ابن اسحاق.
وهو اختيار الطبري: " المحكمات الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين ، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني".
ويرى ابن عطية أن بعض العبارات للعلماء تبين أن التشابه في الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ فيه تعلق، وفي بعض عبارات ليس كذلك.
القول الرابع: المحكم ما عرفه العلماء الراسخون والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ومما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو " الم " و " المص " و " المر " و " الر " وما أشبه ذلك ، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمل وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله بحساب الجمل.
قال الطبري: "المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره. والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه
يرى ابن عطية أن الغيوب التي تأتي هي من المحكمات وما يعلمه البشر منها محدود، وأما أوائل السور فهي معرضة للتأويل.
القول الخامس: المحكم أصل يُرد إليه لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه يحتمل وجوهاً وقد تُرد إلى وجه واحد، قال الإمام أحمد في كتابه في الرد عى الجهمية والزنادقة: : فالمحكم أصل تُرد إليه الفروع، المحكم الذي ليس فيه اختلاف والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا" .ومثّل القرطبي للمحكم بقوله تعالى: { ولم يكن له كفوا أحد} وذكر النحّاس استحسانه لهذا القول.
التخريج:
القول الأول: قول ابن عباس أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وعزاه السيوطي إلى ابن مردويه من طريق عبدالله بن قيس، وقال: " منه آيات محكمات الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات، والآيتان بعدها"، وكذا عن ابن عباس من طريق العوّام عمن حدث، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وزاد فيه: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" إلى ثلاث آيات بعدها، وعلق ابن عطية على قول ابن عباس وقال: " هذا عندي مثال أعطاه في المحكمات"، وكذا: عن ابن عباس من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح، وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق السدي عن مرة الهمداني .." أما الآيات المحكمات فهن من الناسخات التي يعمل بهن، وأما المتشابهات فهن المنسوخات" ،علق ابن عطية: على هذا بقوله: " وهذا عندي من جهة التمثيل، أي: يوجد الإحكام في هذا، والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات".
وعن الضحاك بن مزاحم من طريق سلمة بن نبيط، ومن طريق جويبر وروي عن عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك واسماعيل السدي معلقا عند ابن أبي حاتم، وكذا تفسير مقاتل قال: " يعمل بهن وهن الآيات في الأنعام...." الرواية.
وعن الربيع بن أنس من طريق سليمان بن عامر أخرجه با أبي حاتم، وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس من طريق أبي جعفر، وعن محمد بن جعفر بن الزبير من طريق ابن أبي اسحاق قال: " المحكمات حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه ، ( وأخر متشابهات) في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله بهن العباد كما ابتهلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق"، ورجح هذا ابن عطية وابن كثير، وقال ابن عطية: " وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية"- وهو القول الثالث-
القول الثاني: هو قول ابن عباس من طريق علي، أخرجه ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، قال: " المحكمات: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا، مثل قوله : " وما يضل به إلا الفاسقين"، ومثل قوله: " كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" ، ومثل قوله: " والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتهاهم تقواهم"، وانتقد ابن كثير مستنداً إلى القرآن كون قول مجاهد تفسيراً لهذه الآية بقوله: " وهذا إنما هو في تفسير قوله " كتابا متشابها"، هناك ذكروا : أن المتشتابه به هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين، كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار ثم حال الفجار ونحو ذلك، فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم".
القول الثالث: رواية محمد بن جعفر بن الزبير مرت سابقاً وهي قول ابن عطية، وهو اختيار ابن كثير حيث قال: وأحسن ما قيل مما قدمناه هو الذي نص عليه محمد بن اسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير" ومحمد بن اسحاق من طريق سلمة أخرجه ابن ابي حاتم، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم من طريق ابن وهب، أخرجه ابن جرير.
وأخرجه ابن المنذر عن مجاهد، ابن أبي حاتم عن مجاهد من طريق ابن جريج، وعن الضحاك بن مزاحم من طريق جويبر أخرجه ابن جرير والثوري، وابن المنذر وعلقه ابن أبي حاتم.
ومحمد ابن اسحاق من طريق زياد، أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق سلمة.
القول الرابع: أخرجه الطبري عنمحمد بن جعفر بن الزبير، وأخرجه عن عبدالله بن رئاب، وأخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان من طريق بكير بن معروف، وحكاه مقاتل بن سليمان في تفسيره، وأخرجه ابن أبي حاتم.
القول الخامس: نقله العلامة أبو الطيب شمس الدين عن الشافعي في عون المعبود في شرح سنن أبي داود، وحكاه الإمام أحمد في كتابه الرد على الزنادقة الجهمية، وقال النحاس، أحسن ما قيل في المحكمات والتشابهات: أن المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو قوله تعالى: ( ولم يكن له كفوا أحد)، والمتشابهات : ما يرجع فيه إلى غيره، كقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعا) يرجع فيه إلى قوله تعالى: ( وإني لغفار لمن تاب)
المحكم والمتشابه في اللغة:
قال الزجاج:" المحكمات: أي أحكمت في الإبانة، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها لأنها ظاهرة بينة نحو ما أنبأنا الله من أقاصيص الأنبياء مما اعترف به أهل الكتاب وما أخبر الله من إنشاء الخلق.
والمتشابه أعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه.
وفي المفردات للأصفهاني: حكم: أصله منه منعالإصلاح، والمحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا المعنى.
والشِّبه والشَّبَه والشبيه حقيقتها المماثلة من جهة الكيفية ، والمتشابه من القرآن ما اشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبىء ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:
1-محكم على الإطلاق.
2-متشابه على الإطلاق.
3-محكم من وجه ومتشابه من وجه.
والمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: من جهة المعنى فقط ، من جهة اللفظ فقط، من جهتهما.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان:
-أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأب، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كالعين واليد.
-والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء)، وضرب لبسط الكلاك نحو: ( ليس كمثله شيء)، لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعله عوجا) تقديره الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا.
والمتشابه في المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذا كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنسه ما نحسه.
قال النحاس:أحسن ما قيل في المحكمات والتشابهات: أن المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابهات : ما يرجع فيه إلى غيره.
قال الأزهري:وَالْعرب تَقول: حَكَمْت وأَحْكمتُ وحكَّمت بِمَعْنى مَنَعْت ورددت، قَالَ أَبُو عُبيد: قَوْله: حَكِّم الْيَتِيم أَي امْنَعْه من الْفساد وأصلِحْه كَمَا تُصْلِح ولدَك وكما تَمنعهُ من الْفساد، قَالَ: وكلُّ مَنْ منعتَه من شَيْء فقد حَكّمْتَه وأَحْكَمْتَه.
ونضيف قول ابن الحصار: قسم الله تعالى آيات القرآن إلى محكم ومتشابه وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب لأن إليها يرد المتشابهات وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من خلقه في كل ما تعبدهم به من معرفة وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأما الذين في قلوبهم زيغ وشك وتتبع المشكلات فمراد الشارع أن يتقدموا إلى فهم المحكمات وتقديم الأمهات حتى إذا حصل البيقين لم تبل بما أشكل عليك ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التقدم إلى المشكلات وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع.
وبالجمع بين أقوال المفسرين وأهل اللغة نبحث في المراد بالمحكم والمتشابه ، نجد أن الأقوال ترجع إلى قول واحد: وأحسن ما قيل وإن كان أهل العلم يذكرون اختلافًا في التفرقة بين المحكم والمتشابه إلا أن هذا الخلاف في جملته إنما هو خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد إلا في بعض الصور الجزئية لكن من جهة العموم هم متفقون على أن المحكم هو ما كان واضح الدلالة ، هذا لا يُنازع فيه أحد البتة ، والمتشابه ما كان ذا معنيين أو أكثر وتدخله الاحتمالات ويمكن الترجيح.
كتاب الله تعالى جاء بيناً واضحاً يدرك العرب تماماً ومن بعدهم أنه لا التباس فيه، حتى الحروف المقطعة أوائل السور لم يطعن بها العربي العالم باللغة وأساليبها، وهي أصلاً من لغتهم، والأقوال في معنى المحكم والمتشابه من باب التنوع، فالمحكمة هي الأيات الأصول والعمد الآمرة الزاجرة الناسخة التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً عرفها الراسخون في العلم، والمتشابه هي ما تشابهت ألفاظها أو تناسقت معانيها كآيات القصص كل قصة تحكي مقصود السورة التي جاءت فيها ولا تضاد ما ذكر تعالى في غيرها من السور، ولها أوجه عدة ترجع بأصلها إلى الآيات المحكمة ليتبن معناها، فلا يُدرك الفرع إلا بمعرفة الأصل، وما استأثر الله تعالى بعلمه يفهمه العرب وإن لم يدركوا منهه وكيفيته كأسماء الله تعالى وأصافه، فهناك القدر المشترك الذي ندركه ونفهمه من معناها، ويبقى الغيب في كيفيتها كما قال الامام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وهذا القدر المشترك ندرك قليله يعننا على الفهم فنؤمن عن يقين، والغيبيات الآتية كما قال ابن عطية هي محكمات تأتي متى شاء الله لها يراها من يراها...والله أعلى وأعلم.