رسالة تفسيرية في أقوله تعالى "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) "الشمس
هذه الآيات جاءت بعد أن أقسم الله سبع مرات على سبع آيات كونية في مفتتح سورة الشمس فأقسم بالشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض وكان آخرها النفس ، في الآيات التي معنا
وفي الآيات عدة فوائد مستفادة نذكر منها بترتيب الآيات:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
1-دل التنكير في كلمة نفس دل على أنها اسم للجنس لنفس الإنسان المكلف
على أرجح الأقوال ولذلك شواهد من القرآن:
" عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)"الانفطار
2-عظم خلق النفس البشرية لما بها من أجهزة وأعضاء وتراكيب تبهر العقول وتدل عجيب صنع الله قال تعالى:
-"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)"التين
-" وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)"الذاريات
3-ما في الآية قد تكون موصولة فيكون القسم بالنفس ورب النفس
وقد تكون مصدرية فيكون القسم بالنفس وتسويتها
4-أن كل مولود يولد متهيأ للإسلام فقد خلق الله الناس على الفطرة سواء غير متفاوتين
-" الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)الانفطار
-"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ... (30)"الروم
-وفي الحديث من حديث أبي هريرة عن النبي
:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" متفق عليه
5-أن النفس في تسويتها لتلقي معاني الخير والشر واستقبال الإلهي للفجور والتقوى أعظم في خلقها من الجمادات قال تعالى :
-" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)"الأحزاب
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
6-أن التسوية سابقة على الإلهام لذا عطف بالفاء التي تفيد التعقيب ، لأن التسوية حاصلة من وقت تمام خلق الجنين ثم يكون الإلهام
7-أن القرآن ابتكر وأحيا مفردات لم تكن متداولة عند العرب لقلة خطور معناها على الأذهان قبل الإسلام ، ومنها كلمة (الإلهام) وهي تطلق على حدوث علم في النفس بدون تعلم أو تجربة أو تفكير ويختص بما كان من جهة الله ، فالفعل دقيق الدلالة على المعنى
8-أن الله هدى الخلق هداية عامة وهي هداية الدلالة والبيان فأرسل إليهم الرسل وأنزل إليهم الكتب وخلقهم على الفطرة التي يتبين معها الفجور من التقوى والطاعة من المعصية والرشاد من الغي وسبيل الشقاء وسبيل السعادة، قال تعالى :
" وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" البلد
، ثم هدى عباده هداية خاصة وهي هداية التوفيق والرشاد قال تعالى:
-" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)"العنكبوت
-" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)"محمد
9-مراعاة أحوال المخاطبين فقد قدم المولى عز وجل الفجور على التقوى لأن المخاطب في هذه الآيات هم المشركون وأكثر أعمالهم فجور
10-أن الله عدل لا يظلم أحدا فمن سبق في علمه أنه من أهل إحدى المنزلتين هيئه للعمل لها وجعل له قوة يصلح معها اكتساب التقوى او الفجور قال تعالى:
-"إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"
-وروى مسلم (أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون؟ أشيءٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أم شيءٌ ممّا يستقبلون ممّا أتاهم به نبيّهم وأكّدت به عليهم الحجّة؟
قال: ((بل شيءٌ قد قضي عليهم)) قال: ففيم نعمل؟ قال:
(من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيّئه لها، وتصديق ذلك في كتاب الله: "ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها")
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
11- ان جواب القسم جملة (قد أفلح...)
على أرجح الأقوال ، وتكون آية
"كذبت ثمود.." دليل على خيبة من دساها وحذفت اللام لطول ما بين المقسم والمقسم عليه فالأصل "لقد أفلح.."
12-الفلاح هو النجاح بحصول المطلوب وضده الخيبة تكون بالحرمان منه
13-أن أصل التزكية هي الزيادة وزكا الزرع إذ كثر ريعة
14-تزكية النفس تكون بتطيرها أولا ًمن دنس الشرك وذلك بالأيمان
"... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ..."(28)التوبة
، ثم بتطهيرها من المعاصي بالتقوى
".. فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)"النجم
، ثم بالعمل الصالح
" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15)"الأعلى
15-يجوز أن يكون ضمير الرفع في (زكاها ودساها) عائد على الله فيكون المعنى قد أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس دساها الله
، ويجوز أن يكون ضمير الرفع عائد على العبد نفسه فيكون المعنى قد افلح من زكى نفسه وقد خاب من دساها
16-أن تزكية العبد لنفسه من إيمان طاعة وترك لمعصية، فإنه بفضل من الله قال تعالى:
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (20) النور
17-تقدم الفلاح على الخيبة لمناسبة للتقوى في الآية قبله، ثم أردف بالخيبة لمناسبتها لطغوى ثمود بعدها
18-أن العرب كانت تبدل الحرف المضعف ياء فدسيت أصلها دسست ،ومثلها قصيت أصلها قصصت
19-أن أصل الفعل دس هو إدخال الشيء تحت لإخفائه والمعنى دنسها بالشرك والذنوب واستخفا بالمعاصي من الناس
20-أن محل الفلاح والخيبة إنما هو في الآخرة لا في الدنيا
21-أن كلا من المحسن المزكي لنفسه والمسيء الذي قد دسى نفسه محب لنفسه ينشد لها المصلحة والمنفعة ألا أن المفلح سعى للنفع والكمال الدائم بينما سعى الخائب للنفع والكمال العاجل والزائف
22-عناية القرآن بالمحسنات البديعية ومنها الطباق (الفجور والتقوى-الخيبة والفلاح-التزكية والتدسية)
23-أن من الخسران البخل بما تحب
24-الكرم من شيم المفلحون الناجون فالكريم يزكي ويبرز منزله على الأشراف للضيفان والبخيل يدس ويستر منزله وماله "وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"الحشر
----------------------------------------
المراجع
كتب
-التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور التونسي(ت:1393 هـ)
-الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت: 671هـ)
-ضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ،محمد الأمين الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ)
مواقع وبرامج
موقع جمهرة العلوم
المكتبة الشاملة
الدرر السنية الموسوعة الحديثية