تعديل وإضافة :
================
خرّج جميع الأقوال التالية ثمّ حرر المسائل التفسيرية المتعلقة بها:
1: قول زر بن حبيش: ( الظنين المتّهم، وقي قراءتكم {بضنين} والضنين البخيل).
اختلفوا في معنى ( ضنين ) على أقوال :
القول الأول : متهم ، وهو قول ابن عباس ،وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ،وزر بن حبيش والضحاك .
وقول زر بن حبيش أخرجه ابن جرير في تفسيره ( 3/261) من طرق عن سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش ، فبعضها بزيادة لفظ ( الغيب : القرآن ) والتي كانت من طريق عبد الرحمن ووكيع ،وبعضها ذكرت ( قراءتكم ) والتي من طريق عبد الرحمن ،ورواه الفراء في معاني القرآن من طريق قيس بن الربيع عن عاصم عن زر بلفظ ( أنتم تقرؤون ).
وعزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 277) إلى عبد بن حميد، ولم أجد في المنتخب لمسند عبد بن حميد .
وهذه القول مبني على قراءة الظاء ( بظنين ) ، بمعنى الظن وهو الاتهام ، وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي .[حجة القراءات،752/1].
وعلى هذه القراءة تكون معنى قوله (وماهو على الغيب ضنين) : أي ماهو على الوحي بمهتم ، فهو ليس متهم على القرآن بل هو أمين .
القول الثاني : البخيل ، وهو قول مجاهد ،وإبراهيم ،وزر بن حبيش .
وهذا القول مبني على قراءة الضاء ( بضنين ) ، بمعنى ببخيل ، وهي قراءة الباقون .
فيكون معنى الآية ( وماهو على الغيب بضنين ) : أي لَا يبخل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم آتَاهُ الله من الْعلم وَالْقُرْآن وَلَكِن يرشد وَيعلم وَيُؤَدِّي عَن الله جلّ وَعز.[حجة القراءات،752/1].
وله وجه في اللغة أيضا فالعرب تقول للرجل البخيل ضنين .
والضنين في اللغة مشتق من ضن ، فقال الخليل أحمد : الضِّنُّ والضِّنَّةُ والمَضَنِةُ، كلُّ ذلك من الإِمساكِ والبُخْل، تقول: رجلٌ ضَنينٌ.
وأيضا هذه القول مبني من جهة نصوص أخرى تؤيدها التي نفت أن يكون بخيل بما يخبر به من الأمور الغيبية ، فنفت أن يكون علمه من الشياطين ، فقال تعالى : ( وما تنزلت به الشياطين ) ، فنفت الكهانة عنه ، كما في قوله تعالى : ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ).
القول الثالث : الكتمان ، وهو قول ابن زيد و ذكره ابن الجوزي وابن عاشور .
وهذا القول مبني على علاقة اللزوم ، لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم ، واعتبروا أن ( بضنين ) مجاز مرسل .
القول الرابع :الضعيف ، وهو قول الفراء ، والأنباري .
وهذا القول مبني على توجيهه في اللغة ، فالعرب تقول على الرجل الضعيف ، هو ظنون ، فقلبت الواو ياء .
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328هـ): ويجوز أن يكون معناه «بضعيف»، من قول العرب: وصل فلان ظنون، أي ضعيف، فيكون الأصل فيه: وما هو على الغيب بظنون، فقلبوا الواو ياء، كما قالوا: ناقة طعوم وطعيم، للتي بين الغثة والسمينة؛ في حروف كثيرة يطول تعديدها وإحصاؤها. [كتاب الأضداد:15- 16] (م)
الدراسة والترجيح :
رجح البعض القول الأول محتجين على أن ( على ) تقوي هذا القول ، كما ذكر ذلك الفراء ،وقد ذكر ابن عاشور أن ( على ) استعلاء المجازي للظرفية أَيْ مَا هُوَ بِمُتَّهَمٍ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ وَهُوَ الْوَحْيُ أَنْ لَا يَكُونَ
كَمَا بَلَّغَهُ.
وذكر أيضا ابن عاشور أنه على القول الثاني ( بضنين ) ، يكون ( على ) بمعنى الباء ،أو لتضمين ( ضنين ) معنى حريص ، والحرص شدة البخل .
ولكن الصواب أن ( على ) متعلقة به على الوجهين ، كما ذكر ذلك العبكري في التبيان في إعراب القرآن .(2/586)
ورجح ابن جرير القول الثاني ، لأنه الذي عليه رسم المصحف ، ورجح أبو عبيدة والألوسي القول الأول بنفي التهمة ، لأن الكفرة كذبوه .
قال القرطبي: " واختاره أبو عبيدة؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه، ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم"
قال الألوسي: " والأول أشهر ورجحت هذه القراءة عليها بأنها أنسب بالمقام؛ لاتهام الكفرة له - صلى الله عليه وسلم -، ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه "
، ولكن الصواب أن القراءاتين صحيحتين لأنها ثابتة ، ومتواترة ، كما ذكر ذلك ابن عاشور .
وأما من جهة المعنى فيصح أن يقال أنه ليس بمتهم ، وأنه ليس ببخيل بعلمه ، واستعملت لفظة ( الضنين ) هنا على البخيل لفرق لطيف .
-فالفرق بين الضن والبخل: أن الضن أصله أن يكون بالعواري، والبخل بالهيئات ولهذا تقول هو ضنين بعلمه ولا يقال بخيل بعلمه لان العلم أشبه بالعارية منه بالهبة، وذلك أن الواهب إذا وهب شيئا خرج من ملكه فإذا أعار شيئا لم يخرج أن يكون (1) عالما به فأشبه العلم العارية فاستعمل فيه من اللفظ ما وضع لها ولهذا قال الله تعالى " وما هو على الغيب بضنين " (2) ولم يقل بخيل.( معجم الفروق اللغوية ،1/332).
وأما القول بأنه الكتمان ، فأيضا تحتمله المعنى فهو ليس بكاتم لما أنزله الله ، كما جاءت الأدلة الأخرى التي تثبت ذلك ، فقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .
وأما القول بأنه الضعيف ، فهذا القول ذكر الفراء أنه محتمل له .
فالراجح أن كل الأقوال تحتملها الآية إلا القول بأنه ضعيف فهو قول محتمل .
قال ابن جرير : وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية أن معناه: وما هو على الغيب بضعيف، ولكنه محتمِل له مطيق، ووجهه إلى قول العرب للرجل الضعيف: هو ظَنُون.( ابن جرير ، 262).
: قول أبي العالية الرياحي في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} قال: (قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم).
اختلفوا فيمن نزلت عليه الآية على أقوال :
القول الأول : هم اليهود والنصارى ، وهو قول الحسن ،وأبي العالية .
القول الثاني : أن الذين كفروا هم اليهود فكفروا بالإنجيل ثم ازدادوا كفرا بالقرآن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخرساني .
القول الثالث: من ارتد عموما بعد إيمانه بأنبياءه ، وهو قول ابن عباس .
القول الرابع : المنافقون ، وقول ابن زيد .
القول الخامس : أنهم أشخاص معينين ارتدوا عن الإسلام كالحارث بن سويد وغيرهم ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد والسدي ،وعكرمة .
وقول أبي العالية أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/579) وابن المنذر في تفسيره ( 1/282) وابن أبي حاتم (2/702)من طريق داود عن أبي العالية ، بصيغ مختلفة لكن ألفاظها متقاربة.
فقول أبي العالية مبني على نزولها في اليهود والنصارى ،ومبني على أدلة أخرى كقوله تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ، وأيضا في الحديث : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". رواه مسلم.
ومبنبي على سياق الآية التي قبلها حيث قال فيها : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق ) ، فالذين شهدوا أن الرسول حق في كتبهم من اليهود النصارى ، كما قال تعالى في موضع آخر من القرآن ، فقال تعالى : : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ) .
الدراسة والترجيح :
أنها عامة في جميع الكفار وبكل من يكفر بأنبياءه ، لأن الكفر عام يشمل كل أصناف الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم .
قال ابن منظور في لسان العرب : كفر : الكفر : نقيض الإيمان ، آمنا بالله وكفرنا بالطاغوت ؛ كفر بالله يكفر كفرا وكفورا وكفرانا . ويقال لأهل دار الحرب : قد كفروا أي عصوا وامتنعوا .
فكل الأقوال تحتملها الآية ، لكن القول الأول والثاني والرابع والخامس ، أولى بالصواب لدلالة السياق،حيث قال في الآيات التي تسبقها : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق )، فمن كفر من اليهود والنصارى بعد علمه برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يشمله الوعيد ، ومن كفر بعد إيمانه من المنافقين أيضا يشملهم الوعيد في الآية .
ونستطيع القول أن الذين شهدوا أن الرسول حق أيضا المنافقين وليس فقط اليهود والنصارى ، بدلالة قوله تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون )، ولأن المنافقين شهدوا أن الرسول حق في أول اسلامهم .
والمرتد يقتل كما جاء الحديث بذلك ، لكن من ارتد ثم تاب توبة صادقة ورجع إلى الإسلام ،قبل موته فهذا يقبل توبته ، كما قال تعالى في موضوع آخر : (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
ومما يؤيد أيضا عدم شمول القول الثالث ، هو أن سياق الآية ذكر فيها عن الإسلام فهو عن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .
وأما القول الخامس ، يكون من بعض الذين أنزل بسببهم هذه الآية ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
: قول سعيد بن جبير في الصاحب بالجنب قال: (الرفيق في السفر).
اختلفوا فيه على أقوال :
القول الأول :رفيق الرجل في السفر ، وهو قول قتادة ومجاهد ، والضحاك، وأبي عبيدة ، والسدي
القول الثاني :امرأة الرجل التي تكون بجنبه ،وهو قول عبد الله وعلي ،عبد الرحمن بن أبي ليلى ،وإبراهيم .
القول الثالث: الصاحب الملازم الصالح ، وهو قول ابن عباس ، وابن زيد ، وعلي وعبد الله ، وسعيد بن جبير ، وابن جريج.
فقول سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (8/341) وعبد الرزاق في تفسيره ( 1/456)، وابن المنذر في تفسيره (2/703) من طريق أبي بكير عن سعيد بن جبير، كلهم بنفس اللفظ إلا ابن المنذر بلفظ (الرفيق الصالح) .
وأبي بكير قال عنه النسائي ليس بالقوي ، وقال عنه مرة أنه ضعيف .[ سير أعلام النبلاء ،246/9].
وقول سعيد بن الجبير مبني على بعض ما يدخل فيه لفظة ( الصاحب بالجنب ) ، ومبني على الأحاديث التي تحث على مكانة الصحبة في السفر .
كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب" (أبو داود 2602, والترمذي 1673 وقال: حديث حسن).
الدراسة والترجيح :
أن كل هذه الأقوال صحيحة ، وكلها أمثلة على الصاحب بالجنب ،وتحتملها الآية ، فالرفيق بالسفر والحضر والمرأة كلهم يصلح أن يطلق عليهم صاحب بالجنب ،ففي لسان العرب : الجَنْبُ والجَنَبةُ والجانِبُ: شِقُّ الإِنْسانِ وَغَيْرِهِ. تَقُولُ: قعَدْتُ إِلَى جَنْب فُلَانٍ وَإِلَى جانِبه، بِمَعْنًى، وَالْجَمْعُ جُنُوبٌ وجَوانِبُ وجَنائبُ، الأَخيرة نَادِرَةٌ.[ لسان العرب ، 1/257].
فالذي يكون بجانبك يكون له حق الإحسان إليه ، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) صحه الألباني ، ولقد قال الله تعالى عن حق المرأة : ( وعاشروهن بالمعروف ) ، وأما في مكانة الرفيق في السفر ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الناس يعلمونَ من الوحدة ما أعلم ما سار راكبٌ بليلٍ وحدَه)).
: قول سعيد بن المسيّب في قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: (إنما ذاك في الصلاة).
اختلفوا في المراد بالدعاء على أقوال :
القول الأول : الصلاة ، وقول قول إبراهيم وسعيد بن المسيب وعامر وغيرهم .
وقول سعيد بن المسيب أخرجه ابن جرير في تفسيره ( 11/367) عن عبد الله بن كثير عن مجاهد .
ولم أجد قول سعيد بن المسيب من هذا الطريق في تفسير مجاهد ، وابن جريج الذي جاء عن طريقه هذا الحديث هو ثقة في نفسه لكنه يدلس ، كما ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء [326/6]
وهذا القول مبني على أنها من الدعاء ، فالصلاة كلها دعاء ، وفي اللغة الصلاة دعاء ، كما ذكر ذلك ابن قتيبة في غريب الحديث وغيرهم ، لذلك يقول الله تعالى : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) أي بدعائه ، وهي من أنواع العبادة أيضا ، وقد سمى الله الدعاء عبادة ، في قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي).
وأيضا مبني على أن الصلاة من أركان الإسلام ، وعَن ابن عُمَر رَضِيَ اللَّه عنْهَما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ مُتفقٌ عليه.
فيكون النهي في قوله ( ولا تطرد ) نهي عن ابعاد من معه عمود هذا الدين وهو الصلاة .
ففي الحديث الذي رواه مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبدالله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْن الرَّجل وَبَيْن الشِّرْكِ وَالكُفر ترْكُ الصَّلاةِ)).
ولكن اختلفوا في الصلاة المقصودة على أقوال :
الأول :الصلوات الخمسة المكتوبة ، وهو قول ابن عباس ،ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ،وعبد الرحمن بن أبي عمرة ،وإبراهيم .
الثاني :صلاة الصبح والعصر ، وهو قول مجاهد .
الثالث: العشي صلاة العشاء ، وهو قول عمرو بن شعيب .
القول الثاني :ذكر الله ، وهو قول إبراهيم .
وهذا القول مبني على الدعاء من معناه الحقيقي وهو الذكر .
فقال تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) ، فهنا نجد أنه بين معنى الذكر في دعاء المسألة ، في قوله : ( ربنا آتنا في الدنيا ..) ، وفي قوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعوا وعلى جنوبهم ) هنا بين الذكر في كل الأحوال ، وهو دعاء الله في كل الأحوال ، ويؤيد هذه الآية قول الله تعالى : (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) فهنا ذكر الدعاء في حال مضاجعهم .
القول الثالث: قراءة القرآن وتعلمه ، وقول أبي جعفر .
وهذا القول مبني على أنها مما تتضمنه الدعاء من الذكر ، وبعض أنواع الذكر وهو قراءة القرآن ، لأن الذكر يكون بالدعاء وبقراءة القرآن ، ونحوه ، ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وقد سمى الله القرآن ذكر ، فقال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٤٤ النحل﴾.
القول الرابع :عبادة الله ، وهو قول ابن عباس ، و الضحاك.
وهذا مبني على لازم القول ، وعلى الأدلة التي تذكر أن الدعاء عبادة ، كما قال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فسمى الله هنا الدعاء عبادة ، وأيضا جاء في الحديث : ( الدعاء هو العبادة ) .
الدراسة والترجيح :
وكل هذه الأقوال تحتملها الآية ، فالذين يدعون ربهم يكون بالذكر أو الصلاة أو قراءة القرآن ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ، وقال في سياق آخر أيضا يتوعد من منع ذكر الله ، فقال : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، وأثنى الله على الذين يذكرونه ، فقال : (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ﴾ .
وقد ذكر الله الذكر في سياق الصلاة ، فقال تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} ، فالصلاة كلها ذكر لله ، كما قال تعالى أيضا (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ) ، فالدعاء عبادة في ذاتها ، والذكر وتلاوة القرآن والصلاة من أنواع العبادات .
: قول إبراهيم النخعي في تفسير المراد بسوء الحساب: ( هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله، لا يغفر له منه شيء).
اختلفوا في المراد بسوء الحساب على أقوال :
القول الأول :مناقشة الأعمال وهو قول أبو الجوزاء ، وابن زيد .
وهذا القول مأخوذ من لازم الحساب ، لأنه جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نوقش الحساب عذب قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض).
القول الثاني : مؤاخذتهم على جميع ذنوبهم فلا يغفر منه شيء ، وهو قول إبراهيم ومقاتل وحوشب .
فهنا القول مبني على بعض لازم معنى السوء في اللغة ، فالسوء تتضمن معنى القبح في اللغة ،ففي تهذيب اللغة : قَالَ اللَّيْث: ساءَ يَسُوء: فِعلٌ لَازم ومُجاوزٌ، يُقَال: سَاءَ الشيءُ يَسُوء فَهُوَ سَيّءٌ: إِذا قَبحُ.)[ تهذيب اللغة ،13/89)،فلما أضيفت إلى الحساب كان الكلام عن أقبح أنواع التعامل في الحساب ، لأن الحساب هو إحصاء ماعلى العبد وماله ، كما ذكر ذلك البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات .
القول الثالث :لا تقبل منهم حسنة ولا يتجاوز لهم عن سيئة ، وهو قول ذكره الماوردي .
وهذا القول مبني على أن الكفر يحبط الأعمال ، فلا ينتفع الكافر بحسناته ولا يتجاوز عن سيئاته ، كما قال تعالى : ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)، وقال أيضا : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )
ومبني على بعض لازم معنى لفظة ( سوء) في اللغة أيضا ، وهو القبح كما ذكرنا سابقا .
ومن جهة أخرى مبني على أن لفظة سوء جاءت نكرة مضافة إلى معرفة ،فتفيد العموم ، فتشمل كل أنواع القبح .
القول الرابع : وهو ما أفضى إليه حسابهم من السوء وهو العقاب ، وهو قول ذكره الماوردي .
وهذا القول مبني على بعض لازم الإضافة إلى الحساب ، فقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نوقش الحساب عذب قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض)، فكان هذا القول على بعض لازم الحساب وهو العقاب ، أي أنه إذا حصل النقاش على الحساب كان العقاب ، لأن هناك نوع آخر من الحساب وهو حساب المؤمن وهو تقريره بذنوبه ، مع سترها له في الدنيا ومغفرته له .
ففي الحديث عن ابن عمَر رضي اللَّه عنهما قالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقول: "يُدْنَى المُؤْمِنُ يَومَ القِيَامَةِ مِنُ رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيهِ، فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِه، فيقولُ: أَتَعرفُ ذنبَ كَذا؟ أَتَعرفُ ذَنبَ كَذَا؟ فيقول: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَد سَتَرتُهَا عَلَيكَ في الدُّنيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فَيُعطَى صَحِيفَةَ حسَنَاته "متفقٌ عَلَيهِ .
وقد قال الله تعالى أيضا في محكم التنزيل : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
القول الخامس : وهو التوبيخ والتقريع عند الحساب ، وهو قول ذكره ابن الجوزي والماوردي .
وهذا القول مبني على أنها من أساليب القرآن .
وهذا الحديث أخرجه سعيد بن منصور من طريق خلف بن خليفة عن رجل( مبهم ) عن إبراهيم ، وأخرجه ابن جرير في تفسيره (13/506) من طريق أبي عثمان والحجاج عن فرقد عن إبراهيم ، وأخرجه ابن جرير في تفسيره ( 13/508)و الواحدي في تفسيره ( 3/13) من طريق حماد بن سلمة عن فرقد عن إبراهيم ، وأخرجه أحمد بن مروان في المجالسة وجواهر العلم (1/422)عن خلف بن خليفة عن إبراهيم بلفظ آخر فقال : (قَالَ: يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِالْحَقِّ.)، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 6/1240)عن أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بلفظ ( يؤاخذ ) و( لايترك ) ، وأخرجه البغدادي في تاريخ بغداد ( 3/74) من طريق الجراح عن فرقد عن إبراهيم .
-فرقد صدوق غير أنه لين الحديث كثير الخطأ ( التقريب ، 2/108)، وقال عنه النسائي : ليس بثقة ،وقال البخاري في حديث : مناكير ، وضعفه ابن سعد ، ويعقوب بن شيبة ، وغيرهم .[تهذيب التهذيب ، 8/262].
وأما خلف بن خليفة فهو قال عنه الذهبي أنه لا بأس به .[سير أعلام النبلاء ،342/8]
الدراسة والترجيح :
أن هذه الأقوال كلها صحيحة للكافر فلا يغفر له شيء عند الحساب ، أما المؤمن إن حوسب فإنه هناك من الذنوب التي يقرره الله بها ثم يغفرها له ، و هناك من الذنوب التي يعذب عليها ثم يخرج من النار إلى الجنة ، إلا الشرك فإن الله لا يغفر صاحبها ، كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )، وهي أيضا من أساليب القرآن التي فيها التقريع والتوبيخ ، ومثله قوله تعالى : ( سوء العذاب ) (وساءت مصيرا) ، الخ .