المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فداء حسين
خرّج جميع الأقوال التالية ثمّ حرر المسائل التفسيرية المتعلقة بها:
1: قول زر بن حبيش: ( الظنين المتّهم، وقي قراءتكم {بضنين} والضنين البخيل).
تخريج الأثر:
رواه الطبري عن ابن حميد, عن مهران, عن سفيان, عن عاصم, عن زر قال:(في قراءتنا: بمتهم, ومن قرأها {بضنين}, يقول ببخيل).
وأخرجه عبد بن حميد عن زر كما في الدر المنثور للسيوطي.
ورواه الفراء عن قيس بن الربيع عن عاصم ابن أبي النجود, عن زر بن حبيش قال: (أنتم تقرءون: (بضنين) ببخيل، ونحن نقرأ (بظنين) بمتّهم).
[مخرج الأثر هو عاصم بن أبي النجود]
توجيه القول:
هذا القول موافق لما جاء في الاية من قراءات تخص هذا اللفظ, فقد قرأت{بظنين{ وكذلك قرأت {بضنين} بالضاد.
فقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروَح عن يعقوب بالضاد كما رسمت في المصاحف, وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء.
قال الزجاج: (فمن قرأ (بظنين) فمعناه ما هو على الغيب بمتهم وهو الثقة فيما أداه عن اللّه جلّ وعزّ، يقال ظننت زيدا في معنى اتهمت زيدا، ومن قرأ {بضنين} فمعناه ما هو على الغيب ببخيل، أي هو -صلى الله عليه وسلم- يؤدي عن الله ويعلّم كتاب اللّه).
والقرءاتان صحيحتان متواترتان, وإن صحتا عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا تفضل احداهما على الأخرى, بل ينزل كل معنى منهما بمنزلة الآية المستقلة.
الأقوال الأخرى في الاية:
وقد ذكر الطبري قولا نسبه لبعض علماء اللغة دون تحديد فقال في معنى (ظنين) اي ضعيف, فيكون معنى الآية: وما هو على الغيب بضعيف، ثم علق عليه بقوله:(ولكنه محتمِل له مطيق، ووجهه إلى قول العرب للرجل الضعيف: هو ظَنُون). [هو قول الفراء]
الراجح:
اختلاف القراءات في الآية هو من سبيل اختلاف التنوع الذي يكمل بعضه بعضا, فتزيد المعاني وضوحا واتساعا في الآية.
فكون النبي -عليه الصلاة والسلام- أمين من في السماء غير متهم على الوحي يلزم منه عدم كتمانه من أمر الوحي شيئا, ويلزم منه كذلك أنه لم يخص بالوحي أحد دون أحد.
فلا تعارض البتة بين المعنيين, فقد مدحه الله سبحانه وتعالى بقوله:{وصدق الله ورسوله}, وقال:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.
وقد جاء في القرآن بعض الآيات التي فيها وعيد شديد له في حال الكتمان, وهذه الآيات بذاتها من أعظم البراهين على كمال بلاغه-عليه الصلاة والسلام- وعدم كتمانه لشيء, إذ لو كان كاتما شيئا لكتمها, منها قوله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فلما لم يحصل هذا عُلم الصدق التام فيما أخبر به عن ربه, وقال تعالى:{وإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا }, فشهد الله -جل وعلا-لرسوله بالثبات على الرسالة بتثبيت الله له.
ومن أعظم الأدلة على كمال الصدق وكمال البلاغ قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
وهذا كله يتطلب قوة في البلاغ وقوة في الصبر, على ما جاء من معنى الضعيف, لو صح ما ذكره الطبري .
2: قول أبي العالية الرياحي في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} قال: (قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم).
تخريج الأثر:
رواه الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم وابن المنذر بطرق عن داود :
فرواه الطبري عن ابن المثنى عن ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية....ثم ذكره.
ورواه عن عبد الحميد بن بيان السُّكري عن ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية ...ثم ذكر نحوا منه.
ورواه عن ابن المثنى عن عبد الأعلى عن داود عنه وزاد:(ألا ترى أنهم يقول:{وأولئك هم الضالون}.
ورواه ابن ابي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن أبي خالد عن داود قال سألت أبا العالية....ثم ذكره.
ورواه ابن المنذر عن زكريا عن محمد بن حيوية عن مسدد عن يزيد بن زريع عن داود قال: سالت أبا العالية...
[مخرج الأثر هو داود بن أبي هند، وكل الروايات تدور حوله؛ فإذا اختلفت ألفاظها فيكفي ذكر الراوي عنه، دون ذكر كامل الإسناد]
توجيه قول أبي العالية:
قوله بأنهم (اليهود والنصارى) لأن سياق الآيات في الحديث عنهم.
وقوله :(ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم) حتى يزيل ما قد يتوهم من التعارض بين هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة التي فيها التصريح بقبول توبة العاصي والكافر ما لم يغرغر.
فتوبة الكافر لا تقبل مادام مصرا على كفره.
نذكر ما ورد في الآية من أقوال أخرى في المراد بقوله:{إن الذين كفروا بعد إيمانهم}:
القول الأول: قيل نزلت في جميع الكفار، فمع إقرارهم بأصل توحيد الربوبية إلا إنهم أشركوا معه غيره في العبودية.
القول الثاني: وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام، فلما رجع الحارث أقاموا على كفرهم بمكة.
[الصحيح أن قصة الحارث رويت عند قول الله تعالى: {كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم ...}، إلى قوله تعالى:{إلا الذين تابوا وأصلحوا ...} الآيات.
فالحارث ممن ارتد، ثم أسلم بعد ذلك.
والآية محل الدراسة في قوم كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا]
أما ما ورد من أقوال في المراد بقوله تعالى:{لن تقبل توبتهم}:
القول الأول: قيل المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت، فيقيد هذا القول بقوله تعالى:{وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}. قاله الحسن، وقتادة، وعَطاء الخراسانِي، والسدي.
وهذا يعارضه ظاهر الآية ولقوله في ختامها:{وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}. [وضحي وجه المعارضة]
القول الثاني: قيل المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأن الكفر أحبطها، فهؤلاء آمنوا ثم ارتدوا, فما كانوا عليه من أعمال قبل الردة لن يقبل منهم. [عزو القول؟]
القول الثالث: قيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر آخر. وهذا بعيد, ولعله تفسير بالمعنى اللغوي للتوبة وهو الرجوع, والمتبادر إلى الأذهان عند سماع الآية هو المعنى الشرعي, والأصل حمل اللفظ عليه ما لم تأت قرينة صارفة. [عزو القول؟]
القول الرابع: قيل فيه إن الكلام عن المنافقين, فالقصد أن توبتهم التي أظهروها لن تقبل منهم لأن الكفر كائن في ضمائرهم. قاله ابن عباس
القول الخامس: قيل فيه إن معنى الآية: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر. قاله مجاهد.
ولعله بعيد لأن الله-جل وعلا- قال بعدها:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}, ولأن من مات على الكفر لم تحصل منه توبة, وقد قال الله في هذه الاية:{لن تقبل توبتهم}.
القول السادس: قال بعض أهل العلم إن المراد عدم توفيق الله لهم للتوبة بسبب ما هم فيه من الضلال, وهذا تفسير باللازم, لأن من لم يوفق للتوبة لن تقبل توبته بطبيعة الحال. [عزو القول؟]
وهذا القول يرجع إلى قول من قال بان المراد من مات على كفره.
الترجيح:
نقول-والله أعلم- الآية التي معنا من الآيات التي تعددت فيها الأقوال واختلفت, ومن نظر في الأقوال الواردة في تفسيرها يلمح القاسم المشترك بينها, وهو رد الآية إلى غيرها من الآيات المحكمات, فكأنهم-والله اعلم- رأوها من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم ليتضح تفسيره, وهذا أسلوب أهل العلم في فهم النصوص كما مدحهم الله تعالى في قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وحتى لا يكونوا ممن سمى الله في قوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.
فالأقوال في نفسها صحيحة, وسياق الآيات ولاحقها ذكرت توبة بعض أصناف الناس مع الحكم عليها:
الصنف الأول: من تاب وأصلح فهؤلاء يتوب الله عليهم كما قال تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الصنف الثاني: من مات على الكفر ولم يتب, وهم من قال تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ}.
فهذان القسمان لا إشكال فيهما, وبقيت الآية التي بين أيدينا, ولعل أقرب الأقوال-والله أعلم- قول أبي العالية : هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشرك، ولم يتوبوا من الشرك.
فهم على اعتقاد فاسد بصلاح حالهم وقبول أعمالهم, وعندهم من العلم ما يفرقون به بين السيئة والحسنة, فمن أذنب منهم رجع وتاب, لكن الله لا يقبل توبته هذه لإقامته على غير الدين الذي ارتضاه لعباده, فلا تقبل التوبة حتى يتوب من كفره, لذا وصفهم الله بقوله:{وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}, وقال سبحانه في الآيات السابقة لهذه الآية:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فعمله مردود عليه غير مقبول, وتوبته كذلك-وهي من عمله- مردودة عليه غير مقبولة مادام متلبسا بالكفر.
وقد اثبت الله للكافرين أعمالا يحسبونها صالحة فقال عز وجل:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}, وقال:{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} وقال:{وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.
فتكون الآية عامة فيمن هذا وصفه سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم, كما جاء في لفظ لأبي العالية (المجوسي).
3: قول سعيد بن جبير في الصاحب بالجنب قال: (الرفيق في السفر).
تخريج الأثر:
رواه الطبري عن ابن بشار, عن يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير أنه سمع سعيد بن جبير يقول:"والصاحب بالجنب"، الرفيق في السفر.
ورواه الطبري بلفظ: (الرفيق الصالح). رواه عن المثنى عن أبي دكين عن سفيان، عن أبي بكيرعنه, ورواه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم, عن سفيان, عن ابي بكير عنه, وذكره البيهقي في شعب الإيمان دون إسناد.
[مخرج الأثر هو أبو بكير، وإذا اختلف اللفظ يُذكر الراوي الذي يدور عليه الاختلاف]
توجيه القول:
قال الأخفش: وأما {الصّاحب بالجنب} فمعناه: "هو الذي بجنبك"، كما تقول "فلان بجنبي" و"إلى جنبي".
فلعل سعيد بن جبير خص السفر من باب التمثيل, ولقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقد كانا في سفر, وقال:{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} وقد كانا في سفر فسمى رفقة السفر صحبة.
وقد يستدل على إرادة التمثيل بما جاء عنه أيضا من قوله في معنى الاية:(هو الرفيق الصالح).
ولعله خصه لأن القرب في صحبة السفر أبين, والتوصية في هذا المقام الناس لها أحوج , لأن السفر يسفر عن أخلاق الرجال فلعله يرى ما لا يعجبه من رفيقه لطول المدة فيحجب عنه إحسانه وحسن صحبته فاحتيج للتنبيه.
وقد جاءت أقوال أخرى في الآية:
القول الأول: قيل المراد به المرأة, وهو قول علي وابن مسعود وابن ابي ليلى ووجه آخر لسعيد, وغيرهم.
القول الثاني: قيل المراد به الجليس في الحضر والرفيق في السفر. قاله زيد ابن أسلم.
القول الثالث: قيل إن المراد به من يصاحبك ويلزمك رجاء نفعك, قاله ابن جريج.
الراجح:
لا تعارض بين الأقوال فيمكن حمل الآية على هذه المعاني بما دل عليه ظاهرها وهو الملازم القريبز
فقد سمى الله سبحانه وتعالى-الزوجة (صاحبة) فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}, وقال:{أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ }.
والزوجة هي أقرب الناس للرجل, حتى وصف سبحانه العلاقة بينهما بقوله:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} فليس بعد هذا القرب قرب.
والرفيق في السفر سماه الله صاحب وسمى رفقة السفر صحبة-كما أسلفنا- فقال:{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } وقد كانا في سفر, وقال:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقد كانا في سفر.
كذلك الجليس في الحضر قد يكون الصاحب الذي تعلم معك العلم أو علمك, أو تعلم معك حرفة أو علمك غياها, أو وقف بجانبك يرشدك فيما احتجت إليه فيما يخص منافع الدين والدنيا, وقد قال تعالى:{لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى}وطول الملازمة تقتضي حسن اختيار الصحبة, كما قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, وقال عليه الصلاة والسلام-فيما رواه ابو داود والترمذي:(لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)وهذا هو الرفيق المؤمن.
وقد قال تعالى واصفا نبيه:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ} وقال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} تنبيها لهم على معرفتهم إياه وبما يتحلى به من مكارم الأخلاق والمروءة, فهذا مما تقتضيه الصحبة.
وتصدق الآية كذلك على من لازمك رجاء نفعك, فحال مثل هذا شدة الملاصقة للشخص حتى ينال بغيته منه, كما وصف تعالى السجينان مع يوسف الذان لازماه لمنفعة السؤال عن تأويل الرؤى فقال:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
فالآية عامة أوصت بالإحسان إلى كل من كان هذا وصفه بحسب درجة المصاحبة له.
4: قول سعيد بن المسيّب في قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: (إنما ذاك في الصلاة).
تخريج الأثر:
أخرجه الطبري عن القاسم عن الحسين عن حجاج ، عن ابن جريج ، عبد الله بن كثيرعن مجاهد قال : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص ، فقال سعيد : ما أسرع بهم إلى هذا المجلس ! قال مجاهد : فقلت يتأولون ما قال الله - تعالى ذكره - . قال : وما قال ؟ قلت : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " قال : وفي هذا ذا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن ، إنما ذاك في الصلاة .
توجيه قول سعيد بن المسيب:
معنى الصلاة في اللغة: الدعاء, قال النحاس: الصلاة: الدعاء فيها معروف قال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا.......يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فا اغتمضي.......نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقد جاء تسمية صلاة الفجر بصلاة الغداة في قوله عليه الصلاة والسلام:(...من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع ووقف معنا حتى نفيض...).
قال الأزهري : وأما العشي فقال أبو الهيثم : إذا زالت الشمس دعي ذلك الوقت العشي...
وقال : وصلاتا العشي هما الظهر والعصر . وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي وأكبر ظني أنها العصر ، وساقه ابن الأثير فقال : صلى بنا إحدى صلاتي العشي ، فسلم من اثنتين يريد صلاة الظهر أو العصر .
وقال : يقع العشي على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها ، كل ذلك عشي ، فإذا غابت الشمس فهو العشاء ، وقيل : العشي من زوال الشمس إلى الصباح ...
ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء أطلق اسم الدعاء عليها من باب تسمية الشيء ببعض ما يتضمنه, ولأن (الدعاء هو العبادة) كما قال-عليه الصلاة والسلام- والصلاة أفضل العبادات, وهي عماد الدين.
كما أنها تشتمل على جميع أنواع الدعاء من عبادة وثناء ومسألة وذكر وقراءة قرآن, فيعد قوله قولا عاما شمل ما جاء في معنى الآية من أقوال.
والأقوال الأخرى التي وردت في معنى الآية هي:
القول الأول: قال أصحاب هذا القول بأن المراد صلاتي الصبح والعصر, قاله مجاهد وقتادة , وذكر مقاتل بأن الصلاة يوما كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل أن تفرض خمسا!
القول الثاني: هو ذكر الله, قاله إبراهيم النخعي.
القول الثالث: المراد ب(يدعون) عبادة الله, جاء هذا عن الضحاك.
القول الرابع: إن المراد ب(ايدعون) تعلم القرآن غدوة وعشية, قاله ابوجعفر.
القول الخامس: إن المقصود دعاء الله بالتوحيد, ولعلهم استندوا لقرينة قوله تعالى في نفس الاية:{يريدون وجهه}. قاله الزجاج.
القول السادس: وهو قول ضعيف جاء عن بعض القصاصين فقالوا إن المراد هو الاجتماع إليهم لسماع ما يلقون من مواعظ!!
الراجح:
الأقوال لا تعارض بينها-خلا الأخير لضعفه- فجميع ما ذكر فيها تصدق علبه الآية, فقد جاء لفظ الدعاء بمعنى التعبد والعبادة، قال تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا }, وقال:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}, وقال:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}, وقال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
وجاء لفظ الدعاء بمعنى الاستعانة وهي قسيمة الدعاء, فقد قال تعالى:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون}.
وجاء بمعنى الدعاء :{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
وجاء بمعنى توحيد الله في قوله تعالى:{قُلِ ٱدعُوا ٱللَّهَ أَوِ ٱدعُوا ٱلرَّحمَـٰنَ}.
وجميع هذه الأمور المذكورة لا تكون إلا بتوحيد الله -سبحانه- ولا تفعل إلا لإرادة وجهه الكريم, فلا انفكاك بين الدعاء بأنواعه وبين التوحيد.
والدعاء قسمان:
الأول: دعاء عبادة, ومنه دعاء الثناء.
الثاني: دعاء مسألة
والآية لم تعين أحدهما فتبقى على عمومها, لأن إخراج أي منهما يحتاج إلى دليل ولا دليل.
وقد قال عليه الصلاة والسلام-فيما رواه الترمذي:(دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته) فسماه النبي-عليه الصلاة والسلام-دعاء وفيه ما فيه من التوحيد والثناء والطلب .
أما من قال بأن المراد قراءة القرآن, فالقرآن من أفضل الذكر, وهو يشتمل على جميع أنواع الدعاء, وقد قال السلف:(تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلام) .
وحتى الاجتماع إلى دروس العلم والدعوة إلى الله تدخل في معنى الآية, لكن ليس على مراد القصاصين.
وقد خصت هذه الأوقات بالذكر في الاية لانشغال الناس فيها عادة, فهي أوقات أعمالهم وانصرافم إليها, ويأتي العصر وقد أنهكوا, فمن ذكر الله فيها فحري به أن يذكره في وقت الراحة والفراغ من باب أولى.
5: قول إبراهيم النخعي في تفسير المراد بسوء الحساب: ( هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله، لا يغفر له منه شيء).
تخريج الأثر:
رواه عبدالله بن وهب المصري عن عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن فرقد عن إبراهيم قال: {ويخافون سوء الحساب}، أن يحاسب بذنبه، ثم لا يغفر له).
ورواه الطبري عن عفان عن حماد، عن فرقد، عن إبراهيم.
ورواه عن ابن سمان القزازعن ابي عاصم، عن الحجاج، عن فرقد عن إبراهيم وذكره.
توجيه القول:
لعله تأول ما جاء عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام:(قال من نوقش الحساب عذب) فقالت له عائشة-رضي الله عنها- راوية الحديث-:(أليس يقول الله تعالى:{فسوف يحاسب حسابا يسيرا}؟ قال:( ذلك العرض).
وما رواه الإمام أحمد لما سألته عائشة-رضي الله عنها-عن الحساب اليسير فقال عليه الصلاة والسلام:(الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها أنه من نوقش الحساب هلك), وهذا الحديث فيه إشارة لما قاله النخعي, فالحديث ذكر أن الحساب اليسير التجاوز عن الذنوب بعد عرضها, هذا يعني أن من عرضت له ذنوبه ولم يتجاوز له عنها: هلك.
وكلمة: "نوقش" تدل على المناقشة, وهي الأخذ والرد في الشيء والبحث على دقيقه وجليله, وقد جاء في النهاية في الحديث والأثر: ( وأصْل المُناقَشة : من نَقَش الشَّوْكة إذا اسْتَخْرجَها من جِسْمه وقد نَقَشَها وانْتَقَشَها ومنه حديث أبي هريرة [وإذا شيكَ فلا انْتَقَش]).
الأقوال الأخرى التي وردت في المراد ب(سوء الحساب):
ذكر ابن الجوزي ثلاثة اقوال أولها قول النخعي, ثم ذكر :
القول الثاني: أن لا تقبل منهم حسنة ولا يتجاوز لهم عن سيئة. [هو قول الزجاج]
القول الثالث: التوبيخ والتقريع عند الحساب.
الراجح:
ما ذكره ابن الجوزيمن أقوال يكمل بعضها بعضا, فنقاش الحساب لا بد أن يكون معه من التوبيخ والتقريع ما يلائم الحال, وسياق الآية في الكفار لقوله تعالى:{ومأواهم جهنم وبئس المهاد } فهؤلاء ولا بد لا تقبل منهم حسنة البتة.
أما عصاة الموحدين فيقبل منهم ما كان خالصا وصوابا, والذين وجبت لهم النار منهم ممن نوقش الحساب : أولئك طغت سيئاتهم على حسانتهم فهي بحكم المعدومة حتى يتم تطهيرهم في النار ليخلصوا إلى الجنة في نهاية المطاف.
لذا فقول النخعي لا يخرج عن هذه الأقوال بل يجمعها, فلا تعارض بينها.
وقد قال ابن كثير:(أي : يناقشون على النقير والقطمير ، والجليل والحقير ، ومن نوقش الحساب عذب; ولهذا قال : { ومأواهم جهنم وبئس المهاد }).
[أحسنتِ، بارك الله فيكِ، ويجدر الإشارة كذلك إلى الموضع الآخر الذي ذُكِر فيه "سوء الحساب" في نفس السورة، في سياق خوف المؤمنين من سوء الحساب]
|