أكتب رسالة تفسيرية.........بالأسلوب البياني.
قوله تعالى :( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ*** وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : 157- 158]
القراءات:
في قوله تعالى " مُتُّمْ "؛ في الآتين قراءتان:
مُتم : بضم الميم وهي قراءة أبي عمرو البصري؛ وابن كثير و ابن عامر و عاصم وأبي جعفر ويعقوب
مِتم: بكسر الميم وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي و خلف العاشر
وهما لغتان ومعناهما واحد .
وضم الميم لغة سفلى مضر يقولون: مات يموت مُت .
لأنه من باب (فَعَلَ) بفتح العين من ذوات الواو (مَوَتَ). وكل ما كان كذلك فقياسه إذا ما أسند إلى تاء المتكلم وأخواتها أن تُضمَّ فاؤه ... فيقال في قامَ وقالَ وطالَ و دام : قُمتُ وقُلتُ وطُلتُ ودُمتُ.
من ضمه فهو من مات يموت ، كقولنا : قال يقول قــُـلت بضم القاف ، وكان يكون .كُنت بضم الكاف؛ و دام يدوم دُمْت
وكسر الميم لغة أهل الحجاز يقولون مات يمات مِتُ
لأنه من باب ( فعِل) بكسر العين (مَوِتَ). ك (خوِفَ ) وعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء وإحدى أخواتها: مِتُّ بالكسر ليس إلا كقولنا : خاف يخاف خِفت ؛ وهاب يهاب هِبت؛ ونمام ينام نِمت..
تجمعون/ يجمعون
قرأ الجمهور : ( تجمعون ) بالتاء لقوله : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } ، وانفرد حفص من بين العشرة " يجمعون " ؛ بالياء على الخبر عن الغالبين .
فمن قرأ بالتاء رده على المخاطبة ؛ والمعنى والمغفرة والرحمة خير مما تجمعون أيها المؤمنون من المال الذي يمنع من الجهاد .
.ومن قرأ بالياء رده إلى المنافقين أو إلى جميع الناس..والمعنى والمغفرة والرحمة خير مما يجمع المنافقون أو الناس من حطام الدنيا.
تفسير الآيات
بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين والمنافقين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ؛ ثم أردفه بوعظ المؤمنين ونهيهم أن يكونوا مثل أولئك الكفار والمنافقين في اعتقادهم أن القتال والضرب في الأرض يقطع الآجال ؛ وهذا قول منهم لا يكونوا إلا من لا يؤمن بالقدر والأجل المحتوم ؛ وذكر ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم . ثم أتبع في هذه الآيات ما يدل على النهى عن مثل ذلك القول أو الاعتقاد
قال تعالى :{ { و لئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله و رحمة خير مما يجمعون ** ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . }
وفي طيات هذه الآية بشارة لمن قُتل أو مات في سبيل الله بحسن المآل .
قوله تعالى :{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ)
معنى الواو:
الواو عاطفة ..قال ابن عاشور : "وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَعَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وذهب محيي الدين درويش أن الواو استئنافية؛ لأن الكلام مستأنف قال : كلام مستأنف مسوق لتقرير أن ما تحذرون وقوعه ليس مما ينبغي أن يحذر منه بل يجب أن يكون حافزا لكم على القتال ومواصلة الجهاد.." اهـ
المخاطب في الآية .
الخطاب في الآية للمؤمنين وهو امتداد للخطاب السابق
لئن:
مركب من حرفين اللام الموطئة للقسم و" إن" الشرطية.والتقدير" والله لئن قتلتم"
مجيء "إن" الشرطية دون إذا الشرطية .
-الأصل في استخدام "إن" الشرطية أن يكون الشرط فيها قليل الوقوع أو نادر الوقوع أو مشكوك الوقوع لا يجزم بوقوعه..
والأصل في استخدام "إذا" الشرطية أن يكون الشرط فيها كثير الوقوع مجزوما مقطوعا بوقوعه
واستعمل "إن" الشرطية . للدلالة والتنبيه على قلة وندرة وعزة الإخلاص لمن مات أو قُتل في سبيل الله.
قال محمد محمد أبو موسى :" تجد أن "إن" تشير إلى أن خلوص الموت لله مما هو عزيز ونادر؛ لأن تخليص العمل لله من أصعب ما يعانيه أهل الله." اهـ
دلالة مجيء الفعل بصيغة الذي لم يسم فاعله
وجيء بالفعل "متم" و الفعل "قتلتم" لما لم يسمى فاعله ؛ لأنه لا يترتب على ذكره فائدة ؛ إذ الحكم معلق بنفس وقوع الفعل .
وقوله : "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو متم "
السبيل : : الطَّريقُ ، وما وَضَحَ منه.
وأضيف إلى الله لسببين :
-لأن ابتداء وضعه من الله
-لأنه موصل إلى الله
والمراد به شرعه و طاعته ؛ فكل من كان على طاعة الله وشرعه مخلصا لله عزوجل طالبا رضاه فهو في سبيل الله.وأكثر ما يطلق على الجهاد.
-والتعبير بسبيل الله فيه إشارة إلى إخلاص العمل لله عزوجل
قال ابن الأثير :" في سبيل الله: عامٌّ يقَع على كلِّ عمَلٍ خالصٍ، سُلك به طريقُ التقرُّبِ إلى اللهِ تعالى بأداءِ الفرائِضِ والنَّوافِلِ وأنواعِ التطوُّعاتِ، وإذا أُطلِقَ فهو في الغالِبِ واقعٌ على الجهادِ، حتى صار لكثرةِ الاستعمالِ كأنَّه مقصورٌ عليه" اهـ
المراد من قوله تعالى " قتلتم في سبيل الله "..
ذهب جمهور المفسرين أن المراد من قوله "" قتلتم في سبيل الله "..الجهاد خص( سبيل الله) بالجهاد والموت في أرض المعركة.
وذهب ابن عثمين أن قوله " " قتلتم في سبيل الله "..لا يختص بالجهاد بل هو عام في كل قتل كان في سبيل الله..قال رحمه الله تعالى :"في سبيل الله" أي الجهاد ويحتمل أن يكون أعم من ذلك بمعنى قتلتم في سبيل الله في الجهاد أو قتلتم في سبيل الله في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر ؛ أو قتلتم في سبيل الله في الدعوة إليه ؛ أو قتلتم في سبيل الله في بيان الحق؛ كل هذا داخل في سبيل الله؛ لأن الجامع بينهما أن هذا قتل وهو يدافع عن دين الله. اهـ
قوله : "أَوْ مُتُّمْ "
أو :حرف عطف للتنويع والتقسيم .
" مُتُّمْ" الموت عكس الحياة ؛وهو عبارة عن خروج الروح بأمر من الله عزوجل ؛ والمراد به أن يموت العبد حتف أنفه دون فعل فاعل مخلوق.
-وقيل المراد به الموت في سبيل الله ثم اختلف أهل العلم في بيناه وتحديده؛ على اختلافهم في المراد ب "في سبيل الله "
- ذهب جمهور المفسرين أن المراد الموت في سبيل الله ؛ أي ما كان في الحرب والجهاد؛ وحجتهم في ذلك السياق؛ فسياق الآيات في الحرب والجهاد لهذا قيد القتل في سبيل الله وقدم على الموت .
- وفي معنى الموت في الجهاد قيل أن يموت ملتبس بالجهاد فعلا أو نية أفاده الألوسي
وذهب رشيد رضا و أبو زهرة أن المراد بالموت في سبيل الله عام في كل من مات على طاعة الله راجية رضى ربه ورحمته
قال رشيد رضا فقد عمم معنى الموت في سبيل الله ولم يخصه بالجهاد فقط فقال :" والموت في سبيل الله هو الموت في أي عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان لله ، أي سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه . وقد يموت الإنسان في أثناء الحرب من التعب أو غير ذلك من الأسباب التي يأتيها المحارب في أثنائها ، فيكون ذلك من الموت في سبيل الله عز وجل . اهـ
وقال أبوزهرة :" أنه ذكر أن الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى ، وكان الله ورسوله أحب إليه من نفسه ، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفي سبيل الله ويموت في سبيل الله." اهـ
وذهب الطاهر ابن عاشور وابن عثميين أن المراد بالموت أعم مطلقا ولا يتقيد "في سبيل الله"
لكن الأول أولى لدلالة السياق والمقام عليه ولأن الموت المطلق سيأتي له ذكر في الآية الموالية؛ ولأن الآية في صدد بيان فضيلة الموت في سبيل الله وأنه خير من أن يموت الواحد وهو يجمع حطام الدنيا- والله أعلم-
مناسبة تقديم القتل على الموت
وقُدم القتل على الموت لأن السياق عن القتل و الشهادة في سبيل الله ؛ والتحريض على الجهاد ؛ فقد الأهم والأشرف ؛فالموت في سبيل الله أشرف موت وأعظمه أجرا عند الله
قال الألوسي : " وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثواباً وأعظم عند الله تعالى ، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى ."
( لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ )
معنى اللام:
لام الابتداء واقعة في جواب قسم؛ والتقدير "والله لمغفرة.."
وجملة "لمغفرة من الله ورحمة خير" جملة جواب القسم ساد مسد جواب الشرط ؛ للقاعدة المقررة وهي أنه إذا اجتمع قسم وشرط فالجواب يعطى للمتقدم منهما
وقوله " "لمغفرة من الله ورحمة خير" جملة خبرية والمراد منها الوعد
قال الطبري رحمه الله" .. وعد خرج مخرج الخبر . وتقدير الكلام :" ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ، ليغفرنّ الله لكم وليرحمنكم"اهـ ..وهو الذي عليه جماهير المفسرين
-وقيل أن الجملة خبرية أريد بها الإطماع؛ لأنه قال "خير" و لم يصرح بتحقق وقوع المغفرة والرحمة ؛ والله إذا أطمع أحدا في شيء فلا يخيبه
قال أبو السعود : " الاقتصارُ على بيان خيريتِهما من ذلك بلا تعرّضٍ للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجةِ إليه بناءً على استحالة التخييبِ منه تعالى بعد الإطماعِ" اهـ
وقوله" لمغفرة " مغفرة نكرة لإفادة التقليل؛ في محل الابتداء ؛ موصوفة لأن الجار والمجرور "من الله " متعلق بمحذوف صفة لمغفرة ؛ وهذا الذي سوغ الابتداء بالنكرة.
-قال ابن عطية : "لفظ المغفرة غير معرف إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن"
-وبين الألوسي الغرض من وصف الرحمة بقوله:" ووصفت بذلك إظهاراً للاعتناء بها ، ورمزاً إلى تحقق وقوعها.
وقوله " من الله " حرف جر"من" لابتداء الغاية؛ وإضافة الرحمة إلى الله للتعظيم
قال ابن عثميين : "فهو سبحانه الذي يبتدئها ويتفضل بها؛ وإضافتها إلى الله دلالة على عظمة هذه المغفرة؛ لأن الشيء يعظم بعظمة باذله" اهـ
-و قدر بعض أهل العلم صفة أخرى محذوفة أي : "لمغفرة لكم من الله"
وقوله "ورحمة" عطف على مغفرة ؛ منكرة لإفادة التقليل أيضا؛ وحذف صفتها لدلالة المذكور عليها . والتقدير "ورحمة من الله" ؛ وثم وصفة أخرى محذوفة لا بد منه؛ تقديرها: لكم.؛ ويكون التقدير:" ورحمة لكم من الله" أو "من الله لكم"
ومسوغ الابتداء بها عطفها على نكرة موصوفة؛ أو كونها موصوفة في المعنى.
والمعنى لمغفرة ورحمة يسيرة قليلة كائنة من الله لكم خير مما تجمعونه من منافع الدنيا إن قتلتم في سبيل الله أو متم.
و ذكر المعربون وجها آخر في إعراب مغفرة؛ أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله ؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير : فذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير ، ويكون " خيرٌ " صفة لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ وقبله الأخفش...والأول مذهب الجمهور
قال ابن عطية : وتحتمل الآية أن يكون قوله { لمغفرة } إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله { خير } صفة لخبر الابتداء
وقال الرازي: " والأصوب عندي أن يقال : هذه اللام للتأكيد ، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم ، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا ، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه ؟" .
الفرق بين المغفرة والرحمة
والمغفرة: الستر .والوقاية .لهذا سمي المغفر الذي يوضع على الرأس مغفرا لأنه يستر الرأس ويقيه الشرور
فالمغفرة أن يستر الله على عبده ذنوبه ويقيه شرها .
والرحمة :مزيد تفضل وإنعام . والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة
قال ابن عثيمين: والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه والرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم والإنعام عليه"
وقد ذكر ابن تيمية فرقا بينهما في أثناء كلامه عن الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة قال رحمه الله .." فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم، ومسامحتهم به.والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم، وإقباله عليهم، ورضاه عنهم؛ بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافي قد يعفو، ولا يقبل على من عفا عنه، ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان، وفضل، وجود..والرحمة متضمنة للأمرين، مع زيادة الإحسان، والعطف، والبر.."
وبهذا يتبين أن الرحمة أبلغ من المغفرة .؛ فالرحمة مغفرة وزيادة.
كمال سعادة العبد وتمامها بتحصيل المغفرة والرحمة
فبالمغفرة يُغفر الذنب و يدفع ويرفع ما كان يخافالعبدويكرههمن العذاب والعقاب؛ فيحصل له الطمأنينة والسكينة ؛فالمغفرة تأمين لمن غلب عليه عبودية الخوف.
وبالرحمة يحصل ما يرجوه العبد و يحبه من النعيم المقيم والعيش الهنيء فتحصل له السعادة والرضى؛ فالرحمة تبشير لمن غلب عليه عبودية الرجاء
قال ابن عثمين بقوله " أن المغفرة بها زوال المكروه والرحمة بها حصول المطلوب." اهـ
وسؤال هنا ما الذنب الذي يفغره الله لمن مات أو قتل في سبيل الله ؟ أهو جميعا الذنب بما في ذلك الكبائر أم المغفرة مقتصرة على صغائر الذنوب أما الكبائر فمغفرتها مترتبة على التوبة والاستغفار..
الذي يظهر أن النصوص الكتاب والسنة جاءت ببيان أن الذي له كمال المغفرة و الرحمة شهيد المعركة
أما ما كان فيه حكمه فهذا تحتاج مزيد بحث.
( خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
قرئيجمعون على جهة الغيبة ووجه ذلك أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني ، أو خير مما يجمعه الناس جميعا
وقرئ بالخطاب تجمعون ووجهه أن الخطاب موجه إلى المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا .
خير: اسم تفضيل على غير قياس؛ أصله "أخير" حذفت منه الهمزة لكثرة الاستعمال فقيل "خير"
وهل أصل الخيرية ثابتة لما يُجمع من أمور الدنيا؟
قد يقال أن ما يُجمع من أمور الدنيا قد يعد خيرا في نفس الأمر إن كان من الحلال الطيب ؛ وعليه تكون "خير " هاهنا على بابهامن كونِها للتفضيلِ
وقد يقال أن الخيرية ليست ثابتة لما يُجمع من أمور الدنيا؛ بل هي ذلك وارد على حسب قولهم و ومعتقدهم أن ما يجمعونه خير لهم ؛ وعلى المعنى تكون "خير " ليست على بابهافإن الخيرية في مغفرة الله تعالى ، ولا خيرية فيما يكنزون ويجمعون
"مما" مركبة من كلمتين ؛ حرف الجر "من " و " كلمة " ما"
و "ما" يجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ، أي مما تجمعونه
أو مصدرية ويكون المفعول حينئذٍ محذوفاً أي من جمعهم المال على قراءة يجمعون ؛ أو جمعكم المال على قراءة تجمعون
ولعل الأجود أن تكون موصولة لتوافق مقصد الآية من الإنكار عليهم في تعلق قلبوهم بالدنيا وحبهم لها وإيثارها على الآخرة ؛فمن كانت هذه حاله فهو ساع إلى جمعها والتكثير منها.
و "ما" الموصولية أكثر الأسماء الموصولة إبهاما وهى أكثر الأسماء اتساعا في جميع الأجناس .
جاء في (بدائع الفوائد) كما في كتاب معاني النحو :{ أن (ما) "لا تخلوا من الإبهام أبدًا، ولذلك كان في لفظها ألف آخرة لما في الألف من المد والاتساع، في هواء الفم، مشاكلة لإتساع معناها في الأجناس، فإذا أوقعوها على نوع بعينه، وخصوا به من يعقل، وقصروها عليه، أبدلوا الألف نونًا ساكنة فذهب امتداد الصوت فصار قصر اللفظ موازنًا لقصر المعنى" }
لهذا جيء بها في الآية للدلالة أن لفظ "مما يجمعون " يدخل فيه كل ما يمكن أن يجمع من حطام الدنيا .من أجناس ملاذات الدنيا جميعا
وقوله " تجمعون" . الجمع: ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعته فاجتمع
وحذف متعلق الفعل للدلالة على العموم؛ أي جمعكم شامل وعام لكل أنواع منافع الدنيا وطيباتها وحطامها مما يمكن جمعه
وجئ بصيغة المضارع " تجمعون" للدلالة على الاستمرار والتكرار فعل الجمع إلى أن يموت الإنسان فيستغرق جميع زمن عمره
فيكون " مما تجمعون " شاملا لكل ما تجمعونه من ملاذ الدنيا وحطامها مدة أعماركم كلها
والمعنى أن المغفرة والرحمة اليسيرة التي تلحق العبد بعد موته أو قتله في سبيل الله خير له من جميع أنواع ملاذ الدنيا ومنافعها وطيبتها التي جمعها مدة عمره كله
وعلى قراءة "يجمعون " فالمعنى يكون شاملا لكل ما يجمعه الناس جميعا على مدى أعمارهم وعلى مر السنين والأعوام
فتلك الرحمة والمغفرة خير وأفضل من جميع ما يجمعه الناس كلهم مدة أعمارهم جميعهم و من الأدلة على ذلك إفراده المغفرة والرحمة وجاء ب يجمعون بصيغة الجمع
ورُوي عن ابن عباس :" ( خير من طلائع الأرض ذهبة حمراء )
وفي الآية التفات على قراءة "يجمعون" التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ ..أما على قراءة التاء " تجمعون" فليس فيها إلتفات
ونظير الآية قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} {يونس:58)
وكقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {
الزخرف:32}
قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)
والخطاب في الآية عام للمؤمن والكافر . فأعلم سبحانه وتعالى أن مصير جميع الناس إليه، فيجازي كلاً بعمله
وقيل بل الخطاب خاص للمؤمنين عطفا على الخطاب السابق؛ فكان في الآية الأولى ترغيب المؤمنين في الرحمة والمغفرة وفي هذه الآية ترغيبهم بالحشر إلى الله فزاد في إعلاء درجتهم.
" ولئن"؛.."لإلى "
والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما في الآية السابقة
وجيء ب " إن" الشرطية المشكوك في وقوع شرطها أو القليل والنادر الوقوع دون "إذا " الشرطية التي هي بعكسها؛ لأن مسألة البعث والنشور والحشر منزل عند هؤلاء منزلة المشكوك في وقوعه أو القليل النادر الوقوع ؛ و الذي يدل على ذلك حالهم فهم في غفلة عظيمة في انشغال بالدنيا واهتمام لها وتعب ونصب في جمعه حطامها الفاني ناسين أو متناسين أمر الآخرة والوقوف بين يدي الله ؛فأضحى حالهم كحال من لا يتوقع بعثا بل لعل كحال من لا يتوقع موتا أصلا
قال محمد محمد أبو موسى :"....تجدها تشير إلى غفلتهم، وكأنهم في حال من لا يتوقع الموت"
-وقوله " مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ"
والمراد بالموت الموت الطبيعى؛ خروج الروح حتف الأنف ؛ وبالقتل عموم القتل سواء كان في سبيل الله أو في البيت أو غير ذلك كيف كان؛ ويدخل فيه القتل الخطأ والقتل العمد والقتل في ساحة الجهاد والقتل من حيوان ؛ والقتل بثأر وغير ذلك ويدخل في الآية جميع الناس المؤمن منهم والكافر ..فالآية لم تقيده فالأولى حمله على الإطلاق .
قال الشيخ رشيد رضا :"...إن الموت والقتل هنا أعم مما في الآية السابقة ، لأن كل من يموت ومن يقتل في سبيل الله ، وهي طريق الحق والخير أو في سبيل الشيطان ، وهي طريق الباطل والشر . فلا بد أن يحشر إلى الله تعالى دون غيره ؛ فهو الذي يحشرهم بعد الموت في نشأة أخرى ، وهو الذي يحاسبهم ويجازيهم . " اهـ
و قُدم الموت هاهنا لعمومه ولأنه الأغلب في الناس من القتل. فأكثر الناس ومعظهم يموتون ميتة طبيعية على فراشهم لا قتل فيه
-و كلا من الموت والقتل مستويان في الحشر؛ والمعنى: إنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى .فتلك هي غاية كل أحد مات أو قتل.
-وذهب بعض أهل العلم أن المراد به الموت والقتل في سبيل الله بقرينة ما قبلها.
وحمل الآية على العموم أولى لأنها جاءت مطلقة غير مقيدة ؛ ولأنها جاءت في سياق الوعظ بالآخرة والحشر والتزهيد في الدنيا والآخرة .وبيان سنة الله في الناس كافة أن الجميع مصيره إلى الله
من المحسنات البديعية في الآيتين:
-رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فقد جعل الْقَتْلِ مَبْدَأَ الْكَلَام في الآية الأولى ثم ختم به الكلام في الآية الموالية
فقال : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }..صدر الكلام ب "قتلتم" وأخره في الآية التالية قال {"وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } .
التفنن في التقديم والـتأخير
-وقد اقترن القتل مع الموت ثلاث مرات؛ في هاتين الآتين وفي الآية التي قبلهما.. وتقدم الموت على القتل في الأول والأخير منها، وتقدم القتل على الموت في المتوسط تبعا لتقديم الأهم والأشرف.
ففي الآية الأولى قال تعالى " {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } . قدم الموت على القتل في هذا الآية لمناسبة قوله." إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى" فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ؛ ورجع القتل لمن غزا
أما في الآية الأخيرة قوله "وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ قدم الموت باعتبار الأغلب
.
قوله تعالى "لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ "
" لإلى " ..لام الابتداء في جواب قسم ؛ و "إلى " حرف جر لانتهاء الغاية؛ فغاية جميع العالمين إلى الله عزوجل
-تقديم المعمول على العامل لإفادة الحصر والاختصاص ؛ والمعنى إلى الله وحده يحشر العالمون لا إلى غيره ، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو.
وإدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال : { لإلى الله } فيه تنبيه و إشارة إلى أن الإلهية تقتضي هذا الحشر والنشر
واسم "الله" علم على ذات الله عزوجل وهو من أعظم الأسماء؛ و هو الاسم الجامع ؛ومرجع جميع الأسماء إليه ؛ و إليه تضاف جميع الأسماء .
واسم (الله) يشتمل على معنيين عظيمين متلازمين:
المعنى الأول: هو الإله الجامع لجميع صفات الكمال والجلال والجمال.
المعنى الثاني: هو المألوه أي المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه.
وفي التعبير باسم "الله " دون غيره من الأسماء فوائد
- أن اسم "الله " دال على كمال الرحمة وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد.أفاده الرازي
-فيه التنبيه على إخلاص العمل لله عزوجل وابتغاء وجهه لأن الحشر كائن إلىمعبودكم الذي توجهتم إليه . وبذلتم مهجكم لوجهه لا إلى غيره .
-وفيه التعريض إلى من عبد غير الله وجاهد وقاتل لغير وجه الله ؛ كالمنافقين والكفار والمشركين ؛ أن عمله غير مقبول ولن يجد أجره وجزاءه ؛ لأن حشره يكون لهذا الإله الحق لا إلى غيره و هو الذي يجازى عباده على أعمالهم
قوله : " تحشرون " فعل لما لم يسمى فاعله ؛ والفاعل هو الله عزوجل ولم يقع التصريح بالفاعل للتعظيم
قال الرازي رحمه الله تعالى :"وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي ، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدئ ويعيد ، ومنه الإنشاء والإعادة ، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة" " اهـ
والأصل أن الفعل المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده بالنون ، مع اللام ،ولم يؤكد في هذه الآية وفي سبب ذلك قال أبو حيان :" ولم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه. " اهـ
وحشر النَّاسَ : جَمَعَهم وحشدهم ؛ والحشر:الاجتماع و الحَشْر :اجتماع الخَلْق يومَ القيامة . ؛ والمَحْشَرُ : المجمع الذي يحشر إِليه القوم؛ لهذا يقال يوم القيامة يوم المحشر
قال ابن فارس:وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ مَعَ سَوْقٍ، وَكُلُّ جَمْعٍ حَشْرٌ" اهـ
-فلفظ الحشر فيه زيادة معنى على لفظ الجمع ؛فهو جمع مع سوق.
والتعبير بالحشر إشارة إلى أن جميع الخلق يجتمعون ويجمعون ويوقفون في أرض المحشر فيجتمع الظالم مع المظلوم و القاتل مع المقتول ؛والحاكم مع رعيته؛ والسيد مع عبده ؛ والله عزوجل يحكم بينهم جميعا بحكمه العدل
قال أبو زهرة: والتعبير بالحشر إشارة إلى أن الجميع يجتمعون لا يفلت منهم أحد ؛ فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم ، وسيلقاهم ، وسيحاسب كل امرئ بما كسب ، للمجاهدين مقامهم ، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه ، ففي هذا إنذار وتبشر وتذكير بلقاء الله العلي الكبير ، اللهم هب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الغفور الرحيم .اهـ
ومعنى الآية على أي طريقة كان هلالكم سواء كان بالموت أو بالقتل قتل الخطأ أو قتل العم أو غير ذلك فالجميع غايته و مصيره إلى الله عزوجل وحده لا إلى غيره فيجزي كلاً منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب ، أو يتوقع منه دفع عقاب...وفيها حث على الفرار من عذاب الله وعقابه؛ لأن الحشر يكون إليه وحده يكون ولا أحد يملك لكم ضرا ولا نفعا
وفي الآتين تفريق بين قتل و الموت في سبيل الله و وبين الموت والقتل العادي
فالذي في سبيل ا لله ينال رحمة من الله ومغفرة لذنوبه و ليس ذلك إلا للمسلمين...أما القتل بشكل عام يكون
للمسلمين وغيرهم و يكون فيه ظالم ومظلوم .فيجب أن يكون هنالك حكم عدل يفصل بينهم ....
فمتى يُنتصف للمظلوم ؟ يُنتصف له يوم القيامة ... حيث يُحشر الجميع بين يدي الله ... الظالم والمظلوم..فقد يكون القاتل هو المظلوم .. والمقتول هو الظالم ... ولهذا جاء التعبير الإعجازي في الآية الثانية " لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ".
وفيهما أن هلاك الإنسان ليس له إلا طريقين موت أو قتل ..فالكل هالك والكل يقدم على ربه ؛ فليحرص العبد على الموافاة على الشهادة والإخلاص وابتغاء وجه ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر .
-و في الآية تفريق بين الموت والقتل
قال الرازي.." وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت ، قال : لأن قوله : { ولئن متم أو قتلتم } يقتضي عطف المقتول على الميت ، وعطف الشيء على نفسه ممتنع .
المصادر والمراجع
1. معاني القرآن للأخفش، سعيد بن مسعدة (ت 215هـ)
2. -جامع البيان لابن جرير. (310)
3. -معجم مقاييس اللغة ابن فارس (395)
4. -الكشف والبيان للثعلبي.(427)
5. -الهداية لمكي بن أبي طالب. (437)
6. معالم التنزيل البغوي (516هـ).
7. -الكشّاف للزمخشري (538)
8. -المحرر الوجيز لابن عطية.(542)
9. -مفاتيح الغيب للرازي (606ـ).
10. النهاية في غريب الحديث والأثر .. ابن الأثير (606هـ)
11. -أحكام القرآن للقرطبي.(671)
12. -أنوار التنزيل و أسرار التأويل للبيضاوي (ت 685هـ).
13. -مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (ت 710 هـ).
14. -مجموع الفتاوى ابن تيمية الحراني (728هـ).
15. -البحر المحيط لأبي حيّان ( 745)
16. -الدرّ المصون للسمين الحلبي (.756)
17. -تفسير ابن كثير. (774)
18. -إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود (ت 982هـ).
19. -روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للآلوسي (ت 1270هـ).
20. -محاسن التأويل للقاسمي. (ت 1332هـ)
21. -تفسير المنار لرشيد رضا. (ت 1354هـ)
22. -تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (ت 1376 هـ).
23. - الجدول في إعراب القرآن الكريم محمود بن عبد الرحيم صافي (1376هـ)
24. -زهرة التفاسير لأبي زهرة. (ت 1394هـ)
25. - التحرير والتنوير لابن عاشور ( 1393)
26. إعراب القرآن وبيانه محيي الدين درويش (1403ـ)
27. – دراسات لأسلوب القرآن الكريم محمد عبد الخالق عضيمة (ت 1404 ه
28. -تفسير ابن العثيمين ( 1421)
29. -خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني محمد محمد أبو موسى
30. دروس البلاغة
31. – معاني النحو د. فاضل صالح السامرائي
32. –لمسات بيانية د. فاضل صالح السامرائي