الاسلوب المقاصدي
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير قوله تعالى [ يا أيها الذين امنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ] التغابن 14
أن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد ا عبده ورسوله والحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الأولاد وجعلها زينة لنا في هذه الحياة فقال تعالى [ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ] وقال ممتنا على عباده [ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ] ،ولما جبلت النفس البشرية على محبتهم وهذه المحبة قد تكون سبب في ارتكاب المحذور ومخالفة شرعه قال الله تعالى محذرا لعباده [ إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ] صيانة للدين وذلك حتى لا تطغي محبتهم وتقدم على محبة الله و طاعته ، أو أن تؤثر مرضاتهم على مرضات الله تعالى .
فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في الصحابة الذين امتنعوا عن الهجرة بسبب أولادهم وازواجهم فلما فتح الله على رسوله وفاتهم الهجرة مع من هاجر غضبوا على أولادهم واهليهم وعاتبوهم وكادوا أن يعاقبوهم ويضربوهم فانزل الله هذه الآية [ يا أيها الذين امنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ] فقوله تعالى [ يا أيها الذين امنوا إن من أزواجكم وأولادكم ] فيه تخصيص للمؤمنين بالنداء على وجه التنبيه والتحذير لهم بأن يغتروا ببعض الازواج والاولاد ، وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه الآيات من توجيهات سامية وارشادات عالية ، فإن من شأن الإيمان الحق ، أن يحمل صاحبه على طاعة الله عز وجل فقوله [ إن من أزواجكم وأولادكم ] (من ) هنا تفيد التبعيض ليفهم أن بعض الازواج والاولاد ليسوا اعداء بل منهم من يكون عونا على الطاعة ، ولقد قرن الله تعالى في القران الكريم الاموال والاولاد في أربعة وعشرين موضعا كقوله تعالى [ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ] سبأ 37وقوله [ أنما أموالكم وأولادكم فتنة ] التغابن 15وقوله [فلا تعجبك أموالهم وأولادهم ] التوبة 85 ، وذلك لأنهما فتنة : فهما موضع ابتلاء واختبار للعبد فكان التحذير منهما فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط .
ثم قال [عدوا لكم ] فما هي العداوة ؟ العداوة : هي بأنهم يجرونك إلى الدنيا ويؤخرونك عن المراتب العالية وطلب المنازل الرفيعة في الجنة وبما يزينونه لك من القعود والتقاعس عن العمل الاخروى، وطلب العمل الدنيوي وإيثار الدنيا على الاخرة ، فهذه عداوتهم وليس عداوة دين ولهذا قال تعالى [ فاحذروهم ] قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا يبين وجه العداوة ، فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله ، فهذه الاية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد ، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا ، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
فبعض الازواج والاولاد ربما حملوا المرء على قطيعة الرحم ، أو ارتكاب معصية ، أو أكل حرام ، أو التخلف عن أعمال الخير فلهذا توجب الحذر ، صونا للدين ، واحتراز من حصول الضرر ، وإيثار محبة الله على المحبة الموجبة لسوء العاقبة ولهذا قال [ عدوا لكم فاحذروهم ] ، قال ابن زيد في [ فاحذروهم ] يعنى على دينكم وابن مجاهد : قال يحمل الرجل على قطيعة الرحم او معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه ، فيحذر المؤمن أن يطيعهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينه ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . .
و لما نهى عن إطاعة بعض الازواج والاولاد فيما يوصل العبد إلى الهلاك ، ربما توهم المخاطبون أن المقصود بالعداوة هو معادتهم والغلظة عليهم وعدم محبتهم ، أمر الله سبحانه أن يقترن الحذر بالصفح والعفو عنهم ، وأن هذا سبب لعفو الله عنهم ، فالجزاء من جنس العمل ، ولذا عطف بقوله تعالى [ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ] وذلك ستر لذنبهم وترك لمعاقبتهم ، وترك التثريب على ذنوبهم وتمهيدا لمعذرتهم عليها ، فحذفت النون في [ تعفوا ] وما بعدها للجزم [ فإن الله غفور رحيم ] قام مقام جواب الشرط أ:ي وأن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة ، يكافئكم الله تعالى مكافأة حسنة فإن الله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون .
وفي الاستخدام القرأني لهذه الكلمات :الصفح والعفو والمغفرة يظهر اشتراكها في معنى التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، فالملمح الدلالي الذي يميز كلمة ( الصفح ) هو ترك اللوم والمؤاخذة ، في حين أن الملمح الدلالي الذي يميز كلمة ( العفو ) أنه قد يصحبه لوم ومؤاخذة ، والملمح الدلالي المميز ( للمغفرة ) هو ستر الذنب وعدم إشاعته .
كما يجدر الاشارة إلى أمر مهم وهو أن الشيطان إذا أراد القعود للإنسان يكون بوجهين :
أحدهما يكون بالوسوسة والثاني أن يسلط على هذا الإنسان الزوجة أو الولد أو الصاحب .
فالشيطان إذا قعد لابن ادم في طريق الإيمان وقعد له في طريق الهجرة وقعد له في طريق الجهاد ، فهو أما يوسوس مباشرة في قلب الإنسان ، وأما أن يسلط عليه نوابا يوصلون هذه الرسائل المثبطة إلى قلبه كالزوجة والولد قال تعالى [ وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ] فصلت 25لهذا قال الله تعالى [ فاحذروهم ] فحذر الله سبحانه العبد وأنذره من ذلك .
ايضا من الملاحظ في قوله تعالى [ يا أيه الذين امنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ] في سورة التغابن وقوله تعالى في نفس السورة [ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ] ان هناك قاسم مشترك وهو الأولاد مما يدل على أن هذه الفتنة من نوع خاص ، حيث يخاف منها اكثر مما يخاف من غيرها فعن بريدة عن أبيه قال رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان احمران يعثران ويقومان ، فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخذهما فرفعهما فوضعهما في حجرة ثم قال ( صدق الله ورسله إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) رأيت هذين فلم اصبر، ثم أخذ في خطبته ) اللفظ لأبي كريب
فالمقصود هو المبادرة إلى طاعة الله والتقرب إليه وتقديم محبته وطاعته ، ولما كان الأزواج والاولاد كثيرا ما يقعدونه عن هذا ويصرفونه ، وجب التحذير من فتنتهم والتنبيه إلى عداوتهم إن اقعدوه عن طاعة الله عز وجل والتأكيد الجازم على أن يكون الحذر مقرون بالعفو والصفح والمغفرة طلب لمرضاة الله تعالى ، وأن يعتبر بآيات الله ويهتدى بهدى القران حتى لا يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه .
المراجع
تفسير ابن كثير
تفسير السعدى
تفسيرالمراغي
الوسيط لطنطاوى
تفسير القرطبي
التحرير والتنوير لابن عاشور
معجم الفروق الدلاليه
المصباح المنير في تهذيب ابن كثير