بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير قوله تعالى: {إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (الأعلى/ 6، 7)
في تفسير قوله تعالى: {إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (الأعلى/ 6، 7)،سأتطرق لخمسة محاور:
1- التفسير الإجمالي للآيتين.
2- التفسير التفصيلي للآيتين.
3- ذكر الآيات المشابهة لهما.
4- استخلاص مقصد الآيتين.
5- الواجب على العبد أمام مقصود الآيتين.
1- التفسير الإجمالي للآيتين:
إن جنس الإنسان عموما - إلا من رحم الله- حين ينعم عليه ربُّه من نعم الحياة الدنيا، بالمال والولد والجاه والأهل ونحوها؛ يحدث له الطغيان؛ فيتجاوز ما شُرِع له، ويشتد في الخروج عن طاعة الله، ويُصيِّر منح الله له محنا عليه!.
2- التفسير التفصيلي للآيتين:
في هذه الآيات الكريمات التي تلت أول خمس آيات نُبِأَ فيها رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ذكر الله فيهن جليل إحسانه على هذا المخلوق البشري بخلقه من نطفة ضعيفة ثم ذكر عظيم إنعامه عليه بتعليمه من العلوم ما لم يكن يعلمها، وإتماما عليه بهذه النعمة فقد علمه الله بالقلم ليدون به العلوم لتحفظ على سائر الأزمان، حيث قال تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} ، المفترض بهذا الإنسان أن يشكر المنعم عليه بالحياة ابتداءً، وبالعلم ثانيا، وبالقلم ثالثا، لكنه بدلا من ذلك أبطرته نعم الله عليه ، فلم يشكر إنعامه، لذلك قال تعالى: {إنَّ} وفي هذا توكيد لأن (إن) حرف توكيد ونصب {الْإِنْسَانَ} أي: جنس الإنسان {لَيَطْغَى} أي يصيبه الطغيان، والطغيان هو تجاوز الحد الذي شرعه الله للوقوف حيثما يجب، قال الفيروز آبادي: طَغِيَ كَرَضِيَ طَغْياً وطُغْياناً بالضم والكسر : جاوَزَ القَدْرَ وارْتَفَعَ وغَلا في الكُفْرِ وأسْرَفَ في المَعاصِي والظُّلْمِ. ا. هـ القاموس المحيط، واللام في {ليطغى} توكيد ثانٍ {أَنْ} بمعنى لأجل {رَآهُ اسْتَغْنَى} أي: رأى نفسه استغنت بنعم الله، ولقد عدل سبحانه عن إضافة ضمير المتكلم للخطاب كعادة العرب في مثل هذا، قال الطبري: إن رآه استغنى لحاجة "رأى" إلى اسم وخبر، وكذلك تفعل العرب في كل فعل اقتضى الاسم والفعل، إذا أوقعه المخبر عن نفسه على نفسه، مكنيا عنه.ا.هـ. تأويل البيان.
3- ذكر الآيات المشابهة لهما.
1- {ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) إنه كان لآياتنا عنيدا(16)} سورة: المدثر.
يتكلم الله عن عبده الذي خلقه بعد أن لم يكن، ورزقه من المال والبنين الشيء الكثير، ويسر له أسباب الراحة والرخاء في هذه الدنيا، فلم تنفع معه نعم ربه في تليين قلبه ولم تقبل به ليطيعه بل جعلته أكثر عنادا وتمردا على أوامره فآثر الكفر على الإسلام والاستسلام للحق رغم شدة وضوحه وقوة بيانه.
2- {ولا تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء بنميم (11) مناع للخير معتد أثيم (12) عتل بعد ذلك زنيم (13) أن كان ذا مال وبنين (14) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (15) } سورة: القلم.
يذكر الله جلّ جلاله -هنا- مثل لرجل في الأصل هو دون أصل! ليس له نسب يشرُف به، فظ غليظ، عنيد، منوع للخير ،جموع للمال، سيء الخُلق، وذكر فيه عدة وصوفات قبيحة، وكان السبب في طغيانه واتصافه بكل ذاك السوء والوقوف على ما ارتضاه لنفسه من الكفر هو أن أغناه ربه بالمال والولد، فظن أنه لا يحتاج لشيء بعد و لا حتى لربه، وتقوى بنعمه على عصيانه.
3- قال تعالى: { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21) }. سورة: يونس.
في الآية إشارة إلى أن مكر الناس كان بسبب النعمة التي آتاهم إياها تفضلا منه وكرما.
4- قال تعالى: {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} (يونس/ 10).
بذكر الله تعالى أنه إذا أنعم على عبده نعماء بعد ضراء مسته فهو بدلا من مقابلة نعمته بشكرها حتى تدوم وتزيد كما قال تعالى: {ولئن شكرتم لأزيدنكم} فهي تكون سبب بطره!.
4- استخلاص مقصد الآيتين.
مقصد الكلام جليل وعظيم وجاء الله به على أسلس لفظ وأوجزه، وبعبارة جامعة ماتعة، وهو: تحذير الله لعبده الذي ركبَّه وفطره على حب النعيم، كما قال تعالى {وإنه لحب الخير لشديد} بألَّا ينسى أن كل نعيم إنما هو من الله فالواجب شكره لا كفره.
5- الواجب على العبد أمام مقصود الآيتين.
كأنَّ الله في هذه الكلمات اليسيرة بعد أن وضح لعبده -الضعيف الذي آتاه من العلم قليلا- هذا الأمر الجليل الخطير الذي يقع فيه كثير من الخلق -ومعرفة السبب: نصف العلاج ،كما يقولون- يرشد عبده قائلا: يا أيها الإنسان لا تنسيك نعم ربِّك ربَّك، ولا تطغيك؛ فتظن نفسك كبيرا فتتعالى عليه، أو تظن نفسك لست بحاجته بعد؛ لأن كل ما أنت بحاجته بيدك وتحت تصرفك، فلا تجعل نعم الله عليه نقما! وتذكر انه المتفضل بها أولا وأخرا، ولا تستدرجك النعم فتتعدى حدود الله وتترك واجبا أو ترتكب محرما أو تشرك به من هو دونه أو تكفر به جملة!، ولا تشغلك في حياتك القصيرة؛ فتموت وأنت عبد الدينار وعبد الخميصة، وتذكر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم وأولادكم عن ذكر الله} ، وتذكر أنها بلاء واختبار لك كما قال:{إنما أموالكم وأولاكم فتنة} فلا تفتتن بها وتنسى مقصودك من الحياة، واعلم أنك لم توهب الحياة لتعيش والبهائم سواء! بل ربك لم ينساك -سبحانه- ولم يهملك ولم يخلقك عبثا -تعالت حكمته عن ذلك-، وتذكر حديث ابنِ عباس الذي رفعه، قال:"منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا" رواه البزار برقم: 4880، والقضاعي عن عبدالله برقم 322. ومن شغل المال لك أنه يشغلك قبل جمعه في كيفية جمعه وتحصيله، وبعد جمعه في كيفية تنميته والحفاظ عليه! فتعيش بين هم لا ينتهي!.
ولذا عليك الحذر إن كنت عاقلا فطنا،وليكن في هذه الآية غنية عن كل ما يمكن أن يقال من مواعظ، كلما مرّ عليها العبد تنبه لها وذكر نفسه بمقصودها لتنتهي نفسه عما يبطرها وليعلم أنَّ كل شيء من الله وإلى الله، وكلنا له محشورون، وليعد لذلك اليوم زادا، وما أجمل ختم الله لهذه الموعظة بهذه الذكرى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وفيها من الترهيب ما لا يخفى، فاللهم تداركنا بلطفك.
المصادر:
1- تفسير الطبري.
2- تفسير ابن كثير.
3- القاموس المحيط للفيروز آبادي.
4- مسند البزار.
5- مسند الشهاب للقضاعي.
حاولت الإرسال قبل خروج الوقت لكن الكهرباء قطعت.