رسالة فى تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ سورة الإنسان:2
علوم الآية:
وردت هذه الآية فى مطلع سورة الإنسان، وقال بعض العلماء أنها مكية كلها، وحكى النقاش والثعلبى عن مجاهد وقتادة أنها مدنية، وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية، وهى قوله تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أو كَفُورًا﴾.
فضائلها:
وعن ابن عباس –رضى الله عنهما- : أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فى صلاة الصبح يوم الجمعة "ألم تنزيل" السجدة، و"هل أتى على الإنسان" رواه مسلم.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا ابن زيد: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه السورة: " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وقد أُنزلت عليه وعنده رجل أسود، فلما بلغ صفى الجنان، زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أخرج نفس صاحبكم - أو قال أخيكم – الشوق إلى الجنة". رواه الطبرانى.
وقى الآية عدة مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالإنسان
المسألة الثانية: أقوال أهل اللغة فى "أمشاج"
المسألة الثالثة: أقوال أهل التفسير فى "أمشاج"
المسألة الرابعة: الخلاف فى معمول الابتلاء فى "نبتليه"
المسألة الخامسة: سبب تخصيص السمع والبصر دون غيرهما من الحواس؟ وما المراد بهما؟ ولم جاءا بصيغة مبالغة؟
فأما جواب المسألة الأولى:
الإنسان: اسم جنس بلا خلاف يشمل كل بنى آدم -على عكس المذكور فى الآية السابقة فالمقصود به آدم –عليه السلام—لأن آدم عليه السلام لم يُخلق من نطفة.
وأما جواب المسألة الثانية:
والنطفة: كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير لك، كما قال عبد الله بن رواحة: هَلْ أنْتِ إلا نُطْفَةٌ في شَنَّه،
وجمعها نطاف ونطف، وأصلها من نطف إذا قطر.
والمراد بها: ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة، أو أن النطفة ماء الرجل، فإذا اختلط فى الرحم وماء المرأة صار أمشاجا.
وقوله: ﴿أمْشاجٍ﴾
يعني: أخلاط، يقال: مشجت هذا بهذا، إذا خلطته به، وهو ممشوج به، ومشيج: أي مخلوط به، ويُقالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشَجًا إذا خَلَطَ، ومَشِيجٌ: كَخَلِيطٍ، ومَمْشُوجٌ: كَمَخْلُوطٍ.
ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاج ... لَمْ يُكْسَ جِلْدًا في دَمٍ أمْشاجِ، وقالَ الشَّمّاخُ:
طَوَتْ أحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ∗∗∗ عَلى مَشَجٍ سُلالَتُهُ مَهِينُ، وقالَ الهُذَلِيُّ:
كَأنَّ النَّصْلَ والفَوْقَيْنِ مِنها ∗∗∗ خِلافَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ، يَصِفُ السَّهْمَ بِأنَّهُ قَدْ بَعُدَ في الرَّمْيَةِ فالتَطَخَ رِيشُهُ وفُوقاهُ بِدَمٍ يَسِيرٍ.
فاختلف أهل اللغة فى كونها صيغة جمع أم مفرد على قولين:
القول الأول: صِيغَةُ أمْشاجٍ ظاهِرُها صِيغَةُ جَمْعٍ، وهو قول الفَرّاءُ وابْنُ السِّكِّيتِ والمُبَرَّدُ، فَهي إمّا جَمْعُ مِشْجٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ بِوَزْنِ عَدْلٍ، أيْ مَمْشُوجٍ، أيْ مَخْلُوطٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، وهَذا ما اقْتَصَرَ عَلَيْهِ في اللِّسانِ والقامُوسِ، أوْ جَمْعُ مَشَجٍ بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلَ سَبَبٍ وأسْبابٍ أوْ جَمْعُ مَشِجٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مِثْلَ كَتِفٍ وأكْتافٍ. وكانَ وصْفُ النُّطْفَةِ بِهِ بِاعْتِبارِ ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النُّطْفَةُ مِن أجْزاءٍ مُخْتَلِفَةِ الخَواصِّ، - فَلِذَلِكَ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ عُضْوًا - فَوَصَفَ النُّطْفَةَ بِجَمْعِ الِاسْمِ لِلْمُبالَغَةِ أيْ شَدِيدَةِ الِاخْتِلاطِ، وهَذِهِ الأمْشاجُ مِنها ما هو أجْزاءٌ كِيمْيائِيَّةٌ نَباتِيَّةٌ أوْ تُرابِيَّةٌ ومِنها ما هو عَناصِرُ قُوى الحَياةِ.
القول الثانى: أنَّ (أمْشاجٍ) مُفْرَدٌ، وهو قول الزمخشرى -صاحب الكشاف وتلميذ سيبويه-، قالَ: ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ أمْشاجُ جَمْعَ مَشِجٍ بَلْ هُما - أيْ مَشِجٌ وأمْشاجٌ - مِثْلانِ في الإفْرادِ، فَوَصْفُ نُطْفَةٍ بِهِ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى تَأْوِيلٍ.
وأما جواب المسألة الثالثة:
فاختلف أهل التفسير فى معنى كون النطفة مختلطة على أقوال:
القول الأول: أنَّهُ اخْتِلاطُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ بِنُطْفَةِ المَرْأةِ؛ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ الطّارِقِ: 7، وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ الحجرات: 13، وهو قول الأكْثَرُونَ:
-قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو اخْتِلاطُ ماءِ الرَّجُلِ وهو أبْيَضُ غَلِيظٌ، وماءِ المَرْأةِ وهو أصْفَرُ رَقِيقٌ، فَيَخْتَلِطانِ، ويُخْلَقُ الوَلَدُ مِنهُما، فَما كانَ مِن عَصَبٍ وعَظْمٍ وقُوَّةٍ فَمِن نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وما كانَ مِن لَحْمٍ ودَمٍ فَمِن ماءِ المَرْأةِ،
-قالَ الحَسَنُ: يَعْنِي مِن نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بِدَمٍ وهو دَمُ الحَيْضَةِ، وذَلِكَ أنَّ المَرْأةَ إذا تَلَقَّتْ ماءَ الرَّجُلِ وحَبَلَتْ أُمْسِكَ حَيْضُها فاخْتَلَطَتِ النُّطْفَةُ بِالدَّمِ.
القول الثانى: عُني بذلك: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم كسي لحما مِن نُطْفَةٍ ذاتِ أمْشاجٍ، فَحُذِفَ المُضافُ وتَمَّ الكَلامُ.
-ابن عباس، قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ الأمشاج: خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي النطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم أنشأه خلقا آخر فهو ذلك.
-عن عكرِمة، في هذه الآية ﴿أمْشاجٍ﴾ قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما.
-عن قتادة، قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم كسى الله العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، أنبت له الشعر.
القول الثالث: عُني بذلك: اختلاف ألوان النطفة
عن ابن عباس، في قوله: ﴿أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ يقول: مختلفة الألوان.
عن مجاهد ﴿أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ قال: ألوان النطفة؛ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة حمراء وخضراء.
القول الرابع: هي العروق التي تكون في النطفة
-عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه، عن عبد الله، قال: أمشاجها: عروقها.
- عن أُسامة بن زيد، عن أبيه، قال: هي العروق التي تكون في النطفة.
وقال الطبرى: "وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة؟ وأما الذين قالوا: إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة، وأحسب أن الذين قالوا: هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى.
وأما جواب المسألة الرابعة:
"نَبْتَلِيهِ" مَعْناهُ: نَخْتَبِرُهُ، وهو حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "خَلَقْنا"، كَأنَّهُ قالَ: مُخْتَبِرِينَ لَهُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾[الْمُلْكِ:2
قال الفراء ومقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير عنده: إنا خلقنا الإنسان سميعاً بصيراً من نطفة أمشاج لنختبره. وقد رُدَّ عليه هذا التقدير، لأن الفاء لا يقع معها التقديم والتأخير. ولأن الكلام تام بغير تقديم وتأخير، فلا يخرج عن ظاهره لغير علة. والابتلاء –على هذا التأويل- هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاد، وليس "نبتليه" حالا.
والرد على ما نحى إليه الفراء من وجوه، منها:
1- أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير لأنها تدلّ على التعقيب.
2- أن الإنسان إنما يُبتلى أي يُختبر ويُؤمر ويُنهى إذا كان سَوي العقل سواء كان سميعا بصيرا أو لم يكن كذلك، فالعقل مناط التكليف، وليس السمع والبصر.
3- أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال، وليس في الكلام لام كي، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه.
وكذلك قال الطبرى: "ولا وجه عندي لما قال يصحّ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات، وإن عُدم السمع والبصر، وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا في هذه الآية، فتذكير منه لنا بنعمه، وتنبيه على موضع الشكر؛ فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة، وسلامة العقل من الآفة، كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾."
وقول: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
"فَجَعَلْناهُ" عَطْفُ جُمْلَةٍ نِعَمٍ عَلى جُمْلَةِ نِعَمٍ، فجعلناه ذا سمع يسمع به، وذا بصر يبصر به، إنعاما من الله على عباده بذلك، ورأفة منه لهم، وحجة له عليهم، ويتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
وأما جواب المسألة الخامسة:
وسبب تخصيص السمع والبصر دون سواهما من الحواس: لكونهما كناية عن التمييز والفهم، كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم –عليه السلام-: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ مَرْيَمَ: 42، وهما أشرف الحواس، ولأنهما أصل تفكيره وتدبيره، و تُدرك بهما أعظم المُدركات، وقد يُراد بالسميع المطيع، كقوله: "سمعا وطاعة"، وبالبصير العالم، يُقال: فلان بصير فى هذا الأمر.
وجاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة، ولم يقل فجعلناه سامعا مبصرا، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلا وتمييزا فى المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقى الشرائع ودعوة الرسل، وبالبصر ينظر فى أدلة وجود الله تعالى وبديع صنعه، وهو ما ميز الله تعالى به الإنسان تجاه التكاليف والشرائع.
والله تعالى أعلى وأعلم.