تفسير قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
تفسير قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثّلثان ممّا ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذّكر مثل حظّ الأنثيين يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا واللّه بكلّ شيء عليم (176)
(إن امرؤ هلك ليس له ولد).
جاز مع " إن " تقديم الاسم قبل الفعل، لأن " إن " لا تعمل في الماضي.
ولأنها أمّ الجزاء. والنحويون يذهبون إلى أن معها فعلا مضمرا، الذي ظهر يفسره، والمعنى إن هلك امرؤ هلك.
وقوله: (يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا).
قيل: فيها قولان:
قال بعضهم: المعنى يبين اللّه لكم أن لا تضلوا فأضمرت لا.
وقال البصريون: إن " لا " لا تضمر، وإن المعنى: يبيّن الله لكم كراهة أن تضلوا، ولكن حذفت " كراهة "؛ لأن في الكلام دليلا عليها، وإنما جاز الحذف عندهم على أحد، قوله: (واسأل القرية) والمعنى واسأل أهل القرية، فحذف الأول جائز، ويبقى المضاف يدل على المحذوف، قالوا: فأما حذف " لا " وهي حرف جاء لمعنى النفي فلا يجوز، ولكن " لا " تدخل في الكلام مؤكدة، وهي لغو كقوله: (لئلّا يعلم أهل الكتاب ألّا يقدرون).
ومثله قول الشاعر:
وما ألوم البيض ألّا تسخرا=لما رأين الشمط القفندرا
المعنى وما ألوم البيض أن تسخر.
ومثل دخول " لا " توكيدا قوله عزّ وجلّ: (لا أقسم بيوم القيامة).
و (لا أقسم بهذا البلد).
فإن قال قائل: أفيجوز أن تقول لا أحلف عليك، تريد أحلف عليك؟.
قيل: " لا " لأن لا، إنما تلغى إذا مضى صدر الكلام على غير النفي، فإذا بنيت الكلام على النفي فقد نقضت الإيجاب، وإنما جاز أن تلغى " لا " في أول السورة؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ألا ترى أن جواب الشيء قد يقع وبينهما سور كما قال جلّ وعزّ جوابا لقوله: (وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنون (6).
فقال: (ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربّك بمجنون (2).
ومثله في القرآن كثير). [معاني القرآن: 2/137-138]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ فإن كانتا اثنتين فلهما الثّلثان ممّا ترك وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذّكر مثل حظّ الأنثيين يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (176)
تقدم القول في تفسير الكلالة في صدر السورة، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل، وبقي فيها من يتكلل، أي: يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلا فقال: ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر: ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليّ من الدنيا: الجد والكلالة، والخلافة، وأبواب من الربا، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتابا فمكث يستخير الله فيه ويقول. اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلما طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال: ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال: لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليّ من جزية قصور الشام. وقال طارق بن شهاب: أخذ عمر بن الخطاب كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا، فقال عمر: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه،
وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال: إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال: تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن، وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال: ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف وإن كان رجلٌ يورث كلالةً [النساء: 12] إلى آخر الآية.
قال القاضي رحمه الله: هذا هو الظاهر، لأن البراء بن عازب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة وقال كثير من الصحابة: هي من آخر ما نزل، وقال جابر بن عبد الله: نزلت بسببي، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله: كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي والد ولا ولد؟ فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكفيك منها آية الصيف، بيان فيه كفاية وجلاء، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم: الكلالة الميت نفسه، وقال آخرون الكلالة المال، إلى غير ذلك من الخلاف، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختا، فلها النصف فرضا مسمى بهذه الآية، فإن ترك الميت بنتا وأختا، فللبنت النصف، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته: ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال، أنزلها الله في أولي الأرحام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ». وقوله تعالى أن تضلّوا معناه: كراهية أن تضلوا، وحذر أن تضلوا فالتقدير. لئلا تضلوا، ومنه قول القطامي في صفة ناقة: [الوافر].
رأينا ما يرى البصراء منها = فآلينا عليها أن تباعا
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي). [المحرر الوجيز: 3/76-79]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ فإن كانتا اثنتين فلهما الثّلثان ممّا ترك وإن كانوا إخوةً رجالا ونساءً فللذّكر مثل حظّ الأنثيين يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (176)}.
قال البخاريّ: حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء قال: آخر سورةٍ نزلت: "براءةٌ"، وآخر آيةٍ نزلت: {يستفتونك}.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن محمّد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد اللّه قال: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنا مريضٌ لا أعقل، قال: فتوضّأ، ثمّ صبّ عليّ -أو قال صبّوا عليه -فعقلت فقلت: إنّه لا يرثني إلّا كلالةٌ، فكيف الميراث؟ قال: فنزلت آية الفرائض.
أخرجاه في الصّحيحين من حديث شعبة، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابرٍ، به. وفي بعض الألفاظ: فنزلت آية الميراث: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة} الآية.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد، حدّثنا سفيان وقال ابن الزّبير قال -يعني جابرًا -: نزلت فيّ: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة}.
وكأنّ معنى الكلام -واللّه أعلم- {يستفتونك}: عن الكلالة قل: اللّه يفتيكم فيها، فدلّ المذكور على المتروك.
وقد تقدّم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنّها مأخوذةٌ من الإكليل الّذي يحيط بالرّأس من جوانبه؛ ولهذا فسّرها أكثر العلماء: بمن يموت وليس له ولدٌ ولا والدٌ، ومن النّاس من يقول: الكلالة من لا ولد له، كما دلّت عليه هذه الآية: {إن امرؤٌ هلك} [أي مات] {ليس له ولدٌ}.
وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، كما ثبت عنه في الصّحيحين أنّه قال: ثلاثٌ وددت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان عهد إلينا فيهنّ عهدًا ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وأبوابٌ من أبواب الرّبا.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة قال: قال عمر بن الخطّاب: ما سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ أكثر ممّا سألته عن الكلالة، حتّى طعن بأصبعه في صدري وقال: " يكفيك آية الصّيف الّتي في آخر سورة النّساء".
هكذا رواه مختصرًا وقد أخرجه مسلمٌ مطوّلًا أكثر من هذا.
طريقٌ أخرى: قال [الإمام] أحمد: حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا مالك -يعني ابن مغل-سمعت الفضل بن عمرٍو، عن إبراهيم، عن عمر قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكلالة، فقال: " يكفيك آية الصّيف ". فقال: لأن أكون سألت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عنها أحبّ إليّ من أن يكون لي حمر النّعم. وهذا إسنادٌ جيّدٌ إلّا أنّ فيه انقطاعًا بين إبراهيم وبين عمر، فإنّه لم يدركه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا أبو بكرٍ، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازبٍ قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن الكلالة، فقال: " يكفيك آية الصّيف ". وهذا إسنادٌ جيّدٌ، رواه أبو داود والتّرمذيّ من حديث أبي بكر بن عيّاش، به. وكأنّ المراد بآية الصّيف: أنّها نزلت في فصل الصّيف، واللّه أعلم.
ولمّا أرشده النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تفهّمها -فإنّ فيها كفايةً-نسي أن يسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن معناها؛ ولهذا قال: فلأن أكون سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها أحبّ إليّ من أن يكون لي حمر النّعم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيعٍ، حدّثنا جريرٌ عن الشّيبانيّ، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيّب قال: سأل عمر بن الخطّاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكلالة، فقال: " أليس قد بيّن اللّه ذلك؟ " فنزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة]} الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق [رضي اللّه عنه] قال في خطبته: ألا إنّ الآية الّتي أنزلت في أوّل "سورة النّساء" في شأن الفرائض، أنزلها اللّه في الولد والوالد. والآية الثّانية أنزلها في الزّوج والزّوجة والإخوة من الأمّ. والآية الّتي ختم بها "سورة النّساء" أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأمّ، والآية الّتي ختم بها "سورة الأنفال" أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه، ممّا جرّت الرّحم من العصبة. رواه ابن جريرٍ.
ذكر الكلام على معناها وباللّه المستعان، وعليه التّكلان:
قوله تعالى: {إن امرؤٌ هلك} أي: مات، قال اللّه تعالى: {كلّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} [القصص: 88] كلّ شيءٍ يفنى ولا يبقى إلّا اللّه، عزّ وجلّ، كما قال: {كلّ من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26، 27].
وقوله: {ليس له ولدٌ} تمسّك به من ذهب إلى أنّه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو روايةٌ عن عمر بن الخطّاب، رواها ابن جريرٍ عنه بإسنادٍ صحيحٍ إليه. ولكنّ الّذي رجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصّدّيق: أنّه من لا ولد له ولا والد، ويدلّ على ذلك قوله: {وله أختٌ فلها نصف ما ترك} ولو كان معها أبٌ لم ترث شيئًا؛ لأنّه يحجبها بالإجماع، فدلّ على أنّه من لا ولد له بنصّ القرآن، ولا والد بالنّصّ عند التّأمّل أيضًا؛ لأنّ الأخت لا يفرض لها النّصف مع الوالد، بل ليس لها ميراثٌ بالكلّيّة.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا الحكم بن نافعٍ، حدّثنا أبو بكر بن عبد اللّه، عن مكحول وعطيّة وحمزة وراشدٍ، عن زيد بن ثابتٍ: أنّه سئل عن زوجٍ وأختٍ لأبٍ وأمٍّ، فأعطى الزوج النصف والأخت النصف. فكلّم في ذلك، فقال: حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قضى بذلك.
تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وقد نقل ابن جريرٍ وغيره عن ابن عبّاسٍ وابن الزّبير أنّهما كانا يقولان في الميّت ترك بنتًا وأختًا: إنّه لا شيء للأخت لقوله: {إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك} قال: فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا، فلا شيء للأخت، وخالفهما الجمهور، فقالوا في هذه المسألة: للبنت النّصف بالفرض، وللأخت النّصف الآخر بالتّعصيب، بدليلٍ غير هذه الآية وهذه نصب أن يفرض لها في هذه الصّورة، وأمّا وراثتها بالتّعصيب؛ فلما رواه البخاريّ من طريق سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قضى فينا معاذ بن جبلٍ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: النّصف للابنة، والنّصف للأخت. ثمّ قال سليمان: قضى فينا ولم يذكر: على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وفي صحيح البخاريّ أيضًا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعريّ عن ابنةٍ وابنة ابنٍ وأختٍ، فقال: للابنة النّصف، وللأخت النّصف، وأت ابن مسعودٍ فسيتابعني. فسئل ابن مسعودٍ -وأخبر بقول أبي موسى-فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم للابنة النّصف، ولابنة الابن السّدس، تكملة الثّلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعودٍ، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
وقوله: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ} أي: والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالةً، وليس لها ولدٌ، أي: ولا والد؛ لأنّه لو كان لها والدٌ لم يرث الأخ شيئًا، فإن فرض أنّ معه من له فرضٌ، صرف إليه فرضه؛ كزوجٍ، أو أخٍ من أمٍّ، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصّحيحين، عن ابن عبّاسٍ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجلٍ ذكر".
وقوله: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثّلثان ممّا ترك} أي: فإن كان لمن يموت كلالةً، أختان، فرض لهما الثّلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات، في قوله: {فإن كنّ نساءً فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك}.
وقوله: {وإن كانوا إخوةً رجالا ونساءً فللذّكر مثل حظّ الأنثيين}. هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم، أعطي الذّكر مثل حظ الأنثيين.
وقوله: {يبيّن اللّه لكم} أي: يفرض لكم فرائضه، ويحدّ لكم حدوده، ويوضّح لكم شرائعه.
وقوله: {أن تضلّوا} أي: لئلّا تضلّوا عن الحقّ بعد البيان. {واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: هو عالمٌ بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقّه كلّ واحدٍ من القرابات بحسب قربه من المتوفّى.
وقد قال أبو جعفر ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثني ابن عليّة، أنبأنا ابن عون، عن محمّد بن سيرين قال: كانوا في مسيرٍ، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة. قال: ونزلت: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة} فلقّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حذيفة، فلقّاها حذيفة عمر، فلمّا كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال: واللّه إنّك لأحمق إن كنت ظننت أنّه لقّانيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلقّيتكها كما لقّانيها، واللّه لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا. قال: فكان عمر [رضي اللّه عنه] يقول: اللّهمّ إن كنت بيّنتها له فإنّها لم تبين لي.
كذا رواه ابن جريرٍ. ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرّزّاق، عن معمر، عن أيّوب، عن ابن سيرين كذلك بنحوه. وهو منقطعٌ بين ابن سيرين وحذيفة، وقد قال الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن عمرٍو البزّار في مسنده: حدّثنا يوسف بن حمّادٍ المعنيّ، ومحمّد بن مرزوقٍ قالا: أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدّثنا هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه: "نزلت الكلالة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في مسيرٍ له، فوقف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وإذا هو بحذيفة، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مؤتزر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلقّاها إيّاه، فنظر حذيفة فإذا عمر، رضي اللّه عنه، فلقّاها إيّاه، فلمّا كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة، فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة: لقد لقّانيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلقّيتك كما لقّاني، واللّه إنّي لصادقٌ، وواللّه لا أزيد على ذلك شيئًا أبدًا.
ثمّ قال البزّار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلّا حذيفة، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلّا هذا الطّريق، ولا رواه عن هشامٍ إلّا عبد الأعلى. وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدّثنا جريرٌ، عن الشّيباني، عن عمرو بن مرّة، عن سعيدٍ -[هو] ابن المسيّب-أنّ عمر سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كيف يورّث الكلالة؟ قال: فأنزل اللّه {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة]} الآية، قال: فكأنّ عمر لم يفهم. فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفسٍ فسألته عنها، فقال: "أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها". قال: وكان عمر يقول: ما أراني أعلمها، وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما قال.
رواه ابن مردويه، ثمّ رواه من طريق ابن عيينة، عن عمرٍو، عن طاوسٍ: أنّ عمر أمر حفصة أن تسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكلالة، فأملاها عليها في كتفٍ، فقال: "من أمرك بهذا؟ أعمر؟ ما أراه يقيمها، أوما تكفيه آية الصّيف؟ " قال سفيان: وآية الصّيف الّتي في النّساء: {وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ}، فلمّا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نزلت الآية الّتي هي خاتمة النّساء، فألقى عمر الكتف. كذا قال في هذا الحديث، وهو مرسلٌ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عثّام، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهابٍ قال: "أخذ عمر كتفًا وجمع أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ قال: لأقضينّ في الكلالة قضاءً تحدّث به النّساء في خدورهنّ. فخرجت حينئذٍ حيّة من البيت، فتفرّقوا، فقال: لو أراد اللّه، عزّ وجلّ، أن يتمّ هذا الأمر لأتمّه. وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وقال الحاكم أبو عبد اللّه النّيسابوري: حدّثنا عليّ بن محمّد بن عقبة الشّيباني بالكوفة، حدّثنا الهيثم بن خالدٍ، حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدّث عن عمر بن الخطّاب قال: لأن أكون سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ثلاثٍ أحبّ إليّ من حمر النّعم: من الخليفة بعده؟ وعن قومٍ قالوا: نقرّ في الزّكاة من أموالنا ولا نؤدّيها إليك، أيحلّ قتالهم؟ وعن الكلالة. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه. ثمّ روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مرّة، عن مرة، عن عمر قال: ثلاثٌ لأنّ يكون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بيّنهنّ لنا أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والرّبا. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرجاه.
وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال: سمعت سليمان الأحول يحدّث، عن طاوسٍ قال: سمعت ابن عبّاسٍ قال: كنت آخر النّاس عهدًا بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت: قلت: وما قلت؟ قال: قلت: الكلالة، من لا ولد له. ثمّ قال: صحيحٌ على شرطهما ولم يخرجاه.
وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالحٍ، عن عمرو بن دينارٍ وسليمان الأحول، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: كنت آخر النّاس عهدًا بعمر بن الخطّاب، قال: اختلفت أنا وأبو بكرٍ في الكلالة، والقول ما قلت. قال: وذكر أنّ عمر شرك بين الإخوة للأب وللأمّ، وبين الإخوة للأمّ في الثّلث إذا اجتمعوا، وخالفه أبو بكرٍ، رضي اللّه عنهما.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيعٍ، حدّثنا محمّد بن حميد المعمري، عن معمر عن الزّهري، عن سعيد بن المسيّب: أنّ عمر كتب في الجدّ والكلالة كتابًا، فمكث يستخير اللّه فيه يقول: اللّهمّ إن علمت فيه خيرًا فأمضه، حتّى إذا طعن دعا بكتابٍ فمحي، ولم يدر أحدٌ ما كتب فيه. فقال: إنّي كنت كتبت في الجدّ والكلالة كتابًا، وكنت استخرت اللّه فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه.
قال ابن جريرٍ: وقد روي عن عمر، رضي اللّه عنه، أنّه قال: إنّي لأستحي أن أخالف فيه أبا بكرٍ. وكأنّ أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، يقول: هو ما عدا الولد والوالد.
وهذا الّذي قاله الصّدّيق عليه جمهور الصّحابة والتّابعين والأئمّة، في قديم الزّمان وحديثه، وهو مذهب الأئمّة الأربعة، والفقهاء السّبعة. وقول علماء الأمصار قاطبةً، وهو الّذي يدلّ عليه القرآن، كما أرشد اللّه أنّه قد بيّن ذلك ووضّحه في قوله: {يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}). [تفسير القرآن العظيم: 2/482-487]
* للاستزادة ينظر: هنا