بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:"فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" 209\البقرة
فهذه محاولة للإبحار في معاني هذه الآية الكريمة وبيان بعض ما جاء فيها من بلاغة القرآن الذي قال الله تعالى عنه:"وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" الساء\82
فقوله تعالى:"فإن": الفاء استئنافية, و" إن" شرطية جازمة, ومعلوم إن "إن" الشرطية تستعمل في المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها, فهي على هذا تكون نادرة وتقريبا مستحيلة, والخطاب في الآية السابقة لهذه الآية موجه لل"الذين آمنوا", وفي هذا إشارة إلى إن الأصل عدم وقول الزلل من المؤمنين, فهم ليسوا كغيرهم, وإن حصل فهو نادر, وإن حصل يرجع المؤمن إلى ربه منيبا تائبا, ويأتي بالحسنات الماحيات لهذا الزلل.
وقوله تعالى:"زللتم" وأصل الزلل في القدم ، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك, جاء في لسان العرب: زَلَّ السَّهْمُ عن الدِّرْع، والإِنسانُ عن الصَّخْرة, ومَزِلَّة: زَلِقَ، وأَزَلَّهُ عنها.
وزَلَلْتَ يا فلان تَزِلُّ زَلِيلاً إِذا زَلَّ في طِين أَو مَنْطِق.
وزَلَّ في الطين زَلاًّ وزَلِيلاً وزُلُولاً؛ هذه الثلاثة عن اللحياني؛ وزَلَّت قَدَمُه زَلاًّ وزَلَّ في مَنْطِقه زَلَّةً وزَلَلاً. التهذيب: إِذا زَلَّت قَدَمُه قيل زَلَّ، وإِذا زَلَّ في مَقالٍ أَو نحوه قيل زَلَّ زَلَّة، وفي الخَطيئة ونحوها.
والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة : زلت قدمه ; كقول الشاعر :
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا *** وتقتل إن زلت بك القدمان
وقد قال تعالى في آية أخرى:"فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا", فالزلل هنا يشمل جميع ما قد يقع فيه العبد من قول أو عمل, سواء كان قول للقلب أو للسان, أو عمل للقلب أو للجوارح, فالزلل يشملها جميعها, فالزلل والانحراف قد يكون كبيرا وقد يكون صغيرا, والجميع زلل, وهذا ليتنبه العبد لما يصدر منه, خاصة محقرات الذنوب التي لا يلقي لها بالا فتكون وبالا عليه من حيث لا يدري, فيجتنب الكبائر لما جاء فيها من الوعيد, ويتوقى الصعائر, فالانحراف عن الصراط المستقيم يبدأ صغيرا ثم ما يلبث أن يزداد توسعا وميلا عن الصراط, فيجدر بالعبد أن يتحرز مما كان من جنس المشتبهات بالنسبة إليه, كما قال عليه الصلاة والسلام, فيما رواه سبطه الحسن عنه:"دع ما يريبك إلى مالا يريبك"رواه النسائي وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
قوله تعالى:"من بعد ما جائتكم البينات": مجيئ الأمر: تحققه ووقوعه وظهوره, وجاء في معنى ب"ان" في لسان العرب:بان الشيء واستبان وتبين وأبان وبين بمعنى واحد ، ومنه قوله تعالى : آيات مبينات ، بمعنى متبينات ، ويقال : استبنت الشيء إذا تأملته حتى تبين لك .ويقال : تبينت الأمر أي : تأملته وتوسمته ، وقد تبين الأمر يكون لازما وواقعا ، وكذلك بينته فبين أي : تبين...
وجاءت كلمة "البينات" جمع محلى بأل, فدلت على شمولها لعموم هذا الأدلة الواضحات البينات, فيدخل فيها الأدلة العقلية والأدلة السمعية, أما الأدلة العقلية: فبما اعطاه الله للإنسان من عقل, وبما فطره عليه من التوحيد, وبما بث من آيات باهرات في نفس العبد وفيما حوله من سموات وأرض, والجميع يشهد على وحدانيته سبحانه, وحدانيته في ربوبيته, فلا يعقل العقل السليم وجود خالقين لهذا الكون, فهذا من المحالات العقلية, لكن لما انتكست فطرة العبيد انحرفوا عن التوحيد وعمدوا إلى الشرك, فأشركوا مع الله الهوى والطواغيت التي عبدوها وتعددت اشكالها, أما الفطرة السليمة فهي كما قال تعالى:" فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"الروم\30, وقد قال عليه الصلاة والسلام, في الحديث الذي رواه مسلم:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله", فوضع فيهم سبحانه حب التوحيد واستحسانه, وبغض الشرك واستقباحه.
وأما الأدلة السمعية: فهي جميع الايات الواضحات الدالات على الصراط المستقيم الموصل إلى الله سبحانه وتعالى, وجنته, من بعثة النبي عليه الصلاة والسلام, وجميع ما جاء به من معجزات, والقرآن وبيانه, وفرقانه بين الحق والباطل, قال تعالى فيه:"يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174], وقال:"﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [البقرة: 99], وجميع ما جاء فيه من الأحكام, والأخلاق, والآداب, والأوامر والنواهي.
فهذه البينات من الله سبحانه موجبة لاجتماع الناس على الأسلام, وموجبة لثباتهم على الصراط المستقيم, فمفهوم الآية دال على أن من استعملها وعمل بها بعد تيقنه بها, فهي له عاصم من الزلل, وهي له ركن شديد يلجا إليه هاربا من المزالق, لذلك كانت لمن أخذ بها ثباتا له في سيره على صراط الدنيا, وثباتا له في الآخرة على الصراط الذي أتي في وصفه إنه:" مدحضةٌ مزلة".
وفي قوله تعالى "من بعد ما جاءتكم البينات" إشارة إلى التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد, وبين وهداية التوفيق التي هي خاصة بالله عز وجل, وهذا من بلاغة القرآن, فقد ذكر احتمال الزلل منهم, مع وصول البينات إليهم, ومعرفتهم بها, وفي هذا دليل على أن معرفة الحق والتيقن به لا تكفي لاتباعه, لذلك كان دعاء سورة الفاتحة:"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7), ففيها تعوذ بالله أن يكون سبيلنا ومسلكنا مسلك القوم المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وتيقنوه ولم يُرزقوا اتباعه, ومسلك الضالين الذين جهلوا الحق ولم يتبين لهم, فكلاهما زل عن الطريق وانحرف.
وفي قوله:"من بعد" إشارة إلى أن من زل بعدما علم أسوء حالا ممن زل عن جهل, فالأول لا حجة له ولا عذر, بل قد اقام الله عليه الحجة بهذه الآية وغيرها, فلا يقول ويدعي بأن "مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ" المائدة\19.
كذلك عقوبة العالم بالأمر تختلف عن عقوبة الجاهل به, بل قد يعذر الجاهل ويسقط عنه الإثم والعقوبة, لذلك قال تعالى فيمن اتخذ إلهه هواه:"وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ" وقد قال ابن كثير فيها:وقوله : ( وأضله الله على علم ) يحتمل قولين :
أحدهما : وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .
كذلك في قوله تعالى:""من بعد ما جاءتكم البينات" إشارة إلى إن الثواب والعقاب متعلق بقيام الحجة على العبد, وعلمه بما أرسل الله به الرسل, وبما دلت عليه الكتب, بحيث يتوضح له الأمر, لذلك قال تعالى:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" الإسراء|15
قوله تعالى:"فاعلموا": الفاء رابطة لجواب الشرط , "اعلموا" فعل أمر مبني على حذف النون, والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط, ومعلوم أن شرط الجواب الإفادة, لذلك وجب أن يكون جواب الشرط مغايرا للشرط لفظا ومعنى، وهي هنا في مقام الوعيد والتهديد لذلك ختم الآية باسميه العظيمين: العزيز والحكيم.
فالعزيز يتضمن ثلاث معان:
1- عزة القوة.
2- عزة الامتناع, كما قال القرطبي:"العزيز معناه المنيع، الذي لا ينال، ولا يغالب"
3- عزة القهر, كما قال ابن كثير:"الذي عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته، وعظمته، وجبروته، وكبريائه".
ففيه تذكير بقدرة الله على عبيده, فلا شيء يمنعهم منه سبحانه, ولا مانع لعقابه لهم, ولا ملجأ لهم ولا نصير منه سبحانه.
أما الحكيم فله معنيان:
1-الحاكم الذي له الحكم المطلق الكامل من جميع الوجوه، يحكم على عباده بقضائه وقدره، ويحكم بينهم بدينه وشرعه، ثم يوم القيامة يحكم بينهم .
2-ذو الحكمة، والحكمة وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.
والحكمة تقتضي أن ينال الظالم ما استحقه من عقاب عى سوء فعله, كما إنها تقتضي أن ينال المحسن ثواب ما استقامته على شرع الله سبحانه وتعالى, ففي هذا الاسم دلالة على معرفة الله المحسن من المسيء وعلى حتمية وصول العقاب للظالم ووصول الثواب للمحسن.
وهو الحكيم فيما ارسل من بينات باهرات, ومتى ما علم العبد بأنها منه سبحانه, خضع لها قلبه, واستجابت جوارحه واستقامت على ما جاء من عند الله تعالى.
وقد كانت لختم الآية بهذين الاسمين الجليلين أبلغ الأثر في التهديد وتخويف العبد من العقاب, ولو جاء ذكر العقاب مفصلا في الآية لما كان له هذا الأثر البالغ في تخويف القلوب وتهديد النفوس بما سيصيبها إن هي وقعت فيما نهى الله عنه من الزلل, وهي كقول القائل لمن يتوعده: فإن فعلتها فاعلم أن لا شيء يخرج عن قدرتي, أو تهديد الأب لابنه بما يعلمه من خصال القسوة والشدة التي اعتادها الابن منه. فيقول له: إن فعلت هذا فأنت بي عليم.
لذلك ذكر القرطبي في تفسيره: "حكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن ، فأقرأه الذي كان يعلمه " فاعلموا أن الله غفور رحيم " فقال كعب : إني لأستنكر أن يكون هكذا ، ومر بهما رجل فقال كعب : كيف تقرأ هذه الآية ؟ فقال الرجل : فاعلموا أن الله عزيز حكيم فقال كعب : هكذا ينبغي ؛ " عزيز " لا يمتنع عليه ما يريده ، " حكيم " فيما يفعله"
وجاء في الآية تقديم العزة على الحكمة لأن السياق سياق تهديد ووعيد, كما في قوله تعالى:"إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم"المائدة \118, والكلام في قوله تعالى: "فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" عن قدرة الله المطلقة عليهم, وبيان خضوع جميع المخلوقات له سبحانه, فهو سبحانه لا يغلبه شيئ, وعزته هي كذلك عن حكمة, فليس كل عزيز حكيم, وليس كل حكيم عزيز, لكن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فلا يقع الظلم في أفعاله سبحانه وتعالى, أما عزيز البشر فقد تأخذه العزة بالإثم فيقع منه الظلم ولو على اقرب الخلق إليه, وكذلك حكمته مقرونة بالعز الكامل, أما المخلوق فقد يعتريه الذل ولو كان عزيزا.
والفعل "جاءكم" جاء في القرآن الكريم مذكرا ومؤنثا مع الفاعل "البينات" حسب اقتضاء المعنى, وبحسب المراد من "البينات" هل هو مذكر أم مؤنث، وقد جاء في هذه الآية تأنيث الفعل "جاءكم" لأن الفاعل مؤنث "البينات", ومعناها في الآية: الحجج والبراهين الواضحات، بينما جاء مذكرا مع "البينات" في قوله تعالى:"كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين" آل عمران\86 فالمراد بالبينات في هذه الآية: القرآن الكريم، فجاء الفعل مذكرا لأن ما دل عليه الفاعل "البينات" كان مذكرا, وكذلك في قوله تعالى:"ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم"آل عمران\ 105، جاء الفعل "جاءهم" مذكرا لأن الفاعل "البينات" تعنى الكتاب, والكتاب مذكر فجاء الفعل تبعا له.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
------------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن\ للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري.
- التفسير الكبير\ لفخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين.
- الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان\ لمؤلفه أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
- تفسير القرآن العظيم \ للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المعروف بابن كثير.
- لسان العرب لابن منظور.
- التحرير والتنوير, لمحمد الطاهر ابن عاشور.
- إعْرَابُ القرْآن الكريم\ قاسم حميدان دعاس.