بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة تفسيرية في قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: ١٥ )
هذه الآية الكريمة غنية بالفوائد، وإنما كتبت ما امتّن الله به عليّ من فتح وتيسير، فما جانب الصواب فمني.
الآية مقسمة إلى ثلاث جمل، فأما الجملة الأولى وهى جملة خبرية حيث قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾، حيث يُعلم الله تعالى خلقه بأنه هو الذي سخر هذه الأرض لهم بأوضح بيان، وقد جعلها ذلولا:أي سهلة لينة.وفي هذه الجملة فوائد منها:
1. امتنان الله على عباده، بأن جعل لهم الأرض فقال:
﴿ جَعَلَ لَكُمُ ﴾ وهذ نظيره قول الله تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ ، فعلى العبد استشعار منة الله عليه بأن جعل هذه الأرض على كبرها وعظم خلقها مُيسرة له مذللة، وما خُلق فيها إنما خُلق ليكون عوناً للإنسان في حياته.
2.وجوب تعظيم ومحبة العبد لربه الذي جعل له التيسير في كل شأنه، فمثلا في أموره التعبدية جعل له التيمم بديلا للوضوء في أحوال، وذلك تيسيرا عليه، وقد قال تعالى:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ ، وفي أمور العبد الدنيوية جعل له الأرض ممهدة سهلة ليبني عليها ويُشيّد، ويتحرك فيها بيسر.
3.وجوب تحقيق إخلاص العبد لله عز وجل، فمن باب الإنعام لا منعم سوى الله، وقد بلغت نعمُه في العظمة منتهاها، ومن باب الكمال فلا مستحق للعبادة سواه لأن له الكمال المطلق.
4.اعتياد العبد للنعمة قد ينسيه شُكرها، فالإنسان يمشي على الأرض بيسر وسهولة، قد جُعلت مفاصله لينة تواكب حركته، وتناسب عبادته، وقد قال تعالى:
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾، فوجب على العبد أن يُديم التفكر في نعم الله واستحضارها ليديم شكر الله.
5. استحضار معاني أسماء الله الحسنى التي تضمنتها هذه الجملة بما حملت من معانٍ، كاسم الله الخالق وهو يتعلق بصفة الربوبية، فمن كان خالقا فهو المستحق أن تُصرف له العبادة وحده.
6. اشتمال القرآن على أهم موضوع وهو التعريف بالله سبحانه وتعالى وأفعاله، فمن أراد معرفة ربه والتعلم عن صفاته وأفعاله فليقرأ القرآن بتدبر.
﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾:
وهذه الجملة الثانية في هذه الأية الكريمة، وهى جملة طلبية فيه أمر على وجه الإباحة ومن فوائدها:
7.أن الفاء أفادت التعقيب، فبعد الإخبار بأن الأرض قد جُعلت للعباد، جاء الأمر بالسعي فيها والأكل منها للدلالة على كونها نعمة.
8.الأمر
﴿ فَامْشُوا ﴾ و
﴿كُلُوا ﴾:للإباحة، ومن نظر فيما أباحه الله للعباد وجد أغلب الأشياء مباحة، وأن ما حُرّم فهو قليل جدا، وضرره بيّن واضح.
9.جواز السعي في الأرض والسفر طلبا للرزق، ومتى سعى الإنسان وجد التيسر.
10. "مناكبها" ما قيل فيها من كلام المفسرين انحصر في معنيين الأول: جبالها، والثاني: نواحيها وأطرافها، وعلى كل فالأمر بالمشي دلالة على أن الأرض ذُللت للسعي فيها.
11.
﴿ وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾، فالرزق رزق الله، والواجب على العبد أن ينسب كل نعمة للمنعم،
وبعض الناس قد انغمس في الماديات فنسى أن المنعم وتعلق بالأسباب.
12.لطف الله بعباده ورحمته بهم، فهو الذي خلق العباد وخلق لهم ما ينفعهم، ودلهم على ما يُقيم حياتهم.
13.التوكل على الله وحده فهو الرزاق، وألا يخشى العبد أن يفوته الرزق، لأنه بيد الله.
14.من تيسير الله على خلقه أن جعل رزقهم في متناول أيديهم يخرج لهم من الأرض، وهو كثير متنوع ليناسبهم اختلاف أذواقهم.
15.وجوب طاعة العبد لربه، فهو يعيش على أرضه، ويأكل من رزقه، فكيف يعصيه.
﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
وهذه هى خاتمة الآية الكريمة، وهى جملة خبرية، ومناسبتها لما قبلها للدلالة على أن مرجع الخلق جميعا إليه.
16.والنشور هو البعث بعد الموت، استعداداً للحساب، وفيه تذكير أن المرد في الآخرة إلى الله تعالى.
17.
﴿ وَإِلَيْهِ﴾: أسلوب حصر ، بأن جعل الأمر في الآخرة إليه وحده، وفيه تنبيه على وجوب شكره وإخلاص العبادة له وحده.
18. استدلال بأفعال الربوبية فهو الذي خلق الأرض، وذلل طرقها ونواحيها، وأخرج الرزق لعباده، على الألوهية، بوجوب إفراده بالعبادة.
19.وهذه الآية لها نظائر كثيرة تؤكد معناها في القرآن الكريم فقد قال تعالى:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى:
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
الحمد لله رب العالمين
----------------------------
المصادر: تفسير ابن جرير، وتفير ابن عاشور، وتفسير السعدي، وتفسير ابن الجوزي، وتفسير البقاعي، وتفسير ابن عطية، وتفسير الشنقيطي.