بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1)}، هذه الآية من سورة البينة أشكلت على كثير من العلماء، وحصل في كلام كثير منهم اضطراب، وفي ذلك يقول الواحدي في التفسير البسيط: (هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبّط فيها الكبار من العلماء.).
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: ( استصعب في كلام المفسّرين تحصيلُ المعنى المُستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصلًا يُنتزع من لفظها ونظمها.)، ثم نقل كلامًا للرازي في بيان وجه هذا الإشكال، نورده هنا مع ما زاد عليه ابن عاشور من التعليق والإضافة.
بيان وجه الإشكال في الآية:
الأول: أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البيّنة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذف متعلّق منفكين لدلالة الكلام عليه؛ إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كُفرهم حتى تأتيهم البيّنة التي هي الرّسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنّ كلمة (حتى) لانتهاء الغاية؛ وهذا يقتضي أن إتيان البيّنة المفسّرة بـ (رسولٌ من الله) هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كُفرهم؛ أي فعند إتيان البينة يكونون منفكّين عن كُفرهم.
ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجئ الرسول عليه الصلاة والسلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر.
الثاني: أن المشاهدة دلّت على أنّ الذين كفروا لم ينفكّوا عن الكُفر في زمنٍ ما، وأنّ نصب المُضارع بعد حتى يُنادي على أنه منصوب بـ (أنْ) مضمرة بعد حتى، فيقتضي أن إتيان البيّنة مستقبل وذلك لا يستقيم؛ فإن البيّنة فسّرت بـ (رسولٌ من الله) وإتيان الرسولِ وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كُفرهم، وهؤلاء على شركهم.
جواب الإشكال:
ذكر الرازي وابن عاشور في تفسيريهما وجوهًا سلكها أهل التفسير في الجواب عن هذا الإشكال، نوردها هنا:
الوجه الأول: قالوا: قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1)} مذكور حكاية عنهم؛ أي أن الكفار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه.
ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرّقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلا مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم.
فحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد: وهو أن قوله : {لم يكن الذين كفروا ...} مذكور حكاية عنهم، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...}هو إخبار عن الواقع، والمعنى: أن الذي وقع كان على خلاف ما ادّعوا.
وهذا الجواب ذكره الزمخشري ثم نقله الرّازي وعدّه من أحسن الوجوه في جواب هذا الإشكال وزاد عليه من شرحه وتعليقه، وذكره ابن عاشور وعزاه إلى الفراء ونفطويه والزمخشري.
الوجه الثاني: أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البيّنة، ذكره الرازي وعزاه إلى القاضي، وذكره ابن عاشور دون نسبة.
ثم أعلّ الرازي هذا الوجه بقوله: أن تأويل حتى بهذا ليس من اللغة في شيء.
الوجه الثالث: أننا لا نحمل قوله (منفكين) على الكفر، بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة؛ أي حتى أتتهم، والمعنى: أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه والبشارة بنبوته والشهادة له بالصدق تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرّقوا فيه.
ونظير هذا قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}، ذكر ذلك الرازي وابن عاشور وعزاه لا بن كيسان.
وقيل: منفكين عن الحياة؛ أي هالكين، ذكره ابن عاشور وعزاه إلى بعض اللغويين.
الوجه الرابع: أن يؤوّل معنى منفكين بمعنى الخروج عن إمهال الله إيّاهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، ذكره ابن عاشور وعزاه لابن عطية.
وهذا الوجه يظهر اتفاقه مع القول الذي رجّحه شيخ الإسلام وذكر أن ابن عطية وجّه ذلك وقوّاه، وهو ما يكون فيه (منفكين) بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين.
الوجه الخامس: تأويل رسول بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صُحفًا من عند الله، فهو في معنى قوله تعالى: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ} [النِّسَاء:153]، ذكره الرازي وعزاه لأبي مسلم، وذكره ابن عاشور وقال: وهذا الوجه يقتضي صرف الخبر إلى التهكّم.
الوجه السادس: وهو أن الله تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجئ الرسول، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا كان؛ لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر، بل تفرّقوا فمنهم من صار مؤمنًا، ومنهم من صار كافرًا، ولمّا لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجئ الرسول كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى، ذكره الرازي وابن عاشور وعزاه للرازي وأبي حيان.
الوجه السابع: وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم منفكين عن التردد في كفرهم، بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فاضطربت الخواطر والأفكار، وتشكّك كل أحدٍ في دينه ومذهبه ومقالته.
فالمعنى: أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما نفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة، ذكره الرازي.
الوجه الثامن: أن من المفسرين من جعل هذه الآية حكمها فيمن آمن من الفريقين، وأن قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...} حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج، وهذا إنما ذهب إليه البغوي والواحدي في تفسيرهما للآية.
ولكن شيخ الإسلام ضعّف هذا الوجه وردّه بأن أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما أخبر الله تعالى بذلك في غير موضع من كتابه، قال تعالى: {وآتيناهم بيّنات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ..}، فكان الاختلاف قبل وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الوجوه التي سلكها المفسرون في الجواب عن أوجه هذ الإشكال إنما ترجع إلى ثلاث طرق:
الأولى: طريقة صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وسلك ذلك من المفسرين من قال بالوجه الأول.
الثانية: إبقاء الخبر على ظاهر استعماله، مع صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها، وهذا سلكه من المفسرين من قال بالوجه الثاني والثالث والرابع والخامس.
الثالثة: من جعل حل التعارض الظاهر بين الآيات بأن جعل حكم الآيات الأولى فيمن آمن، وقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ..} حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب مع قيام الحجج عليه، وهذا سلكه من قال بالوجه الثامن.
ونتيجة لهذا الإشكال وما أعقبه من اختلاف مسالك المفسرين في الجواب عنه، كان محصلة ذلك أن تعددت أقوالهم في تفسير هذه الآية وبيان المعنى المراد منها، ذكر ابن عاشور أنها بلغت بضعة عشر قولًا، ومن أشهر هذه الأقوال:
القول الأول: قالوا معنى الآية: لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل، والمشركون من عبدة الأوثان منتهين عن كفرهم وشركهم، حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان.
وهذا القول ذكر شيخ الإسلام أنه الأشهر عند المفسرين، وقد ذكره غير واحد، وهو قول مجاهد رواه الطبري والهمذاني، وقتادة رواه عبدالرزاق والطبري في تفسيريهما، وابن زيد رواه الطبري في تفسيره، وبهذا القول فسر الزجاج وابن كثير الآية، وهؤلاء لم يبيّنوا جوابًا للإشكال الحاصل في ظاهر هذه الآية مع ما بعدها.
واختار هذا القول كذلك البغوي والواحدي وابن الجوزي وهؤلاء جعلوا الآية فيمن آمن من الفريقين لرفع الإشكال.
وأما الزمخشري والرازي وابن عاشور جعلوا الآية حكايةٌ لحالِهم في ذلك الزمان، لأنهم كانوا ينتظرون بعث نبي آخر الزمان، ولكنهم لما بُعِثَ افترقوا فيه.
وعلة هذا القول من جهتين ذكرهما ابن تيمية وغيره:
الأولى: أنه يتضمن مدحهم والثناء عليهم بعد مجئ البيّنة؛ إذ معنى الآية أنهم لم ينتهوا ولم يؤمنوا حتى يتبيّن لهم الحقّ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان فآمنوا.
فأجاب أصحاب هذا القول عن هذا: أن الآية فيمن آمن من الفريقين في أنه بيان لنعمة الله عليه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ..} فيمن لم يؤمن منهم، وهذا اختيار البغوي والواحدي وابن الجوزي.
وضعّف هذا الوجه ابن تيمية وردّه بأن أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما أخبر الله تعالى بذلك في غير موضع من كتابه، قال تعالى: {وآتيناهم بيّنات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ..}، فكان الاختلاف قبل وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيان ذلك في الوجه الثامن من جواب الإشكال.
الثانية: أنه يلزم منه أن يكونوا كلّهم بعد مجئ البيّنة قد انتهوا وآمنوا؛ لأن اللفظ عام فيهم.
والجواب عن هذا قالوا: الآية حكايةٌ لحالهم في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا ينتظرون بعث نبي آخر الزمان، ولكنهم لما بُعِثَ افترقوا فيه، وهذا اختيار الزمخشري والفخر وابن عاشور.
وفي هذا يقول الشيخ مساعد الطيار: ولا بدَّ من تقدير ذلك وإلاَّ كان في الخبر تخلُّفٌ؛ لأنهم لم ينفكُّوا جميعهم عن الكفر، بل بقِيَ عليه كثير منهم بعد مجيء البينة.
واحتجّ ابن عاشور لهذا الوجه: بأن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصّلون من الحقّ، متعللون للإصرار على الكفر عنادًا، ولهذا نسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية، وله رحمه الله كلام في هذا نسوقه هنا لشموله قال: ([هذا] الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدّالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به، فهو حكاية بالمعنى، كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع، وقريب منه قوله تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التَّوْبَة: 64] إذ عبر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقّا.) إلى آخر كلامه رحمه الله.
القول الثاني: قالوا معنى الآية: أن أهل الكتاب وهم المشركون لم يكونوا تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث، فلمّا بُعث تفرّقوا فيه، فأصحاب هذا القول جعلوا الآية في الكفار من أهل الكتاب دون المشركين من عبدة الأوثان.
وهذا قول الفراء واستدل له بقوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب..}، وذكره الطبري ولم ينسبه لأحد، ونسبه الثعلبي لابن كيسان، وذكره ابن عطية ولم ينسبه.
وضعّف ابن تيمية هذا القول من جهة: أن الله تعالى إنما ذكر في الآية الكفار من أهل الكتاب، ومعلوم أن الذين كانوا يعرفون نبوّته ويقرّون به ويذكرونه قبل أن يبعث لم يكونوا كلّهم كفارًا، بل كان الإيمان أغلب عليهم، فهذا القول بهذا المعنى لا يستقيم.
وذكر شيخ الإسلام علة ثانية وهي: أن الكفار من المشركين لم يكونوا يعرفونه ويذكرونه ويجدونه في كتبهم كما كان ذلك عند أهل الكتاب، فيمتنع أن يقال: لم يكن المشركون تاركين لمعرفة محمد صلى الله عليه وسلم وذكره، وأبطل هذا المعنى في المشركين، ولكن هذا القول خصّه من قال به بالكفار من أهل الكتاب دون المشركين فلا ترد هذه العلّة على هذا القول، فلفظ الفراء: (لم يكونوا تاركين لصفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ...)، ولفظ الطبري: (معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ... )، ولفظ ابن كيسان الذي ذكره الثعلبي: (معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد (عليه السلام) حتى بعث...).
ولكن قد يقال: إن تخصيص الآية بالكفار من أهل الكتاب دون المشركين من عبدة الأوثان لا دليل عليه، فالذي اتفقت عليه أقوال المفسرين أن المراد بالكفار هنا الصنفين: كفار أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والكفار من عبدة الأوثان؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، فيُقال هذا التخصيص لا دليل عليه.
القول الثالث: معنى الآية: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه يبعث إليهم نبيّا، حتى تأتيهم البينة، وهي بعثه وإرسال الله إيّاه رسولًا إلى خلقه، فلما بعث افترقوا.
وهذا اختيار الطبري، وذكره الماوردي ونسبه لابن عيسى، وذكره ابن الجوزي ضمن الأقوال التي أوردها.
وضعّف شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول أيضًا من وجوه:
الأول: أن استعمال لفظ (الانفكاك) في الافتراق والاختلاف غير معروف، فلا يُعرف في اللغة له شاهد.
الثاني: أنه ليس في اللفظ ما يدلّ على أن الانفكاك عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة.
الثالث: أن هذا المعنى مذكور في قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ...}، فلو أريد بهذه لكان تكريرًا محضًا.
الرابع: أن هذا القول يتضمّن ذمّهم مطلقًا؛ لأنه لو كان المراد أنهم كانوا متفقين على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بُعث، لزم أن يكونوا كلّهم كانوا يعرفونه قبل إرساله إليهم، وأنهم كلّهم بعد إرساله تفرّقوا واختلفوا، وكلاهما باطل؛ فكثير منهم أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ولم يكونوا يعرفون ما في الكتب من بعثه ومن أمور أخر، ثم لمّا بُعث فقد آمن به خلق كثير منهم ولم يتفرّقوا كلّهم عن الإيمان به، فالآية تضمّنت مدح من آمن منهم، وذم من لم يؤمن، والإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم فيؤمن به بعضهم ويكفر بعض، وسيأتي هذا في القول الرابع بإذن الله.
الفرق في معنى الانفكاك بين القولين الثاني والثالث:
في القول الثاني المعنى: لم يكونوا مفارقين تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر، فجعلوا الانفكاك مفارقتهم وتركهم لذكره وخبره، أي: انفكاكهم عما كان عندهم من علمه وخبره، وهذا قول الفراء وابن كيسان.
وفي القول الثالث المعنى: لم يكونوا مفترقين إلا إذا جاء الرسول، لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره، فجعل الانفكاك انفكاك بعضهم عن بعض، فهو في معنى الآية بعدها وهو قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ...} فكان تكريرًا محضًا كما سبق في كلام شيخ الإسلام.
القول الرابع: قالوا: (منفكين) بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين؛ فمعنى الآية: لم يكونوا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة، أي أن الله تعالى لا يخلّيهم ولا يتركهم، فهو لا يفكّهم حتى يبعث إليهم رسولًا، وهذا كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى}.
ذكر هذا القول كلا من الماوردي وابن الجوزي دون نسبة، وقوّاه ووجهه ابن عطية، وهو اختيار شيخ الإسلام والشنقيطي.
ومن أدلة هذا القول:
الأول: أنه أصح الأقوال لفظًا ومعنى؛ فمن جهة اللفظ ودلالته وبيانه: أن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان يعني اختياره ويقهرُ عليه إذا تخلّص منه، يُقال: انفكّ منه كالأسير والرقيق المقهور بالرقّ والأسر، يقال: فككت الأسير فانفكّ وفككت الرقبة.
فقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ..}أي لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهووْنه لا حجر عليهم، فلم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل، وهذا كقوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى} لا يؤمر ولا ينهى، وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون}.
وأما من جهة المعنى: أن هذه السورة دلّت على ما تدلّ عليه مواضع أُخر من القرآن من أن الله يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم، يرسلهم مبشرين ومنذرين، فقوله: {لم يكن الذين كفروا ..}بيان منه أن الكفار لم يكن الله ليدعهم ويتركهم على ما هم عليه من الكفر، ومما يبيّن ذلك أنّ (حتى) حرف غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، فالذين كفروا لم يكن ليتركهم حتى يبعث إليهم الرسول بالآيات البيّنات، ثم هم إذا جاءتهم البيّنة منهم من يؤمن ومنهم من يكفر.
الثاني: أن لهذا القول نظائر في كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى}، وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون}.
الثالث: أن هذا القول تضمن مدح من آمن منهم بالرسول، وذم من لم يؤمن، والإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم فيؤمن به بعضهم ويكفر البعض، فلم يتضمن مدحهم مطلقًا كما في القول الأول، ولم يذمهم مطلقًا كما في القول الثالث.
الرابع: أن هذا القول لا يناقض المعنى الأول المشهور عند المفسرين: وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البينة؛ إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله، أو لم يكونوا منتهين متعظين وإن عرفوا الحقّ حتى يأتيهم من الله من يذكرهم، فهذا المعنى لا يناقض هذا القول.
الخامس: أنه على غير هذا القول يؤوّل لفظ (تأتيهم) بأن لفظه المستقبل ومعناه الماضي، والمراد: حتى أتتهم البينة، في حين على هذا القول فموضع لفظ (تأتيهم) موضع المضارع، والمراد: ما كانوا مفكوكين متروكين حتى تأتيهم البينة، فلم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البيّنة، فالآية تتضمّن الإخبار عن وجوب إثبات البينة وامتناع الانفكاك بدونها.
وجعل لفظ (تأتيهم) موضع المضارع إنما ناسب هذا القول، لجعل البينة مفسّرة بالرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج، أما من فسّرها بالرسول صلى الله عليه وسلم فتفسير (تأتيهم) بهذا المعنى قد لا يستقيم، كما بيّن ذلك ابن عاشور قال: ( نصب المُضارع بعد حتى يُنادي على أنه منصوب بـ (أنْ) مضمرة بعد حتى، فيقتضي أن إتيان البيّنة مستقبل وذلك لا يستقيم؛ فإن البيّنة فسّرت بـ (رسولٌ من الله) وإتيان الرسولِ وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين ... )؛ أي أن جعل لفظ (تأتيهم) موضع المضارع في الآية لا يستقيم مع تفسير البيّنة بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما دلّت عليه الآية بعدها في قوله تعالى: {رسول من الله}، ولذا كان تفسير عامة المفسرين للفظ (تأتيهم) بأن لفظه المستقبل ومعناه الماضي.
السادس: ما قاله الشنقيطي في احتجاجه لهذا القول، قال: ([بِهِذا الوجه] يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَيَسْتَقِيمُ السِّيَاقُ، وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.).
القول الخامس: قالوا: معنى منفكين: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل ولا يلتئم فتهلك، فمعنى الآية: لم يكونوا هالكين معذبين إلا بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وهذا القول نسبه الثعلبي إلى بعض أئمة اللغة، وذكره البغوي والقرطبي دون نسبة، ونسبه ابن عاشور لأهل اللغة.
القول السادس: معنى الآية: لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة , يعنى الرسل.
ذكره الماوردي ونسبه إلى الربيع، وذكره ابن عطية والألوسي وعزوه لبعض النحاة.
ونفى أهل التفسير أن تفسر الآية بهذا المعنى، قال الواحدي: (وأما الذي في الآية فهو من الانفصال، وليس بمعنى: لم يزالوا).
قال ابن عطية: (و(ما انفكّ) التي هي من أخوات (كان) لا مدخل لها في هذه الآية.).
وقال الألوسي: (فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر.).
الخلاصة:
الإشكال حاصل بين ظاهر هذه الآية وقوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ...}؛ إذ دلت الآية الأولى أنهم بعد مجئ البينة انتهوا عما كانوا عليه من الكفر والضلال، وقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} دل على أنهم تفرقوا واختلفوا بعد مجئ البينة.
فمن المفسرين من جعل تفسيره للآية في بيان وذكر حال الكفار من أهل الكتاب والمشركين، وما هم عليه من التناقض والضلال؛ لإصرارهم على الكفر والشرك وقد تبيّن لهم الحق وبطلان ما هم عليه، ولذا جاء تفسيرهم لمنفكين بمعنى تاركين في الغالب والأشهر، على اختلاف الأوجه التي فسّروا بها الآية بعد ذلك.
ومنهم من فسّر الآية على ما دلّ عليه القرآن في مواضع أخر، من أن الله تعالى يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين}، فالآية تضمنت الإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم، فيؤمن به بعضهم ويكفر بعض، وفي هذا مدح الربّ سبحانه وذكر حكمته وعدله وحجته في أنه لا يدعهم حتى يرسل إليهم رسولا، وهذا ما قواه ابن عطية من الأقوال، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والشنقيطي، وهذا التفسير لا يعارض الوجه الأول المشهور كما ذكر ذلك شيخ الإسلام.
تفسير ألفاظ الآية:
المراد بأهل الكتاب والمشركين
المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى ، ذكره الطبري والثعلبي والواحدي وابن الجوزي وابن كثير والشنقيطي وغيرهم.
وكانوا كفارًا بإحداثهم في دينهم ما كفروا به؛ كقولهم: {عزير ابن الله} [التوبة: 30]، {والمسيح ابن الله} [التوبة: 30]، وتحريفهم كتاب الله ودينه.
وخصهم ابن عاشور بالذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى الذين كانوا بالمدينة أو بمكة وما حولهما من القرى.
المراد بالمشركين: عبدة الأوثان، ذكره الطبري والثعلبي والواحدي وابن الجوزي والشنقيطي، وزاد ابن كثير عبدة الأوثان والنيران، ونص كلا من الماوردي وابن كثير أنهم من العرب وغيرهم.
وذكر الألوسي وابن عاشور أن المقصود بهم هنا عبدة الأصنام من مشركي العرب الذين كانوا بمكة والمدينة وما حولهما.
فعلماء التفسير اتفقوا: على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى الذين هم أهل التوراة والإنجيل، وأن المشركين هم عبدة الأصنام، ذكره الشنقيطي.
وفي هذا قول آخر: وهو أن يكون أهل الكتاب هم المشركون، فقوله: {والمشركين} وصف لأهل الكتاب، وهذا قول الفراء وابن كيسان، واحتمل الألوسي صحة ذلك، وأن شركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله.
معنى منفكين
في اللغة: معنى انفك، يقال: فككت الشيء فانفك، ويستعمل بمعنيين، الأصل واحد:
أحدهما: الانفكاك الذي هو الانفصال والبينونة من الشيء بعد الملابسة والاجتماع، تقول قد انفككت منك، وانفك الشيء من الشيء؛ أي: انفصل.
وفسّر اللفظ بهذا المعنى الطبري والواحدي والبغوي وابن الجوزي وغيرهم.
قال الطبري: (وقوله: {منفكين} في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر.).
والثاني بمعنى: ما زال، ولا يزال، يقول: ما انفك يفعل كذا، ولا ينفك يفعل كذا، وإذا استعمل بهذا المعنى فلابد من أن يكون معه جحد، يقول: ما انفككت أذكرك؛ تريد: ما زلت أذكرك، وأصله هذا أيضا من الانفصال من ذكرك.
وفسر اللفظ بهذا المعنى بعض النحاة ذكره ابن عطية والألوسي.
ونفى أهل التفسير أن تفسر الآية بهذا المعنى، قال الواحدي: (وأما الذي في الآية فهو من الانفصال، وليس بمعنى: لم يزالوا).
وقال ابن عطية: (و(ما انفكّ) التي هي من أخوات (كان) لا مدخل لها في هذه الآية.).
وقال الألوسي: (فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر.)
المراد بمنفكين في الآية
فيه أقوال:
الأول: منتهين، وهذا قول قتادة رواه عبدالرزاق والطبري، ومجاهد رواه الطبري والهمذاني، وابن زيد رواه الطبري، وهو اختيار الثعلبي والواحدي والبغوي، وذكره من أهل اللغة الفرّاء والزجاج.
الثاني: زائلين، وهذا قول أبي عبيدة وعبدالله اليزيدي والدينوري ومكي من أهل اللغة، واختاره البخاري وابن الجوزي وزاد:منفصلين، ونسبه الواحدي للأخفش والمبرد.
والمعنى الأول والثاني هو ما ورد في أقوال المفسرين في القول الأول، قال الرازي: والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبّثا قويا لا يزيلونه إلا عند مجئ البينة.
الثالث: تاركين، واختاره الفراء ونسبه الثعلبي لابن كيسان، وهو اختيار ابن عاشور، وهو القول الثاني في تفسير الآية.
الرابع: مفترقين، وهو اختيار الطبري، وذكره الماوردي وعزاه لابن عيسى، وابن الجوزي ولفظه عندهم: (مختلفين)، وهو القول الثالث.
الخامس: بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين، وقوّاه ابن عطية، وهو اختيار شيخ الإسلام والشنقيطي، وهو القول الرابع.
السادس: هالكين، ذكره الثعلبي وعزاه إلى بعض أئمة اللغة، وذكره البغوي والقرطبي دون نسبة، وهو القول الخامس في الآية.
السابع: برحين، وهذا قول ابن عباس رواه ابن المنذر ذكره السيوطي، والمعنى: لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة، ذكره القرطبي.
الثامن: ذاهبين، ذكره مكي القيسي.
التاسع: لم يزالوا مقيمين، ذكره الماوردي وعزاه للربيع، وذكره ابن عطية والألوسي وعزوه لبعض النحاة ونفوا أن يكون المراد هذا المعنى، وهو القول السادس.
قال ابن عطية: (وذهب بعض النّحويّين إلى أنّ هذا النفي المتقدّم مع {منفكّين}يجعلها تلك التي هي مع (كان)، ويرى التقدير في خبرها: عارفين لأمر محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم أو نحو هذا).
وقال الألوسي: (وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه، وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة.).
متعلق منفكين
فيه أقوال:
الأول: الكفر وما هم عليه من الباطل والضلال، وهذا القول مستخرج مما قاله مجاهد من طريق ابن أبي نجيح وقتادة من طريق معمر، واختاره من المفسرين من قال بالقول الأول في تفسير الآية كالزجاج والبغوي وابن الجوزي والرازي وابن كثير وغيرهم.
وقول مجاهد: (لم يكونوا ليؤمنوا حتى يتبين لهم الحق). رواه الطبري والهمذاني واللفظ له.
وقول قتادة في قوله تعالى: {منفكين}، قال : (منتهين عما هم فيه). رواه عبدالرزاق والطبري.
الثاني: معرفة صحّة نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته والشهادة له بذلك، وهذا اختيار من قال بالقول الثاني والثالث في الآية وهم الفراء وابن كيسان، وابن جرير في القول الثالث، والفرق بينهما كما سبق أن أصحاب القول الثاني جعلوا الانفكاك هو انفكاكهم عن خبره والشهادة له بالنبوة والصدق، وأصحاب القول الثالث جعلوا الانفكاك هو انفكاك بعضهم عن بعض بعد بعثته فصار قولهم هو في معنى قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ...}.
الثالث: منفكين عن الحياة، وهو اختيار بعض أهل اللغة كما سبق في القول الخامس.
معنى (حتى تأتيهم)
حتى: ابتدائية وتفيد الغاية، وهذا قول الجمهور.
ومعنى (حتى تأتيهم)، فيه قولان:
الأول: أي حتى أتتهم ، لفظه لفظ المضارع، ومعناه الماضي، ذكره الواحدي وعزاه لابن عرفة، والبغوي وابن الجوزي والقرطبي وابن عطية دون نسبة.
وهذا قول عامة المفسرين، واستدل له الواحدي بقوله تعالى: {ما تتلوا الشياطين} أي ما تلت، وقال ابن عطية: "وأوقع المستقبل موقع الماضي في {تأتيهم}؛ لأنّ باقي الشريعة وعظمها لم يرد بعد".
الثاني: قالوا: موضع لفظ (تأتيهم) موضع المضارع، أي لم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البيّنة، وهؤلاء قالوا: منفكين بمعنى متروكين، وهذا قول شيخ الإسلام.
وبيّن ابن عاشور أن جعل لفظ (تأتيهم) موضع المضارع لا يستقيم مع تفسير البينة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيان ذلك في القول الرابع.
معنى البينة
هي الحجة الظاهرة الواضحة التي يتميّز بها الحق من الباطل، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح؛ لأن بها تتضح الأمور، أو من البينونة بمعنى الانفصال؛ لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما.
قال الواحدي: (الحجة الظاهرة التي يتميّز بها الحقّ من الباطل. فالنبي صلى الله عليه وسلم بينة، وإقامة الشهادة العادلة بينة، وكل برهان بينة).
المراد بالبينة في الآية:
فيه أقوال:
الأول: أنها هي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن جريج ذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه الواحدي لابن عباس ومقاتل، واختاره الطبري والواحدي وابن عطية وابن الجوزي والرازي وغيرهم.
ومن أدلة أصحاب هذا القول:
أولا: أنه أبدل منها فقال: {رسول من الله} بالرفع على قراءة الجمهور.
قال أبو أسحاق الزجاج: رسول: رفع على البدل من البينة، والتفسير لها.
وقال الفراء والطبري: "رسول" نكرة استؤنف على البينة، وهي معرفة كما قال: {ذو العرش المجيد} [البروج: 15]
ثانيا: أنه بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ودعاهم إلى الإيمان.
ثالثًا: أن ذاته كانت بينة على نبوته:
وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجدّ في تقرير النبوّة والرّسالة، ومن كان كذّابًا متصنّعًا فإنه لا يتأتّى منه ذلك الجدّ المتناهي.
أن أخلاقه وصفاته صلّى الله عليه وسلم كانت بالغة حد كمال الإعجاز.
ولهذين الوجهين سمّي هو في نفسه بأنه بيّنة.
رابعًا: أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظّهور والكثرة، فلاجتماع هذين الأمرين جُعل كأنّه عليه السلام في نفسه بيّنة وحُجّة.
الثاني: القرآن ، وهذا قول قتادة رواه الطبري، وعزاه الرازي لقتادة وابن زيد، واختاره ابن كثير.
واختار الفراء والشنقيطي الجمع بين القولين الأول والثاني.
فقال الفرّاء: (يعني: بعثه محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.).
وقال الشنقيطي: (فعليه يكون (رسول من الله) بدلٌ من (البينة) مرفوع على البدليّة، أو أنّ البيّنة ما يأتيهم به الرّسول مما يتلوه عليهم من الصحُف المطهّرة فيها كتب قيّمة) حتى قال: (وعلى كلّ، فإن البينة تصدقُ على الجميع، كما تصدقُ على المجموع، ولا ينفكّ أَحَدُهُما عن الآخر، فلا رسول إلا برسالة تُتلى، ولا رسالة برسولٍ يتْلُوها.).
الثالث: مطلق الرسل ، ذكره الماوردي وعزاه للربيع، وذكره الرازي وعزاه لأبي مسلم.
الرابع: بيان الحق وظهور الحجج، وهذا مستخرج من قول مجاهد الذي رواه الطبري والهمذاني، وفسّر ابن كثير مراد مجاهد بقوله: (حتى يتبيّن لهم الحق)، بقول قتادة: (أي هذا القرآن).
وهذا القول أورده الماوردي ابن الجوزي مع الأقوال التي ذكروها، وهو اختيار ابن تيمية والشنقيطي.
قال البغوي رحمه الله في آخر تفسيره لسورة البينة: (أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: "إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا}، قال: وسماني. قال: "نعم"، فبكى.
وقال همام عن قتادة: "أمرني أن أقرأ عليك القرآن". ). وهذا الحديث مخرج في الصحيحين.
تم بحمد الله.