بسم الله الرّحمن الرحيم.
المجموعة الثالثة:
1. فسّر الآيات التالية بإيجاز واستخلص الفوائد السلوكية التي دلّت عليها:
هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15):
يخبر تعالى رسوله محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم عن عبده ورسوله موسى عليه السّلام: هل سمعت بخبره؟ أنّه ابتعثه إلى فرعون وأيّده بالمعجزات، ومع هذا استمرّ على كفره وطغيانه حتّى أخذه اللّه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ, والغرض من الاستفهامُ هو الدّلالة على أنّ هذا أمرٍ عظيمٍ متحققٍ وقوعه.
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
يخبر الله تعالى أنّه كلّم موسى عليه السّلام نداءً، ووصف الله المحلُّ الذي كلَّمَ فيهِ موسى، وامتنّ عليهِ بالرسالةِ، واختصَّهُ بالوحيِ والاجتباءِ بالواد المقدّس, أي: المُبارك المطهّر, وطُوى هو اسم الوادي, وهو يقع فِي جَبَلِ سِينَاءَ.
ونادى سُبحانه وتعالى مُوسى عليه السّلام فقالَ لهُ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى.
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
اذهب إلى فِرعون فانههُ عن طغيانهِ وشركهِ وعصيانهِ فإنه طغى, أي تجبّر وتمرّد وعتا وجَاوَزَ الْحَدَّ فِي العِصْيانِ والتكَبُّرِ, وأمره الله تعالى أن يحدّثه بقولٍ ليِّنٍ، وخطابٍ لطيفٍ لعلَّهُ يتذكرُ أو يخشَى.
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
أي قُلْ لَهُ بَعْدَ وُصُولِكَ إِلَيْه: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ إِلَى التَّزَكِّي؟ والتّزكّي تطهّر نفسَك منْ دنسِ الكفر والطغيانِ، إلى الإيمانِ والعمل الصالحِ. وأَمَرَ الله تعالى مُوسَى بِمُلايَنَتِهِ.
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19
يقُول موسى مخاطبًا فِرعون: أسلم واتّبعني فـ أدلّك على الله وعبادته, فيصير قلبُك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً بعدما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير, يتطلّب رضاه الله ويخشى عقابه.
فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20)
بعد ما سمع فِرعون من موسى ما دعاه إليه, امتنع واستكبر, فأظهر له موسى مع هذه الدّعوة الحقّ حجّةً قويّةً ودليلاً واضحاً على صدق ما جاء به, وهذه الدلائل من جنسَ الدلائل الكُبرى الواضحات، ولاَ يتنافي تعدُّدَها, وهيَ التي في قوله تعالى:(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ** وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ).
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
فكذّب فِرعون بالحقّ وعصَى ما أمره به موسَى من الطّاعة, وكفر قلبه.
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
ثمّ أدبر أي تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَن الإِيمَانِ, وبدأ يسعى في مقابلة الحقّ ومحاربته بالباطل, وهو جمعه السّحرة ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرة.
فَحَشَرَ فَنَادَى (23)
حشر أي جمَع, قيل جمع جُنوده للقتال, أو جمع السّحرة للمُعارضة, أو جمع النّاس للحُضور ليُشاهدوا ما يقع.
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
وبعد جمع فِرعون لهم قال أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى, أَرَادَ اللَّعِينُ أَنَّهُ لا رَبَّ فَوْقَهُ, فأذْعنوا لهُ، وأقرُّوا بباطلهِ حينَ استخفَّهُم, إنّهم كانوا قومًا فاسقين! وقد قال له قبل هذه الكلمة بأربعين سنَة: "ما علمت لكُم من إلهٍ غيري", قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله: ما علمت لكم من إلهٍ غيري, بأربعين سنةً.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
فأخذه اللّه أي: انتقم اللّه منه انتقاماً جعله به عبرةً ونكالاً لأمثاله من المتمرّدين في الدّنيا.
وقيل: المُراد بـ قوله: نكال الآخرة والأولى أي: الدّنيا والآخرة.
وقيل: المراد بذلك كلمتاه الأولى والثّانية.
وقيل: كفره وعصيانه.
والصّحيح الذي لا شكّ فيه الأوّل, فَنَكَّلَهُ نَكَالَ الآخِرَةِ؛ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَنَكَالَ الأُولَى؛ وَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا بالغَرَقِ؛ لِيَتَّعِظَ بِهِ مَنْ يَسْمَعُ خَبَرَهُ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
وفِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَا فُعِلَ بِهِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ لمن يتّعظ وينزجر ويَخْشَى اللَّهَ وَيَتَّقِيَهُ, فإنَّ منْ يخشَى اللهَ هوَ الذي ينتفعُ بالآياتِ والعبرِ، فإذا رأَى عقوبةَ فرعونَ، عرفَ أنَّ كلَّ منْ تكبَّرَ وعصى، وبارزَ الملكَ الأعلى، عاقَبهُ في الدنيا والآخرةِ، وأمَّا مَنْ ترحَّلتْ خشيةُ اللهِ من قلبهِ، فلو جاءتهُ كلُّ آيةٍ لمْ يؤمنْ بها.
هذا والله أعلم, وصلّى الله وسلّم على سيّدنا مُحمّد.
** الفوائد السّلوكيّة:
1- الآيتين 17-18 : اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى:
أمَر الله سُبحانه وتعالى مُوسى بمُلاينة فِرعون, وخطابه بقولٍ ليّن, على الرّغم من طغيانهِ وشركهِ وعصيانهِ, قال تعالى مُخاطبًا موسى وهارون: (فقولا لهُ قولًا لينًا*لعله يتذكَّر أو يخشى), وهذا يثبّت أصل الأخلاق الحسنَة, والدّعوة بالحُسنى واللين, حتّى مع أشدِّ النّاس عِنادًا وطُغيانًا وتجبُّرًا وهوَ فِرعون. وبعد هذا لا يستعجز أحدٌ قدرة الله أن يخرج أشدّ العُصاة من غفلتهم, فيُخاطبهم برفق طمعًا في تذكرتهم وهدايتهم.
2- الآية 19: (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى):
الخشيَة: أن يصير قلبك خاضعاً لله مطيعاً خاشعاً بعدما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير, والخشية لا تكُون إلا من مُهتدٍ راشد, فـ يخشى الواحدُ منّا الله إذا علمه, وعلم الصّراط المُستقيم, فحينئذٍ يسعى إلى مواقع رضَا الله, ويتجنّب مواقع سخطه.
3- الآية 21: (فَكَذَّبَ وَعَصَى):
كذّب فِرعون بالحقّ بعد ما علمَه, وحاصله أنّه كفر قلبه، فلم ينفعل فِرعون لمُوسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمه بأنّ ما جاء به أنّه حقٌّ لا يلزم منه أنّه مؤمنٌ به. وفي هذه الآية دلالة على وجُوب اقتران العِلم بالعمل, ولا ينفُع أن ينفرد الواحد منّا بـ أحدِهما, لأنَّ المعرفة علم القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحقّ والخضوع له.
4- الآية 26: قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى):
تدلّ هذه الآية أنّ منْ يخشَى اللهَ, هوَ الذي ينتفعُ بالآياتِ والعبرِ، فإذا رأَى ما ذُكر من قصّة فِرعونَ وما فُعل به، عرفَ أنَّ كلَّ منْ تكبَّرَ وعصى، وبارزَ الملكَ الأعلى، عاقَبهُ في الدنيا والآخرةِ، وأمَّا مَنْ ترحَّلتْ خشيةُ اللهِ من قلبهِ، فلو جاءتهُ كلُّ آيةٍ لمْ يؤمنْ بها.
2. حرّر القول في:
المراد بـالحافرة في قوله تعالى: {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة}.
ذكر ابن كثير أقوالًا في المراد بـ الحافرة:
القول الأوّل: هي القبُور, بعد تمزّق أجسادهم وتفتّت عظامهم ونخورها. قاله مُجاهد. وذكر هذا القول الأشقر في تفسيره.
القول الثّاني: الحافرة: الحياة بعد الموت, ذُكِر هذا عن ابن عبّاسٍ ومحمّد بن كعبٍ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ وأبي مالكٍ والسّدّيّ وقتادة.
القول الثالث: الحافرة: النّار, قاله ابن زيدٍ.
3. بيّن ما يلي:
أ: المقسم عليه في أول سورة النازعات.
ذكر السّعدي في تفسره قولان:
الأوّل: يحتملُ أنَّ المقسمَ عليه، الجزاءُ والبعثُ، بدليلِ الإتيانِ بأحوالِ القيامةِ بعدَ ذلكَ.
الثاني: يحتملُ أنَّ المقسم عليهِ والمقسمَ بهِ متحدانِ،وأنَّه أقسمَ على الملائكةِ؛ لأنَّ الإيمانَ بهمْ أحدُ أركانِ الإيمانِ الستةِ، ولأنَّ في ذكِر أفعالهِمْ هنَا ما يتضمنُ الجزاءَ الذي تتولاهُ الملائكةُ عندَ الموتِ وقبلَه وبعدَه.
ب: المراد بالصاخّة وسبب تسميتها بذلك.
** المُراد بالصّاخة:
ذكر ابن كثير في تفسيره ثلاثة أقوال:
الأوّل: الصّاخة: اسمٌ من أسماء يوم القيامة، عظّمه اللّه وحذّره عباده, قاله ابن عبّاس.
الثاني: الصّاخة: اسم للنّفخة في الصُّور, قاله ابن جرير.
الثالث: الصّاخة: يعني صيحة يوم القيامة, قاله البغويّ, وذكر هذا القول السّعدي والأشقر.
** سبب تسميتها بذلك:
لأنّها تصخّ الأسماع من هولهَا, أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها فلا تسمَع, ذكر ذلك ابن كثير والسّعدي والأشقر.
ج: دلائل حفظ الله تعالى لكتابه.
- في قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ: أي: حقّاً إنَّ هذه الموعظةَ – يعني القُرآن- تذكرةٌ مِنَ اللهِ، يذكِّرُ بهَا عبادَهُ، ويبيِّنُ لهمْ في كتابهِ ما يحتاجونَ إليهِ، ويبيِّنُ الرشدَ مِنَ الغيِّ, حَقُّ هذه الموعظة أَنْ تَتَّعِظَ بِهَا وَتَقْبَلَهَا وَتَعْمَلَ بِمُوجَبِهَا، وَيَعْمَلَ بِهَا كُلُّ أُمَّتِكَ. وهذا يقتضي أن يحفظ الله هذه الموعظة حتّى تبلغ كافّة الأمة ليعملوا وينتفعُوا بها.
- في قوله تعالى: في صحفٍ مكرّمةٍ: أي: هذه السّورة أو العظة وكلاهما متلازمٌ، بل جميع القرآن في صحفٍ مكرّمةٍ عند الله, أي: معظّمةٍ موقّرةٍ, لما فيها من العلم والحكمَة, والتّعظيم يقتضي حفظها, وقيل لأنّها نازلة من اللوح المحفُوظ وهذا أبلغ في الحفظ.
- في قوله تعالى: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ: أي: عالية القدر, مطهّرةٍ. أي: "محفوظة" من الدّنس والزّيادة والنّقص, ومُصانة عَنْ أنْ تنالهَا أيدي الشياطين أو يسترقوهَا, ولا ينالُوها الكُفَّار.
- في قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ*كِرَامٍ بَرَرَةٍ: يحمل هذا القُرآن سفرة, وهُم الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفِرُونَ بالوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ويتبيّن هُنا شدَّة اعتناء الله سُبحانه بالقُرآن وحفظِه, فـ الملائكة الذين يحملُون القُرآن من صفاتهم أنّهُم كِرَامٌ عَلَى رَبِّهِمْ، كِرَامٌ عَنِ الْمَعَاصِي, أَتْقِيَاءُ مُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ، صَادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ, وأفعالهم بارّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ. وما كَان هذا شأنُ حملته وسُفراءِه فهو محفوظٌ مصُونٌ مكرَّم.
تمّ بحمد الله تعالى