قصة داود عليه السلام وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وأعلامه:
هو داود بن إيشا بن عويد بن عامر بن سلمون بن نحشون بن عوينادب بن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس.
قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيراً أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.
تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمعا في داود هذا.
وهذا كما قال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي لولا إقامة الملوك حكاماً على الناس لأكل قوي الناس ضعيفهم. ولهذا جاء في بعض الآثار "السلطان ظل الله في أرضه". وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له: اخرج إليّ وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت.
قال وهب بن منبه: فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود. وقيل إن ذلك "كان" عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاّه قبل الوقعة.
قال ابن جرير: والذي عليه الجمهور أنه إنما وليّ ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم. وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم، وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية فالله أعلم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}.
أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم. قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.
قال الحسن البصري وقتادة والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة. قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد وإنما كانت قبل ذلك من صفائح. قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم.
وقد ثبت في الحديث أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}.
قال ابن عباس ومجاهد: الأيد القوة في الطاعة. يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح. قال قتادة: أُعطي قوة في العبادة، وفقهاً في الإسلام، قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى".
وقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} كما قال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي سبحي معه. قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} أي عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد، بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، كذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الأوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحداً قط، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشاً وجوعاً وحتى إن الأنهار لتقف! وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعاً. وقال أبو عوانة الإسفراييني: حدثنا أبو بكر بن أبي، حدثنا محمد بن منصور الطوسي سمعت صبيحاً أبا تراب رحمه الله قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدني، حدثنا محمد بن صالح العدوي حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر، عن مالك، قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى وهذا غريب.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج، سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال: وما بأس بذلك؟ سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكي وتبكي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود. وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لقد أعطي أبو موسى من مزامير داود". على شرط مسلم.
وقد روينا عن أبي عثمان النهدي أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتاً أحسن من صوت أبي موسى الأشعري.
وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابه الزبور، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خفِّف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه".
وكذلك رواه البخاري منفرداً به عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق به. ولفظه: "خُفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يديه".
ثم قال البخاري: ورواه موسى بن عقبة، عن صفوان، هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في تاريخه من طرق عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم عن أبي بكر السبري، عن صفوان بن سليم به.
والمراد بالقرآن ها هنا الزبور الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظاً، فإنه كان ملكاً له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.
وقوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي أعطيناه ملكاً عظيماً وحكماً نافذاً.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه. فأنكر المدعى عليه فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعِي، فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت أغتلت أباه قبل هذا. فأمر به داود فقتل. فعظم أمر داود في بني إسرائيل جداً وخضعوا له خضوعاً عظيماً قال ابن عباس وهو قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَه} وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي النبوة {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قال شريح والشعبي وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم: فصل الخطاب الشهود والإيمان يعنون بذلك: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وقال مجاهد: والسدي هو إصابة القضاء وفهمه. وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم. واختاره ابن جرير.
وهذا لا ينافي ما روي عن أبي موسى أنه قول: "أما بعد".
وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطي داود سلسلة لفصل القضاء. فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقاً نالها والآخر لا يصل إليها. فلم تزل كذلك حتى أودع رجل لؤلؤة فجحدها منه وأخذ عكازاً وأودعها فيه، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعي، فلما قيل للأخر: خذها بيدك عمد إلى العكاز، فأعطاه المدعى، وفيه تلك اللؤلؤة، وقال: اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه، ثم تناول السلسة فنالها. فأشكل أمرها على بني إسرائيل. ثم رفعت سريعاً من بينهم.
ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين. وقد رواه إسحاق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاط، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}. وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف ها هنا قصصاً وأخباراً أكثرها إسرائيليات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة. تركنا إيرادها في كتابنا قصداً اكتفاء واقتصاراً على مجرد تلاوة القصة القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد اختلف الأئمة في سجدة "ص": هل هي من عزائم السجود؟ أو إنما هي سجدة شُكر ليست من عزائم السجود؟ على قولين:
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن العوام، قال سألت مجاهداً عن سجدة "ص" فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ قال أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل هو ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: في السجود في "ص" ليست من عزائم السجود. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال النسائي: أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمي، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً. تفرد به أحمد ورجاله ثقات.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "صلى الله عليه وسلم" فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزَّنتم فنزل وسجد.
تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر، هو ابن عمر، وأبو الصديق الناجي، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب "صلى الله عليه وسلم" فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً. قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به أحمد.
وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: قال لي ابن جريج حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً واجعلها عندك ذخراً وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود".
قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجداً أربعين يوماً، وقاله مجاهد والحسن وغيرهما. وورد في ذلك حديث مرفوع، لكنه من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك الرواية.
قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي إن له يوم القيامة لزلفى، وهي القربة التي يقربه الله به ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها، كما ثبت في حديث: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا".
وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل. عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر".
وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به وقال لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار في قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} قال: يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي تمجدني في الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته فيقول: إني أرده عليك اليوم. قال فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وََاتَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}. هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل، وكثرة العبادة وأنواع القربات، حتى أنه كان لا يمضي ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلاً ونهاراً كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسمعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المري عن أبي عمران الجوفي عن أبي الجلد، قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحي: "أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب. قال: فإني أرضى بذلك منك".
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه، حدثنا محمد بن يونس القرشي، حدثنا روح بن عبادة، حدثني عبد الله بن لاحق، عن ابن شهاب قال: قال داود: "الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفظة يا داود".
ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد، عن الثوري مثله
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه، قال: إن في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعاده، ومرمة لمعاشة، ولذه في غير محرم.
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الأغر، عن وهب بن منبه. فذكره. ورواه أيضاً عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشي عن أبي الأغر عن وهب بن منبه فذكره. وأبو الأغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته. قاله ابن عساكر.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه، فذكر مثله وقد أورد الحافظ بن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد.
وروي بسند غريب مرفوعاً قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها.
وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الأحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت. وقال أيضاً: ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى. وقال: انظر ما تركه أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت.
وقال: لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له، فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني هشام بن سعد، عن عمر مولى عفرة، قال: قالت يهود، لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام، ولا والله ماله همة إلا إلى النساء، حسدوه لكثرة نسائه، وعابوه بذلك فقالوا: لو كان نبياً ما رغب في النساء. وكان أشدهم في ذلك حيي بن أخطب، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال: {يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يعني بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} يعني ما أتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة. سبعمائة مهرية وثلاثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الكلبي نحو هذا وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة، منهن ثلاثمائة سرية.
وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروي عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي، عن أبي هريرة الحمصي، عن صدقة الدمشقي، أن رجلاً سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لأحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزوناً. إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواماً قواماً وكان شجاعاً لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام صيام داود". وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتاً يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويصرف بصوته المهموم والمحموم.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ومن وسطه ثلاثة أيام ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم، فإنه كان يصوم الدهر، ويأكل الشعير، ويلبس الشعر، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلي حتى يصبح، وكان رامياً لا يفوته صيد يريده، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم.
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يوماً وتفطر يومين.
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول: "إن ذلك صوم الدهر".
وقد روى الإمام أحمد عن أبي النضر، عن فرج بن فضالة، عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعاً في صوم داود.
قد تقدم في ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام ورأى فيهم رجلاً يُزهر فقال: أي رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود. قال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون عاماً. قال: أي رب زد في عمره. قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاماً فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت فقال: بقي من عمري أربعون سنة، ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها الله لآدم ألف سنة، ولداود مائة سنة.
رواه أحمد عن ابن عباس، والترمذي وصححه عن أبي هريرة، وابن خزيمة وابن حبان. وقال الحاكم: على شرط مسلم. وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.
قال ابن جرير: وقد زعم أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعاً وسبعين سنة. قلت: هذا غلط مردود عليهم، قالوا: وكانت مدة ملكه أربعين سنة، وهذا قد يقبل نقله، لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.
وأما وفاته عليه السلام فقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا قبيصة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب فقال داود: أنت والله إذاً ملك الموت، مرحباً بأمر الله. ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: أقبضي جناحاً. قال أبو هريرة: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وغلبت عليه يومئذ المضرحية.
انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، رجاله ثقات، ومعنى قوله: "وغلبت عليه يومئذ المضرحية" أي وغلبت على التظليل عليه المضرحية وهي الصقور الطوال الأجنحة واحدها مضرحي. قال الجوهري: وهو الصقر الطويل الجناح.
وقال السدي عن أبي مالك، عن ابن مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة وكان بسبت، وكانت الطير تظله. وقال السدي أيضاً، عن مالك وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة.
وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، قال: مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الأربعاء فجأة وقال أبو السكن الهجري: مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. رواه ابن عساكر.
وروي عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه فقال له: دعني أنزل أو أصعد فقال: يا نبي الله قد نفدت السنون والشهور والآثار والأرزاق. قال: فخر ساجداً على مرقاة من تلك المراقي فقبضه وهو ساجد.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبي سليمان الفلسطيني عن وهب بن منبه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد، كانت بنو إسرائيل أشد جزعاً عليه منهم على داود. قال: فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت فأمرها أن تظل الناس، فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت الريح فكاد الناس أن يهلكوا غماً فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح. ففعلت فكان الناس في ظل تهب عليهم الريح، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثني الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة.
هذا حديث غريب وفي رفعه نظر، والوضين بن عطاء كان ضعيفاً في الحديث. والله أعلم.
قصة سليمان بن داود عليهما السلام
قال الحافظ ابن عساكر: وهو سليمان بن داود بن أيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نخشون بن عمينا دب بن إرم بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الربيع نبي الله ابن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق. قال ابن ماكولا: فارص بالصاد المهملة، وذكر نسبه قريباً مما ذكره ابن عساكر.
قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في المال، لأنه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم، ولأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" وفي لفظة: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فأخبر الصادق المصدوق أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بها أقربائهم، لأن الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن حشاد، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو جعفر الأسواني، يعني محمد بن عبد الرحمن، عن أبي يعقوب العمي، حدثني أبو مالك. قال مرّ سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت! قال سليمان عليه السلام لأن غرف دمشق مبنية بالصخر، لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب.
رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاهر بن طاهر، عن البيهقي به وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات كما قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُون، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه ركب يوماً في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير، فالجن والإنس يسيرون معه والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة، أي نقباء يردون أوله على آخره، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه، ولا يتأخر عنه قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور. فقد ذكر وهب أنه مرّ وهو على البساط بواد بالطائف، وأن هذه النملة كان اسمها جرسن، وكانت من قبيلة يقال لهم بنو الشيصبان، وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.
وفي هذا كله نظر، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكباً في خيوله وفرسانه، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط، لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطئ، لأن البساط "يكون" عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والأثقال والخيام والأنعام والطير من فوق ذلك كله، كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة أمتها من الرأي السديد والأمر الحميد وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره، وليس كما يقوله بعض الجهلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم مقالها مزية على غيره، إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك، ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره، وكان هو يفهمها لم يكن في هذا أيضاً فائدة يعول عليها، ولهذا قال {رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألهمني وأرشدني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره وأن ييسر عليه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين وقد استجاب الله تعالى له.
والمراد بوالديه داود عليه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت أم سليمان بن داود: يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيراً يوم القيامة. رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحو.
وقال عبد الرزاق، عن معمر؛ عن الزهري، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.
"قال ابن عساكر: وقد روي مرفوعاً ولم يذكر فيه سليمان. ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال النبي: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة".
وقال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: "اللهم أنا خلق من خلقك، ولا غناء بنا عن فضلك".
قال: فصب الله عليهم المطر.
وقال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُون، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم، قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِي، قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون يقومون بما يطلب منهم ويحضرون عنده بالنوبة، كما هي عادة الجنود مع الملوك، وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار، يجيء فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلهم عليه حفروا "عنه" واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم. فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم
فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته {مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ} أي ماله مفقود من ها هنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي؟ {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} توعده بنوع من العذاب، اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة تنجيه من هذه الورطة.
قال الله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها {فَقَال} لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطلع عليه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي بخبر صادق {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم} يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم.
وذكره الثعلبي وغيره أن قومها ملَّكوا عليهم بعد أبيها رجلاً فعم به الفساد، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمراً ثم حزت رأسه ونصبته على بابها، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد. وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان أبوها من أكابر الملوك وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانه بنت السكن، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمه ويقال لها بلقيس.
وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان أحد أبوي بلقيس جنياً. وهذا حديث غريب وفي سنده ضعف.
وقال الثعلبي: أخبرني أبو عبد الله بن قبحونه، حدثنا أبو بكر بن حرجه، حدثنا ابن أبي الليث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". إسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ضعيف.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حميد، عن الحسن عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم} يعني سرير مملكتها كان مزخرفاً بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحلي الباهر.
ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون، أي يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} أي له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعث معه سليمان عليه السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ولهذا قال لهم: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ} أي لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي وأقدموا علي سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة، فلما جاءها الكتاب مع الطير، ومن ثم اتخذ الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له. فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم} ثم قرأت عليهم عنوانه أولاً {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} ثم قرأته {وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم وخاطبتهم وهم يسمعون {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِي} تعني ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيد} يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فأن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين "و" مع هذا {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين} فبذلوا لها السمع والطاعة، وأخبروها بما عندهم من الطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم.
فكان رأيها أتم وأشد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع، ولا يخالف ولا يخادع {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تقول برأيها السديد: إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إلى ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا عليّ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أرادت أن تصانع عن نفسها. وأهل مملكتها بهدية ترسلها، وتحف تبعثها، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم والحالة هذه صرفاً ولا عدلاً، لأنهم كافرون، وهو وجنوده عليهم قادرون.
"و" لهذا {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، ذكره المفسرون.
ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} يقول ارجع بهديتك التي قدمت بها إلى من قد منّ بها فإن عندي مما قد أنعم الله عليّ وأسداه إليّ من الأموال والتحف والرجال ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم ولأخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} عليهم الصغار والعار والدمار.
فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين، فلما سمع بقدومهم عليه ووفودهم إليه قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك، وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك والأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ} المشهور أنه آصف بن برخينا، وهو ابن خالة سليمان. وقيل: هو رجل من مؤمني الجان، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم وقيل رجل من بني إسرائيل من علماءهم، وقيل: إنه سليمان، وهذا غريب جداً. وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام قال: وقد قيل فيه قول رابع وهو: جبريل {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قيل معناه قبل أن تبعث رسولاً إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك وقيل قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس. وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك. وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل.
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} أي فلما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} أي هذا من فضل الله عليّ وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي إنما يعود نفع ذلك عليه {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلي هذا العرش وينكر لها ليختبر فهمها وعقلها ولهذا قال: {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} وهذا من فطنتها وغزارة فهمها، لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب قال الله تعالى إخباراً عن سليمان وقومه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله اتباعاً لدين آباءهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حذاهم على ذلك.
وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفاً من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد قيل أن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها، وخشوا أن يتزوجها لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة. وهذا ضعيف وفي الأول أيضاً نظر. والله أعلم.
إلا أن سليمان قيل إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الإنس عن زواله فذكروا له الموسى، فامتنعت من ذلك فسأل الجان فصنعوا له النورة ووضعوا له الحمام، فكان أول من دخل الحمام فلما وجد مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليها، وكان يزورها في كل شهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن: غمدان وسالحين وبيتون. فالله أعلم.
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أن سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان، وأقرها على ملك اليمن، وسخر زوبعة ملك اليمن فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن والأول أشهر وأظهر، والله أعلم.
وقال تعالى في سورة ص: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام، ثم أثنى الله تعالى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع مطيع لله. ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، الجياد وهي المضمرة السراع.
فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس وقيل الخيل على ما سنذكره من القولين. {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} قيل مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف. وقيل مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها بين يديه على القول الآخر.
والذي عليه أكثر السلف الأول، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس. روى هذا عن عليّ بن أبي طالب وغيره. والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمداً من غير عذر، اللهم إلا أن يقال إنه كان سائغاً في شريعتهم فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك.
وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق إن هذا كان مشروعاً إذ ذاك حتى نسخ بصلاة الخوف، قاله الشافعي وغيره. وقال مكحول والأوزاعي: بل هو حكم محكم الى اليوم أنه يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد. كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف. وقال آخرون: بل كان تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسياناً، وعلى هذا فيحمل فعل سليمان علية السلام على هذا والله أعلم. وأما من قال: الضمير في قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} عائد على الخيل، وأنه لم تنتهي وقت صلاة وأن المراد بقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} يعني مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها، فهذا القول اختاره ابن جرير ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق. ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها. وهذا الذي قاله فيه نظر لأنه قد يكون هذا سائغاً في ملتهم وقد ذهب بعض علمائنا الى أنه إذا خاف المسلمون أن يضفر الكفار على شيء من الحيوانات من أغنام ونحوها جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها. وعليه حُمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة. وقد قيل إنها كانت خيلاً عظيمة. قيل كانت عشرة آلاف فرس. وقيل كانت عشرين ألف فرس. وقيل كان فيها عشرون فرساً من ذوات الأجنحة.
وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية، أن محمد بن إبراهيم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: بناتي. ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع. فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما الذي عليه هذا؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة. قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء لما ترك الخيل لله عوضه الله عنها بما هو خير له منها، وهو الريح التي كان غدوها شهر ورواحها شهر، كما سيأتي الكلام عليها.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال "إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيراً منه".
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}.
ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ها هنا آثاراً كثيرة عن جماعة من السلف. وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات، وفي كثير منها نكارة شديدة، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير واقتصرنا ها هنا على مجرد التلاوة.
ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوماً ثم عاد إليه، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس، فبناه بناء محكماً، وقد قدمنا أنه جدده، وأن أول من جعله مسجداً إسرائيل عليه السلام، كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: مسجد بيت المقدس، قلت: كم بينهما. قال: أربعون سنة.
ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعين سنة، وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البيت المقدس؟ قال الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكماً يصادف حكمه.
فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه. فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها.
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} وقد ذكر شريح القاضي وغير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين، أي رعته بالليل، فأكلت شجره بالكلية، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقيمته. فلما خرجوا على سليمان قال: بم حكم لكم نبي الله؟ فقالوا: بكذا وكذا فقال: أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم فيستغلونها نتاجاً ودراً، حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه، ثم يتسلموا غنمهم، فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به.
وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينما امرأتان معهما ابناهما، إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما، فتنازعتا في الآخر، فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه. فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها. فقضى به لها".
ولعل كلاً من الحكمين كان سائغاً في شريعتهم، ولكن ما قاله سليمان أرجح، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه، ومدح بعد ذلك أباه فقال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}.
ثم قال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ، وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}.
وقال في سورة ص: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَاب، كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
لمّا ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها بالريح التي هي أسرع سيراً وأقوى وأعظم ولا كلفة عليه لها {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَاب} أي حيث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب، بحيث إنه سمع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور والخيام والأمتعة والخيول والجمال والأثقال والرجال من الإنس والجان، وغير ذلك من الحيوانات والطيور فإذا أراد سفراً أو مستنزهاً، أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله شاء. فإذا حمل هذه الأمور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته فرفعته فإذا استقل بين السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون، فوضعته في أي مكان شاء، بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس، فتغدو به الريح فتضعه بإصطخر مسيرة شهر، فيقيم هناك إلى آخر النهار، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس.
كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.
قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق فينزل بإصطخر فيتغدى بها، ويذهب رائحاً منها، فيبيت بكابل، وبين دمشق وبين اصطخر مسيرة شهر، وبين اصطخر وكابل مسيرة شهر.
قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن اصطخر بنتها الجان لسليمان، وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً، وكذلك غيرها من بلدان شتى، كتدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الأقوال.
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد: هو النحاس. قال قتادة: وكانت باليمن أنبعها الله له. قال السدي: ثلاثة أيام فقط أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها.
وقوله: {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}. أي وسخر الله له من الجن عمالاً يعملون له ما يشاء، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته، ومن خرج منهم عن الأمر عذبه ونكل به {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس {وَتَمَاثِيل} وهي الصور في الجدران، وكان هذا سائغاً في شريعتهم وملتهم {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} قال ابن عباس: الجفنة كالجوبة من الأرض. وعنه كالحياض. وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، قال الأعمش:
تروح على آل المحلق جفنة = كجابية الشيخ العراقي تفهق
وأما القدور الراسيات فقال عكرمة: أثافيها منها، يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن، وهكذا قال مجاهد وغير واحد.
ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام والإحسان إلى الخلق من إنسان وحيوان قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.
وقال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} يعني أن منهم من قد سخره الله في البناء ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلئ وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك. وقوله: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الأصفاد وهي القيود، وهذا كله من جملة ما هيأه الله وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن أيضاً لمن كان قبله.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرددته خاسئاً.
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله: قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة".
وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان، قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي، فذهبت أمرّ بين يديه فردني ثم قال: حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة. فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحدٌ فليفعل".
روى أبو داود منه "فمن استطاع" إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به.
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة سبعمائة بمهور وثلاثمائة سراري. وقيل بالعكس ثلاثمائة حرائر وسبعمائة من الإماء، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمراً عظيماً جداً.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقل، فلم تحمل شيئاً إلا واحداً ساقطاً أحد شقيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله". وقال شعيب وابن أبي الزناد: تسعين وهو أصح. تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة، إلا امرأة ولدت نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو قال: إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل".
إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، ولم يستثن. فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو استثنى لولد له مائة غلام يقاتل في سبيل الله عز وجل". تفرد به أحمد أيضاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال سليمان بن داود، لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله قال: نسي أن يقول: إن شاء الله، فأطاف بهن قال: فلم تلد منهن امرأة إلا واحدة نصف إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته".
وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله. قال إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد، وابن أبي الزناد عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوماً: لأطوفن الليلة على ألف امرأة، فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يستثن فطاف عليهن، فلم تحمل واحدة منهن، إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان، ولجاهدوا في سبيل الله عز وجل".
وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر، فإنه منكر الحديث ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح.
وقد كان له عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة كثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لأحد قبله، ولا يعطيه الله أحداً بعده، كما قال: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي أعط من شئت واحرم من شئت، فلا حساب عليك، أي: تصرف في المال كيف شئت، فإن الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك، ولا يحاسبك على ذلك، وهذا شأن النبي الملك، بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطي أحداً إلا بإذن الله له في ذلك.
وقد خُير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين، فاختار أن يكون عبداً رسولاً. وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك فأشار إليه أن تواضع. فاختار أن يكون عبداً رسولاً، صلوات الله وسلامه عليه، وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة. فلله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام من خير الدنيا، نبه لما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجميل والقربة التي تقربه إليه والفوز العظيم والإكرام بين يديه، وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته:
قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم ابن طهمان عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فيقول لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها ما اسمك: قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: اللهم عَمِّ على الجن موتي، حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصاً فتوكأ عليها حولاً، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين. قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك. فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء.
لفظ ابن جرير. وعطاء الخراساني في حديثه نكارة. وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً. وهو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن أناس من الصحابة: كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة يأتيها فيسألها ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا. فيجعلها كذلك حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها ما اسمك؟ فقالت: أنا الخروبة. فقال: ولأي شيء نبتِّ؟ فقالت: نبتُّ لخراب هذا المسجد فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط له.
ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات ولم به تعلم الشياطين. وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوىً بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب. فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، فلم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا مِنْسأته وهي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتها الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ذلك، وذلك قول الله عز وجل: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبون، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين. قال: فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكراً لها.
وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني. قال: ما أنا أعلم بذاك منك إنما هي كتب يلقى إليّ فيها تسمية من يموت.
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي، فاتكأ على عصاه قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت. قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي. قال: فبعث الله دابة الأرض يعني إلى منسأته فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخرَّ، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا. قال: فذلك قوله: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.
قال أصبغ: وبلغني عن غيره أنها مكثت سنة تأكل من منسأته حتى خر. وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم.. والله تعالى أعلم.
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزهري وغيره أن سليمان عليه السلام عاش اثنتين وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة. وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة. والله أعلم. وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفاً وخمسين سنة. وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.