فهذه الشبة مبعث القول فيها ثلاثة أسباب على الإجمال/
1- المبالغة في تعظيم اليهود لعزير وتعظيم النصارى لعيسى وإطراءهم لهم؛ فعزير كان حافظا للتوراة أو كان حافظا لأكثرها وأملاها عليهم من حفظه واستنسخوها بعد أن سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة، وعيسى عليه السلام لأنه خلق من غير أب ولأنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم وروح منه فعظموهم وأطروهم حتى قالوا تلك المقولات الشنيعة.
2- جهل النصارى، وخبث اليهود وشرهم المعهود، وتجرأهم على الله وكراهيتهم لدين الإسلام، فلا غرابة في الأمر فإنما هي سوءة من سوءاتهم الكثيرة.
3- تسويل الشيطان لهم واتباعهم له، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباب يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
والرد يكون عليهم من وجوه عدة:
- الأول/ {وقالت اليهود} أن هذا القول خاص؛ خرج بالعموم وأريد به الخصوص وهذا أسلوب قرآني معروف كقوله {الذين قال لهم الناس} ولم يقل كل الناس،فليس هذا هو قول كل يهودي، بل إن هذه المقولة لم تكن عند اليهود قديما إنما هي طارئة وليست من معتقداتهم ،يضاهئون بها قول الذين كفروا من قبل، فبهذا يتناقض إجماعهم، وهذا يدل على بطلان قولهم. بعكس ما جاءت به رسل الله حيث أجمعت وتوافقت على توحيد الله بالألوهية والربوبية
- الثاني/ تضاد مقولاتهم فمرة يقولون أنّه إله، وتارة أخرى يقولون ابن الله، وتارة {ثالث ثلاثة } {وقالت النصارى المسيح ابن الله} {إن الله هو المسيح ابن مريم} وهذا يدل على كذبهم وافتراءهم وأن ليس هناك دليل يقوم عليه القول.
- الثالث/ {وقالت اليهود} {وقالت النصارى} هي عطف على قوله {ولا يدينون دين الحق} فهذا تشنيع لهم فإنهم بلغوا في الكفر غايته حتى ساووا المشركين.
- الرابع/ ضمير الهاء في {ذلك قَولُهم} يعود على اليهود والنصارى فالقول مجرد قول منهم والمعروف أن الفريقين كلاهما ضال ولا مؤيد لقولهم.
- الخامس/ {ذلك قولهم بأفواههم} ولم يقل في كتبهم ولكن قال بأفواههم وذلك بمعنى أن الادعاء لم يتعدى الشفهية فهو قول كاذب وهذه النقطة وحدها كفيلة بالرد عليهم، فهو قول ساذج لا بيان له ولا برهان، مبني على مشابهة قول الكفار في قولهم: الملائكة بنات اللّهوهو مجرد نَفَس لا معنى صحيح تحته، ولا هو موجود في عالم الحقيقة، قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا، كقوله: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
- السادس/ قول اليهود هو قول ليس له أصالة قديما بل هو قول طارئ بدليل قوله تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} فاليهود الذين كانوا من قبل لم يقولوا بقولهم.
- السابع/ {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} ما شابه الباطل فهو باطل فهم بمقولتهم هذه يشابهون الذين وصفهم الله بالكفر ومن لا يبالي بما يقول لا يأخذ بقوله فإنه لا دين ولا قول يحجزه عن قول أي شيء فكيف تكون تلك المقولة صحيحة؟!
- الثامن/ الآلة المستخدمة في القول والدفاع واحده وهي الأفواه، فقولهم بأفواههم ضعيف لا يسنده حجه، ودفاعهم عن قولهم ضعيف كمن يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا عبث لا سبيل إليه، ودليله إضافة النور إلى اسم الجلالة،فضعْف دفاعهم ناتج عن افتقار القول للحجة والبرهان فهو مجرد افتراء وقول قالوه.
- التاسع/ الشدة في تبكيت الله لهم {أنى يؤفكون} فيما قالوه إذ القرآن في غالب وحيه أنه إذا كان القول حق إما يؤيده أو يسكت عنه، وإذا كانت المقولة باطلة ردها ببطلانها كما هو هنا فقال قاتلهم الله واستخدم صيغة المفاعلة التي تدل على المبالغة فيكون المعنى لعنهم الله لعنا شديدا، لأن الملعون كالمقتول وذلك تعجبا من مقولتهم.
- العاشر/ أنهم اتخذوا علماءهم وعبادهم أرباب من دون الله وهؤلاء العلماء والعباد يحلون الحرام ويحرمون الحلال فكيف ينتج عنهم مقولة صدق وحق؟!
- الحادي عشر/ الحق واحد ولا يتعدد وهو دين الإسلام الذي هو قائم على توحيد الله فقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا} فكل الشرائع تقيم هذا الأمر، وخصت الآية الملتين بمرجع ضمير واو الجماعة لأن وصايا كتب الملتين طافحة بالتحذير من الإشراك وعبادة المخلوقين، والإله المعبود بحق لا يكون إلا واحد ليس له شريك في أمره وخلقه وإلا فسد أمر السماء والأرض فتقرر عدم الإشراك به وبيان أنه المتفرد الذي ليس معه صاحبة ولا ولدا وأنه الصمد الذي لا يحتاج إلى شيء والكل محتاجون إليه.{َوما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً}
- الثاني عشر/ امضاء الله أمره، واتمام نوره دهرا طويلا بلا انقطاع، ولو اجتمعوا جميع الخلق على إطفائه لن يطفئوه، ولو كثر المعادين وسعوا في رده وإبطاله، فسعيهم لا يضر الحق شيئًا، فقد تكفل الله بحفظه من كل من يريده بسوء، وفي مقابل هذا نرى اندثار قول اليهود والنصارى وهذا دليل على بطلان أقوالهم وإثبات تنزه الله عنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ولهذا قال: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
- الثالث عشر/ يستوجب وجود الولد أمور يتنزه الله ويتعالى عنها فالله خالق كل شيء ولا يحتاج إلى شيء بل كل ما في الكون محتاجون إليه {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أم تقولون على الله ما لا تعلمون}
- الرابع عشر/ تحقق كفرهم بتعدد ما يدل عليه في الآيات كقوله {الكافرون} و{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} وقوله {يشركون} و{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} ومن تشبه بقوم فهو منهم.
- الخامس عشر/ يلزم من اتباع القول التزام طريق يسلكه المتبع ولأن مقولتهم باطلة كاذبة ليس لها حجة ولا برهان عدلت بصاحبها من سلوك الطريق المعلوم إلى المكان المجهول الذي من شأنه أن يُسأل عنه فقال الله متعجبا منهم مستفهما أنى يؤفكون؟ أنى يصرفون؟ فحاجّهم بأسلوب مناسب لقولهم لأن الإفك بمعنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه فهم انصرفوا من الحق الواضح إلى الباطل المظلم، وبمعنى الكذب فهم كذبوا وصرفوا السامع عن الصدق. وأما المتبعون للإسلام فهم في يسلكون طريقا واضحا وهو طريق الحق والهدى.
- السادس عشر/ لو كان الله متخذا ولدا لانتقاه وأوجده على غير مثال سابق، فعزير مخلوق كغيره من المخلوقات، وهذا واضح للمتأمل، وعيسى ابن مريم كمثل آدم خلقه من تراب، بل إن خلق آدم أغرب من خلق عيسى عليهما السلام حيث خُلق من غير ذكر أو أنثى، وحواء أغرب من خلق عيسى لأنها خلقت من ضلع آدم أما عيسى عليه السلام فخلق في بطن أمه الصديقة عليهما السلام ثم لو كان الله متخذا من رسله ولدا فإن الله قد فضل بعض الرسل على بعض كمحمد وإبراهيم عليهما السلام، فهم أولى من غيرهم في الاتخاذ إن كان الله فاعلا ولكن الله لم يتخذ ولد ولا ينبغي له أن يتخذ ولدا، قال الله تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار}
بعد أن ثبتت الأقوال على صاحبيها وتقررت بأفواههم وصريح كلامهم، وتبين بطلانها والرد عليها يحذر الله عباده من الوقوع في مثل هذه الأمور بأسلوب التشهير زيادة في التشنيع، وسدّا لباب التنصل فيقول{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)}
هذا والله أعلم ..