قالَ الحافظُ: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ، وسببُها أنَّ الراويَ قدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فيُذْكَرُ بغيرِ ما اشْتَهَرَ اشْتُهِرَ بهِ لغَرَضٍ، وصَنَّفُوا فيها (الْمُوضِّحَ).
ذَكَرَ في الشرْحِ أنَّ سببَها أَمْرَانِ، ويُمْكِنُ أنْ نَقولَ: إنَّ سببَها ثلاثةُ أُمُورٍ:
الأمْرُ الأَوَّلُ:
أنَّ الراويَ أَحياناً قدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ، فنَجِدُهُ أحياناً يُذْكَرُ بغيرِ ما اشْتَهَرَ اشْتُهِرَ بهِ، فيَطَّلِعَ فيَطَّلِعُ الْمُطَّلِعُ على الإسنادِ فيَبْقَى حَيرانَاً في هذا الرجُلِ مَنْ يكونُ؛ ولذلكَ أحياناً يُضْطَرُّونَ إلى القولِ بأنَّ فُلاناً مَجهولٌ؛ لأنَّهُم لم يَعْرِفُوا مَنْ هوَ..
والغالِبُ على مَنْ يُوصَفُ بأوصافٍ كثيرةٍ أنَّهُ مَطْعُونٌ في عَدالتِهِ، فإذا حَكَمْنَا عليهِ بأنَّهُ مجهولٌ فقطْ، وتَسَمَّحَ أُناسٌ في قَضِيَّةِ المجهولِ، وقَبِلُوهُ في الْمُتَابَعَاتِ والشواهِدِ؛ فمعْنَى ذلكَ أنَّهُ قدْ تَدْخُلُ تُدْخَلُ علينا الْمَوضوعاتُ في الأحاديثِ التي نَحْتَجُّ بها، فتَغْلِيباً لسُوءِ الظَّنِّ في هذهِ الأحوالِ وحَيْطَةً؛ لأنَّ أحاديثَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- يَنبغِي أنْ يُتَحَرَّزَ فيها، وكَوْنُنا نَحْتَاطُ أَوْلَى مِنْ أنْ نَتَسَاهَلَ، فيَدْخُلُ فيَدْخُلَ علينا البَلاءُ مِن الأحاديثِ التي لا تَصِحُّ ولا تَثْبُتُ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ-.
وهناكَ بَعْضُ المَتْرُوكِينَ والكذَّابينَ؛ لأَجْلِ أنَّهُم عُرِفُوا واشْتَهَر واشْتُهِرَ أمْرُهم، صارَ بعضُ تلاميذِهم يُسَمُّونَهم بأسماءَ بأسماءٍ ويُلَقِّبُونَهُم بألقابٍ ويُكَنُّونَهُم بكُنًى غيرِ ما يَشْتَهِرُونَ يُشْتَهَرُونَ بهِ.
الْجَهَالَةُ:
ذَكَرْنَا سابقاً قَضِيَّةَ
(بَقِيَّةَ بنِ الوليدِ) الواردةَ في بابِ التدليسِ، وذَكَرْنَا أنَّ بَقِيَّةَ، حينَما حَذَفَ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرٍو الرَّقِّيَّ، سَمَّاهُ أبا وَهْبٍ الأَسَدِيَّ، فعَمَّى على مَنْ يَطَّلِعُ على الحديثِ مَنْ يكونُ هذا الرَّجُلُ.
لكنَّ الإمامَ: أبا حاتمٍ الرازيَّ، اسْتَطَاعَ أنْ يَعْرِفَ أبا وَهْبٍ هذا، وأنَّهُ هوَ عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو؛ فلذلكَ يَنبغِي أَخْذُ الْحَيْطَةَ الْحَيْطَةِ مِنْ مِثلِ هذهِ الْمَوَاقِفِ.
مِثالٌ على هذا:
(مُحَمَّدُ بنُ سعيدِ بنِ حَسَّانَ بنِ أبي قَيسٍ المَصْلُوبُ)، صَلَبَهُ أبو جَعفرٍ المنصورُ بالزَّنْدَقَةِ؛ لأنَّهُ وَضَعَ أربعةَ آلافِ حَدِيثٍ؛ لِيَطْعَنَ في الإسلامِ - هذا الراوي قَلَبَ تلاميذُهُ اسْمَهُ على نحوِ مائةِ اسمٍ؛ فمَرَّةً يَقولونَ: محمَّدُ بنُ حَسَّانَ، ومَرَّةً: محمَّدُ بنُ سعيدٍ، ومَرَّةً يَنْسِبُونَه يَنْسُبُونَهُ إلى قَبيلةٍ دُنْيَا، ومَرَّةً يَنْسِبُونَه يَنْسُبُونَهُ إلى قَبيلةٍ عُلْيَا.
وكذلكَ:
(محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرٍ الكَلْبِيُّ) ، هذا مُتَّهَمٌ فنَجِدُهُ كَثُرَتْ نُعُوتُهُ، ونَجِدُ عَطِيَّةَ بنَ سَعْدٍ الْعَوْفِيَّ، وهوَ مِنْ تلاميذِ الكَلْبِيِّ هذا، وهوَ أيضاً ضِمْنُ مَنْ رَوَى عن الصحابِيِّ الجليلِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ-، فأحياناً يقولُ: حَدَّثَنِي أبو سعيدٍ، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- قالَ؛ فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لا مَعْرِفَةَ لهُ دقيقةً بالحديثِ أنَّهُ يَرويهِ عن الصحابِيِّ.
وعَطِيَّةُ
، بَعْضُهم يَقْبَلُهُ أوْ على الأَقَلِّ يقولُ: حَدِيثٌ مِن الأحاديثِ الْمُنْجَبِرَةِ، والأمْرُ خِلافُ ذلكَ.
فإذا جاءَ في حَدِيثٍ راوٍ مُتَّهَمٌ بالكَذِبِ فلا يُقبَلُ، ولوْ جاءتْ مِنْ مِائةِ طَريقٍ،فعطيَّةُ العَوْفِيُّ كَنَّى شيخَهُ الكلْبِيَّ بكُنيَةٍ لا يُعْرَفُ بها، وهناكَ أحَدُ أبنائِهِ اسمُهُ سعيدٌ، فيُكَنِّيهِ بهِ.
ولذلكَ العُلماءُ يُدَقِّقُونَ في رِوايتِهِ، هلْ قالَ: الْخُدْرِيُّ أمْ لا؟
وصَنيعُ عَطِيَّةَ هذا معَ الكلبِيِّ يُسَمَّى تَدليسَ الشيوخِ
، وقدْ تَرَكناهُ في مَبْحَثِ التدليسِ اختصاراً.
كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ في هذا الْمَبْحَثِ:
(الْمُوَضِّحُ لأَوْهَامِ الجمْعِ والتفريقِ)
للخَطيبِ البَغدادِيِّ، مَطبوعٌ في مُجَلَّدَيْنِ بتحقيقِ الشيخِ: عبدِ الرحمنِ المعلميِّ، وهوَ كتابٌ جَيِّدٌ في البابِ، وهوَ لا يَقتصِرُ على هذا الْمَبْحَثِ، بلْ هوَ يَقْصِدُ أنَّ هناكَ بعضَ الرُّواةِ الذينَ يَخْتَلِفُ العُلماءُ فيهم، فأحياناً يكونُ راوٍ واحدٌ يَجْعَلُهُ العُلماءُ اثنَيْنِ، وأحياناً يكونُ هناكَ رَاوِيَانِ يَجْعَلُهُما العُلماءُ واحداً.
مثلاً:
محمَّدُ بنُ السائبِ الكلبيُّيُمْكِنُ يُجْعَلُ أكثَرَ مِن اثنَيْنِ، فالخطيبُ يُبَيِّنُ. وهناكَ بعضُ الرُّواةِ يُجْعَلُونَ واحداً.
مِثالٌ:
رجُلٌ يَرِدُ في الأسانيدِ يُكَنَّى أبا مَوْدُودٍ، اخْتَلَفَ العُلماءُ فيهِ ما اسْمُهُ ؟
فمِنهم مَنْ قالَ: اسْمُهُ (فِضَّةُ).
ومِنهم مَنْ قالَ: اسْمُهُ (عبدُ العزيزِ بنُ أبي سُليمانَ).
والصوابُ أنَّهُما اثنانِ، فعبدُ العزيزِ بنُ أبي سُليمانَ ثِقَةٌ، وفِضَّةُ مجهولُ الحالِ، فيُفَرَّقُ بينَهما، ومَنْ جَمَعَ بينَهما فقدْ أَخْطَأَ.
الأمْرُ الثاني:
ومِن الأسبابِ أيضاً أنْ يكونَ الراوي مُقِلاًّ مِن الحديثِ، فبعضُهم لا تَجِدُ لهم إلاَّ حديثاً واحداً أوْ حديثَيْنِ أوْ نحوَ ذلكَ، فَبِطَبِيعَةِ الحالِ لَنْ يَكْثُرَ تلاميذُهُ، وفي بعضِ الأحيانِ يكونُ الرَّاوِي عنهُ ابنَهُ أوْ أحَدَ أقارِبِهِ، فمِثْلُ هذا تَتَّجِهُ إليهِ الْجَهَالَةُ، وجَهَالَةُ هذا الصِّنْفِ تَحتَمِلُ أمرَيْنِ:
1-أنْ لا يكونَ رَوَى عنهُ إلاَّ رَجُلٌ واحدٌ،فهذا لهم عليهِ حُكْمٌ، فيقولونَ عنهُ: مجهولٌ، أوْ: مجهولُ العَيْنِ.
2-إذا رَوَى عنهُ أكثَرُ مِنْ راوٍ،فهذا يُقالُ عنهُ: مجهولُ الحالِ، وأحياناً يُطلِقونَ عليهِ: المَسْتُورَ، ويُطْلِقُ عليهِ الحافِظُ في التقريبِ: مَقْبُولٌ.
وهناكَ قَيْدٌ في الْمَجهولِ وهوَ بصِنْفَيْهِ، وهوَ ألاَّ يُوَثَّقَ مِنْ إِمَامٍ مُعْتَبَرٍ؛ مِثلِ: الإمامِ أحمدَ وابنِ مَعِينٍ، والبُخَارِيِّ، وأبي حاتمٍ، وابنِ الْمَدِينِيِّ، وأمثالِهم، أمَّا ابنُ حِبَّانَ نَجِدُهُ يَذْكُرُ رُواةً مَجهولينَ أوْ مَجْهُولِي الحالِ على أنَّهُم ثِقاتٌ في كتابِ الثِّقاتِ؛ لذلكَ اسْتَثْنَى العُلماءُ ابنَ حِبَّانَ مِنْ هذهِ القاعدةِ، وقالَ: تَوثيقُ ابنِ حِبَّانَ لا يُعْتَبَرُ في مِثلِ هؤلاءِ الرُّواةِ.
الوُحْدَانُ:
وَهُمْ مَنْ لم يَرْوِ عنهم إلاَّ راوٍ واحدٌ.
الأمْرُ الثالثُ:
أوْ لا يُسَمَّى الراوي اختصاراً مِن الراوي عنهُ،كقَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي فُلانٌ، أوْ شيخٌ، أوْ رجُلٌ أوْ بعضُهم، أو ابنُ فُلانٍ، وهوَ الْمُبْهَمُ، وهوَ الذي لم يُفْصَحْ باسْمِهِ، مَثَلاً: - حدَّثَنِي رجُلٌ، عن ابنِ بَازٍ.
أوْ: حدَّثَنِي ابنٌ؛ لأحَدِ بَنِي تَميمٍ.
أوْ: حدَّثَنِي بعضُهم.
أوْ: حدَّثَنِي شيخٌ.
مِثالُهُ:
قولُ ابنِ عَدِيٍّ في (الكاملِ): حدَّثَنِي أشياخٌ لنا؛ فهؤلاءِ مُبْهَمُونَ، وهذهِ قِصَّةُ البُخَارِيِّ في العراقِ.
كُتُبٌ مُؤَلَّفَةٌ في الْمُبْهَمَاتِ:
الْمُبْهَمُ إمَّا أنْ يكونَ في السَّنَدِ أوْ في الْمَتْنِ، ومُعْظَمُ الْمُصَنَّفَاتِ التي صُنِّفَتْ في الْمُبْهَمَاتِ تُرَكِّزُ على الْمُبْهَمَاتِ في
الْمَتْنِ دُونَ الْمُبْهَمِ في السَّنَدِ.
1-كتابُ (الأسماءُ المُبْهَمَةُ في الأَنباءِ الْمُحْكَمَةِ) للخَطيبِ البَغداديِّ؛ يَتَكَلَّمُ عن الرُّواةِ الْمُبْهَمِينَ في الْمُتُونِ.
مِثالُهُ:
في (صحيحِ مُسْلِمٍ) حَدِيثُ: طَلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: جاءَ رجُلٌ مِنْ أهلِ نَجْدٍ ثائِرَ الرأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صوتِهِ ولا نَفْقَهُ ما يقولُ، فإذا هوَ يَسأَلُ عن الإسلامِ... إلخ. هذا مُبْهَمُ الْمَتْنِ، فالخَطيبُ يُحَاوِلُ أنْ يَجْمَعَ طُرُقَ الحديثِ كُلَّها حتَّى يَعْثُرَ على طريقٍ سُمِّيَ فيها هذا الرجُلُ الْمُبْهَمُ، فنَجِدُ أنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ صَرَّحَ باسمِهِ فَقَالَ في آخِرِ الحديثِ: يا رسولَ اللَّهِ، أَنَا ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبَةَ وافِدُ قَوْمِي إليكَ.
2- (غَوَامِضُ الأسماءِ الْمُبْهَمَةِ)لابنِ بَشْكُوَالٍ، وهوَ مَطبوعٌ، وطريقتُهُ بنَفْسُِ طريقةِ البَغداديِّ، لكنَّهُ أَوْرَدَ أحاديثَ أكْثَرَ ممَّا أَوْرَدَهُ الْخَطيبُ البَغداديُّ.
3-(إيضاحُ الإِشكالِ)لابنِ طاهرٍ الْمَقْدِسِيِّ، جَمَعَ بينَ الْمُبْهَمِ في السَّنَدِ والْمُبْهَمِ في الْمَتْنِ، لكنَّهُ لا يَستطيعُ أنْ يَحْصُرَ الْمُبْهَمِينَ في الإسنادِ؛ لأنَّ الأسانيدَ كثيرةٌ، لكنَّهُ بِحَسْبِ بِحَسَبِ ما وَقَعَ لهُ، وهوَ بطريقةٍ مُخْتَصَرَةٍ.
ما الفائدةُ مِنْ هذا؟
نقولُ: معرِفةُ الإبهامِ في الإسنادِ أعظَمُ فائدةً مِنْ مَعرفةِ الإبهامِ في الْمَتْنِ؛ لأنَّهُ يَنْبَنِي عليهِ تصحيحٌ وتَضعيفٌ، فلوْ لم نتَعْرِفِ الراويَ الْمُبْهَمَ؛ فمعناهُ أنَّنا سنَتَوَقَّفُ عن الحُكْمِ على الحديثِ حتَّى نَعْرِفَ ذلكَ الراويَ الْمُبْهَمَ.
4-أهَمِّيَّةُ الْمُبْهَمِ في الْمَتْنِ أقَلُّ مِن الإسنادِ،
ومَنْ أرادَ مَعْرِفَةَ أهَمِّيَّتَهَا أهَمِّيَّتِهَا فَلْيَرْجِعْ لِمُقَدِّمَةِ (الْمُستفادُ مِنْ مُبْهَمَاتِ المتْنِ والإسنادِ) لأبي زُرْعَةَ ابنِ الحافظِ العراقيِّ، فإنَّهُ أتَى بكتابِ الْخَطيبِ وابنِ بشْكوَالٍ، وابنِ طاهِرٍ بترتيبِ النَّوَوِيِّ، وزياداتِهِ على كتابِ الخطيبِ، فجَمَعَ هذهِ الكُتُبَ الأربعةَ في كتابِهِ (الْمُسْتَفَادُ) ورَتَّبَها تَرتيباً جَيِّداً.
حُكْمُ الحديثِ الْمُبْهَمِ:
يقولُ الحافظُ: (لا يُقْبَلُ حَدِيثُ الْمُبْهَمِ) ما لم يُسَمَّ.
ونقولُ: ولا يَنْجَبِرُ حتَّى نَعْرِفَ مَن الْمُبْهَمُ وسببُ وسَبَبَ رَدِّهِ؛ لأنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْجَبْرِ عَدالةُ رَاوِيهِ، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُهُ لا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، فكيفَ تُعْرَفُ عدالتُهُ؟!
الإبهامُ بلَفْظِ التعديلِ: بعضُ العُلماءِ مِثْلُ: الشافعيِّ نَجِدُهُ أحياناً يقولُ: أخْبَرَنِي الثِّقَةُ. فشيخُهُ مُبْهَمٌ لكنَّهُ زادَ على الْمُبْهَمِ بأنَّهُ وَصَفَهُ بأنَّهُ ثِقَةٌ، فهلْ يُقْبَلُ التعديلُ على الإبهامِ؟ الرَّاجِحُ أنَّهُ لا يُقْبَلُ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ ثِقةً عندَهُ، لكنَّهُ غيرُ ثِقَةٍ عندَ غيرِهِ.