الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه
الشبهة الأولى
...
الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه
كان القرآن ولا يزال هدفا لأعداء الإسلام يسددون إليه سهام المطاعن ويتخذون من علومه مثارا للشبهات يلفقونها زورا وكذبا ويروجونها ظلما وعدوانا. من ذلك ما نقصه عليك في موضوعنا هذا مشفوعا بالتفنيد فيما يأتي:
الشبهة الأولى وهي تعتمد على سبع شبه
يقولون إن في طريقة كتابة القرآن وجمعه دليلا على أنه قد سقط منه شيء وأنه ليس اليوم بأيدينا على ما زعم محمد أنه أنزل عليه. واعتمدوا في هذه الشبهة على المزاعم الآتية:
أولا: أن محمدا قال: رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية. كنت أسقطتهن ويرى أنسيتهن. فهذا الحديث فيه اعتراف من النبي نفسه بأنه أسقط عمدا بعض آيات القرآن أو أنسيها.
ثانيا: أن ما جاء في سورة الأعلى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعلى يدل بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمدا قد أسقط عمدا أو أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها:
ثالثا: أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه فمن ذلك
آية المتعة أسقطها علي بن أبي طالب بتة وكان يضرب من يقرؤها. وهذا مما شنعت عائشة به عليه فقالت: إنه يجلد على القرآن وينهى عنه وقد بدله وحرفه.
رابعا: أن أبي بن كعب حذف من القرآن ما كان يرويه ولا نجده اليوم في المصحف وهو: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله. نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
خامسا: أن كثيرا من آياته لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وكان بعضهم قد قتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه الأولين وذهب معهم ما كانوا يتخطفونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء.
سادسا: أن ما كان مكتوبا منه على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام ولا ضبط وقد ضاع بعضها. وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت حرفا لا حكما. وهو من غريب المزاعم. وحقيقة الأمر فيها أنها سقطت بتة بضياع العظم الذي كانت مكتوبة عليه ولم يبق منها سوى المعنى محفوظا في صدورهم.
سابعا: لما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم وزاد فيه أشياء ليست منه وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده ووجه بها إلى مصر والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة
وهي القرآن المتداول اليوم. وعمد إلى المصاحف المتقدمة فلم يبق منها نسخة إلا أغلى لها الخل وطرحها فيه حتى تقطعت. وإنما رام بما فعله أن يتزلف إلى بني أمية فلم يبق في القرآن ما يسوءهم.
نقض هذه المزاعم الباطلة
ملخص هذه الشبهة أن القرآن الذي بأيدينا ناقص سقط منه ماسقط بدليل المزاعم السبعة التي سقناها أمامك. وإذن فلنمحص بين يديك هذه المزاعم لنأتي بنيان هذه الشبهة من القواعد.
1- أما احتجاجهم الأول وهو الحديث الذي أوردوه فإنه لا ينهض حجة لهم فيما زعموا من الشك في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه. بل الأصل سليم قويم وهو وجود هذه الآيات مكتوبة في الوثائق التي استكتبها الرسول ووجودها محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر وأجمعوا جميعا على صحته. كما عرف ذلك في دستور جمع القرآن.
إنما قصارى هذا الخبر أنه يدل على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إياها وكان قد أنسيها أو أسقطها أي نسيانا.
وهذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد حفظ هذه الآيات من قبل أن يحفظها ذلك الرجل ثم استكتبها كتاب الوحي وبلغها الناس فحفظوها عنه ومنهم رجل الرواية عباد بن بشار رضي الله عنه على ما روي.
وليس في ذلك الخبر الذي ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوها جميعا حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام,كما يفتري أولئك الخراصون. بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها الرسول منه.
ثم إن دستور جمع القرآن وقد مر آنفا يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته: ومنه هذه الآيات التي يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك.
ولا يفوتنك في هذا المقام أمران: أحدهما: أن كلمة أسقطتهن في بعض روايات هذا الحديث معناها أسقطتهن نسيانا كما تدل على ذلك كلمة أنسيتهن في الرواية الأخرى. ومحال أن يراد بها الإسقاط عمدا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له ولا يعقل منه أن يبدل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه وإلا كان خائنا أعظم الخيانة. والخائن لا يمكن أن يكون رسولا.
هذا هو حكم العقل المجرد من الهوى وهو أيضا حكم النقل في كتاب الله إذ يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإذ يقول جل ذكره: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .
الأمر الثاني: أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من عباد بن بشار قد امحت من ذهنه الشريف جملة غاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة عباد. وغيبة الشيء عن الذهن أو غفلة الذهن عن الشيء غير محوه منه. بدليل أن الحافظ منا لأي نص من النصوص يغيب عنه هذا النص إذا اشتغل ذهنه بغيره وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره ثم قرأه. أما النسيان التام المرادف لامحاء الشيء من الحافظة فإن الدليل قام على استحالته على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخل بوظيفة الرسالة والتبليغ. وإذا عرض له نسيان فإنه سحابة صيف لا تجيء إلا لتزول. ولا ريب أن نسيان الرسول هنا كان بعد أن أدى وظيفته وبلغ الناس وحفظوا عنه. فهو نسيان لم يخل بالرسالة والتبليغ. قال البدر العيني في باب نسيان القرآن من شرحه لصحيح البخاري ما نصه:
وقال الجمهور: جاز النسيان عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم بشرط ألا يقر عليه بل لا بد أن يذكره. وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ وأما نسيان ما بلغه كما في هذا الحديث فهو جائز بلا خلاف ا هـ.
هذا. ولقد كنت في الطبعة الأولى تابعت بعض الكاتبين هنا في اتهام هذه الرواية بالدس والوضع ولكن تبين لي بعد إعادة النظر وتنبيه بعض ذوي الفطن أن الخبر صحيح رواه الشيخان ففي صحيح البخاري عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد. فقال: "يرحمه الله. لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا" . زاد في رواية أخرى وقال: "أسقطتهن من سورة كذا وكذا" .
وفي صحيح مسلم عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: "يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا" .
وقال النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن ما نصه: وثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ فقال: "رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أسقطتها" . وفي رواية في الصحيح "كنت أنسيتها" ا هـ. سبحان ربي {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} .
2- وأما احتجاجهم الثاني وهو الاسثناء الذي في قوله سبحانه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فلا يدل على ما زعموا لأنه استثناء صوري لا حقيقي. والحكمة فيه أن يعلن الله عباده أن عدم نسيانه صلى الله عليه وسلم الذي وعده الله إياه في قوله: {فَلا تَنْسَى} إنما هو محض فضل من الله وإحسان ولو شاء سبحانه أن ينسيه لأنساه. وفي ذلك
الاستثناء الصوري فائدتان: إحداهما ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يشعر دائما أنه مغمور بنعمة الله وعنايته ما دام متذكرا للقران لا ينساه والثانية تعود على أمته حيث يعلمون أن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية فلا يفتنون فيه كما فتن النصارى في المسيح ابن مريم.
والدليل على أن هذا الاستثناء صوري لا حقيقي أمران: أحدهما ما جاء في سبب النزول وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن حتى وقت نزول الوحي مخافة أن ينساه ويفلت منه فاقتضت رحمة الله بحبيبه أن يطمئنه من هذه الناحية وأن يريحه من هذا العناء فنزلت هذه الآية. كما نزلت آية {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وآية {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
ثانيهما أن قوله {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يعلق وقوع النسيان على مشيئة الله إياه. والمشيئة لم تقع بدليل ما مر بك من نحو قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . وإذا فالنسيان لم يقع للعلم بأن عدم حصول المعلق عليه يستلزم عدم حصول المعلق. فالذي عنده ذوق لأساليب اللغة ونظر في وجوه الأدلة لا يتردد في أن الآية وعد من الله أكيد بأن الرسول يقرئه الله فلا ينسى وعدا منه على وجه التأييد من غير استثناء حقيقي لوقت من الأوقات.
وإلا لما كانت الآية مطمئنة له عليه الصلاة والسلام ولكان نزولها أشبه بالعبث ولغو الكلام.
قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره للاستثناء في هذه الآية ما نصه: ولما كان الوعد على وجه التأبيد واللزوم ربما يوهم أن قدرة الله لا تسع غيره وأن ذلك خارج عن إرادته جل شأنه جاء بالاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك فالقصد هو نفي النسيان رأسا. وقالوا: إن ذلك
كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله لا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وعلى ذلك جاء الاستثناء في قوله تعالى في سورة هود {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع. فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على أن ذلك التأبيد والتخليد بكرم من الله وسعة جود لا بتحتيم عليه وإيجاب وأنه لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع.
وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم نسي شيئا كان يذكره فذلك إن صح فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها. وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول المغفلين فلوثوا بها ما طهره الله فلا يليق بمن يعرف قدر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ويؤمن بكتاب الله أن يتلق بشيء من ذلك ا هـ.
ذلك رأي في معنى الاستثناء وثمة وجه آخر فيه وهو أنه استثناء حقيقي غير أن المراد به منسوخ التلاوة دون غيره ويكون معنى الآية أن الله تعالى يقرئ نبيه فلا ينسيه إلا ما شاءه وهو ما نسخت تلاوته لحكمة من الحكم التي بينها العلماء في مبحث النسخ. والدليل على هذا قوله سبحانه في سورة البقرة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قال العلامة أبو السعود في تفسيره: وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي نوع آخر هو خير للعباد بحسب الحال في النوع والثواب من الذاهبة. وقرئ بقلب الهمزة ألفا أو مثلها أي فيما ذكر من النفع والثواب ا هـ ما أردنا نقله.
وأيا ما يكن معنى الاستثناء في آية {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه لا يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي حرفا واحدا مما أمر بتلاوته وتبليغه للخلق,
وإبقاء التشريع على قراءته وقرآنيته من غير نسخ. وذلك على أن المراد من النسيان المحو التام من الذاكرة
أما إن أريد به غيبة الذهن عنه فقد سبق القول فيه قريبا. ولا تحسبن أن دواعي سهو الرسول ونسيانه تنال من مقامه فإنه دواع شريفة على حد ما قيل:
ياسائلي عن رسول الله كيف سها؟ ... والسهو من كل قلب غافل لاهي
سها عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله
4,3- وأما احتجاجهم الثالث والرابع بأن الصحابة قد حذفوا من القرآن عند جمعه ما رأوا المصلحة في حذفه ومنه آية المتعة وصيغة القنوت فهو احتجاج باطل قائم على إهمال النصوص الصحيحة المتضافرة على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أحرص الناس على الاحتياط للقرآن وكانوا أيقظ الخلق في حراسة القرآن ولهذا لم يعتبروا من القرآن إلا ما ثبت بالتواتر وردوا كل ما لم يثبت تواتره لأنه غير قطعي ويأبى عليهم دينهم وعقلهم أن يقولوا بقرآنية ما ليس بقطعي. وقد سبق لك ما وضعوه من الدساتير المحكمة الرشيدة في كتابة الصحف على عهد أبي بكر وكتابة المصاحف على عهد عثمان. فارجع إليها إن شئت لتعرف مدى إمعان هؤلاء المبطلين في التجني والضلال.
وإذا كان هؤلاء الطاعنون يريدون أن يلمزوا الصحابة ويعيبوهم بهذه الحيطة البالغة لكتاب الله حتى أسقطوا ما لم يتواتر وما لم يكن في العرضة الأخيرة وما نسخت تلاوته وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ نقول: إذا كانوا يريدون أن يلمزوا الصحابة والقرآن بذلك فالأولى لهم أن يلمزوا أنفسهم وأن يواروا سوأتهم. لأن المسلمين كانوا ولا يزالون أكرم على أنفسهم من أن يقولوا في كتاب الله بغير علم وأن ينسبوا إلى الله ما لم تقم عليه حجة قاطعة وأن يسلكوا بالقرآن مسلك الكتب المحرفة والأناجيل المبدلة.
وإننا نذكر هؤلاء بتلك الكلمة التي يرددونها هم وهي: من كان بيته من زجاج فلا يرجمن الناس بالحجارة.
وكلمة الفصل في هذا الموضوع: أن آية المتعة التي يزعمون وصيغة القنوت التي يحكمون لم يثبت قرآنيتهما حتى يكونا في عداد القرآن وإن ادعوا قرآنيتهما فعليهم البيان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
قال صاحب الانتصار ما نصه: إن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرآنا لنقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته ثم قال ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بما ليس بقرآن. ولم يصح ذلك عنه إنما روي عنه إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل ا هـ. وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية. وبعضهم ذكر أن أبيا رضي الله عنه كتبه في مصحفه وسماه سورة الخلع والحفد لورود مادة هاتين الكلمتين فيه وقد عرفت توجيه ذلك.
والخلاصة أن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلا لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن. ولكن ندرة أدوات الكتابة وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم هون عليهم ذلك لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره. فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن مع أن الحقيقة ليست كذلك إنما هي ما علمت. أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه حين من الدهر نهى
عن كتابة غير القرآن إذ يقول فيما يرويه مسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" وذلك كله مخافة اللبس والخلط والاشتباه في القرآن الكريم.
5- وأما احتجاجهم الخامس بأن كثيرا من آيات القرآن لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وقد قتل بعضهم وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه فلا يسلم لهم لأن نفس ما كان يتحفظه الشهداء من القراء كان يتحفظه كثير غيرهم أيضا من الأحياء الذين لم يستشهدوا ولم يموتوا بدليل قول عمر: وأخشى أن يموت القراء من سائر المواطن ومعنى هذا أن القراء لم يموتوا كلهم. إنما المسألة مسألة خشية وخوف. ومعلوم أن أبا بكر كان من الحفاظ وكذلك عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم وهؤلاء عاشوا حتى جمع القرآن في الصحف وعاش منهم من عاش حتى نسخ في المصاحف وحينئذ فكتابة زيد ما كتبه هي كتابة لكل القرآن لم تفلت منه كلمة ولا حرف.
وكان القرآن كله مكتوبا كما سبق شرحه وبيانه حتى إن الصحابة في جمعه كانوا يستوثقون له بأن يعتمدوا على الحفظ والكتابة معا دون الاكتفاء بأحدهما وكانوا فيما يعتمدون عليه من الكتابة يتأكدون من أنه كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون على ذلك شاهدين كما سلف إيضاحه.
6- وأما احتجاجهم السادس بأن ما كان مكتوبا من القرآن على العظام ونحوها كان غير منظم ولا مضبوط الخ فينقضه ما أثبتناه آنفا في جمع القرآن من أن ترتيب آياته كان توقيفيا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرشد كتاب الوحي أن يضعوا آية كذا في مكان كذا من سورة كذا. وكان يقرئها أصحابه كذلك ويحفظها الجميع ويكتبها من ساء منهم لنفسه على هذا النحو حتى صار ترتيب القرآن وضبط آياته معروفا مستفيضا بين الصحابة حفظا وكتابة. ووجدوا ما كتب عند الرسول من القرآن,
مرتب الآيات كذلك في كل رقعة أو عظمة وإن كانت العظام والرقاع منتشرة وكثيرة مبعثرة. على أننا قررنا غير مرة أن التعويل كان على الحفظ والتلقي قبل كل شيء ولم يكن التعويل على المكتوب وحده فلا جرم كان في الحفظ والكتابة معا ضمان للنظام والترتيب والضبط والحصر.
وأما قولهم في هذا الاحتجاج: وقد ضاع بعضها فيظهر أنهم استندوا في ذلك إلى ما ورد من أنه فقدت آية من آخر سورة براءة فلم يجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت فظن هؤلاء أن هذا اعتراف منا بضياع شيء من مكتوب القرآن. وليس الأمر كما فهموا بل المعنى أن الصحابة لم يجدوا تلك الآية مكتوبة إلا عند خزيمة بخلاف غيرها من الآيات فقد كانت مكتوبة عند عدة من الصحابة ومع ذلك فقد كان الصحابة يقرؤونها ويحفظونها ويعرفونها بدليل قولهم: فقدت آية. وإلا فما أدراهم أنها فقدت من الكتابة لو لم يحفظوها؟
وأما قولهم في هذا الاحتجاج أيضا: إن ضياع ذلك البعض دعا الصحابة إلى دعوى النسخ وهو من غريب المزاعم فهو قول أثيم أرادوا به الطعن على النسخ وإنكاره وسيأتيك الكلام على النسخ وحكمته ودفع الشبه عنه في مبحث خاص إن شاء الله.
7- وأما احتجاجهم السابع بما نسبوه إلى الحجاج فهي نسبة كاذبة لا برهان لهم بها ولا دليل عليها. وها هو التاريخ فليأتوا لنا منه بسلطان مبين على أن الحجاج جمع المصاحف فضلا عن أنه نقص منها أو زاد فيها
ولو أنه فعل ذلك لنقل إلينا متواترا لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره وكيف يفعل ذلك والأمة كلها تقره وأئمة الدين الموجودون في عهده كالحسن البصري يسكتون ولا ينكرون ولا يدافعون ولا يستقتلون؟ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} .
ثم إن الحجاج كان عاملا من العمال على بعض أقطار الإسلام فأنى له أن يجمع المصاحف ويحرقها فيما عدا ولايته التي هو عامل عليها؟
وإذا فرضنا أن الحجاج كان له من القوة والشوكة ما أسكت به كل الأمة في زمانه على هذا الخرق الواسع في الإسلام والقرآن فما الذي أسكت المسلمين بعد انقضاء عهد الحجاج؟ وإذا كان الحجاج قد استطاع التحكم في المصاحف والتلاعب فيها بالزيادة والنقص فكيف استطاع أن يتحكم في قلوب الحفاظ وهم آلاف مؤلفة في ذلك العهد حتى يمحو منها ما شاء ويثبت ما أراد؟.
هذه دعاوى ساقطة تحمل أدلة سقوطها في ألفاظها وتدل على جرأة القوم وإغراقهم في الجهل والضلال.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . نسأل الله السلامة بمنه وكرمه. آمين.
الشبهة الثانية
...
الشبهة الثانية
يقولون: إن القرآن كما حصل فيه نقص عند الجمع حصلت فيه زيادة. والدليل على ذلك إنكار ابن مسعود أن المعوذتين من القرآن وأن في القرآن ما هو من كلام أبي بكر وكلام عمر.
وننقض هذه الشبهة أولا: بأن ابن مسعود لم يصح عنه هذا النقل الذي تمسكتم به من إنكاره كون المعوذتين من القرآن. والمسألة مذكورة في كثير من كتب التفسير وعلوم القرآن مع تمحيصها والجواب عليها.
وخلاصة ما قالوه: أن المسلمين أجمعوا على وجوب تواتر القرآن. ويشكل على هذا ما نقل من إنكار ابن مسعود قرآنية الفاتحة والمعوذتين. بل روي أنه حك من مصحفه المعوذتين زعما منه أنهما ليستا من القرآن.
وقد أجابوا عن ذلك بمنع صحة النقل قال النووي في شرح المهذب ما نصه: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد شيئا منها كفر. وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ا هـ وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع. بل صح عن ابن مسعود نفسه قراءة عاصم وفيها المعوذتان والفاتحة. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قرأهما في الصلاة. زاد ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر أيضا: فإن استطعت ألا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأنا المعوذتين وقال له: "إذا أنت صليت فاقرأ بهما" . وإسناده صحيح.
ثانيا: يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته,
كان قبل علمه بذلك فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما من القرآن.
قال بعضهم: يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما. وإنما لم ينكر ذلك عليه لأنه كان بصدد البحث والنظر والواجب عليه التثبت في هذا الأمر ا هـ.
ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود ثبت فيها المعوذتان والفاتحة وهي صحيحة ونقلها عن ابن مسعود صحيح وكذل إنكار ابن مسعود للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر. إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعا بين الروايتين.
وما يقال في نقل إنكاره قرآنية المعوذتين يقال في نقل إنكاره قرآنية الفاتحة بل نقل إنكاره قرآنية الفاتحة أدخل في البطلان وأغرق في الضلال باعتبار أن الفاتحة أم القرآن وأنها السبع المثاني التي تثنى وتكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة على لسان كل مسلم ومسلمة. فحاشى لابن مسعود أن يكون قد خفي عليه قرآنيتها فضلا عن إنكاره قرآنيتها. وقصارى ما نقل عنه أنه لم يكتبها في مصحفه وهذا لا يدل على الإنكار. قال ابن قتيبة ما نصه: وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن معاذ الله ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان ا هـ ومعنى هذا أن عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة في مصحفه كان سببه وضوح أنها من القرآن وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان والزيادة والنقصان.
ثالثا: أننا إن سلمنا أن ابن مسعود أنكر المعوذتين وأنكر الفاتحة بل أنكر القرآن كله فإن إنكاره هذا لا يضرنا في شيء لأن هذا الإنكار لا ينقض تواتر القرآن ولا يرفع العلم القاطع بثبوته القائم على التواتر. ولم يقل أحد في الدنيا:
إن من شرط التواتر والعلم اليقيني المبني عليه ألا يخالف فيه مخالف. وإلا لأمكن من هدم كل تواتر وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يخالف فيه مخالف ولو لم يكن في العير ولا في النفير. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن. لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه ولا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار ا هـ.
رابعا أن ما زعموه من أن آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الخ من كلام أبي بكر فهو زعم باطل لا يستند إلى دليل ولا شبه دليل. وقد جاء في الروايات الصحيحة أنها نزلت في واقعة أحد لعتاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما صدر منهم وأنها ليست من كلام أبي بكر. وذلك أنه لما أصيب المسلمون في غزوة أحد بما أصيبوا به وكسرت رباعية1 النبي صلى الله عليه وسلم وشج2 وجهه الشريف وجحشت3 ركبته وشاع بين المقاتلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. هنالك قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم.
وقال أناس من المنافقين: إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما قال هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك فقد ورد أنه قال:
__________
1 الرباعية: هي السن التي بين الناب والثنية.
2 شج الوجه: جرحه.
3 جحش الركبة: خدشها.
عرفت عينيه تحت المغفرة تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه رضي الله عنهم ينافحون عنه. ثم لام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الفرار. فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا. أتانا الخبر أنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الخ من سورة آل عمران.
والظاهر أن هؤلاء الطاعنين بزيادة هذه الآية وأنها من كلام أبي بكر يعتمدون فيما طعنوا على ما كان من عمر يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رد أبي بكر عليه بهذه الآية فزعموا أنها من كلام أبي بكر وما هي من كلام أبي بكر. إنما هي من كلام رب العزة أنزلها قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ببضع سنين والمسلمون جميعا ومنهم أبو بكر وعمر يحفظونها ويعرفونها. غير أن منهم من ذهب عنها كعمر لهول الحادث وشدة الصدمة وتصدع قلبه بموت رسول الرحمة وهادي الأمة صلى الله عليه وسلم.
وكان من آثار ذلك أن عمر رضي الله عنه غفل عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يومئذ وقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات. ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات.
هنالك نهض أبو بكر ينقذ الموقف فقال: على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان
يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى آخرها. قال الراوي: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر. وقال عمر: ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت1 حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ا هـ.
وهذه الآية كما ترى لا يشم منها رائحة أنها من كلام أبي بكر بلى هي تحمل في طيها أدلة كونها من كلام الله وأن الصحابة يعلمون أنها من كلام الله نزلت قبل أن ينزل بهم هذا الخطب الفادح ببضع سنين. ولكن ما الحيلة فيمن أعماهم الهوى والتعصب؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
خامسا: أن ما ادعوه من أن آية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} من كلام عمر مردود أيضا بمثل ما رددنا به زعمهم السابق في آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الخ. بل زعمهم هذا أظهر في البطلان لأن الثابت عن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} في سورة البقرة. وهناك فرق بين كلمة عمر في تمنيه الذي هو سبب النزول وبين كلمة القرآن النازلة بذلك السبب فأنت ترى أن الآية جاء فيها الفعل بصيغة الأمر ولم يقرن بلفظ لو. أما تمني عمر فجاء الفعل فيه بصيغة الماضي وقرن بلفظ لو. وتحقيق القرآن أمنية أو أمنيات لعمر لا يدل على أن ما نزل تحقيقا لهذه التمنيات يعتبر من كلام عمر. بل البعد بينهما شاسع والبون بعيد.
الشبهة الثالثة
...
الشبهة الثالثة
يزعم بعض غلاة الشيعة أن عثمان ومن قبله أبو بكر وعمر أيضا حرفوا القرآن وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره. ورووا عن هشام بن سالم من أبي عبد الله: أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد كان سبعة عشر ألف آية1. وروى محمد بن نصر عنه أنه قال: كان في سورة لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. وروى محمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} في سورة النحل ليس كلام الله بل هو محرف عن موضعه وحقيقة المنزل أئمة هي أزكى من أئمتكم.
ومنهم من قال: إن القرآن كانت فيه سورة تسمى سورة الولاية وأنها أسقطت بتمامها وأن أكثر سورة الأحزاب سقط إذ أنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت. وكذلك ادعوا أن الصحابة أسقطوا لفظ {وَيْلَكَ} من قبل {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وأسقطوا لفظ عن ولاية علي من بعد {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} وأسقطوا لفظ بعلي بن أبي طالب من بعد {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} وأسقطوا لفظ آل محمد من بعد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى غير ذلك.
فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا أشد تحريفا عند هؤلاء الشيعيين من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟.
وننقض هذه الشبهة بما يأتي:-
أولا: أنها اتهامات مجردة عن السند والدليل وكانت لا تستحق الذكر لولا
__________
1 مع العلم بأن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ومئتا آية وكسور كما يأتي.
أن رددها بعض الملاحدة وربما يخدع بها بعض المفتونين. ويكفي في بطلانها أنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يقيموا عليها برهانا ولا شبه برهان.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
ولكن هكذا شاءت حماقتهم وسفاهتهم {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .
ثانيا: أن بعض علماء الشيعة أنفسهم تبرأ من هذا السخف ولم يطق أن يكون منسوبا إليهم وهو منهم فعزاه إلى بعض من الشيعة جمع بهم التفكير وغاب عنهم الصواب قال الطبرسي1 في مجمع البيان ما نصه: أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها. وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من الحشوية. والصحيح خلافه. وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء ا هـ.
وقال الطبرسي أيضا في مجمع البيان ما نصه: أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة. ثم قال: إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه لأن القرآن مفخرة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟ ا هـ.
ثالثا: أن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل. والتواتر طريق
__________
1 الطبرسي من رؤساء الشيعة, وكتابه مجمع البيان هو المرجع عندهم.
واضحة من طرق العلم. والإجماع سبيل قويم من سبل الحق. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} .
رابعا: أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو الذي يزعمون أنهم يناصرونه ويتشيعون له بهذه الهذيانات صح النقل عنه بتحبيذ جمع القرآن على عهد أبي بكر ثم عهد عثمان. ولعلك لم تنس أنه قال في جمع أبي بكر ما نصه: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وكذلك قال في جمع عثمان ما نصه: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان وبهذا قطع الإمام ألسنة أولئك المفترين ورد كيدهم في نحورهم مخذولين. فأين يذهبون؟ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} ؟.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
خامسا : أن الخلافة قد انتهت إلى علي كرم الله وجهه بعد أبي بكر وعمر وعثمان فماذا منعه أن يجهر وقتئذ بالحق في القرآن وأن يصحح للناس ما أخطأ فيه أسلافه على هذا الزعم والبهتان؟ مع أنه الإمام المعصوم في عقيدة أولئك المبطلين ومع أنه كان من سادات حفظة القرآن ومن أشجع خلق الله في نصرة الدين والإسلام.
ولقد صار الأمر بعده إلى ابنه الحسن رضي الله عنه فماذا منعه الآخر من انتهاز هذه الفرصة كي يظهر حقيقة كتاب الله للأمة. هذه مزاعم لا يقولها إلا مجنون ولا يصدق بها إلا مأفون!!
الشبهة الرابعة
...
الشبهة الرابعة
يقولون: ورد أن عبد الله بن مسعود قال: يا معشر المسلمين. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟ ا هـ.
قالوا: وهو يعني بهذا الرجل زيد بن ثابت ويريد بذلك الكلام الطعن على جمع القرآن. وهذا يدل بالتالي على أن القرآن الموجود بين أيدينا ليس موضع ثقة ولم يبلغ حد التواتر.
وننقض شبهتهم هذه. أولا: بأن كلام ابن مسعود هذا إذا صح لا يدل على الطعن في جمع القرآن إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع لأنه كان يثق بنفسه أكثر من ثقته بزيد في هذا الباب. وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد أهلية وكفاية للنهوض بما أسند إليه وإن كان هو في نصر نفسه أكفأ وأجدر. غير أن المسألة تقديرية ولا ريب أن تقدير أبي بكر وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له. كيف وقد عرفت فيما سبق مجموعة المؤهلات والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلته الجدير بتنفيذ هذه الغاية السامية. أضف إلى ذلك أن عثمان ضم إليه ثلاثة ثم كان هو وجمهور الصحابة مشرفين عليهم مراقبين لهم وناهيك في عثمان أنه كان من حفاظ ومعلمي القرآن!
وخلاصة هذا الجواب أن اعتراض ابن مسعود على فرض صحته كان منصبا على طريقة تأليف لجنة الجمع لا على صحة نفس الجمع. مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدا بزمن طويل إذ كان عبد الله مسلما وزيد لا يزال ضميرا مستترا في صلب أبيه. وليس هذا بمطعن في زيد فكم ترك الأول للآخر. ولو كان الأمر بالسن لاختل كثير من نظام الكون. ثم إن كلمة
ابن مسعود ربما يفهم منها الطعن في زيد من ناحية أن أباه كان كافرا ولكن هذا ليس بمطعن فكثير من أكابر الصحابة كانوا في مبدأ أمرهم كفارا وخرجوا من أصلاب آباء كافرين. والله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ويقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .
ثانيا : أننا إذا سلمنا صحة ما نقل عن ابن مسعود وسلمنا أنه أراد الطعن في صحة جمع القرآن لا نسلم أنه دام على هذا الطعن والإنكار بدليل ما صح عنه أنه رجع إلى ما في مصحف عثمان وحرق مصحفه في آخرة الأمر حين تبين له أن هذا هو الحق وبدليل ما صح عنه من قراءة عاصم عن زرعة وقد تقدم.
ثالثا: أن كلام ابن مسعود هذا على تسليم صحته وأنه أراد به الطعن في صحة الجمع وأنه دام عليه ولم يرجع عنه لا نسلم أنه يدل على إبطال تواتر القرآن فإن التواتر كما أسلفنا يكفي في القطع بصحة مرويه أن ينقل عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بشروطه وليس من شروطه ألا يخالف فيه مخالف حتى يقدح في تواتر القرآن أن يخالف فيه ابن مسعود أو غير ابن مسعود ما دام جم غفير من الصحابة قد أقروا جمع القرآن على هذا النحو في عهد أبي بكر مرة وفي عهد عثمان مرة أخرى.
الشبهة الخامسة
...
الشبهة الخامسة
يقولون: كيف يكون القرآن متواترا. مع ما يروى عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد أبي بكر ما نصه: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره وهما {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة.
ثم كيف يكون القرآن متواترا مع ما يروى أيضا عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد عثمان ما نصه: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ؟.
والجواب على هذه الشبهة: أولا: أن كلام زيد بن ثابت هذا لا يبطل التواتر. وبيان ذلك أن الآيتين ختام سورة التوبة لم تثبت قرآنيتهما بقول أبي خزيمة وحده. بل ثبتت بأخبار كثرة غامرة من الصحابة عن حفظهم في صدورهم وإن لم يكونوا كتبوه في أوراقهم. ومعنى قول زيد: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين لم أجدهما عند غيره أنه لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة فالذي انفرد به أبو خزيمة هو كتابتهما لا حفظهما وليس الكتابة شرطا في المتواتر بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقا واحتياطا فوق ما يطلبه التواتر ويقتضيه فكيف نقدح في التواتر بانفراده بها.
ثانيا: يقال مثل ذلك فيما روي عن زيد في آية سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فإن معناه أن زيدا لم يجدها مكتوبة عند أحد إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري. ويدل على أن هذا هو المعنى الذي أراده زيد بعبارته تلك قول زيد نفسه فقدت آية من سورة الأحزاب الخ فإن تعبيره بلفظ فقدت يشعر بأنه كان يحفظ هذه الآية وأنها كانت معروفة له غير أنه فقد مكتوبها فلم يجده إلا مع خزيمة وإلا فمن الذي أنبأ زيدا أنه فقد آية؟
ثالثا: أن كلام زيد فيما مضى من ختام التوبة وآية الأحزاب لا يدل على
عدم تواترهما حتى على فرض أنه يريد انفراد أبي خزيمة وخزيمة بذكرهما من حفظهما. غاية ما يدل عليه كلامه أنهما انفردا بذكرهما ابتداء ثم تذكر الصحابة ما ذكراه وكان هؤلاء الصحابة جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب فدونت تلك الآيات في الصحف والمصحف بعد قيام هذا التواتر فيها.
الشبهة السادسة
...
الشبهة السادسة
يقولون: كانت الآيات تكتب على الحجارة وسعف النخل والعظام خوفا عليها من الضياع وبقي جانب كبير منها محفوظا في صدور الرجال. وقد نشأ عن ذلك عدة مشاكل يعتبرها الباحثون فيه كافية لإثبات كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى.
ويقولون بعبارة أخرى إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل إذ من المؤكد أنه ذهب منه جانب ليس بقليل وأنسي منه جانب آخر قال ابن عمر: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله. قد ذهب منه كثير. ولكن ليقل: قد أخذت ما ظهر منه. فهذا يثبت ان القرآن الحالي لا يتضمن جميع ما كان مسطورا في اللوح المحفوظ. ولا هو طبق ما نطقت به شفتا محمد سيما أن في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد ا هـ.
وننقض هذه الشبهة بما يأتي:
أولا: أن كتابة القرآن على الحجارة والسعف والعظام وبقاء جانب كبير منه محفوظا في صدور الرجال لا يلزم منه مشكلة واحدة فضلا عن عدة مشاكل إنما هو وهم من الأوهام تخيلوه فخالوه وبدليل أنهم لم يذكروا سندهم فيما ذهبوا إليه من هذا الشطط.
ثانيا: أن الحجارة وسعف النخل والعظام التي كتب عليها بعض آيات القرآن لم تكن بحيث يمكن أن يتخيل أولئك الطاعنون أو يخيلوا إلى الناس أنها لا تصلح للكتابة عليها بل كانت العرب لبداوتها ولبعدها عن وسائل الحضارة والعمران تصطفي من أنواع الحجارة الموفورة عندها نوعا رقيقا يكون كالصحيفة يصلح للكتابة وللبقاء أشبه بما نراه اليوم من الكتابة الجميلة المنقوشة على صفحات مصنوعة مما نسميه الجبس.
وكذلك سعف النخل يكشطون الخوص عنه ويكتبون في الجزء العريض منه بعد أن يصقلوه ويهذبوه فيكون أشبه بالصحيفة. وقل مثل هذا في العظام بدليل أن الروايات الواردة في ذلك نصت على نوع خاص منه وهو عظام الأكتاف وذلك لأنها عريضة رقيقة ومصقولة صالحة للكتابة عليها بسهولة.
ثالثا : أن استنتاجهم من هذا كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد استنتاج معكوس وفهم منكوس لأن كتابة القرآن وحفظه في آن واحد في صدور آلاف مؤلفة من الخلق أدعى إلى بقاء ذلك القرآن وأدل على أنه لم تفلت منه كلمة ولا حرف. كيف وأحد الأمرين من الكتابة والحفظ كاف في هذه الثقة فما بالك إذا كان القرآن كله مكتوبا بخطوط أشخاص كثيرين ومحفوظا في صدور جماعات كثيرين.
رابعا: قولهم: وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى إن أرادوا به الطعن في تعدد القراءات واختلاف وجوه الأداء فقد سبق في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف ما يكفيك في الرد عليهم وسيأتيك في مبحث القراءات ما يزيدك تنورا في هذا الموضوع وإن أرادوا به شيئا آخر فعليهم البيان. وحسبك أن تعرف أن اختلاف حروف القرآن أمر تقتضيه الحكمة ويوجبه عموم الدعوة الإسلامية. خصوصا لمن شافههم الرسول عليه الصلاة والسلام وهم على اختلاف قبائلهم وتنوع
لهجاتهم وتباين وجوه نطقهم عرب تؤلف بينهم العروبة الواحدة ويجمعهم اللسان العربي العام. فأي عيب على القرآن إذا اختلفت حروف أدائه وكيفيات النطق بكلماته ليسع القبائل العربية جميعا وليتسنى لها تلاوة ألفاظه وتفهم معانيه؟ ولئلا يقول أحد منها: لو جاء القرآن بلغتنا لكان لنا معه شأن ولأتينا بمثله وعارضنا بلاغته! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
خامسا : قولهم إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل الخ كلام مجرد من السند والحجة لا يستحق الرد فإن استندوا فيه إلى ما سبق فقد استندوا إلى أوهن من بيت العنكبوت وقد عرفت وجوه الوهن التي فيه. وإن استندوا إلى ما ذكروه بعد مما نسبوه لابن عمر فقد زادوا الطين بلة لأن هذه النسبة إلى ابن عمر نسبة خاطئة كاذبة وعلى فرض صحتها فهي موقوفة وليست بمرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى فرض رفعها فهي معارضة للأدلة القاطعة المتوافرة في تواتر القرآن وسلامته من التغيير والزيادة والنقصان ومعارض القاطع ساقط مهما كانت قيمة سنده في خبر الواحد.
سادسا : أن نهايتهم التي ختموا بها هذه الشبهة أقبح من بدايتهم لأنهم رتبوها على تلك الأكاذيب والمهاترات ثم زادوا فيها اتهاما جديدا مجردا من السند والحجة أيضا وهو أن في آيات عديدة من القرآن اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد وهكذا خرجوا من اتهام إلى اتهام واحتجوا بكذب على كذب وهانت عليهم كرامتهم وعقولهم فقالوا ما شاء لهم الهوى والتعصب إلى هذا الحد وأنت خبير بأن القرآن الحالي وصل إلينا محفوظا من كل عبث كما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما خطه الله تعالى بقلمه في
لوحه. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ, تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
أما زعمهم أن فيه اختلافات مدهشة فقد علمت في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف مدى اختلاف وجوه القراءات وحكمته وأنه لا يؤدي إلى تخاذل وتناقض حتى يكون مدهشا.
وأما نصوص القرآن الصحيحة فقد علمها وحفظها جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الأمة. من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
فادعاء هؤلاء الجهلة الدجالين أنه لا يعلم نصوص القرآن الصحيحة أحد ادعاء مفضوح وكذب مكشوف.
قال صاحب مسلم الثبوت وهو من أشهر الكتب في أصول الفقه الإسلامي: ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا ولم يعرف في هذا خلاف لواحد من أهل المذاهب. والدليل على ذلك أن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لتضمنه التحدي ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى واللفظ جميعا ولذلك علم جهد الصحابة في حفظه بالتواتر القاطع وكل ما تتوافر الدواعي على نقله ينقل متواترا عادة فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعا. والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا ا هـ بتصرف قليل.
خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة
مدخل
...
خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة
أو الدواعي والعوامل التي توافرت في الصحابة حتى استظهروا القرآن والحديث النبوي وتثبتوا فيهما
إن الناظر في الشبهات السالفة وأمثالها يبدو له في وضوح أن القوم يحاولون الطعن في القرآن عن طريق النيل من الصحابة فطورا يقولون: إن الصحابة حين جمع القرآن لم يكونوا يستظهرونه وإن الذين استظهروه منهم ماتوا قبل جمعه واستشهدوا وطورا يقولون: إن الصحابة لم يتثبتوا في جمع القرآن بل حطبوا فيه بليل وزادوا فيه ونقصوا منه ما شاءوا.
وقد كثرت هجمات أعداء الإسلام من هذه الناحية كثرة فاحشة بحيث إذا استقصينا شبهاتهم كلها ضاق بنا نطاق هذا التأليف وخرجنا جملة من الجو العلمي الهادىء اللذيذ إلى ميدان صاخب بالقيل والقال والصيال والجدال والدفاع والنضال.
وكذلك كثرت هجمات أعداء الإسلام على السنة النبوية من ناحية الصحابة أيضا فتارة يستكثرون عليهم أن يكونوا قد حفظوا الحديث الشريف وهو موسوعات كبيرة وتارة يتهمونهم بالخيانة والتزيد وعدم التثبت والتحري ويبنون على ذلك مفتريات ما أنزل الله بها من سلطان.
يريدون بهذه الاتهامات الجريئة للصحابة أن يزعزعوا ثقة الناس بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يفتنوا المسلمين عن دينهم وحتى يقيموا الحواجز والعواثير في طريق غير المسلمين مخافة أن يجتذبهم الإسلام إليه بمحاسنه الأخاذة وقوته المحولة وتعاليمه الوضاءة.
وبرغم أن شبهات القوم كلها متشابهة وطرق دفعها هي الأخرى متشابهة فإن واجب الحيطة والحذر يقتضينا بعد ما تقدم أن نقيم خطا منيعا من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة وأن نؤلف هذا الخط من جبهتين قويتين الجبهة الأولى تطاول السماء بتجلية الدواعي والعوامل التي توافرت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت منهم كثرة غامرة يحفظون القرآن والحديث وينقلونهما نقلا متواترا مستفيضا. والجبهة الثانية تفاخر الجوزاء بنظم الدواعي والعوامل التي توافرت فيهم رضوان الله عليهم حتى جعلتهم يتثبتون أبلغ تثبت وأدقه في القرآن وجمع القرآن وكل ما يتصل بالقرآن وفي الحديث الشريف وكل ما يتصل بالحديث الشريف.
وإني أستمنح الله فتوحا وتوفيقا في هذه المحاولة الجليلة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
الجبهة الأولى (أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما)
...
ا- الجبهة الأولى: أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما
ولنبدأ بشرح العوامل والدواعي التي يسرت للصحابة حفظ الكتاب والسنة ونقلهما حتى لا يستبعد ذلك عليهم أحد ولا يطعن في الكتاب والسنة عن هذا الطريق أحد:
العامل الأول
أنهم كانوا أميين لا يعرفون القراءة ولا يحذقون الخط والكتابة اللهم إلا نزر يسير لا يصاغ منهم حكم على المجموع. وترجع هذه الأمية السائدة فيهم إلى غلبة البداوة عليهم وبعدهم عن أسباب المدنية والحضارة وعدم اتصالهم اتصالا علميا وثيقا بالأمتين المتحضرتين في العالم لذلك الحين: أمة الفرس في الشرق وأمة الروم في الغرب. ومعلوم أن الكتابة والقراءة وامحاء الأمية في أية أمة رهين بخروجها من عهد السذاجة والبساطة إلى عهد المدنية والحضارة.
ثم إن هذه الأمية تجعل المرء منهم لا يعول إلا على حافظته وذاكرته فيما يهمه حفظه وذكره. ومن هنا كان تعويل الصحابة على حوافظهم يقدحونها في الإحاطة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الحفظ هو السبيل الوحيدة أو الشبيهة بالوحيدة إلى إحاطتهم بهما.
ولو كانت الكتابة شائعة فيهم لاعتمدوا على النقش بين السطور بدلا من الحفظ في الصدور.
نعم. عمل الرسول على كتابة القرآن وكان له كتاب يكتبون الوحي كما سبق وكان بعض الصحابة يكتبون القرآن لأنفسهم كذلك غير أن هؤلاء وهؤلاء كانوا فئة قليلة بجانب الجم الغفير من سواد الأمة الكثير. ولعلك لم تنس أن كتابة القرآن في عهد الرسول كان الغرض منها زيادة التوثق والاحتياط للقرآن الكريم بتقييده وتسجيله بالنقش فوق تقييده وتسجيله بالحفظ.
أما السنة النبوية فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن كتابتها أول الأمر مخافة اللبس بالقرآن إذ قال عليه الصلاة والسلام: " لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري.
نعم. خشي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختلط القرآن بالسنة إذا هم كتبوا السنة كما كانوا يكتبون القرآن أو أن تتوزع جهودهم وهي لا تحتمل أن يكتبوا جميع السنة وجميع القرآن فقصرهم على الأهم أولا وهو القرآن. خصوصا إذا لاحظنا أن أدوات الكتابة كانت نادرة لديهم إلى حد بعيد حتى كانوا يكتبون في اللخاف والسعف والعظام كما علمت.
فرحمة بهم من ناحية وأخذا لهم بتقديم الأهم على المهم من ناحية ثانية وحفظا للقرآن أن يشتبه بالسنة إذا هم كتبوا السنة بجانب القرآن نظرا إلى عزة الورق وندرة أدوات الكتابة رعاية لهذه الغايات الثلاث نهى الرسول عن كتابة السنة.
أما إذا أمن اللبس ولم يخش الاختلاط وكان الأمر سهلا على الشخص فلا عليه أن يكتب الحديث الشريف كما يكتب القرآن الكريم. وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الإذن بكتابة السنة آخر الأمر والواردة في الإذن لبعض الأشخاص
كعبد الله بن عمرو رضي الله عنه ولهذا الموضوع مبحث خاص به فاطلبه إن شئت في علوم الحديث.
وأيا ما تكن كتابة القرآن والسنة النبوية فإن التعويل قبل كل شيء كان على الحفظ والاستظهار ولا يزال التعويل حتى الآن على التلقي من صدور الرجال ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أن الرجل الأمي والأمة الأمية يكونان أسبق من غيرهما إلى الحفظ للمعنى الذي أسلفناه لك.
العامل الثاني
أن الصحابة كانوا أمة يضرب بها المثل في الذكاء والألمعية وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن وحدة الخاطر وفي التاريخ العربي شواهد على ذلك يطول بنا تفصيلها ولعلها على بال منك. حتى لقد كان الرجل منهم ربما يحفظ ما يسمعه لأول مرة مهما كثر وطال وربما كان من لغة غير لغته ولسان سوى لسانه وحسبك أن تعرف أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم وأن صدورهم كانت سجل أنسابهم وأن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم وأيامهم كل أولئك كانت خصائص كامنة فيهم وفي سائر الأمة العربية من قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى والمواهب وزادهم من تلك المزايا والخصائص بما أفاد طبعهم من صقل ونفوسهم من طهر وعقولهم من سمو خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث وهو كتاب الله ولخير الهدى وهو هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
العامل الثالث
بساطة هذه الأمة العربية واقتصارها في حياتها على ضروريات الحياة من غير ميل إلى الترف ولا إنفاق جهد أو وقت في الكماليات. فقد كان حسب الواحد منهم لقيمات يقمن صلبه وكان يكفيه من معيشته ما يذكره شاعرهم في قوله:-
وما العيش إلا نومة وتبطح ... وتمر على رأس النخيل وماء
ومثلك يعلم أن هذه الحياة الهادئة الوادعة وتلك العيشة الراضية القاصدة توفر الوقت والمجهود وترضي الإنسان بالموجود ولا تشغل البال بالمفقود. ولهذا أثره العظيم في صفاء الفكرة وقوة الحافظة وسيلان الأذهان خصوصا أذهان الصحابة في اتجاهها إلى حفظ القرآن وحديث النبي عليه الصلاة والسلام وذلك على حد قول القائل:-
".... فصادف قلبا خاليا فتمكنا".
العامل الرابع
حبهم الصادق لله ولرسوله حبا ملك مشاعرهم واحتل مكان العقيدة فيهم. وأنت تعرف من دراسة علم النفس أن الحب إذا صدق وتمكن حمل المحب حملا على ترسم آثار محبوبه والتلذذ بحديثه والتنادر بأخباره ووعي كل ما يصدر عنه ويبدر منه. ومن هنا كان حب الصحابة لله ورسوله من أقوى العوامل على حفظهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد قول القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير واعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
أما حب الصحابة العميق لله تعالى فلا يحتاج إلى شرح وبيان ولا إلى إقامة دليل وبرهان فهم خير القرون بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم وهم الذين بذلوا نفوسهم ونفائسهم رخيصة في سبيل رضاه وهم الذين باعوا الدنيا بما فيها يبتغون فضلا من الله وهم الذين حملوا هداية الإسلام إلى الشرق والغرب وأتوا بالعجب العجاب في نجاح الدعوة الإسلامية بالحضر والبدو وكانوا أحرياء بامتداح الله إياهم غير مرة في القرآن وبثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم في أحاديث عظيمة الشأن!
وأما مظاهر حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم فما حكاه التاريخ الصادق عنهم من أنه ما كان أحد يحب أحدا مثل ما كان يحب أصحاب محمد محمدا. دم الرجل منهم رخيص في سبيل أن يفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شوكة يشاكها في أسفل قدمه. وماء وضوئه يبتدرونه في اليوم الشديد البرد يتبركون به وأب الواحد منهم وأبناؤه من ألد أعدائه ما داموا يعادون محمدا وحديث محمد موضع التنافس من رجالهم ونسائهم حتى إذا أعيا الواحد منهم طلابه تناوب هو وزميل له الاختلاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقوم أحدهما بعمل الآخر عند ذهابه ويقوم الآخر برواية ما سمعه وعرفه من الرسول بعد إيابه1.
وهذه وافدة النساء تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله إلى غير ذلك من شواهد ومظاهر تدل على مبلغ هذا الحب السامي الشريف ويرحم الله القائل:-
__________
1 انظر باب التناوب في طلب العلم من صحيح البخاري.
أسرت قريش مسلما في غزوة ... فمضى بلا وجل إلى السياف
سألوه هل يرضيك أنك سالم ... ولك النبي فدى من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الردى ... ويصاب أنف محمد برعاف
ولقد كان من مظاهر هذا الحب كما رأيت تسابقهم إلى كتاب الله يأخذونه عنه ويحفظونه منه. ثم إلى سنته الغراء يحيطون بأقوالها وأفعالها وأحوالها وتقريراتها. بل كانوا يتفننون في البحث عن هديه وخبره والوقوف على صفته وشكله كما تجد ذلك واضحا من سؤال الحسن والحسين عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجيبا به من تجلية تلك الصور المحمدية الرائعة ورسمها بريشة المصور الماهر والصناع القادر على يد أبيهما علي بن أبي طالب وخالهما هند بن أبي هالة رضي الله عنهم أجمعين1.
العامل الخامس
بلاغة القرآن الكريم إلى حد فاق كل بيان وأخرس كل لسان وأسكت كل معارض ومكابر وهدم كل مجادل ومهاتر حتى قام ولا يزال يقوم في فم الدنيا معجزة من الله لحبيبه وآية من الحق لتأييد رسوله. وبعد كلام الله في إعجازه وبلاغته كلام محمد صلى الله عليه وسلم في إشراقه وديباجته وبراعته وجزالة ألفاظه وسمو معانيه وهدايته. فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبلغ الناس وكان العرب إلى جانب ذلك مأخوذين بكل فصيح بليغ متنافسين في حفظ أجود المنظوم والمنثور. فمن هنا هبوا هبة واحدة يحفظون القرآن ويفهمون القرآن ويعملون بالقرآن وينامون ويستيقظون على القرآن. وكذلك
__________
1 انظر في ذلك ما يرويه محمد أبو عيسى الترمذي متفرقا في كتاب الشمائل من طريق سفيان بن وكيع, رضي الله عنهم.
السنة النبوية كانت عنايتهم بحفظها والعمل بها تلي عنايتهم بالقرآن الكريم يتناقلونها ويتبادرونها كما سمعت.
والكلام في أسرار بلاغة القرآن ووجوه إعجازه وفي بلاغة كلام النبوة وامتيازه وفي تنافس العرب في ميدان البيان كل ذلك مما لا يحتاج إلى شرح ولا تبيان فهذا كتاب الله ينطق علينا بالحق ويتحدى بإعجازه كافة الخلق. وهذا بحر النبوة يفيض بالدراري واللآلئ ويزخر بالهدايات البالغة والحكم الغوالي. وهذا تاريخ الأدب العربي يسجل لأولئك العرب فوقهم في صناعة الكلام وسبقهم في حلبة الفصاحة كافة الأنام وامتيازهم في تذوق أسرار البلاغة خصوصا بلاغة القرآن!!.
العامل السادس
الترغيب في الإقبال على الكتاب والسنة علما وعملا وحفظا وفهما وتعليما ونشرا وكذلك الترهيب من الإعراض عنهما والإهمال لهما.
نقرأ في القرآن الكريم قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ, لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . فتأمل كيف قدم تلاوة القرآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ ونقرأ قوله جل ذكره: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . فانظر كيف حث بهذا الأسلوب البارع على تدبر القرآن والتذكر والاتعاظ به؟ ونقرأ قوله عز اسمه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . فتدبر كيف يكون وعيد من كتم القرآن وهدي القرآن؟.
ثم نقرأ في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" .رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
ونقرأ في صحيح البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" .
ونقرأ لأبي داود والترمذي وابن ماجه قوله صلى الله عليه وسلم: " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها" .
أليس ذلك وأمثال ذلك وهو كثير يحفز الهمم ويحرك العزائم إلى حفظ القرآن واستظهاره والمداومة على تلاوته مخافة الوقوع في وعيد نسيانه وهو وعيد كما سمعت شديد؟.
أما السنة النبوية فقد جاء في شأنها عن الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وجاء ترغيبا في السنة النبوية من الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرأ أسمع منا حديثا فأداه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" وهو حديث متواتر وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "ألا: فليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" رواه الشيخان. وجاء ترهيبا من
الإعراض عن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" . رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله" أخرجه أبو داود والترمذي. زاد أبو داود في أوله: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ". فأنت ترى في أمثال هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما يحفز همة المؤمن الضعيف إلى الإقبال على روائع النبوة يستهديها وبدائع النبي صلى الله عليه وسلم يستظهرها فكيف أنت والصحابة الذين كانوا لا يضارعون طول باع ولا علو همة في هذا الميدان!!.
العامل السابع
منزلة الكتاب والسنة من الدين فالكتاب هو أصل التشريع الأول والدستور الجامع لخير الدنيا والآخرة والقانون المنظم لعلاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه. ثم السنة هي الأصل الثاني للتشريع وهي شارحة للقرآن الكريم مفصلة لمجمله مقيدة لمطلقه مخصصة لعامه مبينة لمبهمه مظهرة لأسراره كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . ومن هنا يقول يحيى بن كثير: السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة يريد بهذه الكلمة ما وضحه السيوطي بقوله: والأصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة أنها مبينة له ومفصلة لمجملاته لأن لو جازته كنوزا تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبرزها وذلك هو المنزل عليه صلى الله عليه وسلم
وهو معنى كون السنة قاضية على الكتاب وليس القرآن مبينا للسنة ولا قاضيا عليها لأنها بينة بنفسها إذ لم تصل إلى حد القرآن في الإعجاز والإيجاز لأنها شرح له وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح ا هـ.
ولا ريب أن الصحابة كانوا أعرف الناس بمنزلة الكتاب والسنة فلا غرو أن كانوا أحرص على حذقهما وتحفظهما والعمل بهما.
العامل الثامن
ارتباط كثير من كلام الله ورسوله بوقائع وحوادث وأسئلة من شأنها أن تثير الاهتمام. وتنبه الأذهان وتلفت الأنظار إلى قضاء الله ورسوله فيها وحديثهما عنها وإجابتهما عليها وبذلك يتمكن الوحي الإلهي والكلام النبوي في النفوس فضل تمكن وينتقش في الأذهان على مر الزمان.
تجول مرة في رياض القرآن الكريم تجده يساير الحوادث والطوارئ في تجددها ووقوعها فتارة يجيب السائلين على أسئلتهم بمثل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وتارة يفصل في مشكلة قامت ويقضي على فتنة طغت بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهن ست عشرة آية من سورة النور نزلن في حادث من أروع الحوادث هو اتهام أم المؤمنين السيدة الجليلة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها. وفي هذه الآيات دروس اجتماعية قرئت ولا تزال تقرأ على الناس إلى يوم الساعة ولا تزال تسجل براءة هذه الحصان الطاهرة من فوق سبع سموات. وتارة يلفت القرآن أنظار المسلمين إلى تصحيح
أغلاطهم التي وقعوا فيها ويرشدهم إلى شاكلة الصواب. كقوله سبحانه في سورة آل عمران {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى آيات كثيرة بعدها. وكلها نزلت في غزوة أحد تدل المسلمين على خطئهم في هذا الموقف الرهيب وتحذرهم أن يقعوا حينا آخر في مثل ذاك المأزق العصيب.
وعلى هذا النمط نزلت سور في القرآن وآيات تفوت العدد وتجاوز الإحصاء.
وإذا تجولت في رياض الحديث النبوي الشريف يطالعك منه العجب العاجب في هذا الباب. انظر قصة المخزومية التي سرقت وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شفع فيها: "وايم الله لو أن بنت محمد سرقت لقطعت يدها" رواه أصحاب الكتب الستة. ثم تأمل حادث تلك المرأة الجهنية التي أقرت بزناها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا كيف أمر الرسول فكفلها وليها حتى وضعت حملها ثم أتى بها فرجمت ثم صلى رسول الرحمة عليها. ولما سئل صلوات الله وسلامه عليه كيف تصلي عليها وهي زانية. قال: "إنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم" . وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟ رواه مسلم. وتدبر الحديث المعروف بحديث جبريل وفيه يسأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها على مرأى ومسمع من الصحابة. وقد قال لهم أخيرا: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" . أخرجه الخمسة غير البخاري. والناظر في السنة يجدها في كثرتها الغامرة تدور على مثل تلك الوقائع والحوادث والأسئلة.
وقد قرر علماء النفس أن ارتباط المعلومات بأمور مقارنة لها في الفكر تجعلها أبقى على الزمن وأثبت في النفس فلا بدع أن يكون ما ذكرنا داعية من دواعي حفظ الصحابة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حين أنهم هم المشاهدون لتلك الوقائع والحوادث المشافهون بخطاب الحق المواجهون بكلام سيد الخلق في هذه المناسبات الملائمة والأسباب
القائمة التي تجعل نفوسهم مستشرفة لقضاء الله فيها متعطشة إلى حديث رسوله عنها فينزل الكلام على القلوب وهي متشوفة كما ينزل الغيث على الأرض وهي متعطشة تنهله بلهف وتأخذه بشغف وتمسكه وتحرص عليه بيقظة وتعتز به وتعتد عن حقيقة وتنتفع به وتنفع بل تهتز به وتربو وتنبت من كل زوج بهيج!!.
العامل التاسع
اقتران القرآن دائما بالإعجاز واقتران بعض الأحاديث النبوية بأمور خارقة للعادة تروع النفس وتشوق الناظر وتهول السامع. وإنما اعتبرنا ذلك الإعجاز وخرق العادة من عوامل حفظ الصحابة لأن الشأن فيما يخرج على نواميس الكون وقوانينه العامة أن يتقرر في حافظة من شاهده وأن يتركز في فؤاد كل من عاينه فردا كان أو أمة حتى لقد يتخذ مبدأ تؤرخ بحدوثه الأيام والسنون وتقاس بوجوده الأعمار والآجال.
أما القرآن الكريم فإعجازه سار فيه سريان الماء في العود الأخضر لا تكاد تخلو سورة ولا آية منه. وأعرف الناس بوجوه إعجازه وأعظمهم ذوقا لأسرار بلاغته هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يصدرون في هذه المعرفة وهذا الذوق عن فطرتهم العربية الصافية وسليقتهم السليمة السامية وتمهرهم في فنون البيان وصناعة اللسان. ومن هذا كان القرآن حياتهم الصحيحة به يقومون ويقعدون وينامون ويستيقظون ويعيشون ويتعاملون ويلتذون ويتعبدون. وهذا هو معنى كونه روحا في قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وليست هناك طائفة في التاريخ تمثل فيها القرآن روحا كما تمثل في هذه الطبقة العليا الكريمة طبقة الصحابة الذين وهبوه حياتهم فوهبهم الحياة وطبعهم طبعة جديدة حتى صاروا
أشبه بالملائكة وهكذا سواهم الله بكتابه خلقا آخر {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} !!.
وأما السنة النبوية فقد اقترن بعضها بمعجزات خارقة وأمامك أحاديث المعجزات وهي كثيرة فيها المعجب والمطرب. غير أن نربأ بك أن تكون فيها كحاطب ليل على حين أن بين أيدينا في الصحيح منها ألجم الغفير والعدد الكثير {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
وهاك نموذج واحدا رواه البخاري ومسلم عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غدا رجل يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فبات الناس يدوكون أي يخوضون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب" ؟ فقيل يا رسول الله هو يشتكي مرضا بعينيه قال: "فأرسلوا إليه" . فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" .
وهذه الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في هذا المقام جديرة وحدها أن تقطع ألسنة أولئك الأفاكين الذين يزعمون ان الإسلام قام على السيف والقوة واعتمد على البطش والقسوة ولم ينتشر بالدليل والحجة ولم يجيء بالسلام والرحمة. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} !.
العامل العاشر
حكمة الله ورسوله في التربية والتعليم وحسن سياستهما في الدعوة والإرشاد مما جعل الكتاب والسنة يتقرران في الأذهان ويسهلان على الصحابة في الحفظ والاستظهار.
أما القرآن الكريم فحسبك أن تعرف من حكمة الله به في التربية والتعليم أنه أنزله على الأمة الإسلامية باللغة الحبيبة إلى نفوسهم وبالأسلوب الخلاب والنظم المعجز الآخذ بقلوبهم وأنه تدرج بهم في نزوله فلم ينزل جملة واحدة يرهقهم به ويعجزون عنه بل أنزله منجما في مدى عشرين أو بضع وعشرين سنة ثم ربطه بالحوادث والأسباب الخاصة في كثير من سوره وآياته ودعمه بالدليل والحجة وخاطب به العقول والضمائر وناط به مصلحتهم وخيرهم وسعادتهم وصدر في ذلك كله عن رحمة واسعة بهم يكادون يلمسونها باليد ويرونها بالعين! {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
وأما السنة النبوية فقد ضربت الرقم القياسي في باب هذه السياسة التعليمية الراشدة حتى إذا كان علماء التربية في العصور الحديثة قد عدوا من الحكمة في التعليم والتربية الاستعانة بوسائل الإيضاح وألوان التشويق فإن محمدا صلى الله عليه وسلم النبي الأمي كان من قبل أربعة عشر قرنا ومن قبل أن يولد علم التربية وعلم النفس كان هو المعلم الأول في رعاية تلك الوسائل الموضحة وهاتيك المشوقات الرائعة حتى تفتحت قلوب سامعيه للهداية وامتلأت صدور أصحابه بتعاليمه كأنما كتبت فيها كتابا بالكلمة والحرف.
ذلك لأنه كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا وأجودهم إلقاء ينتقي عيون الكلام وهو الذي أوتي جوامع الكلم ويفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويفصله تفصيلا يراعي فيه المقام والأفهام ولا يسرد الحديث سردا يزري برونقه أو يذهب بشيء منه بل يتكلم كلاما لو عده العاد لأحصاه. وكان يعيد الكلمة ثلاثا أو أكثر من ثلاث عند الحاجة كيما تحفظ عنه كما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. وكما جاء في حديث البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وقول الزور وشهادة الزور" - وكان متكئا فجلس- فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" . ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا1 فإلي وعلي" رواه مسلم.
ومن وسائل إيضاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يضرب لهم الأمثال الرائعة التي تجلي لهم المعاني كأنها العروس بارعة ليلة الزفاف أو الشمس ساطعة ليس دونها سحاب. تأمل قوله وهو يضرب المثل في ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطر إهمالهما ثم قل لي بربك: هل يبارح ذاكرتك هذا التمثيل البديع؟.
__________
1 الضياع بفتح الضاد: يستعمل مصدرا لضاع, ويستعمل اسما بمعنى العيال أو الضائعين منهم. قال في القاموس: والضياع أيضا العيال, أو ضيعهم ا. هـ ولا يخفى أن المعنى المصدري غير مراد هنا.
يروي البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذي في أسفلها إذا استقو من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" .
ومن وسائل إيضاحه صلى الله عليه وسلم أسئلته التي كان يلقيها على أصحابه فيوقظ بها انتباههم ويرهف بسببها شعورهم حتى يستقبلوا هديه بنفوس عطاش وقلوب ظماء فيستقر فيها أثبت استقرار ويعلق بها علوق الروح بالأجسام.
وإليك مثلا واحدا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم.
ومن العجائب في وسائل إيضاحه عليه الصلاة والسلام أنه كان يستعين برسم يديه الكريمتين على توضيح المعاني وتقريبها إلى الأذهان مع أنه النبي الأمي الذي لم يقرأ كتابا ولم يجلس إلى أستاذ ولم يذهب إلى مدرسة ولم يدرس الرسم ولا الهندسة.
نقرأ في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط وسطه خطا وخط خطوطا إلى جنب الخط أي الذي في الوسط وخط خطا خارجا. فقال: "أتدرون ما هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا الإنسان يريد الخط الذي في الوسط وهذا الأجل محيط به يريد الخط المربع
وهذه الأعراض تنهشه يشير إلى الخطوط التي حوله إن أخطأه هذا نهشه هذا وهذا الأمل يعني الخط الخارج" .
ومن سياسته الحكيمة في التعليم والتربية أنه كان ينتهز فرصة الخطأ في أفهامهم فيصحح لهم الفكرة في حينها ويلقنهم تعاليمه السامية ونفوسهم مستشرفة لها.
من ذلك ما يقصه علينا البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي رأوها قليلة وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
وكان من وسائل إيضاحه تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعمل. يصلي ويقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحج ويقول: "خذوا عني مناسككم" ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" كما تقدم في رواية مسلم.
العامل الحادي عشر
الترغيب والترهيب اللذان يفيض بهما بحر الكتاب والسنة ولا ريب أن غريزة حب الإنسان لنفسه تدفعه إلى أن يحقق لها كل خير وأن يحميها من كل شر سواء ما كان فيهما من عاجل وما كان من آجل ومن هنا تحرص النفوس الموفقة على وعي هداية القرآن وهدي الرسول وتعمل جاهدة على أن تحفظ منهما ما وسعها الإمكان.
أما النفوس الضالة المخذولة فإنها مصروفة عن هذه السعادة بصوارف الهوى والشهوة أو محجوبة عن هذا المقام بحجاب التعصب والجمود على الفتنة أو مرتطمة بظلام الجهل في أوحال الضلال والنكال.
ولسنا بحاجة أن نلتمس شواهد الترغيب والترهيب من الكتاب والسنة فمددها فياض بأوفى ما عرف العلم من ضروب الترغيب والترهيب وفنون الوعد والوعيد وأساليب التبشير والإنذار على وجوه مختلفة واعتبارات متنوعة في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق على سواء.
وهاك نموذجا من ترغيبات القرآن وترهيباته على سبيل التذكير والذكرى تنفع المؤمنين.
يقول تبارك اسمه في سورة واحدة هي سورة السجدة {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ، وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} .
فانظر بعين بصيرتك في أساليب هذه الترغيبات وفنون تلك الترهيبات التي احتوتها هذه الآيات والقرآن مليء كله من هذه الأنوار على هذا الغرار.
ولا تحسبن السنة النبوية إلا بحرا متلاطم الأمواج في هذا الباب. وهاك نموذجا بل نماذج منها تدلك على مدى ما تتأثر به النفوس البشرية عند ما يمر بها الوعد والوعيد وما يتركه هذا التأثر من ثبات الأوامر والنواهي واستقرارها في الذهن وانتقاشها في صحيفة الفكر ثم اندفاع الإنسان من ورائها إلى العمل والاتباع.
ها هو صلى الله عليه وسلم يبشر واصل رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر فيقول: "من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" أخرجه البخاري والترمذي.
وها هو صلى الله عليه وسلم يتحدث بالوعد لمن جعل الآخرة همه وبالوعيد لمن جعل الدنيا همه
فيقول: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله الفقر بين عينيه وفرق الله عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" رواه الترمذي.
وها هو صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال ويحثهم على الدفاع والنضال فيقول: "تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل" أخرجه الثلاثة والنسائي.
فأنت ترى في هذه الكلمات النبوية قوة هائلة محولة تجعلها ماثلة في الأذهان كما تجعل النفوس رخيصة هينة في سبيل الدفاع عن الدين والأوطان. حتى لقد كان الرجل يستمع إلى هذه المرغبات والمشوقات وهو يأكل فما يصبر حتى يتم طعامه بل يرمي بما في يده ويقوم فيجاهد متشوقا إلى الموت متلهفا على أن يستشهد في سبيل الله. كذلك أخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد وذكر الجنة ورجل من الأنصار يأكل تمرات فقال: إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن فرمى ما في يده وحمل بسيفه فقاتل حتى قتل".
العامل الثاني عشر
اهتداء الصحابة رضوان الله عليهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحلون ما فيهما من حلال ويحرمون ما فيهما من حرام ويتبعون ما جاء فيهما من نصح ورشد ويتعهدون ظواهرهم وبواطنهم بالتربية والآداب الإسلامية دستورهم القرآن وإمامهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
وما من شك أن العمل بالعلم يقرره في النفس أبلغ تقرير وينقشه في صحيفة الفكر أثبت نقش على نحو ما هو معروف في فن التربية وعلم النفس من أن التطبيق يؤيد المعارف والأمثلة تقيد القواعد ولا تطبيق أبلغ من العمل ولا مثال أمثل من الاتباع خصوصا المعارف الدينية فإنها تزكو بتنفيذها وتزيد باتباعها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} الأنفال أي هداية ونورا تفرقون به بين الحق والباطل وبين الرشد والغي كما جاء في بعض وجوه التفاسير. وذلك أن المجاهدة تؤدي إلى المشاهدة والعناية بطهارة القلوب وتزكية النفوس تفجر الحكمة في قلب العبد. قال الغزالي رحمه الله: أما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك أي بالحكمة تتفجر في القلب بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تتفتح بالمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله عز وجل عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف؟ فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة. وكم من مقتصر على المهم في التعليم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم" 1.
__________
1 قال الحافظ العراقي في هذا الحديث: رواه أبو نعيم في الحلية لكن بسند ضعيف.
العامل الثالث عشر
وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يحفظهم من الكتاب والسنة ما لم يحفظوه ويعلمهم ما جهلوه ويجيبهم إذا سألوه ويريهم شاكلة الصواب فيما أخطؤوه ويقفهم على حقيقة الأمر إذا تشككوه في صبر وأناة وسعة صدر وكرم نفس وطيب قلب.
ولا ريب أن هذا عامل مهم ييسر لهم الحفظ ويهون عليهم الاستظهار ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم مرجع واضح ومنهم عذب لا سيما إذا لاحظنا أنه صلى الله عليه وسلم كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب وأن من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس علم وحياء وأمانة وصبر يدرس فيه القرآن وتذاع فيه السنة ويعبق منه أريج الهداية.
عوامل خاصة بالقرآن الكريم.
تلك العوامل التي ذكرناها عوامل مشتركة بين الكتاب والسنة طوعت للصحابة حفظهما واستظهارهما والإحاطة بهما وحذقهما.
بيد أن هناك عوامل خاصة توافرت في حفظ الصحابة للقرآن دون السنة.
أولها : أن الله تعالى تحدى بالقرآن أمة العرب بل كافة الخلق فقال سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ولما عجزوا قال: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} ولما عجزوا أيضا قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ولما عجزوا الثالثة سجل عليهم
هزيمتهم وأعلن فلج القرآن بالإعجاز في هذا الميدان إذ قال عز اسمه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
هذا التحدي الذي امتاز به القرآن فتح عيون الناس جميعا ولفتهم بقوة إليه لا فرق بين أوليائه وأعدائه. أما أولياؤه ومتبعوه فقرؤوه من هذه الناحية ليفحموا به أعداءهم ويؤيدوا بإعجازه دينهم ونبيهم. وأما أعداؤه ومخالفوه فاقتفوا أثره وتتبعوه أملا في أن يجدوا فيه مغمزا ويأخذوا عليه مطعنا. فلا جرم كان هذا التحدي من الدواعي التي توافرت على نقل القرآن وتواتره وجريانه على كل لسان.
ثانيها : عنايته صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن فيما تيسر من أدوات الكتابة إذ اتخذ كتابا للوحي من أصحابه. وأقر كل من يكتب القرآن لنفسه في الوقت الذي نهى فيه عن كتابة السنة في الحديث الذي أسلفناه من رواية مسلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.
وغني عن البيان أن الكتابة من عوامل تيسير الحفظ والاستظهار.
ثالثها : تشريع قراءة القرآن في الصلاة فرضا كان أو نفلا سرا أو جهرا ليلية أو نهارية حتى صلاة الجنازة
ومثل الصلاة في ذلك خطبة الجمعة. وتلك وسيلة فعالة جعلت الصحابة يقرؤونه ويسمعونه ثم جعلتهم عن هذا الطريق يتحفظونه ويستظهرونه لا فرق بين رجل وامرأة وصغير وكبير وغني وفقير على قدر ما سمح به استعداد كل منهم.
رابعها : الترغيب في تلاوة القرآن ولو في غير صلاة ومن غير وضوء. اقرأ إن شئت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ, لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة. والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" رواه البخاري ومسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن وهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" رواه الشيخان أيضا.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف. ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؟ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" رواه أبو داود والترمذي والنسائي. ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري.
فهل يعقل أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين سمعوا ذلك وأمثال ذلك يتوانون لحظة عن قراءة القرآن؟ ثم ألا تكون تلك التلاوة سبيلا إلى أن يحذقوه ويحرزوه؟.
خامسها : عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن وإذاعته ونشره إذ كان يقرؤه على الناس على مكث كما أمره الله. وكان يسمعهم إياه في الخطبة والصلاة وفي الدروس والعظات وفي الدعوة والإرشاد وفي الفتوى والقضاء وكان يرغب في تعليمه ونشره كما سمعت. وكان يرسل بعثات القراء إلى كل بلد يعلمون أهله كتاب الله كما أرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إليها وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد الفتح للإقراء. قال عبادة بن الصامت: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن.
سادسها: القداسة التي امتاز بها كتاب الله عن كل ما سواه حيث اجتمع فيه من المزايا ما قصصنا عليك وما لم نقصص عليك. كنسبته إلى الله تعالى وكحرمة قراءته على الجنب والحائض والنفساء وكحرمة مس مصحفه وحمله على أولئك جميعا وعلى المحدث حدثا أصغر أيضا إلى غير ذلك.
ولا شك أن هذه القداسة تلفت الأنظار إليه وتخلع همم المؤمنين به عليه فيحيطون به علما ويخضعون لتعاليمه عملا. وذلك ما حدا المسلمين في كل عصر ومصر أن يعنوا بحفظ كتاب الله حتى عصرنا الذي نعيش فيه فما بالك بعصر الصحابة وهو عصر العلم والنور والتقوى والهداية والنشر والدعوة؟.
أما بعد:
فهذه بضعة عشر عاملا توافرت في أصحاب الرسول الأكرم حتى حفظوا الكتاب والسنة وقد جمعناها لك هذا الجمع معتقدين أن من ورائها عوامل شخصية توافرت في بعض القراء وبعض المحدثين منهم دون بعض.
والسبيل إلى تلك العوامل الشخصية دراسة تراجم أولئك القراء والمتصدرين لرواية الحديث من الصحابة فارجع إليها إن شئت واحرص على ما ذكرنا لك وصغ منها أسلحة علمية مرهفة تشهرها في وجه أولئك الخونة الذين يخوضون في الصحابة بغير علم ويطعنون في الكتاب والسنة عن طريق الطعن فيهم بعد الحفظ والضبط.
ونحن نتحدى أمم العالم بهذه الدواعي التي توافرت في الصحابة حتى نقلوا الكتاب والسنة وتواتر عنهم ذلك خصوصا القرآن الكريم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع!
غمرهم الله برحمته ورضوانه وصب عليهم شآبيب جوده وإحسانه. آمين.
الجبهة الثانية (أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة)
...
ب- الجبهة الثانية: أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة
الآن وقد فرغنا من عوامل حفظ الصحابة للكتاب والسنة نعرج على عوامل تثبتهم رضوان الله عليهم فيهما
فنذكر أن الناظر في تاريخ الصحابة يروعه ما يعرفه عنهم في تثبتهم أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية ثم هو في الصحابة بلغ القمة من ناحية أخرى إذ كان تثبتا بالغا وحذرا دقيقا وحيطة نادرة وتحريا عميقا لكتاب الله تعالى وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بهما عن قرب أو بعد.
ولهذا التثبت النادر في دقته واستقصائه بواعث ودواع أو أسباب وعوامل يجمل بنا أن نقدمها إليك كأسلحة ماضية تنافح بها عن الكتاب والسنة وعن الصحابة في أدائهم للكتاب والسنة.
العامل الأول
أن الله تعالى أمر في محكم كتابه بالتثبت والتحري وحذر من الطيش والتسرع في الأنباء والأخبار بله القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .
وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن أو ترى العين أو يعتقد القلب عن برهان فقال عز من قائل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفي فيه الظن فقال الله جل شأنه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} إلى غير ذلك من أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تأمر بالنظر وكان الصحابة هم المخاطبين بهذه التعاليم والمشافهين بها فلا ريب أن تكون تلك الآداب الإسلامية من أهم العوامل في تثبتهم وحذرهم خصوصا فيما يتصل بكتاب ربهم وسنة نبيهم. وبعيد كل البعد بل محال كل الاستحالة أن يكونوا قد أهملوا هذا النصح السامي وهم خير طبقة أخرجت للناس.
العامل الثاني
ما سمعوه من الترهيب الشديد ومن التهديد والوعيد لمن يكذب على الله أو يفتري على رسوله ومصطفاه.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؟ فانظر كيف سلك الله من افترى الكذب عليه في سلك من {قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ثم انظر كيف قدمه عليهما في الذكر وصدره في الوعيد ونعته أول من نعت بالإغراق في الظلم.
وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} وقال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ؟.
ونقرأ في السنة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . وهو حديث مشهور بل متواتر ورد أنه قد رواه اثنان وستون صحابيا منهم العشرة المبشرون بالجنة ولا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة المبشرون بالجنة إلا
هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا.
ولقد سمع الصحابة هذه الترهيبات وأمثالها. وما أمثالها في القرآن والسنة بقليل بل لقد سمع الأصحاب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عما دون الكذب وما كان أقل من التزيد إذ حذرهم رواية الضعفاء والمدخولين فقال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم" رواه مسلم. بل حذرهم صلى الله عليه وسلم رواية المجهولين فقال: "إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أعرف اسمه يحدث كذا وكذا" . رواه مسلم.
فهل يستبيح عاقل منصف لنفسه أن يقول: إن الصحابة الذين سمعوا هذه النصائح وتلك الزواجر عن التزيد والافتراء يقدمون على كذب في القرآن والسنة أو يقصرون في التثبت والتحري والاحتياط في نقل الذكر الحكيم والهدي النبوي الكريم؟.
العامل الثالث
أن الإسلام أمرهم بالصدق ونهاهم عن الكذب إطلاقا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وأنت خبير بأن هذا الخطاب بهذه الصيغة في هذا المقام مع تقديم الأمر بالتقوى فيه إشارة إلى أن الصدق المأمور به من مقتضيات الإيمان ومن دعائم التقوى ويفهم من هذا أن من كذب وافترى فسبيله سبيل من كفر وطغى. كما صرح سبحانه بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة. وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار" رواه ابن ماجه.
وعن صفوان بن سليم رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا؟ قال: "نعم". قلنا: أفيكون بخيلا؟ قال: "نعم". قلنا: أفيكون كذابا؟ قال: "لا" أخرجه مالك. فانظر إلى الحديث الأول كيف جعل الصدق هاديا إلى البر وإلى الجنة وجعل الكذب هاديا إلى الفجور وإلى النار. ثم انظر إلى الحديث الثاني كيف اعتبر الكذب أفحش من الجبن والبخل وأخرجه في هذه الصورة الشنيعة التي لا تجتمع هي والإيمان في نفس واحدة أبدا.
وستقضي العجب حين تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالغ في تقبيح الكذب حتى في توافه الأشياء ومحقرات الأمور استمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن الكذب في المزاح بهذه الطريقة الرادعة فيقول: "ويل للذي يحدث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له" رواه أبو داود والترمذي. ثم استمع إليه وهو يتوعد من يكذب في منامه ويقول من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبدا.
قل لي بربك: هل تلك الطبقة الأولى الممتازة التي سمعت ذلك وأضعاف ذلك بآذانها من فم رسولها والتي اعتنقت الإيمان بعد البحث والنظر واعتقدته طريقا إلى سعادتها وعزها والتي باعت أنفسها وأموالها لله بأن لها الجنة في نعيمها وخلودها. نقول: هل تلك الطبقة الكريمة ترضى بعد ذلك كله أن تركب رأسها وتنكص على أعقابها؟ فتكذب على الله ورسوله أو لا تتحرى الصدق في كتاب الله وسنة رسوله ذلك شطط بعيد لا يجوز إلا على عقول المغفلين.
العامل الرابع
أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مغرمين بالتفقه والتعلم مولعين بالبحث. والتنقيب مشغوفين بكلام الله وكلام رسول الله يعقدون المجالس لمدارسة القرآن وفهمه ويركبون ظهور المطايا لطلب العلم وأخذه. وكانت عناية الرسول بتعليمهم القرآن تفوق كل عناية يقرؤه عليهم ويخطبهم به ويزين إمامته لهم بقراءته في صلاته وفي دروسه وعظاته. وكان فوق ذلك يحب أن يسمعه منهم كما يحب أن يقرأه عليهم. روى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي القرآن" . قلت: يا رسول الله. أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" . فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال: "حسبك الآن" فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
وكذلك كان الصحابة همتهم أن يقرؤوا القرآن ويستمعوه. روى الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار" .
وروى الدارمي وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا فيقرأ عنده القرآن. قال النووي: وقد مات جماعات من الصالحين بسبب قراءة من سألوه القراءة.
وقد سبق في عوامل حفظ الصحابة للسنة مدى عنايتهم بالإقبال عليها والاهتمام بلقاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعلم منه والأخذ عنه. وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تعلموا ما شتئم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا" . رواه الدارمي موقوما على معاذ بسند صحيح. وكلمة العلم في هذا الحديث شاملة لعلم الكتاب وعلم السنة.
أليس هذا الولوع بالكتاب والسنة من دواعي تثبتهم فيهما كما هو من دواعي حفظهم لهما لأن اشتهار الشيء وذيوعه ولين الألسنة به يجعله من الوضوح والظهور بحيث لا يشوبه لبس ولا يخالطه زيف ولا يقبل فيه دخيل.
العامل الخامس
يسر الوسائل لدى الصحابة إلى أن يتثبتوا وسهولة الوصول عليهم إلى أن يقفوا على جلية الأمر فيما استغلق عليهم معرفته من الكتاب والسنة. وذلك لمعاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصلون به في حياته فيشفي صدورهم من الريبة والشك ويريح قلوبهم بما يشع عليهم من أنوار العلم وحقائق اليقين.
أما بعد غروب شمس النبوة وانتقاله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه. فقد كان من السهل عليهم أيضا أن يتصلوا بمن سمعوا بآذانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسامعون يومئذ عدد كثير وجم غفير يساكنونهم في بلدهم ويجالسونهم في نواديهم فإن شك أحدهم في آية من كتاب الله أو خبر عن رسول الله أمكنه التثبت من عشرات سواه دون عنت ولا عسر.
العامل السادس
شجاعة الأصحاب شجاعة فطرية وصراحتهم صراحة طبيعية نشؤوا عليهما منذ حداثتهم وطبعوا عليهما بفطرتهم وبيئتهم كأمة متبدية لا تعرف ختل الحضارة الملوثة ولا تألف نفاق المدنية المذبذبة. ثم جاء الإسلام فعزز فيهم هذا الخلق الفاضل وزادهم منه وبنى حضارته الصحيحة ومدنيته الطاهرة عليه بمثل ما سمعت في أصدق الحديث وخير الهدى. حتى لقد كان الرجل منهم يقف في وسط الجمهور يرد على أمير المؤمنين وهو يلقي خطاب عرشه ردا قويا صريحا خشنا. بل كانت المرأة تقف في بهرة المسجد الجامع فتقاطع خليفة المسلمين وهو يخطب وتعارض رأيه برأيها وتقرع حجته بحجتها فيما تعتقد أنه أخطأ فيه شاكلة الصواب وأمير المؤمنين في الحالين يغتبط بهاتيك الصراحة ويسر بتلك الشجاعة ويعلن اغتباطه بموقف ذلك العربي الخشن الذي رد عليه كما يعلن رجوعه عن رأيه إلى رأي هذه السيدة التي حاجته بين يديه وما أمر عمر ببعيد عنكم ولا مجهول لكم لا عند ولايته الخلافة وهو قائم يلقي خطاب عرشه ولا عند ما وقف على منبره ينهى عن التغالي في مهور النساء.
فهل يرضى العقل والمنطق أن تجرح هذه الأمة الصريحة القوية وتتهم بالكذب أو بالسكوت على الكذب في كلام الله وفي سنة رسول الله؟.
ثم ألا يحملهم هذا الخلق المشرق فيهم على كمال التثبت ودقة التحري في كتاب الله وسنة رسول الله؟ لقد أسفر الصبح لذي عينين.
العامل السابع
تكافل الصحابة تكافلا اجتماعيا فرضه الإسلام عليهم فجعل عيونهم مفتحة لكل من يكذب على الله أو يفتري على رسول الله أو يخوض في الشريعة بغير علم أو يفتي في الدين بغير حجة.
أجل لقد كان كل واحد منهم يعتقد أنه عضو في جسم الأمة عليه أن يتعاون هو والمجموع في المحافظة على الملة ويعتقد أنه لبنة في بناء الجماعة عليه أن يعمل على سلامتها من الدغل والزغل والافتراء والكذب خصوصا في أصل التشريع الأول وهو القرآن وأصله الثاني وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وبين يديك الكتاب والسنة فاقرأ فيهما إن شئت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجدها كثيرة متآخذة تقرر ذاك التكافل الاجتماعي الإسلامي بين آحاد الأمة بما لا يدع مجالا لمفتر على الله ولا يترك حيلة لحاطب ليل في حديث رسول الله.
استمع إلى كلام الحق وهو يحض على دعوة الخير وفضيلة النصح إذ يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى أن قال جل ذكره: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وهكذا قدم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان به تنويها بجلالتهما. وحثا على التمسك بحبلهما وإشارة إلى أن الإيمان بالله لا يصان ولا يكون إلا بهما.
وتدبر قول الله تعالى في سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
ثم تأمل حكم الله على بني الإنسان جميعا بأنهم غريقون في الخسران إلا من جمع عناصر السعادة الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتوصية بالحق والتوصية بالصبر في قوله سبحانه: {والعصر إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وشوفهوا بخطابه من فم رسول الله عن جبريل عن الله ثم سمعوا بعد ذلك من كلام رسول الله أمثال ما يأتي:-
1- يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" . رواه الترمذي بسند حسن عن حذيفة رضي الله عنه.
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا أي ظاهرا عندكم من الله تعالى فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم رواه الشيخان.
فهل بعد هذا كله يعقل أن يعبث الصحابة أو يقروا من يعبث بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟.
العامل الثامن
تعويدهم الصدق وترويضهم عليه عملا كما أرشدوا إليه وأدبوا به فيما سمعت علما. وأنت خبير بأن التربية غير التعليم وأن العلم غير العمل وأن نجاح الفرد والأمة مرهون بمقدار ما ينهلان من رحيق التربية وما يقطفان من ثمرات الرياضة النفسية والقوانين الخلقية.
أما العلم وحده فقد يكون سلاح شقاء ونذير فناء كما نرى ونسمع ويا لهول ما نرى وما نسمع.
ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الجليلة في بناء الأمم فأعارها كل اهتمام وعني بالتنفيذ والعمل أكثر مما عني بالعلم والكلام.ولعلك لم تنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن يدرسون العلم في مسجد قباء تلك النصيحة الذهبية الحكيمة: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا" .
ولعلك لم تنس أيضا أن الإسلام شرع عقوبة من أشنع العقوبات لمن أقترف نوعا من الكذب وهو نوع الخوض في الأعراض تلك العقوبة هي حد القذف الذي يقول الحق جل شأنه فيه من سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فتأمل كيف عاقب هذا القاذف الكاذب بالجلد ثمانين ورد شهادته وحكم بأنه من الفاسقين بل قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي لا فاسق سواهم ولا خارج عن حدود الدين والأدب إلا هم.
ثم شنف مسمعيك بما يرويه أبو داود في سننه من أن عبد الله بن عامر قال:
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب فقالت أمي: تعال حتى أعطيك. فقال صلى الله عليه وسلم. "وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا. فقال: أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" تصور في هذه التربية السامية كيف لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأم أن تعد طفلها الصغير وعدا غير صادق بل يسائلها: ما الذي كانت تعطيه لو جاء؟ ثم يقرر أنها لو خاست بعهدها هذا لكتبها الله عليها كذبة وهكذا يكتفي بذكر كلمة كذبة في هذا المقام ردعا لها وزجرا ومنه تعلم أن لفظ الكذب كان سوط عذاب يخيف الصحابة رجالا ونساء. وذلك لما يسمعون عنه من شناعة ولما يعرفون فيه من بشاعة ولما تأصل في نفوسهم من فضيلة الصدق وشرف الحق أفبعد هذه التربية العالية يصح أن يقال: إن الصحابة يكذبون على الله ورسوله ولا يتثبتون ألا إن هؤلاء من إفكهم ليهرفون بما لا يعرفون ويسرفون في تجريح الفضلاء واتهام الأبرياء ولا يستحون فويل لهم من يومهم الذي يوعدون.
العامل التاسع
القدوة الصالحة والأسوة الحسنة التي كانوا يجدونها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلة كاملة جذابة أخاذة. ولا يعزبن عن بالك أن القدوة الصالحة خير عامل من عوامل التعليم والتربية والتأديب والتهذيب خصوصا بين نبي ومتبعيه وأستاذ ومتعلميه ورئيس ومرؤوسيه وراع ورعيته.
وها نحن أولاء نرى علماء النفس والاجتماع وأقطاب التربية والتعليم وبناة الأخلاق والأمم: نراهم لا يزالون يتحدثون في القدوة الصالحة ويوصون بالقدوة الصالحة ويبحثون عن القدوة الصالحة وذلك لمكانتها من التأثير والإصلاح والتقويم والنجاح في الأفراد والأمم على سواء.
ولم يعرف التاريخ ولن يعرف قدوة أسمى ولا أسوة أعلى ولا إمامة أسنى من محمد صلى الله عليه وسلم في كافة مناحي الكمال البشري خصوصا خلقه الرضي وأدبه السني ولا سيما صدقه وأمانته وتحريه ودقته.
أجل فقد كان صلى الله عليه وسلم مشهورا بالصدق معروفا بالأمانة حتى من قبل بعثته ورسالته فكان إذا سار أشاروا إليه بالبنان وقالوا هذا هو الصادق وإذا حكم رضوا حكومته وقالوا هذا هو الأمين.
وكانت هذه الفضائل المشرقة فيه من بواعث إيمان المنصفين من أهل الجاهلية به. ولقد اضطر أن يشهد له بها أعداؤه الألداء كما آمن بها أتباعه الأوفياء.
فهذا أبو سفيان بن حرب زعيم حزب المعارضة له يقر بين يدي قيصر الروم بصدق محمد وأنهم لم يحفظوا عليه كذبة واحدة قبل رسالته ويكاد يؤمن القيصر متأثرا في جملة ما تأثر بهذه الشهادة التي انطلق بها لسان ألد خصوم محمد يومئذ ثم يقول في التعليق على كلام أبي سفيان والتنويه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام: ما كان أي محمد ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله والحديث طويل مشهور يرويه البخاري في صحيحه. فراجعه إن شئت.
وهذا قائل قريش يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في معرض من المعارض: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به" . وبسبب ذلك أنزل الله تعالى {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
ومما يذكر بالإعجاب والفخر لنبي الإسلام أنه عرض الإسلام صلى الله عليه وسلم على بني عامر بن صعصعة وذلك قبل الهجرة وقبل أن تقوم للدين شوكة فقال كبيرهم: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمة الحكيمة الخالدة:
"الأمر لله يضعه حيث يشاء" فقال له كبيرهم أفتهدف1 نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك.
وهنا تتجلى سياسة الإسلام وأنها سياسة صريحة مكشوفة ورشيدة شريفة لا تعرف اللف والدوران
ولا تعتمد الكذب والتضليل كما تتجلى صراحة نبي الإسلام وصدق نبي الإسلام وشرف نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.
نعم لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في ضيق أي ضيق يحتاج إلى أقل معاونة من عدو أو صديق وهذا حي من العرب يستطيع أن يكتسبه ويتقوى به ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يعد فيخلف ولا أن يحدث فيكذب ولا أن يعاهد فيغدر.
يسألونه أن يكونوا الخلفاء من بعده إذا أسلموا فيقول بملء فيه: "الأمر لله يضعه حيث يشاء" ولو أنه قال: إن شاء الله مثلا لدانوا له أجمعين وأصبحوا من حزبه وجنده المسلمين.
مرحى مرحى لسياسة الإسلام. وأخلاق نبي الإسلام.
وإذا كانت هذه الأخلاق العليا هي منار القدوة للصحابة في رسول الله فكيف لا يقتبسون من هذه الأنوار ولا يضربون في حياتهم على هذه الأوتار؟ فضلا
__________
1 في القاموس: أهدف له الشيء عرض ا هـ.
وقال في لسان العرب, الإهداف: الدنو. أهدف له القوم أي قربوا.. وكل شيء قد استقبلك استقبالا فهو مهدف ومستهدف. ا هـ. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: أهدف له الشيء واستهدف: انتصب وعرض. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: لقد أهدفت لي يوم بدر فصغت عنك ا هـ فالفعل لازم غير متعد. ومعنى صغت عنك: ملت وأعرضت. تدبر.
عن أن يقال عنهم: إنهم يكذبون أو لا يتحرون في كتاب الله وسنة رسول الله {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
العامل العاشر
سمو تربية الصحابة على فضائل الإسلام كلها وكمال تأدبهم بآداب هذا الدين الحنيف وشده خوفهم من الله وصفاء نفوسهم إلى حد لا يتفق والكذب خصوصا الكذب على الله تعالى والتجني على أفضل الخليقة صلوات الله وسلامه عليه.
يقول علماء الأخلاق والمشتغلون بعلم النفس وعلوم الاجتماع إن الكذب جناية قبيحة لا يمكن أن يصدر إلا عن نفس ساقطة لم تتأدب ولا يتصور أن يفشوا إلا في شعب شاذ لم يتهذب.
ونحن إذا استعرضنا تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم نشاهد العجب في عظمة تأديب الإسلام لهم وتربيته إياهم تربية سامية جعلتهم أشباه الملائكة يمشون على الأرض لا سيما ناحية الصدق والأمانة والتثبت والتحري والاحتياط. وذلك من كثرة ما قرر القرآن فيهم لهذه الفضائل ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بهم علما وعملا ومراقبة حتى أصبحوا بنعمة من الله وفضل منطبعة قلوبهم على هذه الجلائل متشبعة نفوسهم بمبادىء الشرف والنبل تأبى عليهم كرامتهم أن يقاربوا الكذب أو يقارفوا التهجم. لا سيما التهجم على مقام الكتاب العزيز وكلام صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه أحدث توبة لله عز وجل" رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
عوامل أخرى
إذا استعرضت بعض العوامل السابقة في حفظ الصحابة للكتاب والسنة تجد منها عوامل صالحة أيضا لأن تكون دواعي تثبتهم في الكتاب والسنة ولهذا اكتفي بالإشارة إليها دون إعادتها:
1- فذكاء العرب وقوة حوافظهم وصفاء طبعهم إلى آخر ما ذكرنا في العامل الثاني هناك. لا شك أنه داعية من دواعي تثبتهم أيضا لأن الشأن فيمن نشأ على هذه الصفات أن يكون واثقا مما حفظ فلا يحتاج إلى تزيد ولا يقع في تهجم.
2- وحب الصحابة لله ولرسوله عامل كذلك من عوامل التثبت لأن المحب الصادق لا يقنع إلا بما يثق أنه كلام حبيبه من غير لبس ولا شك ولا يرضى أن يفتري الكذب على حبيبه ولا يقبل أن يتقول عليه أو يتهجم في كلامه خصوصا إذا عرف أنه يكره ذلك منه. انظر العامل الرابع من عوامل الحفظ.
3- وموقف الصحابة في محراب الفصاحة والبيان وعلو كعبهم في نقد الكلام وكمال ذوقهم في إدراك إعجاز القرآن وبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام كل أولئك ييسر عليهم التثبت ويهون عليهم أن يردوا ما ليس من كلام الله وكلام رسوله ضرورة أنهم يدركون الفوارق بين الأساليب الفاضلة والمفضولة ويزنون كلامهم بموازينهم البلاغية الصادقة. انظر العامل الخامس من عوامل الحفظ.
4- وعلم الصحابة بمنزلة الكتاب والسنة من الدين يجعلهم بلا شك يهتمون بالتثبت منهما والحيطة لهما. انظر العامل السابع من عوامل الحفظ.
5- واقتران الكتاب بالإعجاز واقتران السنة ببعض المعجزات والغرائب ثم ارتباط كثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول بالحوادث والوقائع كل أولئك مما يجعل
النفوس تتوثق منهما ولا تشتبه فيهما ولا تقبل التزيد والكذب عليهما. انظر العامل الثامن والتاسع من عوامل الحفظ.
إذا جمعت هذه العوامل وأمثالها إلى العشرة المسطورة بين يديك رأيت بضعة عشر عاملا من الدواعي المتوافرة والأدلة القائمة على أمانة الصحابة وتثبتهم من الكتاب والسنة.
مظاهر هذا التثبت
وهكذا نتصفح تاريخ الصحابة ونقتفي آثارهم فإذا هي شواهد حق على تغلغل فضيلة الصدق فيهم وشدة نفورهم ونقاء ساحتهم من الكذب وما يشبه الكذب. هذا عمر رضي الله عنه يقول: أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسما فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقا فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثا.
وهذا علي كرم الله وجهه يقول: أعظم الخطايا عند الله عز وجل اللسان الكذوب. ويقول مرة أخرى: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه.
وإن شئتم فاعجبوا من سعيد بن المسيب وهو أحد من رباهم الصحابة: رمدت عيناه مرة حتى بلغ الرمد خارجهما والرمد وسخ أبيض من مجرى الدمع من العين فقيل له: لو مسحت عينيك. فقال: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل؟.
وتدبروا ما رواه مسلم بسنده عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس
لا يأذن له ولا ينظر إليه. فقال يا بن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
ومن هذا الورع البالغ والحذر الدقيق تحرج كثير من أكابر الصحابة عن الرواية والتحديث فلم يسمع منهم إلا النزر اليسير مع أن لديهم من رسول الله الغمر الكثير. يحدث ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: قلت لأبي: ما لي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت ولكني سمعته يقول: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . رواه البخاري وأبو داود.
وإذا كان هذا مظهرا من مظاهر حذرهم واحتياطهم للسنة النبوية فماذا تقدر من مظاهر حذرهم واحتياطهم لكتاب الله العزيز؟ إني أعتقد أنك إذا رجعت إلى أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف تشاهد العجب العاجب من روائع هذه المظاهر.
فهذا عمر يأخذ بخناق هشام بن حكيم ويسوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما نقم عليه إلا أنه قرأ سورة الفرقان على وجه لم يقرأه عمر ولم يكن يعرف عمر أنه هكذا نزل ولم يرسل عمر هشاما حتى انتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره الرسول أن يرسله ثم استقرأهما عليه الصلاة والسلام وقال في قراءة كليهما: "هكذا أنزلت" . وقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه" هذا ملخص ما كان بين عمر وهشام ومثل ذلك وقع من أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهما مع أصحابهم مما تعرضه عليك الروايات المبسوطة هناك في هذا الموضوع.
أضف إلى هذا تلك الدقة البالغة التي أجملناها لك في دستور أبي بكر ودستور عثمان رضي الله عنهما في جمع القرآن بالصحف والمصاحف وهي على مقربة منك. فارجع إليها إن شئت.
ويشبه هذين الدستورين في جمع القرآن دستور أبي بكر في حماية السنة والحيطة لها والتثبت منها إذ جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورهم في الأمر ثم انتهوا إلى اتباع ما يأتي:-
أن ينظروا في خبر الواحد نظرة فاحصة يعرضونه على كتاب الله تعالى وما تواتر أو اشتهر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خالف شيئا منها زيفوه وردوه وإن لم يخالف نظروا نظرة ثانية فيمن جاء به فلا يقبلون إلا ممن عرف بالعدالة والضبط والصدق والتحري وإلا طالبوه بالتزكية من طريق آخر يشهد معه ويروي ما رواه وبرغم هذا وذاك فقد التزموا التقليل من الرواية لأن الإكثار مظنة الخطأ ومثار الاشتباه.
نعم: حداهم ورعهم وشدة خوفهم من الله أن يحصنوا حديث رسول الله بهذا الدستور الدقيق الرشيد القائم على رعاية هذه القواعد الثلاث: النظر في الخبر والنظر في المخبر والإقلال من الرواية.
ويرحم الله ابن الخطاب فقد أخذ بالأسس التي وضعها أبو بكر لحياطة الكتاب والسنة ثم بنى عليها وشمخ بها وزاد فيها حتى تشدد مع الأمناء الموثقين وضيق الخناق على الصحابة المكثرين حتى روي أنه حبس ثلاثة من مشاهير الصحابة سنة كاملة وما نقم منهم إلا أنهم أكثروا الرواية. وإذا صح هذا فهو درس قاس من الفاروق لعامة الشعب في الاحتياط لأصول التشريع والتبصر والتدقيق في الرواية تحملا وأداء على حد قول الشاعر:
إني وقتلى سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر
ثم جاء دور عثمان وعلي فحذوا حذو أبي بكر وعمر إذ أوى الكتاب في كنفهما إلى ركن ركين وظل ظليل وبقيت السنة في عهدهما رفيعة العماد قوية السناد حتى تلقاها بنو أمية على ما تركها الخلفاء بيضاء مشرقة ليلها كنهارها.
ولبثت السنة في العهد الأموي معتصمة بعزتها ومنعتها حتى طلع نجم الملك العادل عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية فردد صدى جده عمر بن الخطاب في ضرورة صون السنة ووعيها ولكن رأى أن يكون ذلك عن طريق الكتابة والنقش في السطور بعد أن وعيت في العهد الماضي عن طريق الحفظ في القلوب والصدور. وبذلك انتقل الحديث النبوي إلى دور جديد سعيد هو دور التأليف والكتابة والتقييد مما كان له أبلغ الأثر في وصوله إلينا موزونا بأدق موازين العلم والبحث الدقيق.
نتيجة ذلك
ولقد كان من نتيجة ذلك كله أن أحيط الكتاب والسنة بسياج من الفولاذ والحديد وأن حفظ الدين من العبث بأصول التشريع وأن أخذ خلف الأمة درسا قيما عن سلفهم الصالح في ضرورة الاستبراء للدين واليقظة في حراسة الكتاب والسنة ووجوب نقد الرواة وفحص المرويات. وبهذا أيضا أخذ الطريق على الدس والدساسين وحيكت الشباك للدجالين والوضاعين وأصبح الدين الإسلامي منيع الحوزة محفوظ الذمار إلى درجة تفاخر بها شعوب العالم وأمم الأرض وأديان الدنيا مما لا يكاد يوجد مثله ولا قريب منه في تاريخ أية شريعة من الشرائع السماوية والوضعية منذ خلق الله السموات والأرض إلى يوم الناس هذا.
الموقف خطير
ولا تحسبن أيها القارئ الكريم أني بالغت أو أسرفت وإن كنت قد أطلت وأكثرت فإن هذا البحث جليل وخطير يتصل في جلالته وخطورته بتلك الطائفة الممتازة التي اختارها الله لتلقي كتابه ومعاصرة رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن النيابة عنه في نشر هداية الإسلام والدفاع عن حمى الدين الحنيف.
أولئك هم حجر الزاوية في بناء هذه الأمة المسلمة عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله وحذقت سنة رسول الله وعرفت تعاليم الإسلام فالغض من شأنهم والتحقير لهم بل النظر إليهم بالعين المجردة من الاعتبار لا يتفق والمركز السامي الذي تبوؤوه ولا يوائم المهمة الكبرى التي انتدبوا لها ونهضوا بها كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم يزلزل بناء الإسلام ويقوض دعائم الشريعة ويشكك في صحة القرآن ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام.
ومن أشد ما يجرح به الصحابة اتهامهم بسوء الحفظ وعدم الضبط ولمزهم بالكذب والافتراء على الله ورسوله ونبزهم بعدم التثبت والتحري في نقلهم كتاب الله وسنة رسوله إلى الأمة.
لذلك عني علماء الإسلام قديما وحديثا بالدفاع عن عرين الصحابة لأنه كما رأيت دفاع عن عرين الإسلام
ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى ولا نبوة عصبية بل كان نتيجة لدراسات تحليلية وأبحاث تاريخية وتحقيقات بارعة واسعة أحصتهم عددا ونقدتهم فردا فردا وعرضتهم على أدق موازين الرجال مما تباهي به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال.
وبعد هذا التحقيق والتدقيق خرج الصحابة رضي الله عنهم من بوتقة هذا البحث وإذا هم خير أمة أخرجت للناس وأسمى طائفة عرفها التاريخ وأنبل
أصحاب لنبي ظهر على وجه الأرض وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اضطر أهل السنة والجماعة أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة وقرروا أن الصحابة عدول. ولم يشذ عن هذا الرأي إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله.
قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك لأن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى ذلك إلينا كله الصحابة. وهؤلاء يعني الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة ا هـ.
شهادة عليا من الله للصحابة
وفوق ما تقدم نجد الحق سبحانه وتعالى يمتدح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة ونرى الرسول صلى الله عليه وسلم يطري صحابته في غير موضع. اقرأ إن شئت قوله جل جلاله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى آخر سورة الفتح. ثم اقرأ إن شئت قوله عز اسمه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وقوله جلت حكمته: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في سورة الحشر. وتأمل قوله عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الخ وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولا ريب أن الصحابة هم المشافهون بهذا الخطاب فهم داخلون في مضمونة بادئ ذي بدء متحققون بمزاياه أول الأمر.
شهادة الرسول لأصحابه
وكذلك نقرأ في صحيح السنة ما يشهد بفضل الصحابة وكمال امتيازهم على الثقلين سوى النبيين والمرسلين. روى الترمذي وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه" .
وروى البزار في مسنده برجال كلهم موثقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين" وجاء في صحيح البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في شأن أصحابه: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" . وتواتر عنه أنه قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" .
فأنت ترى من هذه الشهادات العالية في الكتاب والسنة ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة وما لا يترك لطاعن فيهم دليلا ولا شبه دليل.
حكمة الله في اختيار الصحابة
والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب يحيل على الله في حكمته ورحمته أن يختار لحمل شريعته الختامية أمة مغموزة أو طائفة ملموزة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة يعتبر دفاعا عن الكتاب والسنة وأصول الإسلام من ناحية ويعتبر إنصافا أدبيا لمن يستحقونه من ناحية ثانية ويعتبر تقديرا لحكمة الله البالغة في اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة. كما أن توهينهم
والنيل منهم يعد غمزا في هذا الاختيار الحكيم ولمزا في ذلك الاصطفاء والتكريم فوق ما فيه من هدم الكتاب والسنة والدين.
على أن المتصفح لتاريخ الأمة العربية وطبائعها ومميزاتها يرى من سلامة عنصرها وصفاء جوهرها وسمو مميزاتها ما يجعله يحكم مطمئنا بأنها صارت خير أمة أخرجت للناس بعد أن صهرها الإسلام. وطهرها القرآن ونفى خبثها سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
ولكن الإسلام قد ابتلي حديثا بمثل أو بأشد مما ابتلي به قديما فانطلقت ألسنة في هذا العصر ترجف في كتاب الله بغير علم وتخوض في السنة بغير دليل وتطعن في الصحابة دون استحياء وتنال من حفظة الشريعة بلا حجة وتتهمهم تارة بسوء الحفظ وأخرى بالتزيد وعدم التثبت وقد زودناك وسلحناك فانزل في الميدان ولا تخش عداك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} نصرنا الله بنصرة الإسلام وثبت منا الأقدام والأقلام والحمد لله في البدء وفي الختام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته الأعلام آمين.