بحث عن سيرة
الإمام ابن الجوزي
تقديم الطالبة : مريم عبد العزيز علي
اسمه ونسبه وشهرته :
===========
هو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَّادَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَوْزِيُّ - نِسْبَةً إِلَى فُرْضَةِ نَهْرٍ بِالْبَصْرَةِ - ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ .
الشَّيْخُ الْحَافِظُ الْوَاعِظُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ، الْمَشْهُورُ بِابْنِ الْجَوْزِيِّ، الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ .( ١)
وقد اختلف في هذه النسبة ( الجوزي )، فقيل : إن جده جعفر نسب إلى فرضه ( 2) من فرض البصرة، يقال لها: جوزة.
وقيل: بل كانت بداره في واسط جوزة ، لم يكن بواسط جوزة سواها. (3)
وذكر الداودي في طبقات المفسرين أن الشيخ أبو الفرج له ترجمة في : البداية والنهاية لابن كثير 13/ 28، تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1342، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 399، طبقات المفسرين للسيوطي 17، العبر للذهبي 4/ 297، مرآة الجنان لليافعي 3/ 489، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 1/ 254، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 6/ 174، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 321.)
مولده :
====
ولد العلامة ابن الجوزي "بدرب حبيب" الواقعة في بغداد، واختلف في تاريخ ولادته :
قيل: سنة 508 ، وقيل سنة 509 ، وقيل سنة 510 هجرية، والأرجح أنه ولد بعد العشرة كما يظهر ذلك في بعض مؤلفاته في الوعظ ، حيث يقول : أنه بدأ التصنيف سنة 528 هـ، وله من العمر 17 سنة ولما نقل عنه أيضا في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار (أنه كان يقول : لا أتحقق مولدي غير أنه مات والدي في سنة 514 هـ، وقالت الوالدة كان لك من العمر ثلاث سنين)
هذا تكون ولادته سنة 511هـ، 1117م 5)) .
جوانب من نشأته و حياته :
==============
ذكر ابن كثير : أنه مَاتَ أَبُوهُ وَعُمْرُهُ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَكَانَ أَهْلُهُ تُجَّارًا فِي النُّحَاسِ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ جَاءَتْ بِهِ عَمَّتُهُ إِلَى مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ الْحَافِظِ، فَلَزِمَ الشَّيْخَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ بِابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَحَفِظَ الْوَعْظَ، وَوَعَظَ وَهُوَ دُونَ الْعِشْرِينَ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ، وَكَانَ صَيِّنًا دَيِّنًا، مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا، وَلَا يَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا لِلْجُمُعَةِ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَ وَعْظِهِ الْخُلَفَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَمِنْ سَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَأَقَلُّ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ مِنْ خَاطِرِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ رَحِمَهُ اللَّه .
———————————————————————————————————————
1 = ينظر نسبه من كتاب ) البداية والنهاية لابن كثير) .
= 2 فرضة النهر: ثلمته التي يستقي.
= 3 ينظر نسبه من كتاب ( ذيل طبقات الحنابلة ).
= 4 طبقات المفسرين للداودي .
=5 ( وفيات الأعيان رقم الترجمة ٣٤٣ ص ٢/٣٢١ ) نقلا من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أُسْتَاذًا فَرْدًا فِي الْوَعْظِ، لَهُ مُشَارَكَاتٌ حَسَنَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ، وَتَرَفُّعٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي نَثْرِهِ وَنَظْمِهِ (1) ، ثم ما زال نافق السوق معظما متغاليا فيه ، مزدحما عليه ، مضروبا برونق وعظه المثل ، كماله في ازدياد واشتهار ، إلى أن مات -رحمه الله وسامحه(2)
قال سبطه أبو المظفّر : كان زاهدا في الدّنيا متقللا منها. وما مازح أحدا قطّ، ولا لعب مع صبيّ، ولا أكل من جهة لا يتيقّن حلّها. وما زال على ذلك الأسلوب إلى أن توفاه الله تعالى.
وقال الموفق عبد اللطيف : كان ابن الجوزي لطيف الصوت، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيّع من زمانه شيئا. يكتب في اليوم أربع كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين، وله في كل علم مشاركة. وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة، يعتاض عن الفاكهة بالمفاكهة. لباسه الأبيض الناعم المطيّب.
ونشأ يتيما على العفاف والصلاح، وله مجون لطيف ومداعبات حلوة، ولا ينفك من جارية حسناء.
وذكر غير واحد أنه شرب حبّ البلادر فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدا، وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات. وصنّف في جواز الخضاب بالسواد مجلدا وسئل عن عدد تصانيفه فقال : زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفا، منها ما هو عشرون مجلدا وأقل.
وقال الحافظ الذهبي : ما علمت أن أحدا من العلماء صنّف ما صنّف هذا الرجل. (3)
كان يحب العزلة تقديرا لقيمة الوقت وابتعادا عن الوقوع في اللهو، يقول في صيد الخاطر: (فليس في الدنيا أطيب عيشا من منفرد عن العالم بالعلم، فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها، والتحف بالقناعة باليسير، إذا لم يقدر على الكثير بهذا الاستعفاف يسلم دينه ودنياه، واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ويفرجه عن البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة، ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط) (4)
ولم تكن عزلته تلك العزلة المذمومة والتي أنكرها على بعض المتصوفة والزهاد ، قال في صيد الخاطر : ( فكم فوتت العزلة علما يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب ) (5)
بل كانت عزلته تمده بالوقود لإكمال طريق العلم والتأليف والوعظ ، فقد كان مجاهدا بسنانه واعظا بلسانه لا يخاف في الله لومة لائم ، كان له شأن عظيم في الوعظ والخطب والدعوة والإرشاد بين الخواص والعوام.
وكان يحضر في وعظه الروساء والخلفاء، وقد التفت مرة إلى ناحية الخليفة المستضيء العباس، وهو يخطب، فقال : يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك : اتق الله، خير لك من قوله لكم : أنتم أهل البيت مغفور لكم... وأضاف قائلا لقد كان عمر بن الخطاب يقول : إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم .
دافع ابن الجوزي عن الحق وحارب البدع والمنكرات والتعصب في المذاهب والتقليد الأعمى، وقد كان يعترف بنجاحه في هذا المجال فيقول : (وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم وكانت كلمتنا هي العليا)
.
—————————————————————————————————————————
= 1 البداية والنهاية ١٣/ الاحداث ٥٩٧
= 2 ( سير أعلام النبلاء للذهبي )
3 = (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) [2] انظر «مرآة الزمان» (8/ 311)
= 4 صيد الخاطر ٣٧٣ من ترجمة الإمام ابن الجوزي رحمه الله .. من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
=5 من ترجمة الإمام ابن الجوزي رحمه الله .. من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
وكان الشيخ رحمه الله يظهر في مجالسه مدح السنة، والإمام أحمد وأصحابه، ويذم من يخالفهم، يصرح بمذاهبهم في مسائل الأصل، لا سيما في مسألة القرآن. وكلامه في كتبه الوعظية في ذلك كثير جدا.
وَقَدْ كَانَ لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، مَاتَ شَابًّا فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ، وَقَدْ كَانَ عَاقًّا لِوَالِدِهِ إِلْبًا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَى كُتُبِهِ فِي غَيْبَتِهِ بِوَاسِطٍ، فَبَاعَهَا بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، ثُمَّ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ، وَكَانَ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ وَأَصْغَرَهُمْ ; وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَوَعَظَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاشْتَغَلَ وَحَرَّرَ وَأَتْقَنَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ، ثُمَّ بَاشَرَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ ثُمَّ كَانَ رَسُولَ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْمُلُوكِ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى بَنِي أَيُّوبَ بِالشَّامِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ مَا ابْتَنَى بِهِ الْمَدْرَسَةَ الْجَوْزِيَّةَ الَّتِي بِالنَّشَابِينَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ صَارَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ مُبَاشِرَهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ عَامَ هُولَاكُو بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزَخَانَ، وَكَانَ لِأَبِي الْفَرَجِ عِدَّةُ بَنَاتٍ ; مِنْهُنَّ رَابِعَةُ أُمُّ سِبْطِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ قَزَاوَغْلِيٍّ صَاحِبِ " مِرْآةِ الزَّمَانِ " وَهِيَ كِتَابٌ مِنْ أَجْمَعِ التَّوَارِيخِ وَأَكْثَرِهَا فَائِدَةً، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ " فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ وَشَكَرَ تَصَانِيفَهُ وَعُلُومَه . ( 1 )
طلبه للعلم :
======
وقال ابن الجوزي: "أول ما صنفت وألفت ولي من العمر 13 سنة (3)”.
وذكر صاحب ذيل طبقات الحنابله أن أبا الفرج حفظ القراَن وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وقد قرأ بالروايات في كبره بواسط على ابن الباقلاني. وسمع بنفسه الكثير، وقرأ وعني بالطلب. ( 2) وذكر: أنه سرد الصوم مدة، واتبع الزهاد، ثم رأى أن العلم أفضل من كل نافلة فانجمع عليه، ونظر في جميع الفنون، وألف فيها.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله شيوخه في كتاب خاص سماه (مشيخة ابن الجوزي)، وقد عدّ فيه أبو الفرج ابن الجوزي –رحمه الله- 86 شيخا وثلاث نسوة.(3)
وقال : حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر، وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم. فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم، وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد العُدد لا تكثير العدد. ولما رأيت من أصحابي من يؤثر الاطلاع على كبار مشايخي ذكرت عن كل واحد منهم حديثا. ثم ذكر في هذه المشيخة له سبعة وثمانين شيخا.
فمنهم ابن الحصين، والقاضي أَبُو بَكْرٍ الأنصاري، وأَبُو بَكْرٍ المزرفي، وأَبُو القاسم الحريري، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وأَبُو السعادات المتوكلي، وأَبُو غالب بن البنا، وأخوه يحيى، وأَبُو عبد الله البارع، وأَبُو الحسن علي بن أحمد الموحد، وأَبُو غالب الماوردي، والحسن بن الزاغوني، وأَبُو منصور بن خيرون، وأَبُو القاسم السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وعبد الملك الكروخي، وأَبُو القاسم عبد الله بن محمد الأصبهاني خطيبها، وأَبُو سعد الزوزني، وأَبُو سعد البغدادي، ويحيى بن الطراح، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وأَبُو القاسم علي بن معلى العلوي الهروي الواعظ، وأَبُو منصور القزاز، وعبد الجبار بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن مندة. وتفرد بالرواية عن طائفة منهم، كالمتوكل والدينوري .
وسمع صحيح البخاري على أبي الوقت، وصحيح مسلم بنزول، وما لا يحصى من الأجزاء وتصنيف ابن أبي الدنيا وغيرها. ووعظ وهو صغير جدا.(4)
———————————————————————————————————————-
= 1 سير أعلام النبلاء للذهبي .
= 2 ذيل طبقات الحنابلة 2/463
=3 ابن الجوزي: مشيخة ابن الجوزي 1/ 53
= 4 رجب الحنبلي: ذيل طبقات الحنابلة 2/490.
وقال : حملني ابن ناصر إلى أبي القاسم العلوي الهروي في سنة عشرين، فلقنني كلمات من الوعظ، وجلس لوداع أهل بغداد مستندا إلى الرباط الذي عند السور في الحلبة، ورقاني يومئذ المنبر، فقلت الكلمات، وحرز الجمع بخمسين ألفا. ثم صحب أبا الحسن بن الزاغوني، ولازمه، وعلق عنه الفقه والوعظ.
وذكر القادسي : أنه تفقه على أبي حكيم، وأبي يعلى بن الفراء.
وكذا ذكر ابن النجارة أنه بعد وفاة ابن الزاغوني قرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أَبِي بَكْرٍ الدينوري، والقاضي أبي يعلى الصغير، وأبي حكيم النهرواني. وصار مفيد المدرسة. وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي. ولما توفي ابن الزاغوني في سنة سبع وعشرين طلب حلقته، فلم يعطها لصغره فإنه كان في ذلك العام قد احتلم كما تقدم فحضر بين يدي الوزير، وأورد فصلا في المواعظ، فأذن له في الجلوس في جامع المنصور. قال : فتكلمت فيه، فحضر مجلسي أول يوم جماعة من أصحابنا الكبار من الفقهاء، منهم عبد الواحد بن سيف، وأَبُو علي بن القاضي، وأَبُو بَكْرِ بن عيسى، وابن قثامي وغيرهم. ثم تكلمت في مسجد معروف، وفي باب البصرة، وبنهر المعلى، فاتصلت المجالس، وقوي الزحام، وقوي اشتغالي بفنون العلوم.
قال : وسمعت على أَبِي بَكْرٍ الدينوري الفقه، وعلى أبي منصور بن الجواليقي اللغة. تتبعت مشايخ الحديث، وانقطعت مجالس أبي علي الراذاني - يعني الذي أخذ حلقة شيخه ابن الزاغوني - واتصلت مجالسي لكثرة اشتغالي بالعلم.
واشتهر أمر الشيخ أَبُو الفرج من ذلك الوقت، وأخذ في التصنيف والجمع. وقد كان بدأ بالتصنيف من قبل ذلك.
وكان الشيخ أَبُو الفرج معيدا عند الشيخ أبي حكيم النهرواني. وكان قد قرأ عليه الفقه أيضا والفرائض بالمدرسة التي بناها ابن السمحل بالمأمونية. وكان لأبي حكيم مدرسة بباب الأزج فلما احتضر أسندها إلي أبي الفرج فأخذها جميعا بعده. ( 1 )
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (2 ) أن ابن الجوزي لم يرحل في الحديث ، لكنه عنده " مسند الإمام أحمد " و " الطبقات " لابن سعد ، و " تاريخ الخطيب " ، وأشياء عالية ، و " الصحيحان " ، والسنن الأربعة ، و " الحلية " وعدة تواليف وأجزاء يخرج منها . وكان آخر من حدث عن الدينوري والمتوكلي .
——————————————————————————————————————————-
1 = ذيل طبقات الحنابلة ج/2 ص 464
= 2 ص : 367
تلاميذه :
=====
تتلمذ على يدي ابن الجوزي –رحمه الله- جملة من التلاميذ حملوا شعلة العلم في ربوع الدنيا (18)
ومن أشهر تلاميذه :
1- سبط ابن الجوزي : شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي التّركي البغدادي الحنفي، سبط(19) الإمام عبد الرحمن بن الجوزي (581- 654هـ)، ولد ببغداد ومات بدمشق، وَكَانَ إِمَامًا فَقِيها واعظا وحيدا فِي الْوَعْظ عَلامَة فِي التَّارِيخ وَالسير. صنف مجموعة من الكتب، منها: مرآة الزمان في التاريخ، وشرح الجامع الكبير(20)
2- الحافظ عبد الغني المقدسي : أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد الجمّاعيلي المقدسي الدمشقي (541- 600هـ)، ولد بجمّاعيل بنابلس وتوفي بمصر، كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ، من مصنفاته: الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى[21]
وروى عنه خلق، منهم ولده الصاحب محيي الدين،، والشيخ موفق الدين، وابن الدبيثي، وابن القطيعي، وابن النجار، وابن خليل، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف الحراني. وهو خاتمة أصحابه بالسماع ، وروى عنه آخرون بالإجازة. آخرهم الفخر علي بن البخاري.
أقوال العلماء فيه :
========
وقد تحدث عنه علماؤنا الافذاذ بكثير من الاعجاب والاعتراف له بالفضل والتقدير ، وكان شيخه ابن ناصر يثني عليه كثيرا. ولما صنف أَبُو الفرج كتابه المسمى ب " التلقيح " وله إذْ ذاك نحو الثلاثين من عمره، عرضه على ابن ناصر، فكتب عليه: قرأ عليَّ هذا الكتاب جامعه الشيخ الإمام العالم الزاهد أَبُو الفرج، فوجدته قد أجاد تصنيفه، وأحسن تأليفه، وجمعه ولم يسبق إلى مثل هذا الجمع فقد طالع كتبا كثيرة، وأخذ أحسن ما فيها من الياقوت واللؤلؤ، فنظمه عقدا زان به التصانيف، التي تجمعت من التواريخ، ومعرفة الصحابة وأسمائهم وكناهم وأعمارهم، وأبان عن فهم وعلم غزير مع اختصار يحض على الحفظ والعمل بالعلم، فنفعه الله بعلمه، ونفع به، وبلغه غاية العمرة لينفع المسلمين، وينصر السنة وأهلها، ويدحض البدع وحزبها.
قال الشيخ أَبُو الفرج: ولقد كنت أرُدّ أشياء على شيخنا أبي الفضل بن ناصر، فيقبلها مني. وحدثني أَبُو محمد عبد العزيز بن الأخضر عن شيخنا أنه كان يقول عني: إذا قرأ علي فلان استفدت بقراءته، وأذكرني ما قد نسيته.
—————————————————————————————————————————.
[18] ابن رجب الحنبلي: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 463- 464، الصفدي: الوافي بالوفيات 18/ 110.
[19] السبط: ابن البنت، وسبط ابن الجوزي هو ابن بنت الإمام عبد الرحمن بن الجوزي واسمها رابعة. انظر ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 194.
[20] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 194- 195 ، الصفدي: الوافي بالوفيات 29/ 121- 122، ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/142.
[21] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 38- 39، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 1/49- 51، الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/ 444- 471.
قال الإمام أَبُو العباس ابن تيمية في أجوبته المصرية : كان الشيخ أَبُو الفرج مفتيا كثير التصنيف والتأليف. وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف. ورأيت بعد ذلك له ما لم أره.
قال: وله من التصانيف في الحديث وفنونه ما لم يصنف مثله. قد انتفع الناس به. (1)
قال ابن القطيعي : انتفع الناس بكلامه، فكان يتوب في المجلس الواحد مائة وأكثر في بعض الأيام. وكان يجلس بجامع المنصور يوما أو يومين في السنة. فتغلق المحال، ويحرز الجمع بمائة ألف.
وذكره الحافظ ابن الدبيثي في ذيله على تاريخ ابن السمعاني، فقال: شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزي صاحب التصانيف في فنون العلم: من التفاسير، والفقه، والحديث، والوعظ، والرقائق، والتواريخ، وغير ذلك. وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه. والوقوف على صحيحه من سقيمه. وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال. ومعرفة ما يحتج به في أبواب الأحكام والفقه، وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية الموضوعة. والانقطاع والاتصال. وله في الوعظ العبارة الرائقة. والإشارات الفائقة. والمعاني الدقيقة. والاستعارة الرشيقة.
وذكره ابن البزوري في تاريخه، وأطنب في وصفه، وقال: أصبح في مذهبه إماما يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه. ودرس بعدة مدارس، وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار، ووقف عليها كتبه. وبرع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره. (2 )
- وقال سبطه أبو المظفر في مرآة الزمان 8 / 482 : سمعت جدي على المنبر يقول : بأصبعي هاتين كتبت ألفي مجلدة ، وتاب على يدي مائة ألف ، وأسلم على يدي عشرون ألفا .
وقال ابن خلكان : كان علامة عصره ، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ ، صنف في فنون كثيرة وعرف ابن الجوزي بحضور الذهن ، وسرعة البديهة ، وحسن التصرف ، والاجابات اللبقة تجاه الاسئلة المحرجة (.(3
وقال عنه ابن كثير : أحد أفراد العلماء ، برز في علوم كثيرة ، وانفرد بها عن غيره ، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف ، وكتب نحوا من مائتي مجلد . وله في العلوم كلها اليد الطولى ، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث ، والتاريخ ، والحساب ، والنجوم ، والطلب ، والفقه ، وغير ذلك من اللغة ، والنحو .
- وقال ابن جبير بعد أن وصف مجلسا كان ابن الجوزي يعظ الناس فيه : وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطى من امتلاك النفوس والتلاعب فيها ما أعطي هذا الرجل . فسبحان من يخص بالكلام من يشاء من عباده .(4)
——————————————————————————————————————
= 1 ذيل الطبقات للحنابلة ( 282 / 2 )
= 2 ذيل الطبقات للحنابلة ( 2 / 485 )
=3 من ترجمة ابن الجوزي (للدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه لكتاب زاد المسير )
=4 ترجمة ابن الجوزي , للدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه للكتاب زيد المسير )
آثاره وتصانيفه :
=========
سئل ابن الجوزي عن عدد تصانيفه فقال : زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفا، منها ما هو عشرون مجلدا وأقل.
وقال يوما في مناجاته: إلهي لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلني النّار، فقد علم أهلها أني كنت أذبّ عن دينك.( 1 )
قال الحافظ الذهبي: ما علمت أن أحدا من العلماء صنّف ما صنّف هذا الرجل. (2)
وبلغ من كثرة مصنفاته أن الأستاذ عبد الحميد العلوجي صنف كتابا في مصنفاته طبع بغداد سنة 1965 وتتبع اسماءها ونسخها ما طبع منها وما لم يطبع .(3)
.وأهم هذه المؤلفات :
- في التفسير : - المغني - زاد المسير في علم التفسير - غريب الغريب - نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر .
- في التوحيد وعلم الكلام : منهاج الوصول إلى علم الاصول - بيان غفلة القائل بقدم أفعال العباد - + الرد على المتعصب العنيد دفع شبه التشبه .
في علم الحديث : جامع المسانيد - عيون الحكايات - التحقيق في أحاديث التعليق - غرر الاثر - الموضوعات - العلل المتناهية في الاحاديث الواهية .
علم الرجال : الضعفاء والمتروكين - المشيخة - الالقاب - فضائل عمر بن الخطاب - صفة الصفوة .
في الفقه : الانصاف في مسائل الخلاف - المذهب في المذهب - عمد الدلائل في مشتهر المسائل - رد اللوم والضيم في صوميوم الغيم .
في التاريخ : المنتظم في تاريخ الملوك والامم - شذوذ العقود في تاريخ المعهود .
- في الوعظ : صيد الخاطر - المدهش - ذم الهوى - كنز المذكر - اللطائف - اليواقيت في الخطب - وغيره (3)
————————————————————————————————————————
= 1 ترجمة ابن الجوزي , للدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه للكتاب .
=2 شذرات الذهب في أخبار من ذهب .
=3 ترجمة ابن الجوزي , للدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه للكتاب .
ابن الجوزي المفسر :
============
منهج ابن الجوزي في تفسير القرآن الكريم
من أهم كتب التفسير للقرآن الكريم كتاب «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي الذي عمد إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فأشبعها دراسة واستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم، ووضع تفسيره هذا مخلّصا إياه من التطويل المملّ ومن الاختصار المخلّ. وقال في مقدمة كتابه:
( ... أني نظرت في جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه، والمتوسط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير» ) .
فجاء كتابه وسطا بين التفاسير الطويلة والمختصرة الشديدة الاختصار، مع تميّزه بجملة من الخصائص، إضافة إلى أسلوب ابن الجوزي السّلس المتين والسهل الممتنع. ومن هذه الخصائص أنه تحدّث عمن نزلت بعض الآيات فيهم، وذكر القراءات المشهورة والشاذة أحيانا، وتوقف عند الآيات المنسوخة والتي اختلف العلماء حولها أمنسوخة هي أم لا؟ وأورد أقوال العلماء بهذا الصدد، بالإضافة إلى ردّه كل قول إلى مصدره معتمدا على علماء اللغة مثل: ابن قتيبة وأبي عبيدة والخليل بن أحمد الفراهيدي وعلى النحاة مثل: الفرّاء والزجّاج والأخفش والكسائي ومحمد بن القاسم النحوي وعلى القرّاء مثل: الجحدري وعاصم وغيرهم.
قال الدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه للكتاب (1): «زاد المسير في علم التفسير أحد أهم الكتب التي صنفها ابن الجوزي وقد نيفت على الثلاثمائة مصنف، بل هو من أهم كتب التفسير للقرآن الكريم، فقد عمد ابن الجوزي حين عقد النية على تأليفه إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فقرأها وأشبعها دراسة، وإلى العلوم المساعدة للمفسر ليلم بموضوعة تمام للالمام ورأى من خلا هذه الدراسة لمؤلفات السلف أن المفسرين قبله قد وقعوا في كثير التطيول تارة، والتقصير طورا فاستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم وألف تفسيره هذا مخلصا إياه في التطويل الممل ومن الاختصار المخل وقال في خطبة الكتاب : فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته بزاد المسير في علم التفسير وزاد المسير ببالغ عناية المؤلف في إخراجه له خصائص يمتاز بها : منها : أنه جاء بالألفاظ على قد المعاني، بل حمل الألفاظ في بعض الأحيان أكبر طاقة لها بمن المعاني».
ويقول ابن الجوزى مبينا سبب التأليف: «لما رأيت جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفى بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة فى كتب ؛ فرب تفسير أُخِلَّ فيه بعلم الناسخ والمنسوخ أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكى من المدني، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية ، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع فى الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة».
——————————————————————————————————————————
= 1 الدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله في مقدمة تحقيقه لكتاب زاد المسير .
نماذج من تفسيره :
===========
ذكر صاحب ذيل طبقات الحنابله تفاسير لابن الجوزي منها : المغني، في أحد وثمانون جزءا ، وتفسير ا مختصرا سماه " زاد المسير في علم التفسير " في أربع مجلدات ، و كتاب " تيسير البيان في تفسير القرآن " في مجلد . ( 1)
وقد حقق زاد المسير الدكتور محمد بن عبد الرحمن عبد الله ، وقال عنه في مقدمة تحقيقه للكتاب :
زاد المسير في علم التفسير أحد أهم الكتب التي صنفها ابن الجوزي ، بل هو من أهم كتب التفسير للقرآن الكريم
، فقد عمد ابن الجوزي حين عقد النية على تأليفه إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فقرأها وأشبعها دراسة ، وإلى العلوم المساعدة للمفسر ليلم بموضوعة تمام اللإلمام ورأى من خلال هذه الدراسة لمؤلفات السلف أن المفسرين قبله قد وقعوا في كثير التطويل تارة ، والتقصير طورا فاستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم وألف تفسيره هذا مخلصا إياه في التطويل الممل ومن الاختصار المخل وقال في خطبة الكتاب : [ فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته بزاد المسير في علم التفسير ] (2 )
ومن أمثلة التفسير لابن الجوزي من كتاب زاد المسير :
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
قال تعالى :
“ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)”
قوله تعالى : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً قال أبو عبيدة : الزُّمَر : جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض، واحدها : زُمْرة.
قوله تعالى : رُسُلٌ مِنْكُمْ أي : أنفسكم . وكَلِمَةُ الْعَذابِ هي قوله تعالى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «3» .
قوله تعالى : فُتِحَتْ أَبْوابُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فتّحت» «وفتّحت» مشدَّدتين، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي : بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها زائدة، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء.
والثاني : أنها واو الحال ، فالمعنى : جاءوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم ، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه :
——————————————————————————————————————
1= 2 490
=2 موقع شبكة مشكاة الاسلامية ، ناشر الكتاب : المكتب الإسلامي - بيروتالطبعة الثالثة ، 1404 ، عدد الأجزاء : 9
=3 الأعراف ( 18 )
والثاني : أنها واو الحال ، فالمعنى : جاءوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم ، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها : أنّ أهل الجنّة جاءوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا.
والثاني : أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا .
والثالث : أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجِّل المثوبة، ويؤخِّر العقوبة، وقد قال عزّ وجلّ: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «2» قال المصنف: هذا وجهٌ خطر لي.
والقول الثالث : أن الواو زِيدتْ، لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النار سبعةٌ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «3» ، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي. واختلف العلماء أين جوابُ هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، والزجّاج في آخرين. وفي تقدير هذا المحذوف قولان :
أحدهما : أن تقديره: حَتَّى إِذا جاؤُها إِلى آخر الآية ... سُعِدوا، قاله المبرِّد.
والثاني : حَتَّى إِذا جاؤُها إلى قوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ.. دخلوها، وإِنما حُذف، لأن في الكلام دليلاًَ عليه، وهذا اختيار الزجاج.
والقول الثاني : أن الجواب: قال لهم خزنتُها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في الشِّعر.
فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ «4»
أي: فإذا ذلك.
والثالث: الجواب: حتى إذا جاءوها فُتحتْ أبوابُها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة.
——————————————————————————————————————-
(1) الأعراف: 18.
(2) النساء: 147.
(3) الكهف: 22.
(4) لتميم بن مقبل، وهو في ديوانه 259.
وفي قوله تعالى : طِبْتُمْ خمسة أقوال :
أحدها : أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان، فيَشربون من إِحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج، ويغتَسلون من الأُخرى، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً. حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» ، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه «1» ، وقد ذكرنا في الأعراف «2» نحوه عن ابن عباس.
والثاني : طاب لكم المقام، قاله ابن عباس.
والثالث : طِبْتُم بطاعة الله، قاله مجاهد.
والرابع : أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ: طِبْتُم، قاله قتادة «3» .
والخامس : كنتم طيّبين في الدُّنيا، قاله الزجاج. فلمّا دخَلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتبوَّأ منها حيثُ نشاء منها أي: نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء.
وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أُمَّة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها، فلذلك قالوا: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يقول الله عزّ وجلّ : فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي : نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة.
قوله تعالى : وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ : أي مُحْدِقِينَ به، يُقال : حَفَّ القومُ بفلانٍ : إِذا أَحْدَقوا به ودخلتْ «مِنْ» للتوكيد، كقولك : ما جاءني من أحدٍ . يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال السدي ، ومقاتل : بأَمْرِ ربِّهم . وقال بعضهم : يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة . وقال ابن جرير : التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة .
قوله تعالى : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي : بينَ الخلائق بِالْحَقِّ أي : بالعَدْلِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه . قال المفسِّرون : ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «4» وختم غاية الأمر- وهو استقرار الفريقين في منازلهم- بالحمد لله بهذه الآية ، فنبَّه على تحميده في بداية كلّ أمر وخاتمته.
—————————————————————————————————————————
(1) أخرجه الطبري 30254 وابن المبارك في «الزهد» ص 509- 510 والبيهقي في «البعث» 272 عن عاصم عن علي، وإسناده لا بأس به.
(2) الأعراف: 44.
(3) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري 2440 و 6535 وابن أبي عاصم 85 وابن مندة في «الإيمان» 838 واستدركه الحاكم 2/ 354 وابن حبان 7434 كلهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يخلص المؤمنون من النار منحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدكم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» 5340 بتخريجنا. [.....]
(4) الأنعام: 1.
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 52]
قال تعالى :
“ لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) “
قوله تعالى : لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ قال المفسرون : المراد به الكافر فالمعنى : لا يَمَلُّ الكافرُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ، أي : من دعائه بالخير، وهو المال والعافية. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ وهو الفقر والشِّدة، والمعنى : إذا اختُبر بذلك يئس من روح الله وقَنْط من رحمته . وقال أبو عبيدة : اليؤوس، فَعُول من يأس، والقَنُوط، فَعُول من قَنَط.
قوله تعالى : ” وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا “ أي : خيراً وعافية وغِنىً، “ لَيَقُولَنَّ هذا لِي “ أي : هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشُكُّ في البعث فيقول : “ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً “ أي : لست على يقين من البعث ”وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى” يعني الجنة ، أي : كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة “ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا “ أي : لَنُخْبِرَنَّهم بمساوئ أعمالهم . وما بعده قد سبق «1» إلى قوله تعالى : “ وَنَأى بِجانِبِهِ “ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «ونأى» مثل «نعى» ، وقرأ ابن عامر: «وناء» مفتوحة النون، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ حمزة: «نئى» مكسورة النون والهمزة. فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ قال الفراء، وابن قتيبة : معنى العريض : الكثير، وإن وصفته بالطول أو بالعَرْض جاز في الكلام. قُلْ يا محمّد لأهل مكة أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف للحق بَعِيدٍ عنه ؟ وهو اسم والمعنى : فلا أحدٌ أَضَلّ منكم . وقال ابن جرير: معنى الآية : ثُمَّ كفرتم به، ألستُم في شقاقٍ للحق وبُعد عن الصواب ؟! فجعل مكان هذا باقي الآية.
[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه خمسة أقوال «2» :
أحدها : في الآفاق : فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم: فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي.
والثاني : أنها في الآفاق: وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم: يوم بدر، قاله قتادة، ومقاتل.
——————————————————————————————————————————
1 = إبراهيم: 17، الإسراء: 83.
2 = قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 125: إن الله وعد نبيه أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آيات في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهديدهم بأن يريهم ما هم راؤوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا أراءوه قبل من ظهور نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» 4/ 123 وقال: ويحتمل أيضا أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة. كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع- تبارك وتعالى- وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة. من حسن وقبيح وبين ذلك. وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يحوزها ولا يتعدّاها .
والثالث : أنها في الآفاق: إمساك القَطْر عن الأرض كلِّها، وفي أنفسهم: البلايا التي تكون في أجسادهم، قاله ابن جريج.
والرابع : أنها في الآفاق: آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم: حوادث الأرض، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد أن التي في أنفُسهم: سبيل الغائط والبول، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين.
والخامس : أنها في الآفاق: آثار مَنْ مضى قَبْلَهم من المكذِّبين، وفي أنفسهم: كونهم خُلِقوا نُطَفاً ثم عَلَقاَ ثم مُضَغاً ثم عظاماً إلى أن نُقِلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج.
قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ في هاء الكناية قولان :
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن .
والثاني: إلى جميع ما دعاهم إِليه الرسول .
وقال ابن جرير: معنى الآية: حتى يعلموا حقيقة ما أَنزلْنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنّا مظهر ودينه على الأديان كلِّها.
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: أو لم يكفِ به أنه شاهدٌ على كل شيء؟! قال الزجاج: المعنى: أو لم يكفِهم شهادةُ ربِّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا: أنه قد بيَّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله.(1)
——————————————————————————————————————————
= 1 ج/4 ص/57 ، زاد المسير .
ما أخذه عليه بعض العلماء :
==============
ورغم وصو ل الإمام ابن الجوزي إلى قمة العلم والمعرفة إلا أن للعلماء عليه مآخذ هامة :
أولا- كان يميل إلى التأويل في بعض كلامه:
يقول ابن رجب في الذيل : (اشتد إنكار العلماء عليه في ذلك، وكان مضطربا في قضية التأويل رغم سعة اطلاعه على الأحاديث في هذا الباب فلم يكن خبيرا بحل شبه المتكلمين، ويقول: كان أبو الفرج تابعا لشيخه أبي الوفاء ابن عقيل في ذلك، وكان ابن عقيل بارعا في علم الكلام ولكنه قليل الخبرة في الأحاديث والآثار لذا نراه مضطربا في هذا الباب).
نعم، قد نجد ما يثبت ميوله إلى التأويل من ثنايا كتبه حيث ألف كتابا مستقلا يناقش هذا الموضوع باسم "دفع شبه التشبيه" وهو مطبوع أورد فيه بعض الآيات القرآنية، وستين حديثا ورد فيها الكلام عن ذات الله وصفاته سبحانه وتعالى، كالوجه، واليد، والنفس، والساق، والاستواء، فيؤولها بما يحتمل التأويل بخلاف ما ذهب إليه السلف من إمرارها كما وردت بدون تأويل ولا تشبيه، ولا تعطيل .
ونجد أيضا في صيد الخاطر، ينقد نهج السلف، فيقول: (... ولكن أقواما قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعليل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا) وقد قام بالرد على ما كتبه ابن الجوزي مائلا إلى التأويل عالم معاصر له، وهو الشيخ إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي اضغط هنا حيث كتب رسالة يرد فيها على ابن الجوزي ردا عنيفا طالبا فيها العودة إلى الحق وإلى العقيدة السلفية وإلى ما كان عليه إمامه أحمد بن حنبل، رحمه الله، حيث يقول فيها: (وإذا تأولت الصفات على اللغة وسوغته لنفسك وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب بهذا، فاختر لنفسك مذهبا، حتى قال: فلقد استراح من خاف مقام ربه وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم. فانتبه قبل الممات، وحسن القول والعمل، فقد قرب الأجل لله الأمر من قبل ومن بعد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) .
ثانيا- كثرة أغلاطه في تصانيفه :
وعذره في هذا واضح وهو أنه كان مكثرا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره وربما كتب في الوقت الواحد تصانيف عديدة ولولا ذلك لم تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة .
قال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، وكان يدرّس الفقه ويصنف فيه، وكان حافظا للحديث، وصنّف فيه، إلّا أننا لم نرض تصانيفه في السّنّة ولا طريقته فيها.( 2 )
ثالثا- ما يوجد في كلامه من الثناء على نفسه والترفع والتعاظم، وكثرة الدعاوى :
ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه، كقوله : في صيد الخاطر (... ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا) ويقول في موضع آخر: (خلقت لي همة عالية تطلب الغايات) وأمثال ذلك كثير. ولعل ما قدم للأمة من القدوة الصالحة والخدمة الخالصة التي لا مثيل لها، تغطي مساوئه، وترفع درجاته، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والله واسع المغفرة والكرم وهو عليم بذات الصدور ( 1 )
—————————————————————————————————————-
1 = انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 414 )
2 = شذرات الذهب في أخبار من ذهب .
محنته :
====
وقد نالته محنة في آخر عمره رحمه الله. وحديثها يطول.
وملخصها: أن الوزير ابن يونس الحنبلي كان في ولايته قد عقد مجلسا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي، وأحرقت كتبه. وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأى الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جده، وسلمها إلى ابن الجوزي.
فلما ولي الوزارة ابن القصاب - وكان رافضيا خبيثا - سعى في القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه، فقال له الركن: أين أنت عن ابن الجوزي فإنه ناصبي ومن أولاد أَبِي بَكْرٍ، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبي بمشورته. فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن - له ميل إلى الشيخ أبي الفرج، بل قد قيل: إنه كان يقصد أذاه، وقيل: إن الشيخ ربما كان يعرض في مجالسه بذم الناصر، فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه، وأغلظ عليه وختم على كتبه وداره، وشتت عياله.
فلما كان في أول الليل حمل في سفينة وليس معه إلا عدوه الركن، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل وعلى رأسه تخفيفة فأحدر إلى واسط. وكان ناظرها شيعيا. فقال له الركن: مكني من عدوي لأرميه في المطمورة، فزبره، فقال يا زنديق، ارميه بقولك، هات خط الخليفة، والله لو كان من أهل مذهبي لبذلت روحي. ومالي في خدمته، فعاد الركن إلى بغداد.
قال ابن القادسي: لما حضروا واسط جمع الناس، وادعى ابن عبد القادر على الشيخ: أنه تصرف في وقف المدرسة، واقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادعاه، وأنكر الشيخ، وصدق وبر، أفرد للشيخ دار بدرب الديوان، وأفرد له من يخدمه، وبقي الشيخ محبوسا بواسط في دار بدرب الديوان، وعلى بابها بواب. كان بعض الناس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملي عليهم. كان يرسل أشعارا كثيرة إلى بغداد. وأقام بها خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه ويطبخ، ويستقي الماء من البئر،
ولا يتمكن من خروج إلى حمام ولا غيره وقد قارب الثمانين. ويقال: إنه بقي خمسة أيام في السفينة حتى وصل إلى واسط لم يأكل فيها طعاما.
وذكر عنه أنه قَالَ : قرأت بواسط مدة مقامي بها كل يوم ختمة، ما قرأت فيها سورة يوسف من حزني على ولدي يوسف.
والذي ذكره أَبُو الفرج بن الحنبلي عن طلحة العلثي : أن الشيخ كان يقرأ في تلك المدة ما بين المغرب العشاء ثلاثة أجزاء أو
أربعة من القرآن. وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحا زائدا، ونودي له بالجلوس يوم السبت، وجلس الشيخ بكرة السبت ، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم.
وكان السبب في الإفراج عن الشيخ: أن ولده محيي الدين يوسف ترعرع وأنجب، وقرأ الوعظ ووعظ، وتوصل وساعدته أم الخليفة، وكانت تتعصب للشيخ أبي الفرج فشفعت فيه عند ابنها الناصر، حتى أمر بإعادة الشيخ، فعاد إلى بغداد، وخلع عليه، وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ، وأنشد:
شقينا بالنوى زمنا فلما ... تلاقينا كأنا ما شقينا
سخطنا عندما جنت الليالي ... فما زالت بنا حتى رضينا
سعدنا بالوصال وكم شقينا ... بكاسات الصدود وكم فَنِينا
فمن لم يحيى بعد الموت يوما ... فإنا بعدما متنا حيينا
ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ، ونشر العلم وكتابته إلى أن مات . (2/507) ذيل طبقات الحنابلة .
وفاته :
======
قال سبطه أَبُو المظفر: جلس جدي يوم السبت سابع شهر رمضان - يعني سنة سبع وتسعين وخمسمائة - تحت تربة أم الخليفة المجاورة لمعروف الكرخي. وكنت حاضرا، فأنشد أبياتا قطع عليها المجلس،
وهي هذه :
الله أسأل أن يطول مدتي ... وأنال بالإنعام ما في نيتي
لي همة في العلم ما من مثلها ... وهي التي جَنت النحول هي التي
حلفت من الفلق العظيم إلى المنى ... دعيت إلى نيل الكمال فلبَّت
كم كان لي من مجلس لو شبهت ... حالاته لتشبهت بالجنة
اشتاقه لما مضت أيامه ... عللا تعذر ناقة إن حنت
يا هل لليلات بجمع عودة ... أم هل إلى وادي منى من نظرة؟
قد كان أحلى من تصاريف الصبي ... ومن الحمام مغنيا في الأيكة
فيه البديهات التي ما نالها ... خلق بغير مخمر ومبيت
برجاحة وفصاحة وملاحة ... تقضي لها عدنان بالعربية
وبلاغة وبراعة ويراعة ... ظن النباتي أنها لم تنبت
وإشارة تبكي الجنيد وصحبه ... في رقة ما نالها ذو الرمة
ثم قَالَ أَبُو المظفر: ثم نزل عن المنبر، فمرض خمسة أيام، وتوفي ليلة الجمعة بين العشائين في داره يقطتفنا.( 1 ) ، وأفطر بعض من حضر جنازته لشدة الزحام والحرّ.( 2 )
رحم الله الشيخ العلامة الإمام ، رحمة واسعة وجعل ما قدم للإسلام في ميزان حسناته ورفعا لدرجاته .
والحمد لله رب العالمين
——————————————————————————————————————————
1 = «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 414 )
2 = ترجمة الشيخ من كتاب ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب ).