القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله , قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب التيمم:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم قال: (( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم )) فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)).
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء , فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة , ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا باب التيمم , والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف , وسمي تيممًا للأمر به في الآية في قوله تعالى: { فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا } فلما سماه الله تيممًا يعني قصدًا أخذوا اسمه من هذه الكلمة , وذكروا سبب نزول الآيات التي في شرعية التيمم وهو أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات , ولما كانوا في ذات ليلة في مكان انقطع أو سقط عقد لعائشة في الليل فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم وأن يبيتوا , وليس معهم ماء يتوضئون به , فلما أصبحوا أنزل الله في تلك الليلة آية التيمم فتيمموا , وفيها يقول أسيد بن حضير لعائشة: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر , ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجًا وجعل الله للمسلمين فيه خيرًا.
وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة , يعني أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب , حيث جعله الله طهورًا , قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}, {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} .
فالتطهير بهذا التراب تطهير معنوي , وذلك أن المسلم كأنه يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب تمسحًا في وجهه وكفيه , فيقصد ذلك ويمتثل أمر الله , ويرتفع بذلك حدثه الذي على بدنه سواءً حدثًا أكبر أو أصغر , يرتفع حدثه ؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر نوعين:
ذكر الحدث الأصغر بقوله: {أو جاء أحدٌ من الغائط} هذا حدث أصغر يرتفع بالوضوء.
والحدث الأكبر بقوله: {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهو الذي يوجب الغسل , وكلاهما جعله يرتفع بهذا التيمم , {فتيمموا} يعني فاقصدوا {صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} .
فجعل الله هذا التيمم رافعًا للحدث , وجعله طهورًا معنويًا يحصل به نفع ويحصل به تطهير للقلب , وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة , ولكنه تطهير معنوي . جعله الله تعالى توسعة , لما فرض الوضوء وعلم أن الماء قد يعوز في بعض الأحيان جعل لـه بدلاً وهو التراب , وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء , فذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولهذا ذكر العلماء من شروطه.. من شروط التيمم أن يطلب الماء فلا يجده , يبحث عنه في رحله وفي ما كان قريبا منه فلا يجده , أو يجده ولكن يكون قليلاً هو بحاجة إليه , فله أن يعدل إلى التيمم , إذا كان بحاجة إلى الماء للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك فإنه يعدل إلى التيمم , ففيه رخصة وفيه توسعة .
والتيمم يحصل من الحدثين: الأصغر والأكبر , فالآية نزلت في الأصغر , عندما كانوا مسافرين وحضر الماء واحتاجوا إلى الوضوء أمرهم بأن يتيمموا , فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة , وذُكر فيها أيضًا الغسل لقوله: {أو لامستم النساء} فإن الملامسة هي الجماع وهو موجب للغسل لا للوضوء , فتكون الآية اشتملت على الأمرين , على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي هو الوضوء أو ما يرفعه الوضوء , ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل .
والأحاديث التي عندنا التي سمعنا تتعلق بالغسل , فإن حديث عمران في الغسل , وذلك أن بعض الصحابة كأنهم تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين , فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة , لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا رجل لم يصلِ معتزل جالس , فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة , فسأله لماذا تركت الصلاة ؟ ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ اعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدث أكبر , أصابته جنابة يعني من آثار احتلام أو نحوه وليس هنا ماء يكفيني للاغتسال , ليس معنا ماء , فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) .
الصعيد هو المأمور به في الآية في قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} , وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد , والصحيح أنه وجه الأرض المستوي الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه , وذلك لأنه سمي بذلك لصعوده على وجه الأرض , أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد ونحوه , أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه .
وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوي كما في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار ونحوه , فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض , فإذن التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض .
اشترط بعض العلماء أن يكون لـه غبار , وأخذه من الآية في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} قالوا: إن كلمة {منه} تدل على التبعيض على أنه يعلق به غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف , فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه .
والصحيح أنه لا يشترط ذلك , وإنما يكفي ضرب الأرض , إذا كانت الأرض مستوية وفيها تراب ونحوه .
ويكثر السؤال عن مثل هذه البلاد الآن التي قد يعوز فيها التراب , يعني المساجد مثلا المبلطة أو المفروشة والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب . والصحيح أنه يجوز ضرب وجه الأرض ؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد , ولكن لابد أن يكون طاهرًا حيث اشترط الله الطيب في قوله: {صعيدًا طيبًا} , فإذا كانت نجسة لم يجز التيمم منها , يعني ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك , وإذا كان المكان فيه فرش أو نحوها وفيها شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض ويتطاير منه الغبار . وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكانًا يتيمم منه يأتي بتراب ليتيمم منه .
وإذا لم يفعل صلى ولو بدون تيمم, إذا لم يستطع كالمريض.. المرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء , معذورون ؛ الله تعالى قد ذكر المرض من جملة الأعذار في قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر } خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء ، والمسافر ؛ لأنه غالبًا يفقد الماء .
فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء , بل لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه ولا يستطيع أيضًا غسل أعضاءه لشدة المرض , فله أن يتيمم , فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار فيمكن إحضار تراب له مثلاً في طست أو في إناء ليضرب عليه , فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه , فإنه إن استطاع أن يضرب على الفراش ولو بدون غبار فعل وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب.
والحاصل أن التيمم فسر في هذا بأنه من الصعيد ((عليك بالصعيد ؛ فإنه يكفيك)) وكما في الآية: {فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم} فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.
وفي هذا الحديث , الحديث الثاني أيضًا الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر ؛ فإن عمار بن ياسر لما أجنب يعني احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء وقد عرف أن الوضوء يرتفع أو يقوم بدله مسح الوجه ومسح اليدين - اعتقد أن الغسل لابد أن يمسح البدن كله فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ يعني تمسح جنبها ثم تنقلب وتمرغ جنبها الثاني , تمرغ فيه يعني تقلب فيه , حتى يمسح جسده كله , وظن أن ذلك يقوم مقام الغسل وهذا من باب القياس , ولكن بين لـه النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين مع ذكر الحدث الأكبر بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فبين لـه النبي عليه السلام أن التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه .
وقد اختلف في عدد الضربات, وهذا الحديث ليس فيه إلا ضربة واحدة ..حديث عمار , وهو أصح من غيره , لكن ورد في أحاديث فيها مقال: ((التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين.. أو لليدين)) . فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته ومسح كفيه بأصابعه وخلل أصابعه , أدخل بعضها في بعض , حتى يكون قد عم الغبار الذي على الراحتين , يمسح به وجهه , والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع , وإن ضرب ضربتين فلا بأس , ضربة يمسح بهما وجهه وضربة يديه .
واختلف في حد اليدين , الآية فيها الإطلاق {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ولم يقل إلى الكوع ولم يقل إلى المرفق ولم يقل إلى المنكب , أطلق , فجاء في بعض الروايات ((التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين)) فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق .
المرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد.
ا هـ .
شرح عمدة الأحكام
شريط (9) للشيخ: ابن جبرين
...فجاء في بعض الروايات التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين , فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق . المرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد الذي يغسل إليه في الوضوء .
ولكن في حديثك عمار أنه اقتصر على مسح الكفين , والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل , وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع , والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع ويسمى كوعاً , وقد يقال : إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام , والقرصوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر , والمفصل يسمى مفصل , يعني إلى الكوعين أي إلى هذا المفصل , هذا هو الراجح , في حديث عمار أنه مسح يديه أي كفيه , اقتصر عليهما , وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد أنه يمسح وجهه ويمسح كفيه .
وبكل حال لابد من النية كما تقدم , ولابد من وجود التمسح , لابد أن يكون هناك مسح , ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح وسفت في وجهه الريح تراباً ما كفى ذلك ولو مسح به ؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض , الله يقول: {فتيمموا صعيداً طيباً } اقصدوا فامسحوا , فلابد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به , ويكون المسح مرةً واحدةً , ما ورد فيه التكرار كما ورد في الوضوء بل يقتصر على مرة واحدة ؛ وذلك لأن القصد منه التعبد, والطهارة به طهارة معنوية ليست طهارة حسية كالطهارة بالماء , إنما هي طهارةٌ معنوية , فينوي الإنسان , فلابد من النية حتى يتم الامتثال .
القارئ: قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا , فأيما رجلٌ من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
وهذا الحديث أورده المؤلف في باب التيمم , حيث ذكر فيه التيمم بتراب الأرض , ويعتبر هذا الحديث دالا على ميزةٍ وفضلٍ وشرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وفيه ذكر الخصائص التي اختصه الله بها , وفي هذا الحديث أنها خمس , ولكن لا يدل ذلك على الحصر بل لـه خصائص أخرى , سواء اختص بها عن الأنبياء قبله أو اختص بها عن أفراد الأمة وتميز بها .
ذكر العلماء من خصائصة الشيء الكثير , وسرد ذلك البيهقي في أول كتاب (النكاح) حيث أن مما اختص به أشياء في النكاح مما أحله الله لـه لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} , ولكن هذه الخصال دالةٌ على ما فضله الله به على الأنبياء قبله , منها الخصلة الأولى قوله: ((أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر)) .
الرعب: هو الخوف الذي يكون أو ينزل في قلوب الناس إذا توجه إليهم , أي الأعداء الذين يتوجه إليهم ويغزوهم , يجعل اللهُ في قلوبهم رعبًا منه وخوفًا وفرقًا بحيث أنهم لا يقدمون على قتاله ولا يصبرون على مواجهته , بل يتفرقون وينخذلون وينهزمون ويتبعثر جمعهم , وذلك نصرٌ من الله تعالى وتأييدٌ لـه حتى يتم أمر الله ويعلوا دينه ؛ لأن الله تعالى قد وعده بإظهار هذا الدين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
فلما وعده بإظهار هذا الدين عرف بأن للدين أعداء وله مقاومون وله حسدةٌ يحسدونه على ظهوره ؛ وذلك لأنهم يفارقون مألوفاتهم إذا اعتنقوه ويتركون دين أسلافهم وآبائهم وعقائد أجدادهم , فيفرق بينهم وبين ما هم عليه , فلما كان كذلك كان ولابد أن يُوجد من يعادي هذا الإسلام ويحول بينه وبين انتشاره .
فإذا هم النبي عليه الصلاة والسلام بغزو أولئك الأعداء قذف الله في قلوبهم الرعب وألقى عليهم الخوف والفرق , فتفرقوا وذهبوا أيادي سبع ولم يصمدوا للقائه ولا لمقاتلته , قد أخبر الله عز وجل بشيء من ذلك كما في قصة بني النضير في قول الله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب} أي الخوف والفزع , فلم يطمئنوا حتى هربوا وفارقوا ديارهم ومألوفاتهم ؛ وذلك لأثر هذا الرعب .
وهكذا لما تحزبت الأحزاب وأحدقوا بالمدينة بسنة خمس بقيادة أبي سفيان ومن معه من قريش ومن غطفان ومن سائر المشركين , فلما أنهم اشتد حصارهم قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وكذلك في قلوب من ناوأهم فقال تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} كل ذلك من آثار هذا الرعب .
والصحيح عند العلماء أن هذا الرعب باقٍ في قلوب أعداء الإسلام سواءً كان الذي يقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو من هو على دينه , فمتى صمد المسلمون لقتال عدوهم ومتى حققوا إسلامهم ومعتقدهم ومتى صححوا عقيدتهم وسلموا من الدخل ومن الاضطراب في المعتقد وحققوا دينهم وعملوا به - فإن الله تعالى سيُلقي في قلوب أعدائهم الرعب والخوف , تحقيقًا لما نصر الله تعالى به نبيه ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) مسيرة شهر , يعني إذا هم بغزو قومٍ وكان بينه وبينهم مسيرة شهر , يعني مسير شهر على الأقدام أو على الرواحل - فإن أولئك الأعداء يخافونه ولو بينهم وبينه هذه المسافة ولا يصبرون على مقابلته , وكذلك يكون حالهم مع أتباعه .
الخصلة الثانية: وهي الشاهد للباب قوله: ((وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا)) الأرض: يعني: وجه الأرض .
والمسجد: يعني: الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة عليه .
والطهور: معناه: ما يتطهر به .
يعني أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة .
قد كان الأمم قبلهم لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومتعبداتهم , وأديارهم , لا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك , ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة , فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها بل يصليها في أي بقعة من الأرض طاهرة ليس فيها شيء مما نُهي عن الصلاة فيه , كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى إذا أدركته .
سمعتُ أن بعض الناس يحتج بهذا الحديث عن الصلاة في البيوت وفي الأسواق , ولكن ليس هذا حجة , إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص لها فإنه يصلي في تلك البقعة , أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيئة لها , فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى . والكلام على هذا ليس الآن موضعه .
وأما كون الأرض طهورًا فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به وهي قول الله تعالى: {فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً ؛ لأنها ترفع الأحداث , يعني التيمم بها يرفع الحدث .
والحدث: هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض .
فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماء جاز لـه أن يتمسح بالتراب , أن يتيمم به ويقوم ذلك مقام الماء ؛ توسعة من الله تعالى . وليس كذلك الأمم قبلنا فإنهم لا يرفع حدثهم إلا الماء , لا يُباح لهم أن يتيمموا بالتراب , فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لشفاههم ولطعامهم وشرابهم.
ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل ؛ فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب أو الماء معهم , فالماء إنما جعل ليُطهر البدن طهارةً ظاهرة .
الماء لاشك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات . والتراب إنما هو مُبيحٌ للصلاة ورافع للحدث رفعا مؤقتًا وبشرط ألا يوجد ماء لقوله تعالى في الآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فإذن لا يُباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توفره وتيسره.
ذكر لي كثيرٌ من الإخوان أنهم خرجوا مع أنُاس والماء معهم كثير , معهم مياه في سيارات محملة بالماء أو في درامات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون , ولا يجوز لهم والحال هذه ؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء , وهؤلاء معهم الماء , معهم هذه السيارات ومعهم هذه المياه التي فيها هذه الأواني الكثيرة , ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام ليسوا على ماء , ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم .
وذكرَ أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغًا , إذا أكلوا مثلاً أو شربوا في إناء فإنهم يغسلونه وينظفونه ويصبون عليه ماءً كثير , وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماءٍ كثير أكثر مما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به , ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة.
لاشك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع , كما ذكر أيضاً أن معهم عدد من السيارات وأن البلاد قد تكون قريبة منهم , المياه أو البلاد التي حولها قد تبعد عن أحدهم نصف ساعة أو ساعة عن السيارة أو ما أشبه ذلك, وأنهم متى بدا لأحدهم غرضٌ , متى بدا له شراء شيءٍ كنعل مثلاً أو ملح أو مثلاً كبريت أو ما أشبهه أقاموا لأجله السيارة , إذا كان كذلك فهم في استطاعتهم إذا قل الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في درماتهم وفي براميلهم ولا يكون عليهم حينئذٍ نقصٌ ولو غابت السيارة يومًا للإتيان بالماء ؛ فإذن لا يجوز لهم ذلك .
قد كنا نعرف.. أدركنا مثلاً بعضًا من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضأون إذا كان في إمكانهم أن يصل الماء بعد ثلاث ساعات , مع أنهم يسيرون على الأقدام أو على الرواحل , وأدركنا أيضًا بعض البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يومًا ذهابًا ويومًا إيابًا , يرسلون الراوي يرتوي لهم يومين , يغيب عنهم , والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة وإنما يُؤتى به في القِرب , ومع ذلك لا يتيممون لاستطاعتهم الحصول على الماء ولو مع هذه المشقة , إذا كانوا مقيمين .
فإذن لا ينبغي التوسع في مثل هذا , بل إذا خرج أهل النزهة وخرج معهم بهذه الماء فليستعملها في الوضوء ولا يتيممون والماء معهم بهذه الكثرة أو بهذا القرب , أما إذا كانت المسافة طويلة أو أنه فيه صعوبة , صعوبة يعني في تحصيله أو يوجد بثمن رفيع فحينئذ لا بأس أن يعدلوا إلى التيمم ؛ لأنهم معذورون بذلك.
أما الخصلة الثالثة: قوله: ((وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)).
الغنائم: يعني غنائم المقاتلين , إذا قاتل المقاتلون تقاتلوا ثم انتصروا على الأعداء وهرب الأعداء وتركوا أموالهم وغنائمهم من دواب ومن أمتعة ومن مدخرات ونحو ذلك , غنمها المسلمون واستولوا عليها وتقاسموها بينهم , أباحها الله تعالى لهم في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وفي قوله: {واعلموا أنما غنمتم} , {أنما غنتم} يعني اعلموا أن ما استوليتم عليه من الغنائم {فأن لله خمسه وللرسول}.
فعُرف بذلك أن الغنيمة كانت محرمةً على الأمم قبلنا , كيف كانوا يفعلون بها ؟ إذا غنِموا وجمعوا الغنيمة ونزلت عليها نارٌ فأحرقتها , أما هذه الأمة فإن الله علم ضعفها فأباح لها التمتع بها والتملك لها .
أما الخصلةُ الرابعةُ: قوله: ((وأعطيت الشفاعة)) , الشفاعة هنا المراد بها نوع من أنواع الشفاعة وهي الشفاعة الكبرى , وقد..وسيأتينا في التوحيد في العقيدة هذه أقسام الشفاعة , وأن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة شفاعات , ولكن أكبرها هي الشفاعة التي يتخلى عنها أولوا العزم حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم , أي شفاعته في إراحة الناس من طول الموقف , عندما يطول بالناس الموقفُ يشفعون إلى الأنبياء فيقولون: ائتوا آدم , فيقولون: يا آدم اشفع لنا إلى ربك ؛ ألا ترى إلى ما بلغنا , ألا ترى ما نحن فيه , ثم يأتون نوحًا عندما يعتذر آدم فيقولون لـه كذلك , ثم يأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى , فهؤلاء هم أولوا العزم .
ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أنا لها)) فهذه الشفاعة هي الشفاعةُ العظمى , وفسرت بالمقام المحمود , أو فسر بها في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} ولاشك أنها ميزة وفضيلة له في يوم القيامة .
الوجه الثانى:
ولاشك أنها ميزة وفضيلة له في يوم القيامة عندما يحمده به الأولون والآخرون , فهذه خصلة من الخصال التي ميزه الله تعالى بها وفضَّلَه على غيره .
وأما الخصلة الخامسة والأخيرة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس عامة)) يعني أن كل نبي بعثته إلى قومه , إنما يبعث إلى قومه , قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} , وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}أخاهم يعني في النسب , {وإلى ثمود أخاهم صالحا} يعني في النسب , {وإلى مدين أخاهم شعيبًا} يعني في النسب , ولذلك كل واحد منهم يدعُوهمُ فيقول: يا قومي كما في قول هود في قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فدعاهم بقومه فدل على أن رسالته خاصة بقومه , أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد فضل:
أولاً: بعموم رسالته .
وثانياً: ببقائها .
عمومها أنه بُعث إلى الأسود والأحمر , بُعث إلى القاصي والداني , قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} , وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} , يعني أرسلناك للناس كافة , لكل الناس , وقال تعالى: { لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي: ومن بلغه القرآن فإنه مُرسل إليه , وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عموم رسالته بقوله: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديا أو نصرانيا ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار)) أو كما قال , فهذه خصوصية .
ومن خصوصياته أيضًا بقاء شريعته , بقاؤها واستمرارها إلى يوم القيامة ؛ حيث أنه خاتم الرسل وآخر الأنبياء . والشاهد من هذا الحديث ما بينه في الخصلة الثانية وهو كونه فضل بأن جعلت لـه الأرض مسجدًا وطهورًا , يعني يتطهر بها كما يتطهر بالماء , يعني التراب .
وقد فصل العلماء أو بينوا أن هذا العموم قد يُستثنى منه بعض الأشياء ؛ وذلك لأنه روي في بعض الآثار ..بعض روايات الحديث ((وجُعلت تُربتها لي طهورًا)) فخص التربة فقالوا: إذن لا يتيمم إلا بالتربة يعني بالتراب .
ولكن الصحيح أيضًا أنه يتيمم بالرمل ولو لم يكن له غُبار , معلوم أن الرمل لا غبار له ولكنه يعلق باليد , فكل شيء يعلق باليد إما غُبار وإما رمل فإنه يُتيمم به , وأما وجه الأرض على ما قاله بعضهم فلا , يعني كونه يُتيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض أخذًا من قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فإنه لو كان مثلاً على جبل لم يتيمم على صخرة إلا إذا لم يجد غيرها , إذا كان في إمكانه أن ينزل ويجد ترابًا فإن عليه أن يتيمم منه .
واشتراط بعضُهم التراب ؛ لأن الله قال: {فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قالوا: كلمة {منه} تدل على التبعيض , فدل على أنه لابد أن يعلق باليد شيء منه حتى يمسح به . واستثنوا ما كان نجسًا , فلا يجوز أن يتيمم بالأرض النجسة ؛ لأن الله اشترط طيبها في قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} فإذا كانت نجسة فليست صعيدًا طيبًا . وكذلك إذا كانت محترقة كالرماد مثلاً لا يتيمم به لأنه لا يوصف بأنه طيب , وكل شيء محرق كالنورة وما أشبهها , وهكذا أيضًا ما ليس بتراب كدقيق الحنطة وما أشبهه ولو كان على وجه الأرض ؛ لأنه لا يصلح أن يكون ترابًا ولا أنه مما على وجه الأرض ولا من الصعيد .
فإذًا التيمم خاص بما كان على وجه الأرض مما هو من أجزائها , ومما هو ملتصق بها . وفي هذا القدر كفاية يعني معرفة ما أباح الله تعالى التيمم به ومعرفة الحكمة والعلة التي لأجلها أبيح التيمم .