وأما الحديث الثاني فذكر فيه ثلاثة أشياء تتعلق بالطهارة:
الأول: الاستنشاق والاستنثار , يقول: ((إذا توضأ احدكم فليجعل في أنفه من الماء ثم لينتثر)) يسمى هذا الاستنشاق , صفته: أن يجعل الماء في يده ثم يجعله في منخريه ثم يجتذبه بنفسه إلى داخل خياشيمه ثم بعد ذلك يخرجه بقوة نفسه , فاجتذابه يسمى استنشاق وإخراجه يسمى استنثار يعني كأنه ينثره . وهذا دليل على وجوب الاستنثار فإن الأمر ظاهره الوجوب ((فليجعل)) , ((ثم لينتثر)) دل على وجوب الاستنشاق ثم وجوب الإخراج بالنفس وهو ما يسمى استنثارا.
وقد ورد الامر ايضاً بالمبالغة فيه قال صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط :((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) فهنا أمر به ((بالغ)) أمر بالاستنشاق وأمر بالمبالغة فيه يعني اجتذابه قوة الاجتذاب.
الحكمة في الاستنشاق تنظيف الخياشيم ، الخيشوم الذي هو داخل الأنف يتحلل منه أوساخ لابد من تنظيفها حتى يأتي الصلاة وقد نظف ما يكن تنظيفه وأزال ما يمكن إزالته من القذر والأذى . وكذلك غسل داخل الأنف داخل المنخرين الذي يمكن غسله ولا حاجة إلى أن يدخل إصبعيه بمنخريه بل يكتفي بالاجتذاب اجتذاب الماء إلى داخل الخيشوم , يكتفي بذلك ويخرجه بعد ذلك ثم يكون هذا كافياً في تنظيف المنخرين .
وأراد المؤلف بإيراد هذا الحديث إثبات أن الاستنشاق تابع للغسل في الوجه , الله تعالى أمر بغسل الوجه . والأنف له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه , وكذلك الفم له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه .
والمضمضة هي تحريك الماء في الفم , اشتقاقها مضمض بمعنى: حرك , معناه أن يجعل ماء في فمه ثم يدلكه بأسنانه ويحركه بلسانه ثم يمجه , هذه هي المضمضة.
ذهب الإمام أحمد وجمهور العلماء إلى أنهما من الوجه المضمضة والاستنشاق , وأنه لا يصح الوضوء إلا بهما وأن من أخل بهما فكأنه ترك بقعة في وجهه والذي يترك بقعة في وجهه ما غسل وجهه , الله أمر بالغسل فلا بد أن يكون الغسل مستوفياً للعضو , كما لو ترك بقعة في يده أو في رجله كان الذي يترك بقعة خفية في رجله في مؤخر رجله متوعداً بالنار ((ويل للأعقاب من النار)) فكذا من ترك بقعة في عينيه يعني أو مثلاً تحت وجنتيه أو ما أشبه ذلك فلا بد أن يغسل وجهه كله وأن يدخل في ذلك الفم والأنف .
قد ذهبت الشافعية وغيرهم إلى أن الاستنشاق ليس بواجب بل هو سنة , وكذا قالوا في المضمضة أنهما من سنن الوضوء لا من واجباته .
ويرد عليهم بهذا الحديث , يعني مما يتقوى به , والأمام الشافعي رحمه الله عالم كبير ومجتهد ولكنه لم يكن متوغلاً في معرفة الحديث , وعلى كل هو اجتهاد .
ومن أدلتهم أن الوجه ما تحصل به المواجهة , والله تعالى أمر بغسل الوجه , والأنف يغسل ظاهره وأما داخل المنخرين فليسا مما تحصل بهما المواجهة , وكذا داخل الفم . فيقولون نقتصر على ما تحصل به المواجهة والمقابلة هذا دليل الشافعية .
ولكن لما كانت السنة مفسرة للآية ومبينة لها عرفنا بذلك أن هذا هو معنى الغسل , أن الأنف والفم داخلان في غسل الوجه لابد منهما , والذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكروا أنه تركهما بل يذكرون أنه يتمضمض ويستنشق ثلاثاً , وسيأتينا حديث عثمان وفيه ذكرهما.
أما الجملة الثانية وهي الاستجمار أو الوتر في الاستجمار ((من استجمر فليوتر)) سيأتينا أيضا إن شاء الله باب فيما يتعلق بالتبرز الذي هو قضاء الحاجة وما يلزم منه.
ويذكرُ أن الاستجمار يشرع قطعة على وتر , الاستجمار هو مع مسح أثر الغائط بالحجارة أو ما يقوم مقامها , وكانوا يكتفون به عن الغسل . ويأتينا فيه إن شاء الله أحاديث.
هذا الحديث دليل على أنه إذا استجمر قطعه على وتر , فإن مسح مثلاً بحجرين زاد ثالثاً وإن لم يلقي إلا بأربعة أضاف إليها خامساً حتى تكون وتر , وإن لم يلقي إلا بستة أحجار جعل معها سابعاً , فإن لم يحصل الإنقاء إلا بثمانية أضاف تاسعاً , هذا معنى الوتر يعني يقطعه على وتر أي ثلاث مسحات أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً وهكذا.
وأما إذا غسله بالماء وهو ما يسمى بالاستنجاء فإنه يغسله إلى أن ينظف المكان ويعود إلى خشونته من غير تحديد بعدد , وهذا الاستجمار وتراً ليس بواجب لأنه ورد في رواية ((من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج)) فدل على أنه لا حرج فيمن استجمر وشفع , استجمر أربعاً مثلا أو ستاً أو نحو ذلك لا حرج ولكن الأفضل القطع على وتر.
أما الجملة الثالثة ففي غسل اليدين بعد النوم إذا استيقظ من نوم الليل ((من استيقظ من نوم الليل فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء أو في الماء فإنه لا يدري أين باتت يده))
وهذا النوم مختص بنوم الليل ؛ لأنه قال: ((أين باتت)) والبيتوتة هي نوم الليل , ولكن يستحب لمن نام نهاراً في أول النهار أو في وسطه أن يغسلهما بعد الاستيقاظ أيضاً ؛ لأن العلة موجودة.
وبلا شك أننا علينا أن نتبع النص وإن لم نعرف السبب , عليك إذا استيقظت أن تبادر وتبدأ بغسل اليدين , والمراد باليدين هنا الكفان , يعني إلى المفصل، مفصل الكف من الزراع يسمى كوعاً أي تغسلهما الى الكوع ، الكوع هو المفصل الذي بين الكف والذراع , هكذا ورد غسلهما الى الكوعين ثلاثاً يعني حتى تنظف اليد , ويلزم ذلك بكل حال حتى ولو جعلت يديك في شراب مثلاً أو في غيره تلبسهما , لو لبست على يديك قفازين فبعدما تستيقظ تغسلهما ولو أمنت عليهما وذلك لأن هذا يعتبر حدثاً , هذا النوم الذي هو نوع الليل يعتبر بنفسه حدثاً موجباً لغسل اليدين قبل أن يغسلهما أن يغسل بهما بقية جسده .
وذكر كثير من العلماء أنه إذا غمسها في ماء قبل غسلها فإن ذلك الماء لا يكون طَهوراً , ولكن الصحيح إن شاء الله أنه إذا بقي على لونه فإنه لا يُسلب الطهورية , إذا بقي على طبيعته لم يتغير طعماً ولا ريحاً ولا لونا.
....وذكر كثير من العلماء أنه إذا غمسها في ماء قبل غسلها فإن ذلك الماء لا يكون طهورا ً, ولكن الصحيح إن شاء الله أنه إذا بقي على لونه فإنه لا يُسلب الطهورية , إذا بقي على طبيعته لم يتغير طعماً ولا ريحاً ولا لوناً فإنه يرفع الحدث, ولكن مع ذلك نتبع النص لا يغمس يده حتى يغسلها , وليس خاصاً بالغمس بل حتى الاغتراف , حتى ولو صببت عليها مثلاً بعض (البزبوز) أو نحوه فإن الماء الذي يقع فيها قبل الغسل يعتبر غير طهور , فلابد أن تَصب عليهما حتى إذا اغترفت بهما أو صببت فيهما ماءً للمضمضة كان ذلك الماء الذي وقع فيهما طهوراً يرفع الحدث .
هذا حكم غسلهما أما غير المستيقظ فإنه يسن غسلهما من غير وجوب , إذا مثلاً أن الإنسان أراد أن يتوضأ لصلاة الظهر وهو ما نام أو لصلاة المغرب أو العشاء وهو لم ينم استحب أن يغسلهما من باب التنظيف ؛ لأنهما الآلة التي يغترف بهما والتي يباشر بهما غسل الأعضاء , يغسل يديه بهما , يغسل وجهه بهما , يغسل رجليه بهما , يغترف الماء بهما فينظفهما, فغسلهما هذا يُعتبر للنظافة , ولكن لا يكفي عن غسلهما بعد الوجه إذا غسلت وجهك فاغسل يديك من رُؤوس الأصابع إلى المرفقين , ولا تغسل مجرد الذراع وتقول الكف مغسولة من قبل لا حاجة إلى غسلها ؛ غسلها الأول يعتبر سنة وغسلها بعد الوجه من الأظافر إلى المرفق هذا هو الواجب , لأني سمعت أن بعض الناس بعدما يغسل وجهه يقتصر على غسل الذراع من المفصل إلى المفصل ويترك الكف وهذا خطأ بل عليه أن يغسل اليدين من رؤوس الأصابع مع الأصابع مع الكف مع الذراع مع المرفق , اليد اليمنى واليد اليسرى , فبهذا يتم وضوؤه وتتم طهارته إن شاء الله . بقية صفة الوضوء تأتينا في الأحاديث الباقية إن شاء الله.