تلخيص رسالة تفسير
قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
مقاصد الرسالة :
- إثبات الخشية للعلماء
- نفي الخشية عن غيرهم
- نفى العلم عن غير أهل الخشية
- بيان تواتر الأحاديث والآثار على إثبات ذلك
تلخيص المقاصد :
أولًا : إثبات الخشية للعلماء
قد اتفق جمهور العلماء على ذلك لأن صيغة إنما تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتفاق لأن خصوصية إن إفادة التوكيد .
ثانيًا : نفي الخشية عن غير العلماء
دلالة ذلك من صيغة " إنما " وإن " ما " هي الكافة ، فإذا دخلت " ما " الكافة على " إن " أفادت الحصر
وهذه هو الصحيح عند بعض العلماء عن جمهور الناس .
من قال بهذا القول :
القاضي وابن عقيل والحلواني والشيخ موفق الدين وفخر الدين إسماعيل بن علي
وهو قول أكثر الشافعية كأبي حامد وأبي الطيب والغزالي والهراسي
وقول طائفة من الحنفية كالجرجاني
وكثير من المتكلمين كالقاضى أبي بكر وغيره
وكثير من النحاة وقد حكاه أبو علي كما ذكر الرازي عن النحاة جملة ولكن اختلفوا في دلالتها على النفي .
اختلاف النحاة على دلالة النفي
اختلفوا على قولين :
الأول : هو بطريق المنطوق
قاله القاضي في أحد قوليه وصاحب ابن المني والشيخ موفق الدين " إن دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء " وهو قول أبي حامد وأبي الطيب من الشافعية والجرجاني من الحنفية .
الثاني : هو بطريق المفهوم
قال به القاضي في قوله الآخر وابن عقيل والحلواني وهو قول كثير من الحنفية والمتكلمين
واختلفوا هل دلالتها على النفي بطريق النص أو الظاهر
وأصحاب هذا القول على قسمين :
- منهم من لا يرى كون المفهوم حجة بالكلية كالحنفية ومن وافقهم من المتكلمين
- ومنهم من يراه حجة في الجملة ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنه لا مفهوم لها
وحجتهم في ذلك ورودها لغير الحصر كثير جدًا مثل قوله تعالى {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربّهم يتوكّلون (2)}.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرّبا في النسيئة".وقوله: "إنّما الشهر تسعٌ وعشرون "
القول الصحيح في دلالة " إنما "
الصحيح في ذلك أنها تدل على الحصر وأدلة ذلك :
1- أن ذلك معلوم بالضرورة من لغة العرب ومثل قوله تعالى {إنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}
2- أن " إن " تفيد توكيد الكلام و "ما " الزائدة تقوى هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام
3- أن "إن" المكفوفة ب " ما " استعملت في الحصر فصارت حقيقة عرفية فيه وهذا القول ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم وهو يقتضي أنّ دلالة "إنّما" على الحصر إنّما هو بطريق العرف والاستعمال لا بأصل وضع اللغة، وهوقولٌ حكاه غيره في المسألة.
4- وأما قوله تعالى: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم}.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما الربا في النسيئة"، و"إنّما الشهر تسع وعشرون "
فيقال: معلومٌ من كلام العرب أنّهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها تارةًلانتفاء ذاته وتارةً لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارةًلانحصار جميع الجنس فيه وتارةً لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثمّ إنهمتارة يعيدون النفي إلى المسمّى وتارةً إلى الاسم وإن كان ثابتًا في اللغةإذا كان المقصود الحقيقيّ بالاسم منتفيا عنه ثابتًا لغيرهكقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التوراة والاٍنجيل وما أنزل إليكم مّن رّبكم}، فنفى عنهم مسمّى الشيء مع أنّه في الأصل شامل لكلّ موجودٍ من حق وباطلٍكما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يؤول إلى الباطل الذي هو العدم فيصيربمنزلة المعدوم بل قد يكون أولى بالعدم من المعدم المستمر عدمه لأنه قديكون فيه ضررٌ فمن قال الكذب فلم يقل شيئًاولم يعمل ما ينفعه بل ما يضرّه لم يعمل شيئا، ولهذا لمّا سئل النبيّ - صلىالله عليه وسلم - عن الكفار فقال: "ليسوا بشيء".
ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة المجروحين والأحاديث الواهية: "ليس بشيءٍ "إذا لم يكن مما ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمدًا أو خطأ، ويقال أيضًالمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها: هذا ليس بآدميّ ولا إنسانٍوما فيه إنسانية، ومنه قول النّسوة في يوسف عليه السلام: {ما هذا بشرًا إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}.
5- أما قوله تعالى: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، وقوله: {إنّما أًنت منذرٌ}.
ونحو ذلك، فالجواب عنه أن يقال: الحصر تارةً يكون عامًا كقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو}، ونحو ذلك.
وتارةً يكون خاصًّا بما يدل عليه سياق الكلام فليس الحصر أن ينفي عن الأوّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنه ثابتٌ له من ذلك النوع الذي أثبت له في الكلام.
فقوله: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، فيه نفي تعدد الإلهيّة في حقّه سبحانه وأنّه لا إله غيره، ليس المراد أنه لا صفة له سوى وحدانية الإلهية.
فهذا وجه إفادتها الحصر في هذه الآية على القول المشهور وهو "إنما" في قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}، هي الكافة.
وأما على قول من جعلها موصولةًفتفيد الحصر من جهةٍ أخرى وهو أنّها إذا كانت موصولةً فتقدير الكلام "إنالذين يخشون الله هم العلماء" وهذا أيضًا يفيد الحصر" فإنّ الموصول يقتضيالعموم لتعريفه، وإذا كان عامًّا لزم أن يكون خبره عامًّا أيضًا لئلا يكونالخبر أخصّ من المبتدأ، وهذا النوع من الحصر يسمّى حصر المبتدأ في الخبر،ومتى كان المبتدأ عامًّا فلا ريب إفادته الحصر.
ثالثاً: نفي العلم عن غير أهل الخشية
وذلك من جهة الحصر أيضًا وهو من حصر الثاني في الأول ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله أن يكون الحصر من الطرفين ويكونان متلازمين مثل قوله تعالى: {إنّما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب}، و{إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع}.
قال: وكذلك الحصر في هذه الآية أعني قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}فتقتضي أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالم، وتقتضي أيضًا أنّ العالم من يخشى اللّه.
رابعًا : بيان تواتر الأحاديث والآثار على إثبات ذلك
1- أن من خشى الله وأطاعه وامتثل أمره واجتنب نواهيه فهو عالم
-عن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ".
- وروى الدارميّ من طريق عكرمة عن ابن عباسٍ: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}قال: "من خشي اللّه فهو عالمٌ
- عن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ".
- ذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيّ في هذه الآية: "العلماء باللّه الذين يخافونه ".
- عن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ".
- سئل سعد بن إبراهيم -: من أفقه أهل المدينة؟
قال: "أتقاهم لربّه ".
- وسئل الإمام أحمد عن معروفٍ، وقيل له: هل كان معه علمٌ؟
فقال: "كان معه أصل العلم، خشية اللّه عزّ وجلّ ".
2- أنه لا يخشى الله إلا العلماء فمن لم يخش الله فهو جاهل ليس بعالم
- عن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا وكفى بالاغترار باللّه جهلاً"
- عن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ.
- ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك، والحكمة والإيمان بك وما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك.
3- سمات العلماء الذين يخشون ربهم
- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا".
وعن أبي حازمٍ نحوه.
- وعن يحيى بن جعدة، عن عليٍّ قال: "يا حملة العلم، اعملوا به فإنّما العالم منعمل بما علم فوافق علمه عمله، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم ولا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم.
يجلسون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا،حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غير ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللّه عزّ وجلّ ".
- عن مسروقٍ قال: " كفى بالمرء علمًا أن يخشى اللّه عزّ وجل وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه ".
- قال الحسن: "إنما الفقيه الزاهد في الدّنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربّه ".
- وعن عبيد اللّه بن عمر أنّ عمر بن الخطاب سأل عبد اللّه بن سلامٍ: "من أرباب ألعلم؟
قال: الذين يعملون بما يعلمون ".
5- من عصى الله فهو جاهل
- قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمدٍ عن هذه الآية: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ}
فقالوا: كلّ من عصى اللّه فهو جاهلٌ، وكلّ من تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ ".
- وعن قتادة قال: "أجمع أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أنّ كلّ من عصى ربّهفهو جاهلٌ جهالةً، عمدًا كان أو لم يكن، وكلّ من عصى ربّه فهو جاهلٌ ".
- وقال مجاهدٌ: "من عمل ذنبًا من شيخأو شابٍ فهو بجهالةٍ"، وقال أيضًا: "من عصى ربّه فهو جاهلٌ حتى ينزع عنمعصيته "، وقال أيضًا: "من عمل سوءًا خطأً أو إثمًا فهو جاهلٌ حتى ينزع منه ".
وقال أيضًا هو وعطاء: "الجهالة: العمد".
رواهنّ ابن أبي حازمٍ وغيره، وقال: وروي عن قتادة، وعمرو بن مرة، والثوريّ نحو ذلك.
- -وروي عن مجاهدٍ، والضحاك، قالا: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالاً ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فيه ".
6- سبب ملازمة الخشية للعالم ونفيها عن غيره
1- أنالعلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمةوالجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية،وبهذا فسّر الآية ابن عباسٍ، فقال: "يريد إنما يخافني من علم جبروتي،وعزتي، وجلالي، وسلطاني "، ويشهد لهذا قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمكم باللّه وأشدّكم له خشيةً"
2- أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلك وممايترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّهواطّلاعه كلّ هذا يوجبالخشية وإنما يقع فيالمحظورات من غفل عن استحضار هذه الأمور .
3 - أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أنًّ تصوره لذلك ليس تامًّا أي ليس علم في الحقيقة و روي مرسلاً عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم-: "العلم علمان، فعلم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم ".
4 - أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه لهو تفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.
5 - أنّ كل ما علم علمًا تامًّا جازمًا بانّ فعل شيئًا يضرّه ضررًا راجحًا لم يفعله، فإنّ هذا خاصة العاقل، فإنّ نفسه تنصرف عمّا يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإنّ اللّه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلايفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.
7- أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد ألبتة فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك ولهذا قيل: "إن الصبر على المعاصي أهون من الصبر على عذاب اللّه، وقيل: "ربّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً" ولا يعرف حقيقة ذلك إلا العالم .
8- أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجى أن يتخلص من تبعته بسببٍ منالأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان، وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف، ما لا يوازي الذرة منه جميع لذات الدنيا قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا}.