قَال الله تَعَالَى:"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنَا أولُ المُسْلِمِينَ"(الأَنْعَام:162 ،163).
سورة الأنعام تدور كلها على التّوحيد وبيان الشرك، وبيان ما يفعله المشركون مع الأصنام، وما حرّموه من المزارع والأنعام لأصنامهم، وختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بهذه الآيات التي فيها البراءة من كل ما يفعله المشركون.
المعنـى الإجمالي:
يقول الله تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون لغيره: إنّني أخلصت لله صلاتي وذبحي، وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين، لا شريك له في شيء من ذلك، وبذلك الإخلاص أمرت، وأنا أول المسلمين من هذه الأمة.
المعنـى التفصيلي:
قوله تعالى:"قُلْ": الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل لهؤلاء المشركين معلنًا لهم قيامك بالتوحيد الخالص.
قوله:"إِنَّ صَلاَتِي": الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، والمراد بالصلاة هنا: جنسها، فيدخل فيه جميع أنواعها، فيشمل الفرائض والنوافل، والصلوات كلها عبادة. وقد اشتملت الصلاة على نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، فما كان فيها من السؤال والطلب للهدى والمغفرة والرحمة والرزق فهو من دعاء المسألة، وما كان فيها من الحمد والثناء والتسبيح والتكبير والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات هو من دعاء العبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء الذي هو صلاة لغة وشرعًا.
والصلاة عبادة عظيمة، يجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها من أنواع العبادات القلبيّة والقوليّة والعملية، ففي القلب: الخشوع، والخشية، والإقبال على الله تعالى، وباللسان: التكبير، والتحميد، والثناء على الله، وتلاوة كتابه الكريم، ومناجاة الرب ، وبالجوارح: القيام، والرّكوع، والسجود، والجلوس، ولذلك جعل الله الصلاة عمود الإسلام، وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام.
قوله:"وَنُسُكِي": قال الزجاج:(النُّسك: كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله تعالى، إلا أنّ الغالب عليه أمر الذّبح)، فما يذبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب والعبادة، كهَدْي التمتُّع والقِران، وهَدْي التطوُّع، وهَدْي الجُبران، والأضاحي، والعقيقة، تُسمى نُسُكًا.
والتقرب بالدم لله تعالى عبادة عظيمة؛ لأنّ الذّبائح أو المنحورات من الإبل أو البقر أو الغنم أو الضأن، مما تعظُم في نفوس أهلها، ونَحْرُها تقربًا إلى الله تعالى والصدقة بها عبادة عظيمة، فيها إراقة الدم لله تعالى، وفيها بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحبّ إليها وهو الله تعالى، وفيها الذّل لربه تعالى والتعظيم له، وفيها تعلّق القلب بحسن الثواب من الله ، وفيها طلب البركة، وفيها حسن الظنّ بالله تبارك وتعالى، وفيها التخلص من الشح، والرّغب فيما عند الله سبحانه، بإزهاق نفس عزيزة عند أهلها؛ ولهذا كان النحر والذّبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله تعالى.
والذّبح على وجه التقرُّب كان موجودًا في الجاهلية، فكانوا يذبحون للأصنام، ويذبحون للجن، ويذبحون للكواكب، فيذبحون لغير الله تعالى، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ دينه مخالف لدين المشركين، فالمشركون يذبحون لغير الله، والنبي صلى الله عليه وسلم ومَن اتبعه يذبحون لله وحده لا شريك له، كما أنهم لا يصلُّون إلاَّ لله فكذلك لا يذبحون إلاَّ لله تعالى، وقَرْن النُّسُك بالصلاة يدلّ على أنَّه عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله، والنّسك قد تساهل فيه كثير من الناس فصاروا يذبحون للجنّ طاعة للمُشَعْوِذِين من أجل العلاج بزعمهم!
قوله:"وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي": أي حياتي وموتي؛ أي: التصرف فيّ وتدبير أمري حيًا وميتًا لله تعالى، وما أعمله في حياتي، ومماتي من أعمال الخير ـ ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات ـ لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به.
قوله:"لله": اللام هنا متعلقة بمحذوف خبر "إنَّ" في قوله:"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي" وهي تفيد الاستحقاق.
واللام في اللغة تأتي لمعان واستعمالات:
- فتأتي للمُلك، كما في قوله تعالى:"أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ"[الكهف:79]، يعني: يملكونها.
- وتأتي للاختصاص ـ وهو شبه الملك ـ، وتأتي للاستحقاق، كما في قوله تعالى:"الْحَمْدُ لِلَّهِ"[الفاتحة:1]، يعني: أن جميع أنواع المحامد مستحقة لله .
واللام في قوله تعالى:"صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ" مع أنّها واحدة، لكن يكون معناها برجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات، فإذا أرجعتها للأوليين وهما الصلاة والنسك كان معناها الاستحقاق، وإذا أرجعتها للأخير كان معناها الملك، ولهذا يقول أهل التفسير هنا:"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي" لله استحقاقًا، و"وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي" لله ملكًا وتدبيرًا وتصرفًا، قال الشيخ صالح آل الشيخ ـ حفظه الله ـ في شرح الأصول الثلاثة:(فجمعت هذه الآية بين توحيدي الله جل وعلا: في إلهيته وهو الأول، وفي ربوبيته وهو الثاني. قل إن صلاتي ونسكي لله، هذا توحيد لله جل وعلا في إلهيته، ومحياي ومماتي لله هذا توحيد لله جل وعلا في ربوبيته، فكما أنّه جل وعلا هو مالك محياي ومماتي، فكذلك هو المستحق لصلاتي ونسكي، قال جل وعلا لنبيه قل إن صلاني ونسكي مستحقة لله، ومحياي ومماتي ملك لله جل وعلا:رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، فذكر الربوبية ثم ذكر الألوهية).
قوله تعالى:"رَبِّ الْعَالَمِينَ": والرّب هنا: المالك المتصرف, وهذه ربوبية مطلقة.
والمراد بالعالمين: كل ما سوى الله تعالى، وسموا بذلك؛ لأنَّهم علم على خالقهم وهو الله تعالى.
قوله:"لا شَرِيكَ لَهُ": فيه وجه استدلال ثالث على التوحيد، حيث قال:"لا شَرِيكَ لَهُ": يعني فيما مرّ، أي : لا شريك له في الصلاة والنسك، فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله تعالى أو من دونه، وكذلك لا شَرِيكَ لَهُ في ملكه للمحيا والممات، بل هو المتفرّد سبحانه بأنواع الجلال، وأنواع الكمال، وهو المستحق للعبادة، وهو ذو الملكوت الأعظم.
قوله:"وَبِذَلِكَ": الجار والمجرور متعلق بـ "أُمِرْتُ"، فيكون دالّا على الحصر والتخصيص، وإنّما خص بذلك؛ لأنّه أعظم المأمورات وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنّه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أنَّ من أخلص لله تعالى، فسيقوم بعبادة الله تعالى في جميع الأمور.
قوله:"أُمِرْتُ": إبهام الفاعل، وهذا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا فمن المعلوم أنّ الآمر هو الله تعالى، والمعنى: أمرني ربي بالإخلاص في العبادة، فدل ذلك على أنّ العبادات توقيفية، لا يصلح منها شيء إلا بأمر الله .
قوله:"وأنَا أولُ المُسْلِمِينَ": أنا أول من أقرّ وأذعن وخضع من هذه الأمة لربه بأنَّ ذلك كذلك.
والأولية هنا نسبية؛ لأنّ إسلام كُلّ نبي متقدم على إسلام أمته، وإلا فالرسل والمؤمنون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كُلّهم مسلمون، بمعنى أنّهم مخلصون العبادة لله تعالى، قال الإمام أبو السعود ـ رحمه الله ـ في تفسيره:(وقوله تعالى:"وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين": لبيان مسارعتِه صلى الله عليه وسلم إلى الامتثال بما أُمر به، وأنَّ ما أُمر به ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، بل الكلُّ مأمورون به، ويقتدي به صلى الله عليه وسلم مَنْ أسلم منهم).
وفي الآية كما هو بين عند التأمّل دلائل متعددة على أنّ الذّبح عبادة وصرفه لغير الله تعالى شرك، وهذه الدلائل هي:
1. أنَّ الله تعالى تعبَّد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك كما تعبدهم بالصلاة، فدلّ على أنَّ النّسك عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
2. الذّبح يجب أن يكون لله وحده استحقاقًا، وأنّ الذّبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب تعالى.
3. أنّ الله تعالى أمر عباده أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقرّبوا إلى غير الله بالذّبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكا في عبادته.
4. نفى تعالى أن يكون له شريك في هذه العبادات.
المراجع:
- تفسير الطبري.
- تفسير البغوي.
- تفسير ابن كثير.
- تفسير القرطبي.
- تفسير الشوكاني.
- تفسير السعدي.
- تفسير أبو السعود.
- أضواء البيان.
- المعاجم ( لسان العرب، المعجم الوسيط، مقاييس اللغة).
- شروحات كتاب التوحيد والأصول الثلاثة.
طريقتي في عمل الرسالة:
1. الاعتماد على أسلوب التقرير العلمي والأسلوب الاستنتاجي.
2. العناية بالجانب العقدي في الآية.
3. العناية بالمعنى اللغوى للمفردات.
4. الجمع بين الإجمال والتفصيل.
5. سهولة العبارة.