بَابُ الرَّضَاعِ
بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَمِثْلُهُ الرَّضَاعَةُ
1/1058 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
(عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). الْمَصَّةُ: الْوَاحِدَةُ مِن الْمَصِّ، وَهُوَ أَخْذُ الْيَسِيرِ مِن الشَّيْءِ كَمَا فِي الضِّيَاءِ. وَفِي الْقَامُوسِ: مَصِصْتُهُ بِالْكَسْرِ أَمُصُّهُ وَمَصَصْتُهُ أَمُصُّهُ؛ كَخَصَصْتُهُ أَخُصُّهُ، شَرِبْتُهُ شُرْباً رَفِيقاً.
وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَصَّ الصَّبِيِّ لِلثَّدْيِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لا يَصِيرُ بِهِ رَضِيعاً. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ:
الأَوَّلُ: أَنَّ الثَّلاثَ فَصَاعِداً تُحَرِّمُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ دَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ وَجَمَاعَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ؛ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا، وَحَدِيثِهِ الآخَرِ بِلَفْظِ: ((لا تُحَرِّمُ الإِمْلاجَةُ وَالإِمْلاجَتَانِ))، فَأَفَادَ بِمَفْهُومِهِ تَحْرِيمَ مَا فَوْقَ الاثْنَتَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِجَمَاعَةٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: وَهُوَ أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَآخَرِينَ مِن السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ، وقَالُوا: حَدُّهُ مَا وَصَلَ الْجَوْفَ بِنَفْسِهِ.
وَقَد ادُّعِيَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ مِن الرَّضَاعِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِاسْمِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ وُجِدَ اسْمُهُ وُجِدَ حُكْمُهُ، وَوَرَدَ الْحَدِيثُ مُوَافِقاً لِلآيَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ))، وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ الآتِي.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا؟!)) وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ عَنْ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ. فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ، وَلَكِنَّهَا اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ضَبْطِ الرَّضْعَةِ وَحَقِيقَتِهَا اضْطِرَاباً كَثِيراً، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى دَلِيلٍ.
وَيُجَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِن التَّعْلِيقِ بِاسْمِ الرَّضَاعِ، أَنَّهُ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ الشَّارِعُ بِالْعَدَدِ، وَضَبَطَهُ بِهِ، وَبَعْدَ الْبَيَانِ لا يُقَالُ: إنَّهُ تَرَكَ الاسْتِفْصَالَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لا تُحَرِّمُ إلاَّ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْخَمْسِ، وَبِأَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَرْضَعَتْ سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَيَأْتِي أَيْضاً.
وَهَذَا، وإنْ عَارَضَهُ مَفْهُومُ حَدِيثِ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَانِ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا مَنْطُوقٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِن الْمَفْهُومِ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. وَعَائِشَةُ، وَإِنْ رَوَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآناً؛ فَإِنَّ لَهُ حُكْمَ خَبَرِ الآحَادِ فِي الْعَمَلِ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي الأُصُولِ.
وَقَدْ عَضَّدَهُ حَدِيثُ سَهْلَةَ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلَ صَحَابِيَّةٍ، فَإِنَّهُ دَالٌّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مُتَقَرِّراً عِنْدَهُمْ أَنَّها لا تُحَرِّمُ إلاَّ الْخَمْسُ الرَّضَعَاتِ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الرَّضْعَةِ فَهِيَ الْمَرَّةُ مِن الرَّضَاعِ؛ كَالضَّرْبَةِ مِن الضَّرْبِ، وَالْجَلْسَةِ مِن الْجُلُوسِ، فَمَتَى الْتَقَمَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ وَامْتَصَّ مِنْهُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ عَارِضٍ، كَانَ ذَلِكَ رَضْعَةً، وَالْقَطْعُ لِعَارِضٍ كَنَفَسٍ، أَو اسْتِرَاحَةٍ يَسِيرَةٍ، أَوْ لِشَيْءٍ يُلْهِيهِ، ثُمَّ يَعُودُ مِنْ قَرِيبٍ، لا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا رَضْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّ الآكِلَ إذَا قَطَعَ أَكْلَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ عَادَ عَنْ قَرِيبٍ كَانَ ذَلِكَ أَكْلَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْقِيقِ الرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، فَإِذَا حَصَلَتْ خَمْسُ رَضَعَاتٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَرَّمَتْ.