إِنَّ الرَّسُــولَ لَسَـيْفٌ يُسْتَضَــاءُ بِـهِ مـُهَــنَّدٌ مِن سُــيوفِ اللَّهِ مَسْـلُـولُ
مُهَنَّدٌ: مَنْسُوبٌ إِلَى الهِنْدِ، وكَذَلِكَ الهِنْدِيُّ والهِنْدَوَانِيُّ والهِنْدِيَّةُ أَفْضَلُ سُيوفِ العَرَبِ.
وقَوْلُه: "يُسْتَضَاءُ بِهِ" مَعْنَاهُ يـُهْتَدَى بِهِ إِلَى الحَقِّ. ومِن سُيوفِ اللَّهِ: أي: مِن حُجَجِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِه، يَهْتَدِي بِهِ المُؤْمِنُ، ويَكُونُ حُجَّةً عَلَى الكَافِرِ، يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِه تَعَالَى: {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}. مَسْلُولُ: أي: قَائِمٌ بأَمْرِ اللَّهِ، ظَاهِرُ الحُجَّةِ، وَاضِحُ الدَّلالَةِ.
ويُرْوَى أَنَّ كَعْباً أَنْشَدَ: " مِن سُيوفِ الهِنْدِ". فَقَالَ النَّبِيُّ –عَلَيْهِ السَّلامُ-: مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ.
فـِي فِتْـيةٍ مِنْ قُـرَيْشٍ قَـالَ قَائِـلُهُمْ ببـَطْنِ مَـكَّـةَ لَـمَّـا أَسْـلَمُوا: زُولُوا
الفِتْيَةُ: الفِتْيَانُ والفُتُوُّ كُلُّه جَمْعُ فَتًى، والفَتَى: السَّخِيُّ الكَرِيمُ. يُقَالُ فَتًى بَيِّنُ الفُتُوَّةِ، فالفَتَى هو الكَرِيمُ وإِنْ كَانَ شَيْخاً. و"مِن قُرَيْشٍ" صِفَةُ فِتْيَةٍ، وكَذَا " قَالَ قَائِلُهُم". ولَمَّا ظَرْفٌ. و"أَسْلَمُوا" خُفِضَ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. و"زُولُوا" مَفْعُولُ " قَالَ قَائِلُهُم" أي: أَحَدُهُم، يَعْنِي عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ. و"زُولُوا": انْتَقِلُوا مِن مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ, يَعْنِي الهِجْرَةَ.
"فِي فِتْيَةٍ" مُتَعَلِّقٌ بِـ مَسْلُولُ، أي: حُجَّةُ النُّبُوَّةِ قَائِمَةٌ فيهم وهم يَضْرِبونَ بها، ويَذُبُّونَ عَنْ حَوْزَتِهَا، ويَرْفَعُون مَنَارَهَا، ويُشْهِرُونَ شِعَـارَهَا.
زَالُــوا فَمَا زَالَ أَنْــكَاسٌ ولا كُشـُفٌ عِــنْدَ اللِّقَـاءِ وَلا مِيـــلٌ مـَعَازِيــلُ
أَنْكَاسٌ: جَمْعُ نَكْسٍ، وهو الرَّجُلُ الضَّعِيفُ المَهِينُ، شـُبِّهَ بالنَّكْسِ مِن السِّهَامِ وهو الذي انْكَسَرَ فجُعِلَ أَعْلاهُ أَسْفَلَهُ، والنَّكْسُ: المُتَوخِّرُ في الحَرْبِ، والكُشُفُ: جَمْعُ أَكْشَفَ، وهو الذي لا تُرْسَ مَعَهُ، والمِيلُ: جَمْعُ أَمْيَلَ وهو الذي لا يُحْسِنُ الرُّكُوبَ، ولا يَسْتَقِرُّ عَلَى السَّرْجِ. والأَمْيَلُ: هو الكِفْلُ، قَالَ الشَّاعِرُ يَذُمُّ قَوْماً:
لـَمْ يـَرْكَبُوا الخَيـْلَ إِلاَّ بَـعْدَ مَا هَرِمُوا فَـهُمْ ثـِقالٌ علَـى أَكْـفَـالِهَا مِيـــلُ
والمَعازِيلُ: جَمْعُ مِعزَالٍ وهو الذي لا سَلاحَ مَعَهُ. والمَشْهُورُ رَجُلٌ عُزُلٌ، ومنه السِّماكُ الأَعْزَلُ إِذْ لا رُمْحَ مَعَه, كَمَا للسِّمَاكِ الرَّامِحِ.يَقُولُ: زَالُوا عَنْ مَكَّةَ فَمَا زَالَ عَنْهَا أَنْكَاسٌ، أي: لم يَخْرُجُوا عَنْهَا ذُلاًّ ولا فَرَقاً، بَلْ طَاعَةً لأَمْرِ اللَّهِ تعَالَى.
شـُمُّ العَـرَانِينِ أَبْـطَالٌ لَبـُوسـُـهُمُ مِن نَسْــجِ دَاوُوُدَ فِي الهَـيـْـجَا سـَرَابِيـلُ
الشُمُّ: جَمْعُ أَشَمَّ، وهو الذي في أَنْفِه عُـلُوٌّ في قَصَبَتِه مَعَ اسْتِواءِ أَعْلاهُ، فإِنْ كَانَ فِي القَصَبَةِ احْدِيْدَابٌ فهو القَنَا. وأَصْلُ الشَّمَمِ الارْتِفَاعُ. والعَرَانِينَ: الأُنُوفُ. والأَنْفُ الأَشَمُّ: دَلِيلُ السُّؤْدَدِ. ويُقَالُ جَبَلٌ أَشَمُّ إِذَا كَانَ طَوِيلَ الرَّأْسِ. والأَبْطَالُ: جَمْعُ بَطَلٍ وهو الذي تَبْطُلُ عِنْدَه الدِّمَاءُ، أو يَبْطُلُ مَعَهُ الحِيَلُ.
"وشُمُّ العَرَانِينِ " رَفْعٌ بأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أي: هُمْ شُمُّ العَرَانِينِ. ولَبُوسُهُم: هِيَ الدُّرُوعُ الَّتِي يَتَّخِذُونَها للُبْسٍ في الحَرْبِ. "مِنْ نَسْجِ دَاوُوُدَ"؛ لأَنَّهُ صَانِعُهَا. وسَرَابِيلُ: جَمْعُ سـِرْبَالٍ, وهو القَمِيصُ، أي: لُبُوسُهُم سَرَابِيلُ مِن نَسْجِ دَاوُودَ.
بِيـضٌ سـَـوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حـَلَقٌ كَأَنـَّهَا حـَلَقُ القَفْــعَاءِ مَــجْدُولُ
"بِيضٌ سَوَابِغُ" صِفَةٌ لـ سَرَابِيلُ. وبِيضٌ: مَجْلُوَّةٌ, وهو لَوْنُ الحَدِيدِ. والسَّوَابِغُ: الطِّوَالُ الصَّافِيَةُ. وشُكَّتْ: أُدْخِلَ حَلَقُهَا بَعْضُهَا في بَعْضٍ، وإِنَّما يَكُونُ ذَلِكَ في الدُّرُوعِ المُضَاعَفَةِ، وأَصْلُ الشَّكِّ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، يُقَالُ [شَكَّهُ] بالرُّمْحِ. ويُرْوَى "سـُكَّتْ" بالسِّينِ المُهْمَلَةِ, ومَعْنَاهُ "ضُيِّقَتْ"، يُرِيدُ أَنَّ حَلَقَ الدُّرُوعِ مُضَايَقٌ بَيْنَها. والقَفْعَاءُ:شَجَرَةٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كحَلَقِ الدُّرُوعِ. والمَجْدُولُ: المُحْكَمُ [الصَّنْعَةِ].
و"قَدْ شُكَّتْ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لـ "سَرَابِيلُ". و"كَأَنَّهَا حَلَقُ القَفْعَاءِ" صِفَةٌ, "حَلَقُ" و"مَجْدُولُ" صِفَةٌ أُخْرَى، وذَكَرَه عَلَى المَعْنَى, ويَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى لَبُوسِهِم أي: هو مَجْدُولٌ.
لا يَفْـرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُــهُمُ قَـوْماً، وَلَيْــسُوا مَجَـازِيـعـاً إِذَا نِيــلُوا
يَصِفُهُم بالشَّجَاعَةِ، وكِبَرِ الهِمَّةِ، وشِدَّةِ الصَّبْرِ والاحْتِمَالِ، وقِلَّةِ المُبَالاةِ بالمَصَائِبِ، وعَدَمِ الاكْتِرَاثِ لَهَا، فإِذَا ظَفَرُوا وغَلَبُوا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهم فَرَحٌ، وإِذَا غُلِبُوا لَمْ يَجْزَعُوا ولَمْ يَعُرَّهُم هَلَعٌ ولا رَجْفَةٌ. والمَجَازِيعُ: جَمْعُ مِجْزَاعٍ، وهو الذي يَكْثُرُ مِنْهُ الجَزَعُ.
لا يَقَـعُ الطَّـعْنُ إِلاَّ في نـُـحُورِهُمُ وَمَا لَـهُمْ عَـنْ حِيـاضِ المَــوْتِ تَهْــلِيلُ
هَذَا يَتَّصِلُ بِمَا سَبَقَ فِي تَكْمِيلِ شَجَاعَتِهِم، وهو أَنَّهُم لا يُولُّونَ الأَدْبارَ فَلا يَنَالُ عُدُوُّهُم مِنْهم إلاَّ نُحورَهُم، وما لهم عن حِياضِ الموتِ نُكُوصٌ ولا تَأَخُّرٌ، أي: لا يَنْهَزِمُونَ أَصْلاً، فكَيْفَ يَصِلُ الطَّعْنُ إِلَى ظُهُورِهِم. يُقَالُ هَلَّلَ عَنْ كَذَا: إِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ. والمَوْتُ يُسْتَعَارُ لَهُ الحَوْضُ، والكَأْسُ، والمشرعُ، والمَنْهَلُ، فإِنَّ النَّاسَ يَشْرَبُونَهُ، ويَرِدُونَهُ، ويَذُوقُونَهُ، ويَتَجَرَّعُونَه.
يَمْشُــونَ مَشْيَ الجِـمَالِ الـزُّهْرِ يَعْصِمُهُم ضَــرْبٌ إِذَا عَـرَّدَ السـُّـودُ التَّـنَـابِيـلُ
يَصِفُهُم بامْتِدَادِ القَامَاتِ، وعِظَمِ الخَلْقِ، وبَيَاضِ البَشَرَةِ والرِّفْقِ فِي المَشْيِ، وتَجَنُّبِ السُّرْعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الهَوَجِ والطَّيْشِ، وهذه المِشْيَةُ تَدُلُّ عَلَى الوَقَارِ والسُّؤْدَدِ، وهِيَ مِشْيَةُ الرُّؤَسَاءِ والسَّادَاتِ. والزُّهْرِ: جَمْعُ أَزْهَرَ وهو الأَبْيَضُ. يَعْنِي أَنَّهم سَادَاتٌ لا عَبِيدٌ, ولا مِن الأَعْرَابِ والأَطْرَافِ، فإِنَّ سَادَاتَ مَكَّةَ الغَالِبُ عَلَيْهِم اللَّوْنُ الأَزْهَرُ. و"مَشْيَ الجِمَالِ" صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. ويَعْصِمُهُم ضَرْبٌ: يَمْنَعُهُم ويَحْمِيهِم، مِن قَوْلِه سُبحانَهُ وتعالَى: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ}. أي: يَمْنَعُنِي. وعَرَّدَ وهَلَّلَ وفَرَّ بِمَعْنًى. والسُّودُ: جَمْعُ أَسْوَدَ. والتَّنَابِيلُ: جَمْعُ تِنْبَالٍ. وهو القَصِيرُ وهو أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى تِفْعَالٍ كالتِّقْصَارِ.
وقَوْلُه "يَعْصِمُهُم" فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ. ومَعْنَى يَعْصِمُهُم ضَرْبٌ: يَحْمِيهِم ضَرْبُهُم أَعْدَاءَهُم أي: ضَرْبُهُم يَكُفُّ الأَعْدَاءَ عَنْهُم، وهم في تلك الحَالِ يَتَهادَوْنُ ولا تَطِيشُ أَحْلامُهم.
وَلا وَصْفَ بالشَّجَاعَةِ أَكْمَلُ مِن أَنْ يَمْشُوا فِي الحَرْبِ رُوَيْداً، ويَضْرِبُوا الأَعْنَاقَ بِلا طَيْشٍ ولا خـُرْقٍ، بَلْ مَعَ وَقَارٍ، وثُبُوتِ جَأْشٍ، ورَزَانَةِ حصاةٍ، وحُضُورِ رَوِيَّةٍ، وأَنَاةٍ، ومَعْرِفَةٍ بمواقعِ الطَّعْنِ والضَّرْبِ، وجَوْدَةٍ بحُسْنِ المُخَاتَلَةِ وانْتِهَازِ الفُرْصَةِ، ولطافَةِ المتاقاتِ والمُحَاذَرَةِ.
بهذا القَدْرِ كَافٍ، واللَّهُ –سبحانه- كَافِيكَ، وخَاطِرُكَ غَارِمٌ مَا فَاتَ خَاطِرِي، وعِلْمُكَ مُسْتَدْرِكٌ مَا فَاتَ فِيهِ قَلَمِي، وبإِحْسَانِكَ تَشْكُرُ عُجَالَتِي، وبرَوِيَّتِكَ تُفَصِّلُ مَا أَجْمَلَتْهُ بدَاهَتِي. فأَعْذَبُ قَوْلِي مَا سَمَحَتْ بِهِ المَلَكَةُ رَهْواً، وجَاءَتِ القَرِيحَةُ بِهِ سَهْواً، وخَلِيَ عَنْ بشَاشَةِ التَّصَنُّعِ، وسَمَاجَةِ السَّرْقِ والتَّتَبُّعِ، وبَعُدَ عَن غُنَّةِ المُتَعاطِي وقُصُورِ المتطاولِ، وتَرَفَّعَ عـن لُكْنَةِ المُتَفَاصِـحِ وهَجْنَةِ المُتَشَادِقِ، وتَنَزَّهَ عَنْ تَرْقِيعِ الخَلِقِ، وتَلْفِيقِ غَيْرِ مُتَّفِقٍ، أعاذنا اللَّهُ وإِيَّاكَ مِن كَلامٍ الصَّمْتُ مِنْهُ أَسْلَمُ، ومن نـُطقٍ الخَرَسُ منه أَفْضَلُ. والحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ المُؤَرَّخُ بِهِجْرَتِه، المُخْتَتَمُ بدَعْوَتِه، وعَلَى آلِهِ وعِتْرَتِه. انْتَهَى
وإِنْ تَـجِـدْ عَيْــباً فسُـدَّ الخَـللاَ [قـَدْ] جَـلَّ مَن لا عَيْـبَ فِيـهِ وعَــلاَ