أما قوله صلى الله عليه وسلم ((رباط يوم في سبيلِ الله خير من الدنيا وما عليها)) . فقدْ تكاثرتْ الأحاديث في فضل الرباط , وقيل: ما المراد بالرباط الذي أمر الله تعالى بِه ؟ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} , وفي هذا الحديث:((رباط يوم في سبيل اللهِ خير من الدنيا وما عليها)). فُسِّر الرباط بأنه ملازمة الثغور المخوفة ، التي يأتي منها العدو ، وكانوا عادة يقفُ المرابطون في الثغر الذي يخاف أن الأعداء يأتون منه ، فيبيتون المسلمين على غرة وغفلة ، فهؤلاء الذين يلزمون هذا الثغر كأنهم فدائيون ؛ لأنهم متعرضونَ للقتلِ ، ومتعرضون لأنْ يفجأهم العدو ، فيحصل بينهم قتال ، وهم أعدادٌ قلة ، ققد يكونون مثلا أربعين أو مائة أونحو ذلك ، والعدو يأتيهم بغتة بقوات عديدة ، وبجيوش متكاثفة ، فيحصل أنه يتغلَّب عليهم ، ولكن هؤلاء المرابطون كأنهم إذا أحسوا بالعدوِّ بحركته قد أقبل وبجيوشه قد جاءت ، أرسلوا من ينبه المسلمين والجيوش التي في الأمكنة ، أن العدو قد جاءكم فاستعدوا له ، واذهبوا وقابلوه قبل أن يقابلكم , وقبل أن يدخل في بلادكم ويتمكن .
فهذه فائدة هؤلاء المرابطين . وقد فسر الرباط الذي في الآية: {اصبروا وصابروا ورابطوا} بأنَّه ربط النفسِ علىطاعةِ اللهِ تعالى ، ومن ذلك المرابطة على أداء الصلوات والمحافظة عليه ، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على مايرفع الله به الدرجات ، ويكفر به الخطايا)) . قالوا: بلى يا رسول الله . قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاةِ بعد الصلاةِ ، فذلكم الرباط , فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط)) . هكذا عدَّ هذه الخصال من الرباط ، وعدها مما يرفع الله به الدرجات ، ويكفر بها الخطايا . وإذا قلتَ: كيف كانت هذه رباطًا ؟ نقولُ: لأن هذا المسلم قد ربط نفسه على طاعةِ الله وأوثقها ، والتزم بأن يحافظ على الصلوات ، ويتكرر إلى المساجد ، ويكثر الخطوات نحوها ، ويسبغ الوضوء على شدته ، وينتظر الصلوات ، كلما صلَّى صلاة انتظر ما بعدها ، فأصبح من المرابطين ، فيحظى بهذا الأجر .((رباط يوم في سبيل الله)) , وإن كان الحديث سببه أو جاء على المرابطةِ ، التي هي ملازمة الثغور .
ولا شك أيضًا أن من انتظم في سلك الجهاد ، وغزا في سبيل الله , وتقابل مع الأعداء وثبت في الصفوفِ ، وصبرَ عند المجابهةِ والمقابلةِ ، وعرَّض نفسه لقذائف الأعداء ولسهامهم وللقتل- أنه يعد من المرابطينَ ، وأيُّ خصلة أكبر من كونه عرَّض نفسه أو عرضها أمام سهام الأعداء وأمام قذائفهم وخاطر بها , ولكنَّه يرجو ماعند الله تعالى .
الثواب الذي رتب في هذا قوله: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) . ورد أيضا في حديث أن ((تمام الرباط أربعون يوما)) . يعني الذي يرابط في الثغر ويلازمه إذا تم أربعين يوما فقد أدى ماعليه , فعلى أمير الجيش أن يبدله بغيره ؛ لأنه قد أدَّى جزء كبيرا من الصبر والمصابرة .
في الحديث هذا يرغب صلى الله عليه وسلم في الأعمال الخيرية ، فيقول: ((موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)) . من حصل له من الجنة موضع السوط , السوط هو العود الذي يرمون به ، أو الذي يضربون به ، العصا التي يضرب بها , السوط أو نحوه ، موضعه قدر ذراع أو ذراعين ، خير من الدنيا وما عليها ، خير من أن تحصل له الدنيا وما عليها .
ثم يقول: ((الغدوة والروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)) . الغدوة هي المسير أول النهار ، والروحة المسير آخر النهار ، يقول: إن الغازي إذا سار في سبيل الله من أول النهار إلى وسط النهار فمسيرته هذه أجره فيها أكبر من أن تحصل له الدنيا وما عليها ، وكذلك لو سار من وسط النهارِ إلى آخر النهارِ روحة ، خير له من الدنيا وما عليها ، فتبين بذلك فضيلة هذه الأعمال .
وورد أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة - يعني بمثل هذا الحديث - خير من الدنيا وما عليها)) . فيرغب في أن المسلم ينتظم في الجهاد ،وأنه يجاهد فيه . ومعلوم أن الجهاد مشروع ، مادام أن هناك عدو كافر ، وأنه ما دام أن هناك من يقاتل المسلمين ، وهناك من يفتك بالإسلام وبأهله ، فالإسلام يحث الأفراد على أن يغزوا في سبيل الله ، ويقاتلوا من كفَرَ بالله ، حتى يذلَّ الكفر وأهله ، وينتصر الإسلام والمسلمون .
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
فضل المجاهد في سبيل الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: ((انتدب الله – ولمسلم: تضمن الله – لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وإيمان بي ، وتصديق برسلي ، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة)) . ولمسلمٍ:((مثل المجاهد في سبيل الله ، والله أعلم بمن جاهد في سبيله, كمثل الصائم القائم . وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفَّاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)) .
وعن أبي هريرةَرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم ، والريح ريح المسك)) .
الشيخ: هذه في فضل الجهاد في سبيل الله . قد عرفنا أن الجهاد هو قتال الكفار ، وأنه يستدعي غالبا خروجا من البلاد ، وسفرا طويلا أوقصيرا ، ويستدعي تزودا بالمال ، ثم يستدعي مقابلة الكفار والتصدي لهم ، ويستدعي الاستعداد للموتِ وللقتلِ ، حيث أن المقاتِل ينصب نفسه أمام العدوِّ ، إما أن يَقتل وإما أن يُقتل ، فهو قادم على ذلك , فكأنه قد فدى بنفسه ، وكأنه قد عزمَ على أن يخوضَ هذه المعركة ليحصل ما حصل ، وأغلى شيء عنده نفسه ، وقد بذلها لله تعالى ، فلا جرم كان أجره أكبر ، قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا} فلذلك حازَ هذا الفضل .
في هذا الحديث قوله: ((انتدب الله)) . وفي رواية:((تضمَّن الله)). وفي رواية:((توكَّل الله)). يعني وعد وعدا صادقًا ، وهو لا يخلِفُ وعده ، أنَّ من خرج في سبيل الله للجهاد في سبيله ، أنه لا يعدم إحدى الحسنيين: إمَّا الجنة إذا قتل شهيدا ، وإمَّا أن يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة ، من أجر يحصل عليه مقابلَما حصلَ عليه من التعب والنصب ، يحصل على أجر وعلى ثواب .
وقد ورد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا ومَا عليها)) ، خير من الدنيا . الغدوة: هي السير أول النهار . والروحة: آخر النهار ، أي من سار نصف نهارٍ غازيًا فإن مسيره هذا خير له من أن تحصل له الدنيا بحذافيرها ، وكذلِكَ من راح يعني سار .. أو آخر النهار ، ، فهذا دليل على أنه يحصل على أجر .
ورد في حديث آخر: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار)) . أو كما في الحديث ، ولما سمع جمع من المجاهدين هذا الحديث نزلوا عن رواحلهم ، وساروا على أقدامهم ؛ يريدون أن تغبَّر أقدامهم ، حيث أنهم قصدوا بذلك الغزو في سبيل الله حتى لا تمسهم النار .
هذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله , فقوله: ((تضمن الله لمن خرج في سبيله والله أعلم بما يجاهد في سبيله ، إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى أهله بما نالَ من أجرٍ أو غنيمةٍ)) . لا شك أنه إذا توفي وهو خارج في هذا السبيل ، أن أجره كبير ؛ وذلك لأنه خرج للجهاد في سبيل الله , فيكون على أجر ، إن سارَ كتب له مسيره ، وإن قال كتب له مقيله ، وإن باتَ كُتب له مبيته ، وكذلك مقابلته للأعداء ونحو ذلك , تُكتب له حسنات .
كذلك أيضا قد ورد أنه يكتب له كل أوقاته التي عملها . لكن يقول في هذا الحديث:((والله أعلم بما يجاهد في سبيله)) . يعني ليس كل من خرج يصير مجاهدا ، فقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية ، ويقاتل رياء , ويقاتل للمغنمِ ، أي ذلك في سبيل اللهِ ؟ قال:((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللهِ)) . فالذي يقاتل حميةً لقبيلة على قبيلة ، أو يقاتل عصبيةً لدولة على دولة ، أو لفئةٍ على فئة ، لا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار ، وإنما يقاتلهم ليستغلب عليهم ، أو ليستولي على بلادهم ، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ، ومن آثاره ،أو يقاتلهم ليرى مكانه ، أو نحو ذلك , فما هذا من المجاهدينَ في سبيل اللهِ ، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام ، نصر دين الله تعالى ، يستحضر قوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} , وقوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله} , فالنصرُ نصرُ لله ولرسوله ولدينه ، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله ، لذلك قال: ((والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)) .
وبكل حال ضمن الله له أنه إذا مات أن يدخله الجنة ، بل قد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .ونكمل بعد الأذان .
يقول في هذه الحديث:((إن توفَّاه أن يدخِلَه الجنة)) . وقد وردَ في القرآنِ أن الذين قتلوا في سبيلِ الله أحياءٌ عند ربهم يرزقون , وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أرواح الشهداء في أجوافِ طيرٍ خضرٍ, تعلق في شجر الجنة ، تأوي إلى قناديل معلَّقة في الجنة ، وهكذا حتى ترد إلى أجسادِها ، فهذا صفة الحياة التي ذكر الله تعالى أنهم {أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله}.
ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله يتعرضون للموت ، يتعرضون للجراح ، يتعرضون للإذلالِ أو مثلا الاستيلاءِ ، أو الأسر أو العذاب من المشركين ، ولكن يحملهم الثقة ، ويحملهم محبة الاستشهاد ، ، أو محبة إظهار الإسلام ونصره ، وإعلاء كلمة الله تعالى , فلأجل ذلك عظُمَ أجرهم وكثر ثوابهم على هذا القصد , كونهم يعرضون أنفسم لذلك .
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من جملة الذين يغزون في سبيل الله ، وكان هناك علماء بمكة يتعبدون ، ويتقربون بأنواعِ العبادة ، فأرسلَ ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض أبياتًا يخبره فيها بعمل المجاهدين ، يقول فيها:
ياعابد الحرمين لو أبصرتنا = لعلمتَ أنك في العبادة تلعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا = رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا = قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في = أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا = ليس الشهيد بميت لا يكذب
يصف فيه حالتهم ، أنكم أيها العباد تتعبَّدون في الحرمين ، وأنكم تتطيبون بأنواع الطيب وأنواع العبير ، وأما نحن فنتطيب بالغبارِ ، بالغبارِ الذي ينالنا في سبيل الله ، وأن هذا الغبار أنه سبب مما نتطلبه , إذا كان النبي عليه السلام قال: ((لا يجتمع غبار خيل الله ودخان النار في جوف امرئ)) . فهذا ما نطلبه . فهذا ونحوه من جملة ما يرغبهم في الجهاد في سبيل الله.
أما قولُه صلى الله عليه وسلم: ((ما من مكلومٍ يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم , والريح ريح المسك)) . الكلم: هو الجرح .
... أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم, والريح ريح المسك)) . الكلم: هو الجرح . والكلوم: هي الجروح , يعني أن المجاهد في سبيل الله إذا أصابه جرح ، أو أصابته شجة وخرج منه دم , فإن ذلك الدم ولو التأم , وذلك الجرح ولو برئ في الدنيا ، ولو سلم من آثاره فإنه إذا جاء يوم القيامة رؤي أثره عليه مثل لون الدم ، ولكن ريحه ريح المسك , يعرف أن هذا ممن جرح في سبيل الله .
ولا يحصل له ألم , إذا كان الجرح مثلا في ذراعه ، ويرى أن هذا يثعب منه هذا اللون الذي لونه لون دم ، ولكن لا يؤلمه ، ولا يحس به ، بل يجد رائحته رائحة عبقة , رائحة طيبة , يجدها أيضا غيره ، ويحس بها , وهذه ميزة وعلامة له . وكذلك لو كانت الشجة في رأسه ، أو في وجهه، أو في موضع من مواضع جسده ، وكذلك لو كثرت هذه الشجاج ، أو هذه الجروح- فإنها كلها تأتي ولونها لون دم . تثعب: بمعنى أنها يخرج منها هذا السائل دون أن يكون له ألم ، فهذا من فضل الجهاد في سبيل الله .
إذا كان هذا في جرح واحد ، فكيف بمن جرح جروحا كثيرة , وإذا كان هذا في جرح فكيف بمن قطع أحد أطرافه, إذا قطعت يده ، أو فقئت عينه ، أو قطع أصبع من أصابع يديه أو رجليه أو نحو ذلك , فإن أجره يكون أكثر . إذا كان هذا في فقد عضو أو جرح أو نحو ذلك , فأعظم من ذلك أن يفقد نفسه ، يعني أن يستشهد , يقتل في سبيل الله , فإنه والحال هذه أعظمُ أجرا ، وأكثر ثوابا .
ويدخل في ذلك أيضا نفقته ، أي ما ينفقه في سبيل الله ، ويجهز به الغزاة في سبيل الله , فإنه ورد في الحديث أن ((من جهز غازيا فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)). فأصبح هذا الغزو الذي هو جهاد في سبيل الله يكون جهادا بالنفس ، وجهادا بالمال ، وتجهيزا للغزاة , وخلفا لهم في أهليهم بخيرٍ, وكل ذلك دليل على سعة فضل الله تعالى وكثرة جوده على عباده .
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . قال المؤلف رحمه الله تعالى:
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت)) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) .
الشيخ: في هذه الأحاديث فضل الخروج في سبيل الله للجهاد ، وفيها بعض أحكام الجهاد , الأحكام التي لها صلة بالقتال في سبيل الله ، ففي الحديث الأول ((غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس)). وفي الحديث الثاني ((غدوة في سبيل الله خير من الدنيا ، وما عليها)) . والمعنى واحد . الغدوة: المسير أول النهار , من أول النهار يعني من طلوع الشمس إلى نصف النهار يسمى غدوا , كما في قوله: {وإذ غدوت من أهلك} , فالغدو هو المسير أول النهار .والروحة: المسير آخر النهار , أي: من زوال الشمس إلى غروب الشمس يسمى رواحا ، ويسمى المسير فيه روحة .
كانوا يسافرون لهذه الأمور , للقتال في سبيل الله ، فكانوا يقطعون ليالي وأياما يقطعونها في السير على أقدامهم ، أو على خيولهم ، أو على إبلهم لأجل الغزو ، ولأجل الإتيان إلى المشركينَ حتى يقتلوهم ، وحتى يقاتلوهم في عقر دارهم , فأخبر بأنكم إذا سرتم نصف يوم في سبيل الله كان ذلك خيرا لكم أجره من أن تحصل لكم الدنيا بحذافيرها ، من أن يحصل لكم ما تطلع عليه الشمس أو تغرب , وما ذاك إلا أن هذا ولو كان مسيرا عاديا وسفرا عاديا ، ولكنكم سافرتموه لأجل القتال في سبيل الله ، لأجل نصرة دين الله ، ولأجل قتال من كفر بالله ولو لم تبدأوا في القتال ، ما زلتم تسيرون من بلادكم متوجهين إلى بلادهم , فكل يوم أو نصف يوم تسيرونه ثوابه خير لكم من أن تحصل الدنيا ، وما فيها , أن يحصل لكم ثواب الدنيا .
ولا شك أن هذا دليل على أهمية السير في سبيل الله الذي هو الغزو . وكانوا كما ذكرنا قد يسيرون شهرا متوجهين إلى البلاد التي فيها الكفار , إذا ساروا مثلا من المدينة إلى الشام لا يقطعونها إلا في خمس وعشرين يوما ، أو ثلاثين يوما حتى يصلوا إلى بلاد المشركين , كل نهار فيه غدوة وروحة خير لهم من الدنيا وما فيها .
ومعلوم أن القصد هو وصولهم إلى البلاد الكفرية ، وصمودهم عند .. أمام المشركين ، وقتالهم لهم وتوجههم نحوهم، ومبادرتهم ، أو بدؤهم بالقتال ، وصبرهم أمام العدو , هذا هو المقصود , ليس السير إلا وسيلة من الوسائل , فإذا كان السير الذي هو وسيلة من الوسائل فيه هذا الأجر ، وهذا الثواب , فلا شك أن ما سواه وهو الصمود للقتال ، والبدء بهوالصبر عليه وتعريض النفس للقتل ,وكذلك تعريض المال للسلب وللنهب , أن ذلك أكثر أجرا وأعظم ثوابا , وما ذاك إلا أنه هو المقصد ، فالوسيلة هذا فضلها , والمقصد هذا فضله وهذا أجره , أي أجره أكثر وأعظم .