وآلَفُ وَجْهَ الأرضِ عندَ افْتِرَاشِها = بأَهدأَ تُنْبِيهِ سَنَاسِنُ قُحَّلُ
الأهدأُ الشديدُ الثابتُ، و"تُنْبِيهِ" أيْ تَرفعُه وتُبعِدُه، يقالُ: نَبَا عَنِّي, أيْ تَباعَدَ، والسناسِنُ حُروفُ فَقارِ الظَّهْرِ، وهي مَغارِزُ رُؤوسِ الأضلاعِ, و"قُحَّلُ" أيْ جَافَّةٌ يَابِسَةٌ، والْمُنْقَحِلُ الرجُلُ اليابِسُ الْجَلْدُ، السيئُ الحالُ.
والمعنى أَنِّي قد أَلِفْتُ وجْهَ الأرضِ، مع ما أنا فيه مِن الْجَهْدِ وسوءِ الحالِ، وأَلْزَمُ قُوَّتِي على هذه الحالةِ.
و"آلَفُ" مُستأنَفٌ لا مَوْضِعَ له، وهو حكايةُ حالِه، وليس المرادُ أَنِّي سأفعَلُ هذا في المستقبَلِ، فقد لا يَحصُلُ بذلك مدْحٌ، إذ ليس بلازِمٍ، ووجْهُ الأرضِ مفعولٌ به، وليس ظَرْفاً, بل كما تَقولُ: أَلِفْتُ الخيرَ، و"عندَ" فيها لغاتٌ ثلاثٌ، أفْصَحُها عِندَ بكسْرِ العينِ وسكونِ النونِ، وهي ظرْفٌ للزمانِ والمكانِ، وهي هنا ظرْفُ زمانٍ، والتقديرُ: زمانَ افتراشِها، وافتراشُها مصدَرٌ مُضافٌ إلى المفعولِ، تقديرُه: افْتراشِي إيَّاها، كقولِك: عجِبْتُ مِن أكْلِ الخبزِ زيدٍ، أيْ: مِن أكْلِ زيدٍ الخبزَ، ومنه قولُه تعالى: {لاَ يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ} أيْ مِن دُعائِه الخيرَ، و"أهدأَ" صفةٌ لمحذوفٍ، أيْ بِمَنْكِبٍ ثابتٍ، وموْضِعُ "بأهدأَ" حالٌ تقديرُه: أَنامُ مُسْتَلْقِياً، أو مُلْقِياً مَنْكِبِي، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في "آلَفُ"، وأهدأُ لا يَنصرِفُ لوزْنِ الفعْلِ والصفةِ، و"تُنْبِيهِ" نَعتٌ لـ "أَهْدَأَ"، أيْ: مرتفِعٌ, ويَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "أهدأَ".
وأَعْدِلُ مَنحوضاً كأنَّ فُصوصَهُ = كِعابٌ دَحاها لاعِبٌ فَهْيَ مُثَّلُ
أَعْدِلُ أيْ: أتَوَسَّدُ ذِراعاً، أو أُسَوِّي تحتَ رأسِي ذِارعاً، والمنحوضُ الذي قد ذَهَبَ لحمُه، والفعْلُ منه نُحِضَ، على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فهو مَنحوضٌ، يُريدُ: أتَوَسَّدُ ذِارعاً قد ذَهَبَ لَحْمُه، وفصوصُه منتهى العظْمِ عندَ الْمِفْصَلِ مِن كلِّ جانبٍ، ودَحاهَا بَسَطَها، و"مُثَّلُ" منْتَصِبَةٌ.
وأَعْدِلُ معطوفٌ على "آلَفُ"، وهي حكايةُ حالِه كما سَبَقَ في "آلَفُ"، و"مَنحوضاً" مفعولُ "أعْدِلُ"، أيْ أتَوَسَّدُ ذِراعاً قَليلَ اللحمِ، وكأنَّ وما عمِلَتْ فيه حالٌ مِن الضميرِ في "مَنحوضاً"، ويَجوزُ جَعْلُه نَعتاً لِـ "مَنحوضاً"، ودَحَاهَا نَعتٌ لكِعابٍ، "فَهْيَ مُثَّلُ" مبتدأٌ وخَبَرٌٍ لا مَوْضِعَ له؛ لأنَّ الفاءَ تَمْنَعُ مِن ذلك.
فإنْ تَبْتَئِسْ بالشَّنْفَرَى أُمُّ قَسْطَلٍ = لَمَا اغْتَبَطَتْ بالشَّنْفَرَى قبلُ أطْوَلُ
تَبتئسُ تَحْزَنُ وتَكْرَهُ، قالَ حَسَّانُ بنُ ثابتٍ الأنصاريُّ رَضِيَ اللهُ عنه:
ما يَقْسِمُ اللهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ منه وأَقْعُدْ كَريماً خالِيَ البالِ
وأُمُّ قَسْطَلٍ الحربُ، سُمِّيَتْ بذلك لأنَّ الحربَ تُثيرُ القَسْطَلَ, وهو الغبارُ, وتُوَلِّدُه، فلذلك نُسِبَتْ إليه، الغِبْطَةُ حُسْنُ الحالِ، والفعْلُ منه غَبَطْتُهُ أَغْبِطُه غَبْطاً، إذا تَمَنَّيْتَ مثلَ حالِه مِن غيرِ أنْ تُريدَ زَوَالَها, قالَ الشاعرُ:
وبينَما المرءُ في الأحياءِ مُغْتَبِطٌ = إذا هو الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الأَعاصيرُ
أيْ مَغبوطٌ في الأحياءِ.
والمعنى: إنْ حَزِنَتِ الحربُ لمفارَقَةِ الشنْفَرَى لها الآنَ فطالَمَا اغتَبَطَتْ به قبلُ، الباءُ للسببيَّةِ، أيْ بسببِ فِراقِ الشنْفَرَى، وجوابُ الشرطِ "لَمَا"، و"لَمَا" هذه جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، وتقديرُه: واللهِ لَمَا اغتَبَطَتْ.
والشرْطُ مُوَطِّئٌ للقَسَمِ، وفي الحقيقةِ القسمُ المقدَّرُ مع جوابِه جوابُ الشرْطِ كقولِك: إنْ جاءَ زيدٌ واللهِ لأُكْرِمَنَّهُ، والذي يَقعُ مِن هذا النمَطِ مُوَطِّئاً للقَسَمِ، يَأتي باللامِ غالِباً، وكأنه لَمَّا حَذَفَ القسَمَ، وموضوعُه لتأكيدِ ما يُخْبَرُ به، أَتَى باللامِ في الشرْطِ للتأكيدِ عِوَضاً مِن الحذْفِ، ومنه قولُه سُبحانَه وتعالى: {وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} و {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وقد جاءَ بغيرِ لامٍ قالَ تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} و"ما" في "لَمَا" يَجوزُ أنْ تكونَ مَصدريَّةً، أيْ لاغتباطِها، ويَجوزُ أنْ تكونَ بمعنى الذي، أي الذي اغتَبَطَتْ به، وعلى كِلاَ الوَجهينِ "ما" مُبتدأٌ، وأطولُ خبرُه، وإذا كانت بمعنى الذي، كان العائدُ مَحذوفاً، تقديرُه: للذي اغْتَبَطَتْ به مِن الشَّنْفَرَى، أو بسببِ الشَّنْفَرَى، و"قبلُ" مَبْنِيَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
طَريدَ جِناياتٍ تَياسَرْنَ لَحْمَهُ = عَقيرتُه لأَيِّهَا حُمَّ أوَّلُ
الطريدُ المبعَدُ, و: تَياسَرْنَ لِحْمَهُ، مأخوذٌ مِن: يَسَرَ القومُ الْجَزورَ، إذا اجْتَزَرُوها واقْتَسَمُوها، وعَقيرتُه لَحْمُه، ومنه يُقالُ للرجُلِ الشريفِ: عَقيرةٌ, إذا قُتِلَ.
والمعنى أنَّ الْجِناياتِ أبْعَدَتْهُ، فليتَ شِعرِي بأَيِّها تُؤْخَذُ نفْسُه أوَّلاً.
"طَرِيدَ" خَبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه الشَّنْفَرَى، وتَياسَرْنَ صفةٌ لِجِناياتٍ, أي: مُقتسَمَةٌ، وعَقيرتُه مُبتدأٌ، ولأَيِّهَا الخبرُ، ويَجوزُ أنْ يكونَ لأيها مَعمولَ حُمَّ، والمجموعُ خبرُ المبتدأِ, ويَجوزُ أنْ يكونَ "حُمَّ" حالاً مِن "أيّ"، والعاملُ وما يَتعلَّقُ به، أي والعائدُ, وهي الهاءُ, ضميرُ الْجِناياتِ، والضميرُ في "حُمَّ" أيضاً عائدٌ إلى الْجِناياتِ، ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على لفْظِ "أيّ"؛ لأنها بِمَنْزِلَةِ البعْضِ، أيْ بعضِ الْجِناياتِ، وأمَّا أوَّلُ فمَبْنِيٌّ على الضمِّ، وموضِعُه نَصْبٌ، أيْ لأيِّها قُدِّرَتْ أو عُجِّلَتْ أوَّلُ شيءٍ، وبُنِيَتْ على الضمِّ لقَطْعِها عن الإضافةِ، كقَبلُ وبعدُ.
تَنامُ إذا ما نَامَ يَقْظَى عيونُها حِثَاثاً إلى مَكروهِه تَتغلْغَلُ
تَنامُ إشارةٌ إلى الْجِناياتِ، وعَبَّرَ بها عن مُسْتَحِقِّيهَا، يُريدُ أنَّ في حالةِ نومِهم عُيونَهم رَاصدةٌ لي وهم يَتغلغلونَ في طَلَبِ الْمَكيدةِ، تَتغلغَلُ, أي: تَتخَلَّلُ في أمورِ مَضَرَّتِي.
و"ما" زائدةٌ، و"إذا" ظَرْفٌ لـ "تَنامُ"، والضميرُ في "نامَ" للشَّنْفَرَى، ويَقْظَى حالٌ مِن الضميرِ في "تَنامُ"، أيْ تَنامُ مُستيقظةً، وعيونُها مُرتفعةٌ بـ "يَقْظَى" ارتفاعَ الفاعلِ بفعلِه، و"حِثاثاً" حالٌ مِن الضميرِ في "تَتغلغلُ"، أيْ تَتغلغلُ مُسرعةً إلى ما يَكْرَهُ. ويَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "تَنامُ": و"تَتغلغلُ" على الوجهِ الآخَرِ حالٌ مِن الضميرِ في "حِثاثاً"، و"إلى" تَتعلَّقُ بـ "تَتغلغلُ"، ويَجوزُ تَعَلُّقُها بـ"حِثاثاً".
وإِلْفُ هُمومٍ ما تَزالُ تَعُودُه = عِياداً كحُمَّى الرِّبْعِ أو هي أثْقَلُ
الرِّبْعُ في الْحُمَّى أنْ تَأخذَ يوماً وتَدَعَ يَومينِ، ثم تَجيءَ في اليومِ الرابعِ، والمعنى أنَّ الهمومَ تَعتادُنِي كما تَعتادُ الْحُمَّى الرِّبْعُ.
وإلْفُ مَعطوفٌ على طَريدِ جِناياتٍ، و"ما تَزالُ تَعودُه" صِفةٌ لِهُمومٍ، أيْ ملازِمَةُ العَوْدِ إليه، وقيلَ: بكونِه صفةَ إلْفٍ، وحَسَّنَ ذلك عَوْدُ الضميرِ في "تَعُودُه" إليه، و"عِياداً" منصوبٌ على المصدَرِ، كما يَقولُ: قامَ قِياماً، وصامَ صِياماً، وقيلَ: مَصدرٌ غيرُ جارٍ؛ لأن مَصدرَ: عادَ يَعودُ عَوْدٌ، وقالَ شيخُنا مُحِبُّ الدِّينِ ـ قَدَّسَ اللهُ رُوحَه ـ: الأَجْوَدُ أنْ يكونَ اسماً للمَصْدَرِ وليس بِمَصدَرٍ، ويَعمَلُ عمَلَ المصدَرِ، كما عَمِلَ العَطَا عَمَلَ الإعطاءِ. فعلى هذا يكونُ مُضافاً إلى المفعولِ، وهو الْحُمَّى، والرِّبْعُ الفاعلُ. وقولُه: أو هي أَثْقَلُ، يُريدُ بل هي أَثقلُ، يَعنِي أنَّ الهمومَ عندَه أعْظَمُ شَأنًا مِن الْحُمَّى الرِّبْعِ.
إذا وَرَدَتْ أَصْدَرْتُها ثُمَّ إنها = تَثُوبُ فتَأتِي مِن تُحَيْتٍ ومِن عَلُ
وَرَدَتْ بمعنى حَضَرَتْ، والوِرْدُ خِلافُ الصدْرِ. وأَصْدَرْتُها أيْ: رَدَدْتُها, وتَثوبُ تَرْجِعُ.
والمعنى أنها إذا عاوَدَتْنِي, يَعنِي الْهُمومَ، ردَدْتُها ثم تَأتِي مِن كلِّ جِهاتِي لكَثْرَتِها فلا أَستطيعُ رَدَّها.
وإذا ظَرْفٌ، والعاملُ فيها جوابُها, وهو: أَصْدَرْتُها، وموضِعُ "وَرَدَتْ" جَرٌّ بالإضافةِ, والضميرُ في "وَرَدَتْ" و"أَصْدَرْتُها" للهمومِ، وإنما كُسِرَتْ "إنَّ" بَعْدَ "ثم"؛ لأنَّ الكلامَ الأوَّلَ تَمَّ، ثم استَأْنَفَ كلاماً آخَرَ، وكلُّ مَوْضِعٍ وقَعَتْ فيه "إنَّ" وكان مُستَأْنَفاً كَسَرْتَها، فمِن ذلك قولُه عَزَّ مِن قائلٍ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} و"تَثوبُ" خبرُ "إنَّ", والفعلُ بعدَه معطوفٌ عليه، و"تُحَيْتٍ" تَصغيرُ "تَحتَ"، وإنما صَغَّرَه لأنَّ مُرادَه أنها قَريبةٌ مِنِّي لا تَبعدُ إذا أَصْدَرْتُها، و"عَلُ" ظَرْفٌ أيضاً؛ لأنَّ المعنى تَأتِي مِن أسفلَ وأعلى، و"عَلُ" مأخوذٌ مِن العُلُوِّ، يُستعملُ على وُجوهٍ؛ عَلِ بكسْرِ اللامِ، أيْ مِن مكانٍ عالٍ، قالَ امرؤُ القَيْسِ:
كجُلمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيْلُ مِن عَلِ
وعَلَ بفتْحِ اللامِ، قالَ أبو النَّجْمِ:
باتَتْ تَنوشُ الْحَوْضَ نَوْشاًَ مِن عَلاَ
وعَلُ بضمِّ اللامِ قالَ الشاعِرُ:
في كِناسٍ ظَاهِرٍ يَسْتُرُهُ = مِن عَلُ الشِّفَّانِ هُدَّابُ الفَنَنْ
و"مِن" لابتداءِ غايةِ الإتيانِ، أيْ ابتداءُ الإتيانِ مِن هذا الْمَوْضِعِ.