ثم قال الشيخ :
(( ومن ذلك)) أي من الأخبار الغيبية التي نصدق بها (( أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فردَّ عيه عينه )) .(1)
وهذه أيضاً حادثة كانت مثار اعتراض من بعض المتقدمين حيث قالوا : كيف يفقأ موسى عين ملك الموت وهو ملك ؟ وكيف يليق هذا بموسى رسول الله وكليمه ؟
وفي العصر الحديث أيضاً وجد من المستشرقين والملاحدة ومن أذنابهم ممن ينتسب إلى المسلمين من يعترض بنفس الاعتراض ويقول : كيف يقع هذا من موسى , ثم يرد هذا الحديث ويكذب به لأجل ذلك , بينما هذا الحديث حديث ثابت متفق عليه رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد بأسانيد صحيحة لا شك فيها, ولذلك لم يتكلم أحد برد هذا الحديث من جهة إسناده ورواته , وإنما اعترض عليه من يعترض على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعقله ورأيه القاصر, وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا الحديث , ويصدقون بما جاء به, وهو أن ملك الموت لما جاء إلى موسى ليقبض روحه فقأ موسى عينه, ثم إن الله سبحانه وتعالى ردَّ على ملك الموت عينه , وجاء إلى موسى مرة اخرى كما هو معروف في بقية الحديث وقال : (( إن الله يقول لك : تعال إلى ثور وامسح على جلده , فلك بكل شعرة من جلده سنة من عمرك , فقال موسى : وبعد ذلك؟ قال : الموت قال : الآن إذن)) .
فأهل السنة والجماعة يصدقون بذلك , أما الكيفية فعلم ذلك عند الله سبحانه وتعالى , وعندنا على ذلك شواهد من السنة , فقد كان جبريل يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة بشر, وكان يأتيه أحياناً في صورة دحية الكلبي ؛ الرجل المشهور , حتى إنه كان يدخل على الرسول فيقول الصحابة لبعضهم : دخل عليه دحية بينما هو جبريل .
وكذلك جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على صورة رجل غير معروف لدى الصحابة قال عمر - رضي الله عنه - : (( بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر, لا يرى عليه اثر السفر, ولا يعرفه منا أحد)) , وفي بعض الروايات أن الرسول لم يعلم أنه جبريل إلا بعد نهاية الأسئلة, وفي كتاب الله تعالى خبر دخول الملائكة على إبراهيم - عليه السلام ولم يعرفهم فأوجس منهم خيفة, وكذا دخولهم على نبي الله لوط عليه السلام - .
فالشاهد أن جبريل كان يأت يفي صورة بشر فما الذي يمنع أن يكون ملك الموت أتى موسى عليه السلام في صورة بشر ففقأ عينه , هذا أولاً .
وثانياً : لما دخل على موسى ألا يحتمل أن يكون موسى نظر فإذا ببيته رجل غريب , ونحن نعلم أن من طلع على بيت أحد ففقأ عينه- كما في الحديث- فعينه هدر(2) , أي لا شيء عليه , فإذا وجد إنسان رجلاً غريباً في بيته؟ الا يغضب لمحارمه ويهجم عليه بما يستطيع؟
فإذا كان الملك أتى على صورة بشر فيكون فقأ عينه لهذا السبب أو لغيره , فلما جاءه في المرة الثانية, وقال لـه: أنا ملك الموت استمع إليه واختار أن يقبض روحه عاجلاً .
فالحاصل أن الخبر إذا ورد بالأسانيد الصحيحة فنحن نؤمن به ونصدق ولا نعترض عليه ولا نقيم الشبهات لرده بل نقبل ونسلم ونقول : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران: من الآية7) .
___________________
(1) اخرجه البخاري رقم (3407) كتاب احاديث الأنبياء ومسلم رقم (2372) كتاب الفضائل
(2) إشارة إلى حديث ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (( لو أن رجلا اطلع عليك يغير غذن فخذفته بحصاة ففقات عينه ما كان عليك من جناح )) ، اخرجه البخاري كتاب الديات ، ومسلم كتاب الآداب وفي لفظ المسلم :: (من اطلع في بيت قوم بغير غذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه) .