والإجماعُ هُوَا الأصْلُ الثَّالِثُ الذِي يُعْتَمَد عليهِ في العِلْمِ وَالدِّين، وهُمْ يزنُونَ بهذهِ الأُصُولِ الثلاثَةِ جميعَ مَا عَليْهِ النُّاسُ مِنْ أَقْوالِ وَأعْمَالٍ، باطنَةِ أو ظَاهرةٍ ممَّا لهُ تَعَلُّقٌ بالدينِ. والإجماعُ الذي يَنْضَبطُ هوَ مَا كانَ عليهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ إذْ بعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلافُ وانْتَشَرَتْ الأمَّةُ.(51)
(51) قَولُهُ: ((وَالإِجْمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي العِلْمِ وَالدِّينِ)):
يَعْنِي بِهِ الدَّلِيلَ الثَّالِثَ؛ لِأَنَّ الأَدِلَّةَ أُصُولُ الأَحْكَامِ؛ حَيْثُ تُبْنَى عَلَيْها.
وَالأَصْلُ الأَوَّلُ هُوَ الكِتَابُ، وَالثَّانِي السُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ، وَلِهَذَا يُسَمَّونَ: أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي العِلْمِ وَالدِّينِ، وَهِي: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ.
أَمَّا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَأَصْلَان ذَاتِيَّانِ، وَأمَّا الإِجْمَاعُ؛ فَأَصْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ لَا إِجْمَاعَ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.
أمَّا كَونُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَصْلاً يُرْجَعُ إِلَيْهِ؛ فَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:
-قَولُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسولِ) [النِّسَاء: 59].
-وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المَائِدَة: 92].
-وَقَولُهُ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحَشْر: 7].
وَقَولُهُ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النِّسَاء: 80].
وَمَنْ أَنْكَرَ أنْ تَكُونَ السُّنَّةُ أَصْلاً فِي الدَّلِيلِ؛ فَقَدْ أَنْكَرَ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ أَصْلاً.
وَلَا شَكَّ عِنْدَنَا فِي أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ السُّنَّةَ لَا يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الأَحْكَامِ الشَّرْعيَّةِ؛ أنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَن الإِسْلَامِ؛ لِأنَّهُ مُكَذِّبٌ وَمُنْكِرٌ لِلقُرْآنِ؛ فَالقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ جَعَلَ السُّنَّةَ أَصْلاً يُرْجَعُ إِلَيهِ.
وَأمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أنَّ الإِجْمَاعَ أَصْلٌ؛ فيُقَالُ:
أَوَّلاً: هَلِ الإِجْمَاعُ مَوْجُودٌ أَوْ غَيْرُ مَوْجُودٍ؟
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: لَا إِجْمَاعَ مَوْجُودٌ إِلَّا عَلَى مَا فَيهِ نَصٌّ، وَحِينَئذٍ؛ يُسْتَغْنَى بِالنَّصِّ عَن الإِجْمَاعِ.
فَمَثَلاً؛ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: العُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أنَّ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ خَمْسٌ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ فَرْضِيَّتِهَا بِالنَّصِّ.
وَمُجْمِعُونَ عَلَى تَحْريِمِ الزِّنى؛ فَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ تَحْرِيمِهِ بِالنَّصِّ. وَمُجْمِعُونَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِمِ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ تَحْرِيمِهِ بِالنَّصِّ.
وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: مَن ادَّعَى الإِجْمَاعَ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَمَا يُدْرِيهِ؟ لَعَلَّهُم اخْتَلَفُوا.
وَالمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ العُلَمَاءِ أنَّ الإِجْمَاعَ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ دَلِيلاً ثَابِتٌ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ:
-فَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ تَعالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النِّسَاء: 59]؛ فَإِنَّ قَولَه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ): يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ لَا يَجِبُ رَدُّه إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ اكْتِفَاءً بِالإِجْمَاعِ! وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ فِيهِ شَيءٌ!!
-وَمِن ذَلِكَ قَولُهُ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النِّسَاء: 115]، فقَالَ: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ).
-وَاسْتَدَلُّوا أيضاً بِحَدِيثِ: ((لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ)).
وَهَذَا الحَدِيثُ حَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، لَكِنْ قَدْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ السَّنَدِ، لَكِنْ يَشْهَدُ لِمَتْنِهِ مَا سَبَقَ مِن النَّصِّ القُرْآنِيِّ.
فَجُمْهُورُ الأُمَّةِ أَنَّ الإِجْمَاعَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَأنَّنا إِذَا وَجَدْنَا مَسْأَلَةً فِيهَا إِجْمَاعٌ؛ أَثْبَتْنَاهَا بِهَذَا الإِجْمَاعِ.
وَكَأنَّ المُؤلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ إِثْبَاتَ أنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ حُجَّةٌ.
قَولُهُ: ((وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِن أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ)).
((الأُصُولُ الثَّلَاثِةُ)): هِيَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ.
يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِن قَولٍ أَوْ عَمَلٍ، بَاطِنٍ أَوْ ظَاهِرٍ، لَا يَعْرِفُون أنَّهُ حَقٌّ؛ إِلَّا إِذَا وَزَنُوهُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ؛ فَإْنْ وُجِدَ لَهُ دَلِيلٌ مِنْهَا؛ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ؛ فَهُو بَاطِلٌ.
قَولُهُ: ((وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَت الأُمَّةُ)):
يَعْنِي: أَنَّ الإِجْمَاعَ الَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وِالإِحَاطَةُ بِهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَهُمْ القُرُونُ الثَّلَاثَةُ، الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ.
ثُمَّ عَلَّلَ المُؤلِّفُ ذَلِكَ بِقَولِهِ: ((إذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَت الأُمَّةُ))؛ يَعْنِي: أَنَّهُ كَثُرَ الاخْتِلَافُ كَكَثْرَةِ الأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا طَوَائِفَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ الحَقَّ، فَاخْتَلَفَتِ الآرَاءُ وَتَنَوَّعَتِ الأَقْوَالُ.
((وَانتشرَت الأُمَّةُ)): فَصَارَتِ الإِحَاطَةُ بِهِمْ مِن أَصْعَبِ الأُمُورِ.
فَشَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ كَأنَّهُ يَقُولُ: مَن ادَّعَى الإِجْمَاعَ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُمْ القُرُونُ الثَّلَاثَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهْ الإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّ الإِجْمَاعَ الَّذِي يَنْضَبِطُ مَا كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ إِجْمَاعٌ بَعْدَ الخِلَافِ؟ فَنَقُولُ: لَا إِجْمَاعَ مَعَ وُجُودِ خِلَافٍ سَابِقٍ, وَلَا عَبْرَةَ بِخِلَافٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ الإِجْمَاعِ.