جَزْمُ المُضَارِعِ في جوابِ الطَّلَبِ
689- وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْي جَزْماً اعْتَمِدْ = إنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزاءُ قَدْ قُصِدْ
690- وَشَرْطُ جَزْمٍ بَعْدَ نَهْيٍ أَنْ تَضَعْ = إنْ قَبْلَ لا دُونَ تَخَالُفٍ يَقَعْ
تَقَدَّمَ أنَّ المُضَارِعَ إذا وَقَعَ بعدَ (الفاءِ) التي تَقَدَّمَها نفيٌ أوْ طَلَبٌ فإنَّهُ يُنْصَبُ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً.
وذَكَرَ هنا أنَّ (الفاءَ) إذا حُذِفَتْ بعدَ غيرِ النفيِ، وهوَ الطَّلَبُ، وقُصِدَ الجزاءُ، جُزِمَ المُضَارِعُ الذي بعدَها، فشَرْطُ الْجَزْمِ ثلاثةُ أُمُورٍ:
1- أنْ يَتقدَّمَ لفْظٌ دالٌّ على الطلَبِ؛ كالأمْرِ والنهيِ.
2- أنْ يُقْصَدَ الجزاءُ، بمعنى: أنَّ هذا المُضَارِعَ مُتَسَبِّبٌ وناتجٌ عنْ ذلكَ الطلَبِ.
3- إنْ كانَ الطلَبُ بغيرِ النهيِ؛ كالأمْرِ، فشَرْطُهُ: صِحَّةُ المعنى بوَضْعِ (إِن) الشرطيَّةِ وفِعْلٍ مفهومٍ مِن السياقِ مَوْضِعَ الطلَبِ. وإنْ كانَ الطلَبُ بالنهيِ فشَرْطُهُ: أنْ يَستقيمَ المعنى بِحَذْفِ (لا) النافِيَةِ، ووَضْعِ (إن) الشرطيَّةِ وبعدَها (لا) النافيَةُ مَحَلَّ (لا) الناهِيَةِ.
مِثالُ ذلكَ: عَامِلِ الناسَ بالْحُسْنَى يَأْلَفُوكَ. فالفعلُ (يَأْلَفُوكَ) مجزومٌ، وعلامةُ جزْمِهِ حذْفُ النُّونِ؛ لأنَّهُ مِن الأمْثِلَةِ الخمسةِ، وقدْ تَقَدَّمَ عليهِ طلَبٌ، وهوَ الأمْرُ (عامِلْ)، ويَصِحُّ إحلالُ (إنْ) والفعلِ مَحَلَّ الطلَبِ، فَيُقَالُ: إنْ تُعَامِلِ الناسَ بالْحُسْنَى يَأْلَفُوكَ، والجازِمُ لهُ هوَ وُقوعُهُ في جوابِ الطَّلَبِ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ}، فـ (أَتْلُ): فعْلٌ مُضارِعٌ مجزومٌ بحذْفِ حرْفِ العِلَّةِ، وهوَ الواوُ؛ لوُقوعِهِ في جوابِ الطلَبِ (تَعَالَوْا)، وقدْ قُصِدَ الجزاءُ؛ إذ المعنى: تَعَالَوْا فإنْ تَأْتُوا أَتْلُ عَلَيْكُمْ. فالتلاوةُ مُسَبَّبَةٌ وناتجةٌ عنْ مَجِيئِهم.
ومِثالُ النهيِ: لا تَعْجَلْ في أُمُورِكَ تَسْلَمْ. فالفعلُ (تَسْلَمْ) مجزومٌ لوُقوعِهِ في جوابِ الطلَبِ، وهوَ النهيُ، ويَصِحُّ أنْ تَضَعَ (إنْ) قبلَ (لا)، فتقولَ: إنْ لا تَعْجَلَ في أُمُورِكَ تَسْلَمْ.
فإنْ لم يَتَقَدَّمْ طلَبٌ، بلْ تَقَدَّمَ نَفْيٌ أوْ خَبَرٌ مُثْبَتٌ، لم يَصِحَّ جَزْمُ الْمُضارِعِ، بلْ يَجِبُ رَفْعُهُ، نحوُ: ما تَأْتِينا تُحَدِّثُنا، ونحوُ: أنتَ تَأْتِينَا تُحَدِّثُنا، برَفْعِ (تُحَدِّثُنا) في الْمِثالَيْنِ.
وكذا إنْ لم يَقْصِد الجزاءَ، نحوُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ. فلا يَجوزُ جَزْمُ المُضَارِعِ (يُحِبُّ) لِعَدَمِ قَصْدِ الجزاءِ؛ لأنَّ الْمَحَبَّةَ لَيْسَتْ ناتجةً عن الإتيانِ بهِ، وإنَّما المُرادُ أنَّ هذهِ صِفتُهُ.
وكذا إنْ لم يَسْتَقِم المعنى بوَضْعِ (إنْ) وفِعْلٍ مفهومٍ مِن السياقِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ، نحوُ: أينَ مَنْزِلُكَ أَقِفُ في الشارعِ؟ برَفْعِ (أَقِفُ)، ولا يَجوزُ جَزْمُهُ؛ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنْ تُعَرِّفْنِي مَنْزِلَكَ أَقِفْ في الشارِعِ؛ لعَدَمِ استقامةِ الْمَعْنَى.
وكذا يَجِبُ الرفْعُ إذا لم يَسْتَقِم المعنى عندَ إحلالِ (إِن) الشرطيَّةِ و(لا) النافِيَةِ معاً مَحَلَّ (لا) الناهيَةِ، نحوُ: لا تَدْنُ مِن الأَسَدِ يَأْكُلُكَ، برَفْعِ (يَأْكُلُكَ)، ولا يَجوزُ جَزْمُهُ؛ إذْ لا يَصِحُّ: إنْ لا تَدْنُ مِن الأسَدِ يَأْكُلْكَ.
وهذا معنى قولِهِ: (وبعدَ غَيْرِ النفيِ جَزْماً اعْتَمِدْ.. إلخ)؛ أي: اعْتَمِدْ جَزْمَ المُضَارِعِ بعدَ غيرِ النفيِ، والمُرَادُ الطلَبُ، (إنْ تُسْقِطِ الفاءَ)؛ أيْ: لم تُوجَدْ معَ قَصْدِ الجزاءِ. ثمَّ ذَكَرَ أنَّ شَرْطَ الجزْمِ بعدَ النهيِ صِحَّةُ وَضْعِ (إن) الشرطيَّةِ قبلَ (لا) الناهيَةِ، بشَرْطِ ألاَّ يَقَعَ اختلافٌ في المعنى قبلَ مَجيءِ (إنْ) سابقةً (لا) وبعدَ مَجِيئِها.
حُكْمُ جوابِ الأمْرِ إذا كانَ الأمرُ بغَيْرِ صِيغَتِهِ:
691- وَالأَمْرُ إِنْ كَانَ بِغيْرِ افْعَلْ فَلا = تَنْصِبْ جَوَابَهُ وَجَزْمَهُ اقْبَلا
تَقَدَّمَ أنَّ الأمْرَ إذا كانَ مَدلولاً عليهِ باسمِ فِعْلٍ أوْ بلفْظِ الخبرِ لم يَجُزْ نَصْبُ المُضَارِعِ بعدَ الفاءِ عندَ الأكثرينَ، وقدْ صَرَّحَ بذلكَ هنا، نحوُ: صَهْ فأُحَدِّثُكَ. وحَسْبُكَ الحديثُ فَيَنَامُ الحاضرونَ. برَفْعِ الفعلَيْنِ (أُحَدِّثُكَ، ويَنامُ).
فإنْ سَقَطَت الفاءُ جُزِمَ المُضَارِعُ لوُقوعِهِ في جوابِ الطلَبِ، فتقولُ: صَهْ أُحَدِّثْكَ، وحَسْبُكَ الحديثُ يَنَم الحاضرونَ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ}، بجَزْمِ المُضارعيْنِ (يَغْفِرْ ويُدخِلْ) في جوابِ الْجُملةِ الْخَبريَّةِ (تُؤْمِنُونَ وَتُجَاهِدُونَ)؛ لأنَّها وما عُطِفَ عليها بمعنى الأَمْرِ، والتقديرُ، واللَّهُ أعلَمُ: آمِنُوا وجَاهِدوا يُغْفَرْ لَكُم.
وليسَ الجزْمُ راجعاً لِوُقُوعِهما جواباً للاستفهامِ (هَلْ أَدُلُّكُمْ..)؛ لأنَّ غُفرانَ الذُّنُوبِ لا يَتَسَبَّبُ عن الدَّلالةِ، بلْ عن الإيمانِ والْجِهادِ.
وهذا معنى قولِهِ: (والأمرُ إنْ كانَ بغيرِ افْعَلْ.. إلخ): أيْ أنَّ الأمْرَ - وهوَ مِنْ أنواعِ الطلَبِ - إنْ كَانَتْ صِيغتُهُ لَيْسَتْ الصيغةَ الصريحةَ فيهِ - وهيَ صيغةُ (افْعَلْ)- بلْ كانَ بلَفْظِ الخبرِ مَثَلاً؛ فإنَّهُ لا يَجوزُ نَصْبُ المُضَارِعِ بعدَ الفاءِ.
وأمَّا جزْمُ هذا المُضَارِعِ بعدَ سُقوطِ الفاءِ فهوَ جائزٌ.
وقولُهُ: (اقْبَلا) أَصْلُها: اقْبَلَنْ، فهوَ فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ؛ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ الْمُنْقَلِبَةِ ألِفاً للوَقْفِ.