لِتَوْكِيدِ الفعلِ نُونَانِ: ثَقِيلَةٌ وخَفِيفَةٌ، نحوُ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً}([2]).
ويُؤَكَّدُ بهما الأمرُ مُطْلَقاً، ولا يُؤَكَّدُ بهما الماضي مُطلقاً([3]).
وأما المضارِعُ فله حالاتٌ:
إحداها: أنْ يكونَ تَوْكِيدُه بهما وَاجِباً، وذلك إذا كانَ: مُثْبَتاً مُسْتَقْبَلاً جَوَاباً لِقَسَمٍ غيرِ مفصولٍ مِن لامِه بفاصلٍ، نحوُ: {وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}([4]).
ولا يَجُوز توكيدُه بهما إنْ كانَ مَنْفِيًّا، نحوُ: {تاللهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}([5])؛ إذِ التقديرُ: لا تَفْتَؤُ، أو كانَ حالاً، كقِراءةِ ابنِ كَثِيرٍ: (لأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)([6])، وقولِ الشاعِرِ:
467- يَمِيناً لأُبْغِضُ كُلَّ امْرِئٍ([7]) أو كانَ مفصولاً من اللامِ، مِثْلُ: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ}([8])، ونحوُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}([9]).
والثانيةُ: أنْ يكونَ قريباً مِن الواجبِ، وذلك إذا كانَ شرطاً لإنِ المُؤَكِّدَةِ بما نحوِ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ}([10])، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ}([11])، {فَإِمَّا تَرَيِنَّ}([12]).
ومِن تَرْكِ تَوْكِيدِه قولُه:
468- يا صَاحِ إِمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جِدَةٍ([13]) وهو قليلٌ، وقيلَ: يَخْتَصُّ بالضرورةِ([14]).
الثالثةُ: أنْ يكونَ كثيراً، وذلك إذا وَقَعَ بعدَ أداةِ طَلَبٍ([15])؛ كقولِهِ تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً}([16])، وقولِ الشاعِرِ:
469- هَلاَّ تَمُنِّنْ بِوَعْدٍ غَيْرَ مُخْلِفَةٍ([17]) وقولِ الآخَرِ:
470- فَلَيْتَكِ يَوْمَ الْمُلْتَقَى تَرَيِنَّنِي([18]) وقولِه:
471- أَفَبَعْدَ كِنْدَةَ تَمْدَحَنَّ قَبِيلاَ([19]) الرابعةُ: أنْ يكونَ قليلاً، وذلك بعدَ (لا) النافيةِ أو (ما) الزائدةِ التي لم تُسْبَقْ بإنْ؛ كقولِهِ تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}([20])، وكقولِهِم:
472- ومِنْ عِضَةٍ مَا يَنْبُتَنَّ شَكِيرُهَا([21]) وقالَ:
473- قَلِيلاً بِهِ مَا يَحْمَدَنَّكَ وَارِثٌ([22]) الخامسةُ: أنْ يكونَ أَقَلَّ، وذلك بعدَ لم، وبعدَ أداةِ جَزَاءٍ غيرِ (إما)؛ كقولِه:
474- يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا([23]) وكقولِه:
475- مَنْ نَثْقَفَنْ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِآئِبِ([24]) فصلٌ في حُكْمِ آخِرِ المُؤَكَّدِ
اعْلَمْ أنَّ هنا أصليْنِ يُسْتَثْنَى مِن كلٍّ مِنهما مسألةٌ:
الأصلُ الأوَّلُ: أنَّ آخِرَ المُؤَكَّدِ يُفْتَحُ([25])، تقولُ: (لِتَضْرِبَنَّ) و(اضْرِبَنَّ)، ويُسْتَثْنَى من ذلك أنْ يكونَ مُسْنَداً إلى ضميرٍ ذي لِينٍ، فإنَّه يُحَرَّكُ آخِرُهُ حينَئذٍ بحَرَكَةِ تَجَانُسِ ذلك اللِّينِ كما نَشْرَحُه.
والأصلُ الثاني: أنَّ ذلك اللِّينَ يَجِبُ حَذْفُهُ إنْ كانَ ياءً أو واواً، تقولُ: (اضْرِبُنَّ يَا قَوْمِ) بضمِّ الباءِ، و(اضْرِبِنَّ يا هِنْدُ) بكسرِها والأصلُ: اضْرِبُونَّ واضْرِبِينَّ، ثمَّ حُذِفَتِ الواوُ والياءُ لالْتِقَاءِ الساكنيْنِ.
ويُسْتَثْنَى من ذلك أنْ يكونَ آخِرُ الفعلِ ألفاً؛ كـ (يَخْشَى)؛ فإِنَّكَ تَحْذِفُ آخرَ الفعلِ وتُثْبِتُ الواوَ مضمومةً والياءَ مكسورةً، فتقولُ: (يَا قومِ اخْشَوُنَّ)، و(يا هِنْدُ اخْشَيِنَّ)، فإنْ أُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى غيرِ الواوِ والياءِ لم تَحْذِفْ آخِرَهُ، بل تَقْلِبْه ياءً، فتقولُ: (لَيَخْشَيَنَّ زَيْدٌ)، و(لَتَخْشَيَنَّ يا زَيْدُ)، و(لَتَخْشَيَانِّ يا زَيْدَانِ)، و(لَتَخْشَيْنَانِّ يا هِنْدَاتُ).
فصلٌ: تَنْفَرِدُ النونُ الخفيفةُ بأربعةِ أحكامٍ:
أَحَدُها: أنها لا تَقَعُ بعدَ الألِفِ، نحوُ: (قُومَا) و(اقْعُدَا)؛ لِئَلاَّ يَلْتَقِيَ ساكنان([26])، وعن يُونُسَ والكُوفِيِّينَ إجازَتُه([27])، ثمَّ صَرَّحَ الفارِسِيُّ في الحُجَّةِ بأنَّ يُونُسَ يُبْقِي النونَ ساكنةً، ونَظَرَ ذلك بقراءةِ نافعٍ: (وَمَحْيَايَ)([28])، وذَكَرَ الناظِمُ أنه يَكْسِرُ النونَ، وحَمَلَ على ذلك قراءةَ بعضِهم: (فَدَمِّرَانِهِمْ تَدْمِيراً)([29]) و، جَوَّزَهُ في قراءةِ ابنِ ذَكْوَانَ: (وَلاَ تَتَّبِعَانِ)([30]) بتخفيفِ النونِ.
وأمَّا الشديدةُ فتَقَعُ بعدَها اتِّفاقاً، ويَجِبُ كَسْرُها؛ كقراءةِ باقي السبعةِ: {وَلاَ تَتَّبِعَانِّ}.
الثاني: أنها لا تُؤَكِّدُ الفعلَ المُسْنَدَ إلى نُونِ الإناثِ؛ وذلك لأنَّ الفعلَ المذكورَ يَجِبُ أنْ يُؤْتَى بعدَ فاعلِه بألفٍ فاصلةٍ بينَ النونيْنِ؛ قَصْداً للتخفيفِ، فيقالُ: (اضْرِبْنَانِّ)، وقد مَضَى أنَّ الخفيفةَ لا تَقَعُ بعدَ الألفِ، ومَن أجازَ ذلك فيما تَقَدَّمَ أَجَازَه هنا بشرطِ كَسْرِها([31]).
الثالثُ: أنها تُحْذَفُ قبلَ الساكنِ؛ كقولِهِ:
476- لاَ تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ = تَرْكَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ([32]) أصلُه: (لا تُهِينَنْ).
الرابِعُ: أنها تُعْطَى في الوقفِ حُكْمَ التنوينِ، فإنْ وَقَعَتْ بعدَ فتحةٍ قُلِبَتْ ألفاً؛ كقولِهِ تعالى: (لَنَسْفَعَا)([33])، (وَلَيَكُونَا)([34])، وقولِ الشاعِرِ:
477- ولا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا([35]) وإنْ وَقَعَتْ بعدَ ضَمَّةٍ أو كسرةٍ حُذِفَتْ، ويَجِبُ حينَئذٍ أنْ يُرَدَّ ما حُذِفَ في الوصلِ لأجلِها، تقولُ في الوصلِ: (اضْرِبُنْ يَا قَوْمِ) و(اضْرِبِنْ يا هِنْدُ)، والأصلُ: اضْرِبُونْ واضْرِبِينْ كما مَرَّ، فإذا وَقَفْتَ حَذَفْتَ النونَ لِشَبَهِها بالتنوينِ في نحوِ: (جاءَ زَيْدٌ) و(مَرَرْتُ بِزَيْدٍ)، ثمَّ تَرْجِعُ بالواوِ والياءِ لِزَوَالِ الساكنيْنِ، فتقول: (اضْرِبُوا) و(اضْرِبِي).
([1]) اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في هذيْنِ النونيْنِ؛ أهما أَصْلانِ أم أَحَدُهما أصلٌ والآخرُ فرعٌ عنه؟
فذَهَبَ جمهورُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّ كُلَّ واحدٍ مِنهما أصلٌ، وليسَ أَحَدُهما فَرْعاً من الآخرِ، وهذا الرأيُ هو الصوابُ، ويَدُلُّ له أنَّ بعضَ الأحكامِ التي تَجْرِي على أَحَدِهما لا تَجْرِي على الآخَرِ، مثلُ انْقِلابِ الخفيفةِ أَلِفاً في الوَقْفِ، نحوُ: (وَلَيَكُوناً)، ومثلُ حذفِ الخفيفةِ عندَ الْتِقَاءِ الساكنيْنِ؛ كما في قولِ الأضبطِ بنِ قُرَيْعٍ الذي يَأْتِي استشهادُ المؤلِّفِ به:
*لا تُهِينَ الْفَقِيرَ...*
ومثلُ امْتِنَاعِ وُقُوعِ الخفيفةِ بعدَ الألِفِ، وذَهَبَ جمهورُ الكُوفِيِّينَ إلى أنَّ الخفيفةَ فَرْعٌ عن الثقيلةِ بحذفِ أحدِ حُرُوفِها، وذَهَبَ قومٌ إلى أنَّ الخفيفةَ هي الأصلُ؛ وذلك لأنَّ الثقيلةَ أَزْيَدُ في اللفظِ، وهو ظاهرٌ =وفي المعنى؛ لأنَّ التوكيدَ بالثقيلةِ أَقْوَى وأَشَدُّ، والزيادةُ عارضةٌ طارئةٌ، والخالي من الزيادةِ هو الأصلُ، فكانَتِ الخفيفةُ هي الأصلَ لذلكَ، ولا مُسْتَنَدَ لقولِ الكُوفِيِّينَ و، لا لهذا القولِ سِوَى هذه التمَحُّلاتِ التي لا تُفِيدُ، وقد ذَكَرْنَا القوليْنِ لِنُنَبِّهَكَ إلى هذا.
([2]) سورةُ يُوسُفَ، الآيةُ: 32.
([3]) اعْلَمْ أَوَّلاً أنَّ نُونَيِ التوكيدِ يُخْلِصَانِ الفعلَ للاستقبالِ، وأنَّ فعلَ الأمرِ مُسْتَقْبَلٌ دائماً، ولذلك صَحَّ تَوْكِيدُه بالنونيْنِ مِن غيرِ شرطٍ، والفعلُ الماضي لَفْظاً ومعنًى لا يَصِحُّ تَوْكِيدُه بهما، أما قولُ الشاعِرِ:
دَامَنَّ سَعْدُكِ لَوْ رَحِمْتِ مُتَيَّماً = لولاكِ لم يَكُ لِلصَّبَابَةِ جَانِحَا
فإمَّا أنْ يكونَ مُسْتَقْبَلاً معنًى، وإمَّا أنْ يكونَ شاذًّا.
([4]) سورةُ الأنبياءِ، الآيةُ: 57.
([5]) سورةُ يُوسُفَ، الآيةُ: 85.
([6]) سورةُ القيامةِ، الآيةُ: 1.
([7]) 467-لم أَقِفْ لهذا الشاهِدِ على نسبةٍ لقائلٍ مُعَيَّنٍ، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا صَدْرُ بيتٍ مِن المتقارِبِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*يُزَخْرِفُ قَوْلاً ولا يَفْعَلُ*
اللغةُ: (أُبْغِضُ) مضارعٌ ماضِيهِ أُبْغِضُ كأُكْرِمُ، وأصلُه البُغْضُ – بضمٍّ فسكونٍ – ضِدُّ الحُبِّ، (يُزَخْرِفُ) يُزَيِّنُ ويُحَسِّنُ.
المعنى: يَحْلِفُ أنه يَمْقُتُ مَن يقولُ ويَعِدُ ولا يَفِي، والعبارةُ العالِيَةُ في هذا المعنى قولُ اللهِ تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}، ومثلُ بيتِ الشاهدِ في المعنى قولُ الشاعِرِ:
وأراكَ تَفْعَلُ ما تَقُولُ وبَعْضُهُم = مَذْقُ اللِّسَانِ يقولُ ما لا يَفْعَلُ
الإعرابُ: (يَمِيناً) مفعولٌ مُطْلَقٌ لفعلٍ محذوفٍ من معناه، وتقديرُ الكلامِ: أُقْسِمُ يَمِيناً، (لأُبْغِضُ) اللامُ واقعةٌ في جوابِ القَسَمِ، حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، أُبْغِضُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ من الناصبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُه أنا، والجملةُ من الفعلِ المضارِعِ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ جوابُ القَسَمِ، (كُلَّ) مفعولٌ به لأُبْغِضُ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وكلَّ مضافٌ و(امْرِئٍ) مضافٌ إليه، (يُزَخْرِفُ) فعلٌ مضارِعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى امْرِئٍ، (قَوْلاً) مفعولٌ به لِيُزَخْرِفُ، وجملةُ الفعلِ المضارِعِ وفاعلُه ومفعولُه في مَحَلِّ نصبِ صِفَةٌ لِكُلَّ امْرِئٍ، (ولا) الواوُ عاطفةٌ. لا: حرفُ نفيٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (يَفْعَلُ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُه هو يعودُ إلى كلَّ امْرِئٍ، والجملةُ معطوفةٌ بالواوِ على جملةِ الصفةِ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (لأُبْغِضُ)؛ حيثُ لم يُؤَكِّدْه بالنونِ، معَ كونِه فِعْلاً مُضَارِعاً مُثْبِتاً مُقْتَرِناً بلامِ الجوابِ مُتَّصِلاً بها؛ لكونِه ليسَ بمعنَى الاستقبالِ.
فإنْ قُلْتَ: فلماذا لا تُؤَكِّدُ بالنونِ الفعلَ المضارِعَ المقصودُ به الحالُ؟
فالجوابُ على ذلك أنَّ نونَ التوكيدِ تُخْلِصُ الفعلَ المضارِعَ للاستقبالِ، كما قُلْنَا لكَ، فإذا كانَ المرادُ به الحالَ كانَ في إلحاقِ نونِ التوكيدِ به تَنَاقُضاً، فاعْرِفْ ذلك.
([8]) سورةُ آلِ عِمْرَانَ، الآيةُ: 158.
([9]) سورةُ الضُّحَى، الآيةُ: 5، ومثلُ هذه الآيةِ في تَرْكِ التوكيدِ للفصلِ بينَ لامِ الجوابِ والفعلِ قولُ الشاعِرِ، وقدْ أَنْشَدَه ابنُ مالِكٍ:
فَوَرَبِّي لَسَوْفَ يُجْزَى الَّذِي أَسْلَفَهُ = المَرْءُ سَيِّئاً أَوْ جَمِيلاَ
([10]) سورةُ الأنفالِ، الآيةُ: 58.
([11]) سورةُ الزُّخْرُفِ، الآيةُ: 41.
([12]) سورةُ مَرْيَمَ، الآيةُ: 26.
([13]) 468-هذا الشاهِدُ مِمَّا لم أَعْثُرْ له على نسبةٍ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وما أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن البسيطِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْخِلاَّنِ مِنْ شِيَمِي*
اللغةُ: (يا صَاحِ) أصلُه: (يا صَاحِبِي) فحَذَفَ ياءَ المتكلِّمِ، وهي المضافُ إليه، وحَذَفَ معَه آخِرَ المضافِ، وهو الباءُ، قالَ ذلك ابنُ خَرُوفٍ، والذي عليه أكثرُ العلماءِ أنه تَرْخِيمٌ صاحِبٌ فقطْ، (جِدَةٍ) غِنًى، وهو بزِنَةِ عِدَةٍ وصِفَةٍ وزِنَةٍ.
الإعرابُ: (يا) حرفُ نِدَاءٍ، (صَاحِ) مُنَادًى مُرَخَّمٌ على غيرِ قياسٍ، (إمَّا) مُرَكَّبَةٌ مِن حرفيْنِ: أَحَدُهما إنِ الشرطيَّةُ الجازِمَةُ، وثانيهما ما الزائدةُ، (تَجِدْنِي) تَجِدْ: فعلٌ مضارِعٌ فعلُ الشرطِ مجزومٌ بإنْ، وعلامةُ جَزْمِهِ السكونُ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، والنونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلِّمِ مفعولٌ به أوَّلُ، (غيرَ) مفعولٌ ثانٍ لتَجِدْ، وغيرَ مضافٌ و(ذي) مضافٌ إليه، وهو مضافٌ و(جِدَةٍ) مضافٌ إليه، (فما) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ الشرطِ، ما: نافيةٌ، (التَّخَلِّي) مبتدأٌ أو اسمُ ما النافيةِ، (عن الإخوانِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بالتَّخَلِّي، (مِن) حرفُ جرٍّ، (شِيَمِي) شِيَمِ: مجرورٌ بِمِنْ، وعلامةُ جَرِّهِ كسرةٌ مُقَدَّرَةٌ على آخرِه مَنَعَ مِن ظُهُورِها اشتغالُ المَحَلِّ بحركةِ المناسبةِ، وشِيَمِ مضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ جرٍّ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ المبتدأِ أو خَبَرُ ما، وجملةُ المبتدأِ والخبرِ أو ما واسْمُها وخَبَرُها في مَحَلِّ جزمٍ جوابُ الشرطِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (تَجِدْنِي) حيثُ لم يُؤَكِّدِ الفعلَ المضارِعَ الواقعَ شَرْطاً لإنِ المؤكِّدَةِ بما الزائدةِ، كما أَكَّدَ في الآياتِ التي تَلاَهَا المؤلِّفُ، وتَرْكُ التأكيدِ في هذه الحالةِ – عندَ قومٍ مِن النُّحَاةِ – قليلٌ، أو هو ضرورةٌ مِن ضروراتِ الشعرِ.
([14]) خلاصةُ القولِ في هذه المسألةِ، أنَّ النُّحَاةَ يَخْتَلِفُونَ في تَرْكِ التوكيدِ بعد (إما)، أَيَجُوزُ أم لا يَجُوزُ؟
فذَهَبَ أبو العبَّاسِ المُبَرِّدُ والزَّجَّاجُ إلى أنَّ توكيدَ الفعلِ المضارِعِ بعدَ (إمَّا) واجبٌ، لا يجوزُ تَرْكُه إلاَّ أنْ يَضْطَرَّ شاعرٌ إلى تركِه فيَقَعَ له ذلك.
وذَهَبَ شيخُ النُّحَاةِ سِيبَوَيْهِ – وتَبِعَه على ذلك أبو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ وكثيرٌ – إلى أنَّ توكيدَ الفعلِ بعدَ (إما) أحسنُ من تركِ التوكيدِ، ولهذا لم يَقَعْ في القرآنِ الكريمِ الفِعْلُ بعدَ إمَّا إلاَّ مُؤَكَّداً، لكنَّ تَرْكَ التوكيدِ جائزٌ سائغٌ غيرُ شاذٍّ ولا قَلِيلٍ.
وأكثرُ النحاةِ المتأخِّرِينَ يُؤَيِّدُونَ هذا المذهَبَ، ويَرَوْنَهُ المذهَبَ الصحيحَ الحَرِيَّ بالقَبُولِ، وقد كَثُرَ مَجِيءُ الفعلِ بعد (إما) غيرَ مُؤَكَّدٍ، من ذلك بيتُ الشاهِدِ، ومن ذلك قولُ امْرِئِ القَيْسِ:
فإمَّا تَرَيْنِي لاَ أُغَمِّضُ سَاعَةً = مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ أَنْ أَنَامَ فَأَنْعَسَا
فَيَا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ = وَطَاعَنْتُ عَنْهُ الْخَيْلَ حَتَّى تَنَفَّسَا
ومن ذلك قولُ امْرِئِ القيسِ أيضاً:
فَإِمَّا تَرَيْنِي فِي رَحَالَةِ جَابِرٍ = عَلَى حَرَجٍ كالْقُرِّ تَخْفِقُ أَكْفَانِي
فيا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ = وَعَانٍ فكَكْتُ الغُلَّ عَنْهُ فَفَدَّانِي
ومن ذلك ما رَوَاهُ =السكريُّ لامْرِئِ القيسِ أيضاً:
فَإِمَّا تَرَيْنِي بِي عِلَّةٌ = كَأَنِّي نَكِيبٌ مِنَ النِّقْرِسِ
ومن ذلك قولُ عَمْرِو بنِ رِفَاعَةَ الوَاقِفِيُّ الأَوْسِيُّ:
إمَّا تَرَيْنَا وقد خَفَّتْ مَجَالِسُنَا = وَالمَوْتُ أَمْرٌ لِهَذَا الناسِ مَكْتُوبُ
ومن ذلك قولُ الشاعِرِ، وقد مَضَى ذِكْرُهُ في بابِ الفاعِلِ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيَا = على رِقَّةٍ أَحْفَى وَلاَ أَتَنَعَّلُ
ومن ذلك قولُ حَسَّانَ:
إِمَّا تَرَي رَأْسِي تَغَيَّرَ لَوْنُهُ = شَمَطاً فَأَصْبَحَ كَالثَّغَامِ الْمُمْحِلِ
ومن ذلك قولُ رُؤْبَةَ:
إِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أُمَّ حَمْزِ = قَارَبْتُ بَيْنَ عُنُقِي وَجَمْزِي
وعليه جاءَ قولُ ابنِ دُرَيْدٍ:
إمَّا تَرَيْ رَأْسِي حَاكَى لَوْنُهُ = طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى
ومن ذلك قولُ سَلْمَى بِنْتِ رَبِيعَةَ كما في اللسانِ (خ ل):
زَعَمَتْ تُمَاضُرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ = يَسْدُدْ أَبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي
ومن ذلك قولُ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً = فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
ومن ذلك قولُ بعضِ بَنِي فَزَارَةَ (اللسان: غ ت م، ونوادر أبي زَيْدٍ):
إمَّا تَرَي شَيْباً عَلاَنِي أَغْتَمُهْ = لَهْزَمَ خَدَّيَّ بِهِ مُلَهْزِمُهْ
*وعَمَّمَ الرأسَ بِهِ مُعَمِّمُهْ*
([15]) الطَّلَبُ يَشْمَلُ سِتَّةَ أشياءَ، وهي النهيُ، والدعاءُ، والعَرْضُ، والتَّحْضِيضُ، والتَّمَنِّي،والاستفهامُ، فأما النهيُ فشاهِدُه الآيةُ الكريمةُ التي تَلاَهَا المؤلِّفُ؛ حيثُ أَكَّدَ فيها: {تَحْسَبَنَّ} بالنونِ الثقيلةِ؛ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقاً بلا الناهيةِ، وأمَّا الدعاءُ فشاهِدُه قولُ الخِرْنِقِ:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ = سُمُّ العُدَاةِ وَآفَةُ الجُزُرِ
وهو الشاهِدُ (رَقْمُ 396) الذي مَضَى في بابِ النعتِ، وأما التحضيضُ فشاهِدُه البيتُ (رَقْمُ 469) الذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ هنا، وأما التمنِّي فشاهِدُه البيتُ رَقْمُ 470؛ حيثُ أَكَّدَ (تَرَيِنَّنِي) بالنونِ الثقيلةِ؛ لكونِه مسبوقاً بأداةِ التمنِّي، وهي ليتَ، وأما الاستفهامُ فشاهِدُهُ البيتُ رَقْمُ 471؛ حيثُ أَكَّدَ (تَمْدَحَنَّ) بالنونِ الثقيلةِ؛ لِكَوْنِه مسبوقاً بأداةِ الاستفهامِ، وهي الهمزةُ، وسَتَرِدُ عليكَ كُلُّ هذه الأبياتِ مَشْرُوحَةً.
وقد تَرَكَ المؤلِّفُ الاستشهادَ لِلْعَرْضِ اكتفاءً بِمِثَالِ التحضيضِ؛ لأنَّه أخوه، وإنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهما مُخْتَلِفَةً نوعَ اختلافٍ.
([16]) سورةُ إبراهيمَ، الآيةُ: 42.
([17]) 469-لَمْ أَجِدْ أَحَداً نَسَبَ هذا الشاهِدَ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا صَدْرُ بيتٍ مِن البسيطِ، وعَجُزُه قولُه:
*كَمَا عَهِدْتُكِ في أَيَّامِ ذِي سَلَمِ*
اللغةُ: (هَلاَّ) حرفٌ يُقْصَدُ باستعمالِه حَضُّ المخاطَبِ وحَثُّه وحَمْلُه بإزعاجٍ على فعلِ ما يُذْكَرُ بعدَه، (تَمُنِّنْ) أَصْلُها =تمنينن، فلَمَّا حَذَفْتَ نونَ الرفعِ لِمَا سَنَذْكُرُه الْتَقَى ساكنانِ، فحُذِفَتْ ياءُ المخاطَبَةِ للتخَلُّصِ من التقائِهما، ومعناه: تَنْعَمِينَ وتَجُودِينَ وتَتَكَرَّمِينَ، (مُخْلِفَةٍ) اسمُ فاعلٍ مُؤَنَّثٍ من الإخلافِ، وهو عدمُ إنجازِ ما تَعِدُ به، (ذِي سَلَمِ) بفتحِ السينِ واللامِ جميعا: اسمُ مَوْضِعٍ يقالُ: هو بالحِجَازِ، ويقالُ: هو بالشامِ.
المعنى: يَحُثُّ مَحْبُوبَتَه على أنْ تَعِدَه بالوِصَالِ وَعْداً لا تُخْلِفُه، ويُذَكِّرُها بما كانَ منها في هذا المَوْضِعِ مِن وِدَادٍ ومُوَاصَلَةٍ.
الإعرابُ: (هَلاَّ) حرفُ تَحْضِيضٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (تَمُنِّنْ) فعلٌ مضارِعٌ مرفوعٌ بالنونِ المحذوفةِ معاملةً للفعلِ المتَّصِلِ بالنونِ الخفيفةِ معاملةَ المُتَّصِلِ بالنونِ الثقيلةِ؛ لاستواءِ النونيْنِ في المعنَى، وياءُ المُؤَنَّثَةِ المخاطَبَةِ المحذوفةِ للتخلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ فاعلٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعٍ، (بِوَعْدٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِتََمُنِّينَ، (غَيْرَ) حالٌ مِن ياءِ المخاطَبَةِ، وغيرَ مضافٌ و(مُخْلِفَةٍ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، (كَمَا) الكافُ حرفُ جَرٍّ، وما: مصدريَّةٌ، (عَهِدْتُكِ) عَهِدْ: فعلٌ ماضٍ، وتاءُ المتكلِّمِ فاعلُه، وكافُ المخاطَبَةِ مفعولُه، وما المصدريَّةُ معَ ما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ بالكافِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِتَمُنِّنْ (في أَيَّامِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَهِدْتُكِ، وأيَّامِ مضافٌ و(ذي) مضافٌ إليه، وذي مضافٌ و(سَلَمِ) مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (تَمُنِّنْ)؛ حيثُ أَكَّدَهُ لكونِه فِعلاً مضارعاً واقعاً بعدَ حرفِ التحضيضِ الذي هو (هَلاَّ)، وأصلُ الفعلِ معَ التوكيدِ: =(تَمنينن) حُذِفَتْ نونُ الرفعِ معَ النونِ الخفيفةِ؛ حَمْلاً على حَذْفِها معَ النونِ الثقيلةِ؛ تَخَلُّصاً مِن توالي الأمثالِ، وحُذِفَتْ ياءُ المخاطَبَةِ للتخلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ.
([18]) 470- ولم أَجِدْ مَن نَسَبَ هذا الشاهدَ أيضاً، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ مِن الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*لِكَيْ تَعْلَمِي أَنِّي امْرُؤٌ بِكِ هَائِمُ*
اللغةُ: (يومَ الْمُلْتَقَى) أرادَ به يومَ الحربِ التي يَلْتَقِي فيها الأقرانُ، وإنما طَلَبَ رُؤْيَتَها إيَّاه في هذا اليومِ، ورَتَّبَ عليها عِلْمَها بأنه مُغْرَمٌ بها؛ لأنَّ مِن عادةِ الأبطالِ إذا الْتَحَمَتِ السيوفُ وتَكَسَّرَتِ النِّصَالُ على النصالِ، أنْ يَذْكُرَ كلٌّ مِنهم أحبَّ الناسِ إليه؛ لِيَكُونَ ذلك أَبْعَثَ إلى نَشَاطِهِ، وأَشَدَّ إثارةٍ لِشَجَاعَتِهِ، وانْظُرْ قولَ عَنْتَرَةَ بنِ شَدَّادٍ العَبْسِيِّ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ، والرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ = مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطِرُ مِنْ دَمِي
الإعرابُ: (لَيْتُكِ): لَيْتَ: حرفُ تَمَنٍّ ونَصْبٍ، وكافُ المخاطَبَةِ اسمُه مَبْنِيٌّ على الكسرِ في مَحَلِّ نصبٍ، (يَوْمَ) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: تَرَيِنَّنِي الآتي، ويومَ مضافٌ و(المُلْتَقَى) مضافٌ إليه، (تَرَيِنَّنِي) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بالنونِ المحذوفةِ؛ لِتَوَالِي الأمثالِ، وياءُ المخاطَبَةِ المحذوفةِ للتخلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ فاعلُه، والنونُ المشدَّدَةُ نونُ التوكيدِ، والنونُ بَعْدَها نونُ الوِقَايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ مفعولٌ به، والجملةُ في مَحَلِّ رفعٍ خبرُ لَيْتَ، (لِكَي) اللامُ لامُ التعليلِ، وكي: حرفٌ مَصْدَرِيٌّ ونَصْبٌ، (تَعْلَمِي) فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بكي، وعَلامةُ نصبِه حذفُ النونِ، وياءُ المخاطَبَةِ فاعلُه، (أَنِّي) أنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، وياءُ المتكلِّمِ اسمُه مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نصبٍ، (امْرُؤٌ) خبرُ أنَّ، (بِكِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: هائِمُ، (هَائِمُ) صِفَةٌ لخبرِ أنَّ، وأنَّ معَ ما دَخَلَتْ عليه مِن اسمِها وخَبَرِها سَدَّتْ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ تَعْلَمِي.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (تَرَيِنَّنِي) حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الواقِعَ بعدَ أداةِ التمنِّي، وهي قولُه: (لَيْتَ).
([19]) 471-ذَكَرُوا أنَّ هذا الشاهِدَ من أبياتِ سِيبَوَيْهِ التي كانَتْ مجهولةً، ولَكِنِّي رَأَيْتُه قدْ نُسِبَ في النسخةِ المطبوعةِ في مِصْرَ مِن كتابِ سِيبَوَيْهِ (2/151) إلى المُقَنَّعِ، وقد نَسَبَه الشِّنْقِيطِيُّ الكبيرُ إلى امْرِئِ القَيْسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ، وذَكَرَ القصيدةَ التي مِنها بيتُ الشاهِدِ، وما ذَكَرَه المؤلِّفُ ههنا عَجُزُ بيتٍ مِن الكاملِ، وصَدْرُه قولُه:
*قالَتْ فُطَيْمَةُ حَلِّ شِعْرَكَ مَدْحَهُ*
اللغةُ: (فُطَيْمَةُ) تَصْغِيرُ فَاطِمَةٍ، تَصْغِيرُ التَّرْخِيمِ بعدَ حذفِ الحرفِ الزائدِ الذي هو الألِفُ، (حَلِّ) وهو بفتحِ الحاءِ المهملة وتشديدِ اللامِ، وأصلُه: (حَلِّ) فِعْلُ أمرٍ ماضيه (حَلَّأَ) بتضعيفِ اللامِ؛ أي: مَنَعَ وطَرَدَ، فخَفَّفَ الهمزةَ بقَلْبِهَا ياءً؛ لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها، ثُمَّ حَذَفَها كما يُحْذَفُ الياءُ التي هي أصلٌ في نحوِ: (وَفِّ وَعْدَكَ)، و(زَكِّ مَالَكَ) كذا قِيلَ، والصوابُ عِنْدِي أنَّ (حَلِّ) فِعْلُ أمرٍ مِن التحليَةِ، وهي التزيينُ، فالياءُ غَيْرُ مُنْقَلِبَةٍ عن شيءٍ، (كِنْدَةَ) بكسرِ الكافِ وسكونِ النونِ اسمُ قبيلةٍ مِنها امْرُؤُ القَيْسِ، (تَمْدَحَنَّ) تُثْنِي عليهم وتَذْكُرُ مَنَاقِبَهُم، (قَبِيلاَ)؛ أي: جماعةً من الناسِ.
الإعرابُ: (قَالَتْ) قالَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ تاءُ التأنيثِ، (فُطَيْمَةُ) فاعلٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (حَلِّ) فِعْلُ أمرٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ الياءِ، والكسرةُ قبلَها دليلٌ عليها، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (شِعْرَكَ) شِعْرَ: مفعولٌ به لِحَلِّ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وكافُ المخاطَبِ مضافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جرٍّ، (مَدْحَهُ) مَدْحَ: بَدَلٌ مِن شِعْرَكَ منصوبٌ بالفتحةِ، وهو منصوبٌ على نَزْعِ الخافِضِ على ما ارْتَضَيْنَاهُ؛ أي: زَيِّنْ شِعْرَكَ بِمَدْحِهِ، وضميرُ الغائبِ مضافٌ إليه، (أَفَبَعْدَ) الهمزةُ للاستفهامِ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، والفاءُ عاطفةٌ على محذوفٍ، وتقديرُه الكلامَ: أَتَعْتَدُّ بقَبِيلٍ فبعدَ كِنْدَةَ تَمْدَحَنَّ، وبعدَ ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: تَمْدَحَنَّ المذكورُ بعدُ؛ لأنَّ الظروفَ يُتَوَسَّعُ معَها ما لا يُتَوَسَّعُ معَ غيرِها، وبعدَ مضافٌ و(كِنْدَةَ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالفتحةِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه لا يَنْصَرِفُ؛ للعَلَمِيَّةِ والتأنيثِ، (تَمْدَحَنَّ) فعلٌ مضارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (قَبِيلاَ) مفعولٌ به لِتَمْدَحَنَّ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ.
الشاهِدُ فيه: قَوْلُه: (تَمْدَحَنَّ)؛ حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الواقِعَ بعدَ حرفِ الاستفهامِ، وهو الهمزةُ.
ومثلُ هذا الشاهدِ قولُ الشاعِرِ:
وهل يَمْنَعَنِّي ارْتِيَادُ الْبِلاَ = دِ مِن حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنْ
حيثُ أَكَّدَ (يَمْنَعَنِّي) بالنونِ الثقيلةِ؛ لوقوعِه بعدَ حرفِ الاستفهامِ، وهو هل.
ومثلُه قولُ الآخَرِ:
فَأَقْبِلْ عَلَى رَهْطِي وَرَهْطِكَ نَبْتَحِثْ = مَسَاعِيَنَا حَتَّى نَرَى كَيْفَ نَفْعَلاَ
فإنَّ قولَه: (نَفْعَلاَ) مُؤَكَّدٌ بالنونِ الخفيفةِ؛ لكونِه واقعاً بعدَ الاستفهامِ بكيفَ، وقد قُلِبَتْ فيه النونُ الخفيفةُ ألفاً لأجلِ الوقفِ.
([20]) سورةُ الأنفالِ، الآيةُ: 25، ومثلُ الآيةِ الكريمةِ في تأكيدِ المضارِعِ المنفيِّ بلا قولُ النابغةِ الذُّبْيَانِيِّ يُخَاطِبُ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ:
مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ آيَةً = وَمِنَ النَّصِيحَةِ كَثْرَةُ الإِنْذَارِ
لاَ أَعْرِفَنَّكَ مُعْرِضاً لِرِمَاحِنَا = فِي جُفِّ تَغْلِبَ وَارِدِي الأَمْرَارِ
وقولُ الآخَرِ:
لاَ أُلْفِيَنَّكَ بَعْدَ الموتِ تَنْدُبُنِي = وَقَبْلَ مَوْتِي مَا زَوَّدْتَنِي زَادِي
وجَعَلَ المؤلِّفُ في كتابِه: (مُغْنِي اللَّبِيبِ) تَوْكِيدَ المضارِعِ المنفيِّ بلا شاذًّا، وذَكَرَ في الآيةِ الكريمةِ التي تَلاَهَا هنا أنَّ (لا) يجوزُ أنْ تكونَ ناهيةً، فيكونُ التوكيدُ جارياً على الكثيرِ؛ لأنَّ المضارِعَ واقعٌ بعدَ أداةِ طَلَبٍ، وعلى هذا الوجهِ تكونُ جملةُ {لاَ تُصِيبَنَّ} نعتاً للفتنةِ على تقديرِ القولِ؛ لأنَّ الجملةَ الطَّلَبِيَّةَ لا تَقَعُ نَعْتاً للنَّكِرَةِ إلاَّ على هذا التقديرِ، وذَكَرَ معَ ذلك أنَّ (لا) في الآيةِ يَحْتَمِلُ أنْ تكونَ نافيةً، فيكونُ تأكيدُ المضارِعِ بَعْدَها شَاذًّا، وهذا كلامٌ لا نُقِرُّه عليه؛ لوقوعِه في القرآنِ الكريمِ وفيما ذَكَرْنَاهُ من الشواهدِ، وفي قولِ الآخَرِ:
فَلاَ الْجَارَةَ الدُّنْيَا بِهَا تَلْحِيَنَّهَا = ولا الضيفُ عَنْهَا إنْ أَنَاخَ مُحَوَّلُ
([21]) 472- هذا الشاهِدُ مَثَلٌ مِن أمثالِ العربِ معناه: أنَّ الفَرْعَ يَجِيءُ على وَفْقِ أَصْلِه، وهو موافقٌ لِشَطْرِ بيتٍ مِن الطويلِ، وقد وَقَعَ هذا الشاهدُ عَجُزاً في بيتٍ، وهو قولُ الشاعِرِ:
إذا ماتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ سَرَقَ ابْنُهُ = ومِنْ عِضَةٍ مَا يَنْبُتَنَّ شَكِيرُهَا
وقد وَقَعَ صَدْرَ بيتٍ آخَرَ، وعَجُزُهُ قولُه:
*قَدِيماً، ويُقْتَطُّ الزِّنَادُ مِنَ الزَّنْدِ*
اللغةُ: (عِضَةٍ) بكسرِ العينِ المهملةِ وفتحِ الضادِ مُخَفَّفَةً: شجرٌ ذَاتُ شَوْكٍ من أشجارِ البادِيَةِ، وللعلماءِ خلافٌ طويلٌ في لاَمِها؛ فقيلَ: لامُها واوٌ محذوفةٌ عَوَّضَ عنها هذه التاءُ؛ بدليلِ جَمْعِهِم إيَّاها على (عِضَوَاتٍ). وقيلَ: لامُها هاءٌ محذوفةٌ عُوِّضَتْ منها هذه التاءُ؛ بدليلِ قولِهِم: (عَضَهْتُهُ)، وقولِهم: (عَاضَه). وقيلَ: هذه التاءُ الموجودةُ هي لامُها. وقد أَشْبَعْنَا القولَ في هذه المذاهِبِ والاستدلالِ لها في شَرْحِنا على الأَشْمُونِيِّ، (شَكِيرُهَا) الشَّكِيرُ – بفتحِ الشينِ المعجمةِ بزِنَةِ الأَمِيرِ – ما يَنْبُتُ حولَ الشجرةِ، وقد قالُوا: (شَكِرَتِ الشجرةُ تَشْكَرُ) - مِن بابِ فَرِحَ يَفْرَحُ – إذا أَنْبَتَتِ الشَّكِيرَ حولَ جِذْرِها.
الإعرابُ: (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نصبٍ بقولِهِ: سَرَقَ الآتي، (ماتَ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (مِنْهُمْ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن قولِه: مَيِّتٌ الآتي، (مَيِّتٌ) فاعلُ ماتَ، وجملةُ الفعلِ الماضي وفاعلِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، (سَرَقَ) فعلٌ ماضٍ، (ابْنُهُ) ابنُ: فاعلُ سَرَقَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وابنُ مضافٌ وضميرُ الغائِبِ العائدُ إلى مَيِّتٌ مضافٌ إليه، (ومِن) الواوُ للاستئنافِ، من: حرفُ جَرٍّ، (عِضَةٍ) مجرورٌ بِمِن، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: يَنْبُتَنَّ الآتي، (ما) زائدةٌ، (يَنْبُتَنَّ) يَنْبُتُ: فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ، ونونُ التوكيدِ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (شَكِيرُهَا) شَكِيرُ: فاعلُ يَنْبُتُ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى عِضَةٍ مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (ما يَنْبُتَنَّ)؛ حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو (يَنْبُتُ) بالنونِ الثقيلةِ، وهذا الفعلُ واقعٌ بعدَ (ما) الزائدةِ غيرِ المسبوقةِ بإنِ الشرطيَّةِ.
ومثلُ هذا الشاهِدِ قولُهم في المَثَلِ: (بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ) يُضْرَبُ هذا المَثَلُ لِمَن يُخْفِي عن صاحبِه أمراً هو به عالِمٌ، ومعناه: إني أراكَ بعينٍ بَصِيرَةٍ.
ومثلُه قولُهُم في مَثَلٍ آخَرَ: (بِجَهْدٍ مَا تَبْلُغَنَّهُ) يُضْرَبُ لِمَن تُحَمِّلُه فِعْلاً فيه مَشَقَّةٌ فيُصِيبُه الإعياءُ؛ أي: لا بُدَّ لكَ مِن فِعْلِه ولو بِمَشَقَّةٍ وجَهْدٍ.
ومثلُه قولُهم في مَثَلٍ آخَرَ: (بِأَلَمٍ مَا تَخْتِتَنْهُ)، وأصلُه خِطَابٌ لامرأةٍ، و(تَخْتِتَنْهُ) فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، وأصلُه الخِتَانُ، والهاءُ في آخِرِهِ هاءُ السَّكْتِ، والمَثَلُ يُضْرَبُ لِمَن يَفْعَلُ فِعْلاً يَتَأَلَّمُ به ولا بُدَّ له مِن فِعْلِهِ، وقد حَكَى سِيبَوَيْهِ كلَّ هذه الأمثالِ في الكِتابِ (2/153).
([22]) 473-هذا الشاهِدُ من كَلِمَةٍ لِحَاتِمٍ الطَّائِيِّ الجَوَادِ المعروفِ، وما ذَكَرَهُ المؤلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطويلِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*إِذَا نَالَ مِمَا كُنْتَ تَجْمَعُ مَغْنَمَا*
وقبلَ هذا البيتِ قولُه:
أَهِنْ لِلَّذِي تَهْوَى التِّلاَدَ فإِنَّه = إِذَا مُتَّ كانَ المالُ نَهْباً مُقَسَّمَا
الإعرابُ: (قَلِيلاً) نعتٌ لمنعوتٍ محذوفٍ يَقَعُ مفعولاً مُطْلَقاً منصوباً بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قولُه: (يَحْمَدَنَّكَ) الآتي، وتقديرُ الكلامِ: يَحْمَدُكَ حَمْداً قليلاً، ولم نَجْعَلْ ناصِبَ المفعولِ المطلَقِ هو يَحْمَدَنَّكَ الآتي،؛ لأنَّ مِن المُقَرَّرِ أنَّ الفعلَ المُؤَكَّدَ لا يَتَقَدَّمُ معمولُه عليه، وليسَ هذا المعمولُ ظرفاً فيُتَّسَعَ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه، (به) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَحْمَدَ الآتي، (ما) زائدةٌ، (يَحْمَدَنَّكَ) يَحْمَدَ: فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ، ونونُ التوكيدِ الثقيلةُ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وكافُ المخاطَبِ مفعولٌ به لِيَحْمَدَ مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نصبٍ، (وارِثٌ) فاعلُ يَحْمَدَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (إذا) ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَحْمَدَ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، (نالَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى وارِثٌ، (مِمَّا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَالَ، (كُنْتَ) كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، وتاءُ المخاطَبِ اسْمُه، (تَجْمَعُ) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، وجملةُ تَجْمَعُ وفاعلِه في مَحَلِّ نصبٍ خبرُ كانَ، وجملةُ كانَ واسمِها وخبرِها لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ ما المجرورةِ مَحَلاًّ بِمِن، والعائدُ ضميرٌ محذوفٌ منصوبٌ بِتَجْمَعُ؛ أي: تَجْمَعُه (مَغْنَمَا) مفعولٌ به لنالَ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (ما يَحْمَدَنَّكَ)؛ حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو قولُه: (يَحْمَدُ) بالنونِ الثقيلةِ، وهذا الفعلُ واقعٌ بعدَ (ما)، وقد ذَكَرَ الشيخُ خالِدٌ أنَّ (ما) هنا زائدةٌ، وهي على معنى النفيِ، وقالَ الدَّمَامِينِيُّ: ولا أَدْرِي الوجهَ الذي عَيَّنَ ذلك.
وههنا أمرانِ أُحِبُّ أَنْ أُنَبِّهَكَ إليهما:
الأوَّلُ: أنَّ المؤلِّفَ قد جَعَلَ توكيدَ المضارِعِ المسبوقِ بما الزائدةِ غيرَ المصاحبةِ لإنْ قليلاً، وهو تابعٌ لابنِ مالِكٍ في هذه العبارةِ، وليسَ المرادُ به أنه قليلٌ في ذاتِه؛ لأنَّ ابنَ مالِكٍ صَرَّحَ في بعضِ كُتُبِهِ بأنه كثيرٌ، بل رُبَّمَا دَلَّ كَلامُه على أنه مُطَّرِدٌ، فيُحْمَلُ كلامُ ابنِ هِشامٍ على هذا؛ إذ كانَ تابِعاً لابنِ مالِكٍ في اختياراتِه.
الأمرُ الثاني: أنه لم يَخُصَّ ما الزائدةَ بنوعٍ، فشَمَلَ ما التي تَقَعُ بعدَ رُبَّ، وقد صَرَّحَ ابنُ مالِكٍ في شرح كَافِيَتِهِ بأنَّ توكيدَ المضارِعِ الواقِعِ بعد ما المتَّصِلَةِ برُبَّ شاذٌّ، ووَجَهُه أنَّ الفعلَ الواقعَ بعدَ (رُبَّمَا) ماضي المعنى غالباً، ونونُ التوكيدِ تَقْتَضِي الاستقبالَ، فهما كالمتناقضيْنِ، وكلامُ سِيبَوَيْهِ يُشْعِرُ بجوازِ توكيدِ المضارِعِ الواقعِ بعدَ رُبَّمَا، فقد حَكَى قولَ العربِ: (رُبَّمَا يَقُولَنَّ ذلك)، وقد وَرَدَ في قولِ الشاعِرِ:
رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عَلَمٍ = تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالاَتُ
([23]) 474- نَسَبَ الشيخُ خالدٌ هذا الشاهِدَ إلى أبي حَيَّانَ الفَقْعَسِيِّ، يَصِفُ جَبَلاً عَمَّهُ الخِصْبُ وحَفَّهُ النباتُ، وهو تابعٌ في ذلك للعَيْنِيِّ التابِعِ للأَعْلَمِ الشَّنْتَمْرِيِّ، والذي عليه الناسُ أنه لأبي الصَّمْعَاءِ مُسَاوِرِ بنِ هِنْدٍ العَبْسِيِّ، وأنه يَصِفُ وَطْبَ لَبَنٍ، وأبو الصَّمْعَاءِ شاعرٌ مُخَضْرَمٌ، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا بيتٌ مِن مَشْطُورِ الرَّجَزِ، وبعدَه قولُه:
*شَيْخاً على كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا*
اللغةُ: (يَحْسَبُهُ) يَخَالُهُ ويَظُنُّه، (الجَاهِلُ) الذي لا يَعْلَمُ حقيقةَ حالِه، (شَيْخاً) أَصْلُه الرجلُ الذي جَاوَزَ الأربعينَ، وأَدْرَكَ حدَّ الكِبَرِ والشيخوخةِ، وقد جَرَى العُرْفُ على إطلاقِه على الرجلِ مِن أهلِ العِلْمِ الذي نَصَّبَ نفسَه لإفادةِ الطالبينَ، (مُعَمَّمَا) لابِساً العِمَامَةَ.
المعنى: وَصَفَ الشاعرُ وَطْباً مِن اللَّبَنِ فقالَ: مَن نَظَرَ إليه وهو لا يَعْلَمُ حقيقةَ حَالِهِ ظَنَّهُ شَيْخاً قد لَبِسَ عِمَامَةً بيضاءَ، وتَرَبَّعَ فوقَ كُرْسِيِّهِ، وهو تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الوَطْبِ الذي يَظْهَرُ اللبنُ في أعلاهُ أَبْيَضَ شديدَ البياضِ بهيئةِ الشيخِ المُعَمَّمِ بعِمامةٍ شديدةِ البياضِ وهو جالسٌ على الكرسيِّ.
الإعرابُ: (يَحْسَبُهُ) يَحْسَبُ: فعلٌ مضارِعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وضميرُ الغائبِ العائدِ إلى وَطْبِ اللبنِ الموصوفِ مفعولٌ أَوَّلُ مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نصبٍ، (الجَاهِلُ) فاعلُ يَحْسَبُ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (ما) مَصْدَرِيَّةٌ ظرفيَّةٌ، (لم) حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلبٍ، (يَعْلَمَا) يَعْلَمَ: فعلٌ مضارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفاً لأجلِ الوقفِ، في مَحَلِّ جَزْمٍ بلم، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُه هو يعودُ على الجاهلُ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ حرفٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (شَيْخاً) مفعولٌ ثانٍ لِيَحْسَبُ، (على) حرفُ جرٍّ، (كُرْسِيِّهِ) كُرْسِيِّ: مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صفةُ قولِهِ: شَيْخاً. وكُرْسِيِّ مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدِ إلى الشيخِ مضافٌ إليه، (مُعَمَّمَا) صفةٌ لِشَيْخٍ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (لم يَعْلَمَنْ) حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو قولُه: (يَعْلَمْ) بالنونِ الخفيفةِ، بعدَ حرفِ النفيِ الذي هو لم، وقد نَبَّهْنَاكَ فيما مَضَى على شاهدٍ آخرَ لهذه المسألةِ (انْظُرْ شرحَ الشاهدِ رَقْمِ 405)، ومثلُه ما أَنْشَدَهُ الخَالِدِيَّانِ في الأشباهِ والنظائرِ (ص100) لبعضِ الأعرابِ:
أَلَمْ تَعْلَمَنَّ يَا رَبُّ أَنْ رُبَّ دَعْوَةٍ = دَعَوْتُكَ فِيهَا مُخْلِصاً لَوْ أُجَابُهَا
([24]) 475- هذا الشاهِدُ من كَلِمَةٍ عِدَّتُها ثلاثةُ أبياتٍ لابنةِ مُرَّةَ بنِ عَاهَانَ الحارِثِيِّ تُرْثِي أَباها، وكانَتْ باهِلَةُ قدْ قَتَلَتْهُ، والذي ذَكَرَه المؤلِّفُ ههنا صدرُ بيتٍ من الكاملِ، وعَجُزُه قولُه:
*أبداًَ، وقَتْلُ بَنِي قُتَيْبَةَ شَافِي*
اللغة: (نَثْقَفُ) معناه نَجِدُ، (آئِبٌ) اسمُ فاعلٍ فِعْلُه آبَ يَؤُوبُ بمعنى رَجَعَ يَرْجِعُ.
المعنى: إنَّ مَن نَلْقَاهُ مِنهم سَنَقْتُلُه، فلا يَرْجِعُ إلى قومِه أبداً، ثم بَيَّنَ أن ذلك شفاءً لِمَا في صُدُورِهِم مِن حَسِيكَةٍ سَبَبُها الدماءُ التي أُرِيقَتْ منهم.
الإعرابُ: (مَن) اسمُ شرطٍ جازِمٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعٍ مبتدأٌ، (نَثْقَفَنْ) نَثْقَفَ: فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ في مَحَلِّ جزمٍ فعلُ الشرطِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه نحنُ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ حرفٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (مِنْهُمْ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَثْقَفَ، (فَلَيْسَ) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ الشرطِ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، ليسَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ يَرْفَعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، واسْمُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو، يعودُ إلى اسمِ الشرطِ، =(بِآيِبِ) الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٌ، آيِبِ: خبرُ ليسَ منصوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتْغِاَل ُالمَحَلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزائدِ، والجملةُ مِن ليسَ واسْمِها وخَبَرِها في مَحَلِّ جزمٍ جوابُ الشرطِ، وجملةُ الشرطِ وجوابُه في مَحَلِّ رفعٍ خبرُ المبتدأِ الذي هو اسمُ الشرطِ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (مَنْ نَثْقَفَنْ)؛ حيثُ أَكَّدَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو نَثْقَفُ بالنونِ الخفيفةِ بعدَ (مَن) الشرطيَّةِ.
ونظيرُه قولُ ابنِ الخَرِعِ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (2/152):
فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ = وَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا
الشاهِدُ فيه: قولُه: (تَمْنَعَا)؛ حيثُ أَكَّدَ هذا الفعلَ بالنونِ الخفيفةِ؛ وذلك لأنَّه واقِعٌ بعدَ مَهْمَا التي هي أداةُ شرطٍ، وقد قَلَبَ النونَ الخفيفةَ أَلِفاً للوقفِ.
ومثلُه قولُ الآخَرِ:
نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانِيِّ فِي الثَّرَى = حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الْخَيْرُ يَنْفَعَا
الشاهِدُ: في قَوْلِهِ: (يَنْفَعَا)؛ حيثٌ أَكَّدَهُ بالنونِ الخفيفةِ، وقَلَبَها ألِفاً للوَقْفِ، بعدَ (متى).
ومِن هنا تَعْلَمُ أنَّ مرادَ النُّحاةِ مِن قولِهم: (بعدَ أداةِ جَزَاءٍ غَيْرَ إمَّا) ما هو أَعَمُّ مِن أنْ يكونَ الفعلُ شرطاً كما في بيتِ الشاهدِ، وأنْ يكونَ جَوَاباً وجَزاءً كما في هذيْن البيتيْن اللذيْن أَنْشَدْنَاهُما.
([25]) اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في الفتحةِ التي قَبْلَ نونِ التوكيدِ المؤكَّدِ بها الفعلُ المضارِعُ، نحوُ: لا تَضْرِبَنَّ، وفعلِ الأمرِ، نحوُ اضْرِبَنَّ، فذَهَبَ أبو العبَّاسِ المُبَرِّدُ وأبو عليٍّ الفَارِسِيُّ وابنُ السَّرَّاجِ إلى أن هذه الفتحةَ فتحةُ البناءِ، والفعلُ عندَهم مَبْنِيٌّ على الفتحِ، وذلك لِتَرَكُّبِهِ معَ النونِ تركيبَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والسِّيرَافِيُّ والزَّجَّاجُ إلى أنَّ الفعلَ – مضارعاً كانَ أو أَمْراً – مَبْنِيٌّ معَ نونِ التوكيدِ على السكونِ؛ لأنَّه الأصلُ في البناءِ، ثمَّ حُرِّكَ آخرُ الفعلِ لِلتَّخَلُّصِ مِن الْتِقَاءِ الساكنيْنِ، وهما آخِرُ الفعلِ والنونُ، وكانَتِ الحركةُ هي الفتحةَ؛ لأنَّها أَخَفَّ الحركاتِ، وعلى هذا يقالُ في (لا تَلْعَبَنَّ): مَبْنِيٌّ على السكونِ مُقَدَّرٌ على آخرِه، مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ الفتحةُ العارِضَةُ لأجلِ التخلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ، معَ طَلَبِ التخفيفِ.
([26]) الساكنانِ هما الألِفُ التي قبلَ النونِ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ الساكنةُ، فأَمَّا نونُ الرفعِ فإنَّها محذوفةٌ؛ لأنَّ الأمرَ يُبْنَى حينَئذٍ على حذفِ النونِ، فإذا كانَ الفعلُ مضارعاً مرفوعاً حُذِفَتْ نونُ الرفعِ عندَ التوكيدِ أيضاً، لكِنَّ حَذْفَها حينَئذٍ للفِرَارِ مِن اجتماعِ الأمثالِ.
([27]) احْتَجَّ الكُوفِيُّونَ ويُونُسُ لِجَوَازِ وُقُوعِ نونِ التوكيدِ الخفيفةِ الساكنةِ بعدَ الألِفِ - سواءٌ أكانَتْ هذه الألِفُ ضميرَ الاثنيْنِ أم كانَتِ الألفُ الفارقةُ بينَ نونِ الإناثِ ونونِ التوكيدِ – بأنَّ غايةَ ما يَلْزَمُ على هذا الاجتماعِ هو التقاءُ ساكنيْنِ ليسَ ثانيهما مُدْغَماً في مِثْلِه، وقد وَجَدْنَا العربَ لا يَرَوْنَ بهذا بَأْساً، فقد جاءَ في أمثالِهِم قولُهم: (الْتَقَتْ حَلْقَتَا البِطَانِ)
وهم حِينَ يقولونَ هذا المَثَلَ يُبْقُونَ ألِفَ الاثنيْنِ ساكنةً معَ سكونِ ما يَلِيها، وهو لامُ التعريفِ، وقد وَقَعَ ذلك في قولِ أَوْسِ بنِ حَجَرٍ:
وَازْدَحَمَتْ حَلْقَتَا البِطَانِ بِأَقِـ = = ـوَامٍ وَجَاشَتْ نُفُوسُهُمْ جَزَعَا
ونظيرُ ذلكَ قِرَاءَةُ مَن قَرَأَ: (مَحْيَايْ ومَمَاتِي) بسكونِ ياءِ المتكلِّمِ معَ سكونِ الألفِ قبلَها، في الوصلِ فَضْلاً عن الوقفِ. وقِرَاءَةُ مَن قَرَأَ: {أَأْنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} بقلبِ الهمزةِ الثانيةِ مِن {أَأَنْذَرْتُهْمْ} أَلِفاً ساكنةً معَ سكونِ النونِ التي بَعْدَها، وقِرَاءَةُ مَن قَرَأَ: (هَؤلاَءْ إِنْ كُنْتُمْ) بسكونِ همزةِ (هَؤُلاَءْ) معَ أنَّ الألفَ قبلَها ساكنةٌ، وقراءةُ الجميعِ في {كهيعص}؛ فإنَّ فيها التقاءَ الساكنيْنِ ثلاثَ مرَّاتٍ وليسَ ثانيهما مُدْغَماً في مِثْلِه، فدَلَّ ذلك كلُّه على أنَّ العربَ قد تَسْتَسِيغُ هذا الالتقاءَ، فقلنا بجوازِ مثلِه فيما نحنُ بِصَدَدِهِ.
([28]) سورةُ الأنعامِ، الآيةُ: 162.
([29]) سورةُ الفُرْقَانِ، الآيةُ: 36، وتوجيهُ هذه القراءةِ على أنَّ الألفَ ضميرُ الاثنيْنِ، والنونُ للتوكيدِ.
([30]) سورةُ يُونُسَ، الآيةُ: 89، وإنما يَتِمُّ الاستدلالُ بهذه القراءةِ إذا جَعَلْنَا الواوَ حرفَ عَطْفٍ، و(لا) بعدَها حرفَ نهيٍ، فتكونُ الألِفُ ضميرَ الاثنيْنِ والنونُ للتوكيدِ، فإنْ جَعَلْتَ لا نافيةً والواوُ للحالِ كانَتِ النونُ علامةً على رفعِ الفعلِ المسنَدِ لألِفِ الاثنيْنِ، والجملةُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وجملةُ المبتدأِ والخبرِ في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ.
([31]) اعْلَمْ أنَّ الْتِقَاءَ الساكنيْنِ يُغْتَفَرُ في العربيَّةِ بشرطيْنِ:
أَوَّلُهُما: أنْ يكونَ أَوَّلُ الساكنيْنِ حرفَ لِينٍ كالألِفِ، وكالواوِ المفتوحِ ما قَبْلَها أو المضمومِ ما قَبْلَها، وكالياءِ المفتوحِ ما قَبْلَهَا أو المكسورِ ما قبلَها.
وثانيهما: أنْ يكونَ ثاني الساكنيْنِ مُدْغَماً في مِثْلِه، فإذا عَلِمْتَ هذا تَبَيَّنَ لكَ السرُّ الذي اعْتَمَدَ عليه البَصْرِيُّونَ في جَوَازِ وُقُوعِ النونِ الشديدةِ بعدَ الألِفِ، وعدمِ جوازِ وقوعِ الخفيفةِ في هذا المَوْضِعِ.
([32]) 476-هذا الشاهدُ مِن كَلِمَةٍ للأَضْبَطِ بنِ قُرَيْعٍ السَّعْدِيِّ، قالَ ثَعْلَبٌ: بَلَغَنِي أنها قِيلَتْ قبلَ الإسلامِ بدَهْرٍ طويلٍ. والذي ذَكَرَهُ المؤلِّف من هذه الكَلِمَةِ بيتٌ مِن المُنْسَرِحِ قد حُذِفَ من أَوَّلِ جُزْئِهِ الأوَّلِ سببٌ خَفِيفٌ، فآخِرُ الشطرِ الأوَّلِ (أنْ)، ولا تَلْتَفِتْ إلى ما قيلَ سِوَى هذا؛ فإنَّ أَوَّلَ الكَلِمَةِ قولُه:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ = وَالْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ
اللغةُ: (تُهِينُ) مُضَارِعٌ من الإهانةِ، وهو الإذلالُ والاحتقارُ والازْدِرَاءُ، (الفَقِيرَ) أصلُه في اللغةِ الذي انْكَسَرَ فِقَارُ ظَهْرِه، ثمَّ أَطْلَقَ على المُعْدِمِ الذي لا يَجِدُ حَاجَتَه مِن المالِ؛ لأنَّه يُشْبِهُ مِن انْبَتَّ ظَهْرُه =وعدم الحولِ والقوَّةِ، (عَلَّكَ) هي لغةٌ في لَعَلَّكَ، وقد تَقَدَّمَ في أوائلِ حُرُوفِ الجَرِّ بَيَانُهَا وذِكْرُ أَصْحَابِها، (تَرْكَعَ) أصلُه مضارعٌ مِن الركوعِ، وهو الانحطاطُ مِن أعلى إلى أَسْفَلُ، وأرادَ: لَعَلَّكَ أنْ تُصِيبَكَ جَائِحَةٌ فتُبَدِّلُ حَالَكَ الحَسَنَةَ بحالةٍ مغايِرَةٍ لها، (رَفَعَهُ) أرادَ: بَدَّلَ حَالَهُ السَّيِّئَةَ بحالةٍ أُخْرَى حَسَنَةٍ.
المعنى: يقولُ: لا تَحْتَقِرْ أَحَداً مِن الذين تَرَاهُم دُونَكَ، ولا تَزْدَرِهِ، ولا تُصَغِّرْ مِن شَأْنِهِ؛ فإنك لا تَدْرِي ما عَسَى أنْ تَتَمَخَّضَ الأيامُ عنه، فرُبَّمَا بَدَّلَتْكَ مِن حَالِكَ الحَسَنَةِ حالاً سَيِّئَةً، وربَّما بَدَّلَتْهُ هو من حالِه السيِّئةِ حالاً حَسَنَةً.
الإعرابُ: (لا) حرفُ نهيٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (تُهِينَ) فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ المحذوفةِ للتخلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ في مَحَلِّ جَزْمٍ بلا الناهيةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (الفَقِيرَ) مفعولٌ به لِتُهِينَ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، (عَلَّكَ) عَلَّ: حرفُ تَرَجٍّ ونَصْبٍ، مَبْنِيٌّ على الفتحِ، لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ المخاطَبِ اسمُه مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نصبٍ، (أَنْ) حرفٌ مَصْدَرِيٌّ ونصبٌ، (تَرْكَعَ) فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنْ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (يَوْماً) ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بِتَرْكَعَ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، وأنْ معَ ما دَخَلَتْ عليه في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ يَقَعُ خبرَ لَعَلَّ على أحدِ التأويلاتِ الثلاثةِ التي سَبَقَ بَيَانُها (في ص 278 من الجزءِ الثالثِ)، (والدَّهْرُ) الواوُ واوُ الحالِ، الدَّهْرُ: مبتدأٌ، (قَدْ) حرفُ تَحْقِيقٍ، (رَفَعَهْ) رَفَعَ: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الدَّهْرُ، وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى الفقيرَ مفعولٌ به، والجملةُ من الفعلِ وفاعلِه ومفعولِه في مَحَلِّ رفعٍ خبرُ المبتدأِ، وجملةُ المبتدأِ وخبرِه في مَحَلِّ نَصْبٍ حالٌ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (لاَ تُهِينَ)؛ حيثُ حَذَفَ هذا الشاعِرُ نونَ التوكيدِ الخفيفةِ للتخلُّصِ من الْتِقَاءِ الساكنيْنِ اللذيْن هما نونُ التوكيدِ الخفيفةِ واللامُ في (الفَقِيرَ)؛ لأنَّ الألِفَ التي بينَهما ألفُ الوصلِ، فلا حَرَكَةَ لها عندَ الوَصْلِ، وقد أَبْقَى فتحَ آخِرِ الفعلِ دليلاً على تلكَ النونِ المحذوفةِ. وثُبُوتُ الياءِ التي هي لامُ الكَلِمَةِ معَ وُجُودِ الجازِمِ دليلٌ على أنَّ الفعلَ مُؤَكَّدٌ.
([33]) سورةُ العَلَقِ، الآيةُ: 15.
([34]) سورةُ يُوسُفَ، الآيةُ: 32.
([35]) 477- هذا الشاهِدُ من كَلِمَةِ الأَعْشَى مَيْمُونَ بنِ قَيْسٍ التي كانَ مَدَحَ بها النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَدِمَ بها لِيُنْشِدَها بينَ يَدَيْهِ، فمَنَعَتْه قريشٌ، والذي أَنْشَدَه المؤلِّفُ عَجُزُ بيتٍ مِن الطويلِ، وصَدْرُه قولُه:
*وَإِيَّاكَ وَالمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا*
اللغةُ: (المَيْتَاتِ) بفتحِ الميمِ وسكونِ الياءِ: جَمْعُ مَيْتَةٍ، وهي الحيوانُ المأكولُ الذي فارَقَ الحياةَ حَتْفَ نَفْسِه مِن غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، (لا تَقْرَبَنَّهَا) أرادَ: لا تَطْعَمْهَا، فبالِغْ في ذلكَ بالنهيِ عن القُرْبِ منها، (الشيطانَ) اسمٌ يُطْلَقُ على إِبْلِيسَ عَدُوِّ اللهِ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ نفسٍ عاتِيَةٍ خارجةٍ عن الجَادَّةِ التي رَسَمَها اللهُ تعالى.
الإعرابُ: (إِيَّاكَ) مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ وُجُوباً، (والمَيْتَاتِ) الواوُ حرفُ عطفٍ، الميتاتِ: معطوفٌ على المفعولِ به، أو منصوبٌ على نَزْعِ الخافِضِ، على ما ذَكَرْنَاهُ من الخلافِ في شرحِ الشاهِدِ (رَقْمِ 403)، وعلامةُ نَصْبِه على الحالتيْنِ الكسرةُ نيابةً عن الفتحةِ؛ لأنَّه جمعُ مؤنَّثٍ سالِمٍ، (لا) حرفُ نهيٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (تَقْرَبَنَّهَا) تَقْرَبَ: فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ في مَحَلِّ جزمٍ بلا الناهيةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنْتَ، ونونُ التوكيدِ الثقيلةُ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى المَيْتَاتِ مفعولٌ به مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نصبٍ، (ولا) الواوُ حرفُ عطفٍ، لا: حرفُ نَهْيٍ، (تَعْبُدِ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلا الناهيةِ وعلامةُ جزمِه السكونُ، وحُرِّكَ بالكسرِ للتخلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ الساكنيْنِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (الشيطانَ) مفعولٌ به لِتَعْبُدِ، (واللهَ) الواوُ حرفُ عطفٍ، ولفظُ الجلالةِ منصوبٌ على التعظيمِ، (فَاعْبُدَا) الفاءُ زائدةٌ، اعْبُدَا: فِعْلُ أمرٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفاً لأجلِ الوَقْفِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، ونونُ التوكيدِ حرفٌ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (فَاعْبُدَا)؛ حيثُ أَبْدَلَ النونَ الخفيفةَ أَلِفاً في الوقتِ كما أنَّ التنوينَ في الاسمِ المنصوبِ يُقْلَبُ عندَ الوقفِ أَلِفاً في نحوِ قولِكَ: (رَأَيْتُ زَيْداً)، ومِن أجلِ هذا كُتِبَتْ نونُ التوكيدِ الخفيفةُ أَلِفاً؛ لأنَّ من قواعدِ الكتابةِ أنها تَتْبَعُ الوَقْفَ.