السادِسُ: أنَّه إنْ كانَ مُؤَنَّثاً أُنِّثَ فِعْلُه بتاءٍ ساكنةٍ في آخرِ الماضي وبتاءِ المضارعةِ في أوَّلِ المُضارِعِ.
ويَجِبُ ذلك في مَسْألتَيْنِ:
إحداهما: أنْ يَكُونَ ضَمِيراً مُتَّصِلاً؛ كـ (هِندُ قَامَتْ), أو (تَقُومُ) و(الشَّمْسُ طَلَعَتْ) أو (تَطْلُعُ), بخلافِ المُنْفَصِلِ نحوَ: (ما قَامَ أو يَقُومُ إِلاَّ هِيَ), ويجوزُ تَرْكُها في الشِّعْرِ إنْ كانَ التأنيثُ مَجازيًّا؛ كقولِه:
211- وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا([1]) وقولِه:
212- فَإِنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا([2]) والثانيةُ: أنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً حَقِيقِيَّ التأنيثِ، نحوَ: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ}([3]) وشَذَّ قَوْلُ بَعْضِهم: (قالَ فُلانَةُ). وهو رَدِيءٌ لا يَنْقَاسُ,
وإنَّما جازَ في الفَصِيحِ نَحْوُ: (نِعْمَ المَرْأَةُ) و(بِئْسَ المَرْأَةُ)؛ لأنَّ المُرادَ الجِنْسُ, وسَيَأْتِي أنَّ الجِنْسَ يَجوزُ فيهِ ذلك.
ويجوزُ الوجهانِ في مَسْأَلَتَيْنِ: إحداهما: المُنْفَصِلُ، كقولِه:
213- لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ([4]) وقولِهم: (حَضَرَ القَاضِيَ اليَوْمَ امْرأةٌ). والتأنيثُ أكْثَرُ, إلاَّ إنْ كانَ الفاصِلُ (إِلاَّ) فالتأنيثُ خَاصٌّ بالشِّعْرِ. نَصَّ عليهِ الأخْفَشُ، وأنْشَدَ على التأنيثِ:
214- مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وذَمِّ = فِي حَرْبِنَا إِلاَّ بَنَاتُ العَمِّ([5]) وجَوَّزَه ابنُ مالكٍ في النَّثْرِ, وقُرِئَ: (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةٌ)([6]) (فَأَصْبَحُوا لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) ([7]).
الثانيةُ: المَجازِيُّ التأنيثِ نحوُ: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ}([8]) ومنهُ اسْمُ الجِنْسِ, واسْمُ الجَمْعِ, والجَمْعُ؛ لأنَّهُنَّ في معنَى الجماعةِ, والجماعةُ مُؤَنَّثٌ مَجَازِيٌّ؛ فلذلك جازَ التأنيثُ, نَحْوَ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}([9])، و:{قَالَتِ الأَعْرَابُ}([10])، و: (أَوْرَقَتِ الشَّجَرُ), والتذكيرُ نَحْوَ: (أَوْرَقَ الشَّجَرُ) {وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ}([11])، {وقَالَ نِسْوَةٌ}([12]) و: (قَامَ الرِّجالُ), و: (جاءَ الهُنودُ), إلاَّ أنَّ سَلامةَ نَظْمِ الواحدِ في جَمْعَيِ التصحيح ِ أَوْجَبَتِ التذكيرَ في نحوِ: (قَامَ الزَّيْدُونَ), والتأنيثَ في نَحْوِ: (قَامَتِ الهِنْدَاتُ)؛ خلافاً للكُوفِيِّينَ فيهما, وللفارسِيِّ في المُؤنَّثِ, واحْتَجُّوا بنحوِ: {إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}([13]), {إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ}([14]) وقولِه:
215- فَبَكَى بَنَاتِي شَجْوَهُنَّ وَزَوْجَتِي([15]) وأُجِيبَ بأنَّ البَنِينَ والبناتِ لَمْ يَسْلَمْ فيهما لفظُ الواحدِ, وبأنَّ التذكيرَ في {جَاءَكَ} للفَصْلِ, أو لأنَّ الأصلَ النساءُ المؤمناتُ, أو لأنَّ (أَلْ) مُقَدَّرَةٌ (باللاتي) وهي اسْمُ جَمْعٍ.
([1])211-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من المُتقارِبِ، وصَدْرُه قولُه:
*فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا*
والبيتُ لعامرِ بنِ جُوَيْنٍ الطَّائِيِّ، كما نُسِبَ في كتابِ سِيبَوَيْهِ (1/140)، وفي شَرْحِ شواهدِه للأعْلَمِ الشَّنْتَمَرِيِّ.
اللغةُ: ( المُزْنَةُ) السحابَةُ المُثْقَلَةُ بالماءِ, (الوَدْقُ) المَطَرُ، وفي القُرْآنِ الكَريمِ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}. (أبْقَلَ) أنْبَتَتِ البَقْلَ، وهو النباتُ.
المعنَى: يَصِفُ أرْضاً قدْ عَمَّها الخَصْبُ والنَّماءُ، والتَفَّ فيها الزرعُ، بعدَ سَحابَةٍ أَفْرَغَتْ عَزَالِيَهَا، وصَبَّتْ مِياهَهَا، فيَقولُ: لَمْ نَرَ سَحَابَةً أمْطَرَتْ مِثْلَ ما أَمْطَرَتْ هذهِ السحابةُ، ولا أَرْضاً أَنْبَتَتْ مِثْلَ البَقْلِ الذي أَنْبَتَتْهُ هذهِ الأرضُ.
الإعرابُ: ( فَلاَ) نافيةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ ليسَ, ( مُزْنَةٌ) اسْمُها، وجُملةُ ( ودَقَتْ) وفَاعِلِه المُستتِرِ فيهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ, خبَرُ لا, ( وَدْقَهَا) وَدْقَ: مَنْصوبٌ على المَفْعولِيَّةِ المُطلَقَةِ، وهو مُضافٌ، وها: مُضافٌ إليهِ, (ولا) الواوُ عاطفةٌ لجُملةٍ على جُملةٍ، ولا: نافيةٌ للجنسِ تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ, (أَرْضَ) اسْمُها، وجملةُ (أبْقَلَ) وفَاعِلِه المُستَتِرِ فيهِ في مَحَلِّ رَفْعٍ, خَبَرُها, (إبْقَالَها) إِبْقَالَ: مَفْعولٌ مُطْلَقٌ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبةِ في مَحَلِّ جَرٍّ, مُضافٌ إليهِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ) حَيْثُ حذَفَ تاءَ التأنيثِ من الفِعْلِ المُسْنَدِ إلى ضَميرِ المُؤَنَّثِ، وهذا الفِعْلُ هو (أبْقَلَ), وهو مسندٌ إلى ضَمِيرٍ مُستتِرٍ يعودُ إلى السحابةِ، وهي مُؤَنَّثَةٌ، ويُرْوَى:
*وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَتِ ابْقَالَهَا*
بكسرِ تاءِ التأنيثِ للتخَلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ، ووَصْلِ هَمْزةِ القَطْعِ من (إبقالِها) وهو تَخَلُّصٌ من ضرورةٍ للوُقوعِ في ضَرُورةٍ أُخْرَى، هذا بيانُ كلامِ المُؤَلِّفِ وتَوْجِيهُه.
ومِن العلماءِ مَن خَرَّجَ البيتَ على وَجْهٍ آخرَ، وحَاصِلُه أنَّ الشاعرَ أَتَى بالضميرِ العائدِ إلى الأرضِ مُذَكَّراً؛ لأنه أرادَ بالضميرِ المكانَ، فهو مِن الحَمْلِ على المعنَى، ولذلكَ نظائِرُ كَثِيرَةٌ في النثْرِ والشعْرِ، ومن ذلكَ قَوْلُ عُرْوَةَ بنِ حِزَامٍ:
وعَفْرَاءُ أَرْجَى النَّاسِ عِنْدِي مَوَدَّةً = وعَفْرَاءُ عَنِّي المُعْرِضُ المُتَدَانِي
أفلا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: ( وعَفْرَاءُ المُعْرِضُ المُتَدَانِي) فأتَى بالخَبَرِ مُذَكَّراً معَ أنَّ المُبْتدأَ مُؤَنَّثٌ؛ وذلكَ لأنَّه أرادَ بـ(عَفْرَاءُ) الشَّخْصَ.
ومن ذلكَ قَوْلُ الأخْطَلِ التَّغْلِبِيِّ:
هُمُ أَهْلُ بَطْحَاوَيْ قُرَيْشٍ كِلَيْهِمَا = هُمُ صُلْبُهَا، لَيْسَ الوَشَائِظُ كالصُّلْبِ
أفلا تَرَاهُ قالَ: ( بَطْحَاوَيْ قُرَيْشٍ كِلَيْهِمَا). فأتَى بالتوكيدِ مُذَكَّراً معَ أَنَّ المُؤكَّدَ مُؤَنَّثٌ؛ لأنَّ (بَطْحَاوَيْ) مُثَنَّى بَطْحَاءَ؛ لأنَّه أرادَ الأبْطَحَيْنِ، إذ هما في مَعْنَى البَطْحَاوَيْنِ، والحَمْلُ على المعنَى كَثِيرٌ في كلامِ العربِ.
وذهَبَ ابنُ كَيْسانَ إلى أنَّه يَجوزُ التذكيرُ كما يَجوزُ التأنيثُ في الفعلِ المُسْنَدِ إلى ضَمِيرٍ مُؤَنَّثٍ مَجازِيِّ التأنيثِ، كما أنَّه جَائِزٌ في الفعلِ المُسْنَدِ إلى الاسمِ الظاهرِ المجازيِّ التأنيثِ، فكما أنَّه يَجوزُ أنْ تَقُولَ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وطَلَعَ الشَّمْسُ. بالاتِّفاقِ، يَجوزُ أَنْ تَقُولَ: الشَّمْسُ طَلَعَ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ. إذْ لا فَرْقَ بينَ المُضْمَرِ والمُظْهَرِ.
([2])212-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من المُتقارِبِ، وصَدْرُه قولُه:
*فإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ*
والبيتُ من كلامِ الأعْشَى مَيْمُونِ بنِ قَيْسٍ، وهو مِن قَصيدةٍ له يَمْدَحُ فيها رَهْطَ قَيْسِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ الكِنْدِيِّ, ويَزِيدَ بنِ عَبْدِ الدارِ الحارثِيِّ.
اللغةُ: ( لِمَّةٌ) - بكَسْرِ اللامِ وتشديدِ الميمِ – ما ألَمَّ وأحاطَ بالمَنْكِبَيْنِ من شَعَرِ الرأسِ، فإذا زادَ عن ذلكَ فهو الجُمَّةُ – بضَمِّ الجيمِ وتشديدِ الميمِ – (الحَوَادِثَ) جَمْعُ حَادِثَةٍ، وأرادَ بها نَوازِلَ الدهْرِ وكوارثَهُ التي تَحْدُثُ وَاحِدَةً بعدَ وَاحِدَةٍ, (أَوْدَى بها) ذهَبَ بها وأبَادَها وأهْلَكَها، وأرادَ أنَّه أُصِيبَ بالصَّلَعِ، وهو انْحِسَارُ شَعَرِ الرَّأْسِ، وذلكَ عندَهم أمَارَةُ الضَّعْفِ، ودَلِيلُ الكِبَرِ والعَجْزِ.
الإعرابُ: ( إِمَّا) هذهِ الكلمةُ مُركَّبَةٌ من كَلِمتيْنِ: أُولاهما: إِنْ، وهي حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ، وثَانِيَتُهما: ما, وهو حَرْفٌ زَائِدٌ, ( تَرَيْنِي) فِعْلٌ مُضارِعٌ, فِعْلُ الشرطِ مَجْزُومٌ بحَذْفِ النونِ، وياءُ المُؤَنَّثَةِ المُخاطَبَةِ فَاعِلٌ، والنونُ المَوْجودةُ للوِقَايَةِ، وياءُ المُتكلِّمِ مفعولٌ بهِ, ( وَلِي) الواوُ واوُ الحالِ، لي: جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبَرٍ مُقَدَّمٍ, ( لِمَّةٌ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وجملةُ المبتدأِ وخبرِه في مَحَلِّ نصبٍ, حَالٌ, (فإِنَّ) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ الشرطِ، إنَّ: حرفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ, (الحوادثَ) اسْمُ إنَّ مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (أَوْدَى) فِعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه جَوازاً تقديرُه: هو, يَعودُ إلى الحوادثِ, (بها) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بأَوْدَى، وجُمْلَةُ أوْدَى وفاعلِه المُستتِرِ فيهِ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ، وجُمْلَةُ إنَّ واسْمِه وخَبَرِه في مَحَلِّ جَزْمٍ, جَوابُ الشَّرْطِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (الحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا) حيثُ لم يُلْحِقْ تاءَ التأنيثِ بالفعلِ الذي هو قولُه: (أَوْدَى). معَ كونِه مُسْنَداً إلى ضَمِيرٍ مُستتِرٍ عَائِدٍ إلى اسْمٍ مُؤَنَّثٍ, وهو (الحَوَادِثَ) الذي هو جَمْعُ حَادِثَةٍ.
وقدْ عَلِمْتَ أنَّ الجُمهورَ على أنَّ الفِعْلَ إذا أُسْنِدَ إلى ضَميرٍ راجعٍ إلى مُؤنَّثٍ وجَبَ تَأْنِيثُه، سواءٌ أكانَ مَرْجِعُه حَقِيقِيَّ التأنيثِ، أم كَانَ مَرْجِعُه مَجَازِيَّ التأنيثِ، وتَرْكُ تأنيثِ الفعلِ بعَلامةِ التأنيثِ في هذهِ الحالِ مِمَّا لا يَجوزُ ارتكابُه عندَهم إلاَّ في ضرورةِ الشِّعْرِ، فلَمَّا اضْطُرَّ الشاعِرُ تَرَكَ علامةَ التأنيثِ.
فإنْ قُلْتَ: فإِنِّي لا أجِدُ لهذا الشاعرِ ضَرُورةً ألْجَأتْهُ إلى حَذْفِ التاءِ؛ لأنَّه لو جاءَ بتاءِ التأنيثِ معَ بَقاءِ ألفاظِ البيتِ على حَالِها لَمْ يَتَغَيَّرْ وَزْنُ البيتِ، فلو قالَ:
فإِمَا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ = فَإِنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَتْ بِهَا
لَكانَ الوزنُ مُستقِيماً، ولم يَكُنْ بالكلامِ بَأْسٌ، فأيُّ شَيْءٍ دَعَاهُ إلى أَنْ يَرْتَكِبَ هذهِ الضرورةَ؟!
فالجوابُ عن ذلكَ أَنْ نُنَبِّهَكَ إلى هذهِ الألفِ المَنْطُوقِ بها قبلَ الباءِ في (أَوْدَى بِهَا) وأنْ نُنْشِدَكَ بَبْيتَيْنِ من أوَّلِ هذهِ القصيدةِ, وهما قولُه:
أَلَمْ تَنْهَ نَفْسَكَ عَمَّا بِهَا = بَلَى، عَادَهَا بَعْضُ أَطْرَابِهَا
لِجَارَتِنَا إِذْ رَأَتْ لِمَّتِي = تَقُولُ: لَكَ الوَيْلُ! أَنَّى بِهَا
ثم نُشِيرُ إليكَ إلى الألفاظِ التي تَرَاهَا في قولِه: (عَمَّا بِهَا) و(أَطْرَابِهَا) و(أَنَّى بِهَا) وهذهِ الألفُ تُسَمَّى عندَ عُلماءِ العَرُوضِ والقَوافِي, (حَرْفَ الرِّدْفِ) وكلُّ قصيدةٍ تُبْنَى على الرِّدْفِ لا يَجوزُ تَرْكُه في بيتٍ منها، فلو قَالَ الأَعْشَى (فَإِنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَتْ بِهَا) لتَرَكَ الرِّدْفَ، وهو عَيْبٌ من عُيوبِ القَافيةِ يُعادِلُ عندَ الشعراءِ المُجِيدِينَ اختلالَ وَزْنِ البيتِ، ومن هذا الكلامِ تَفْهَمُ أنَّ الضرورةَ ليسَتْ قاصرةً على ارتكابِ ما يَسْتقِيمُ بهِ وَزْنُ الشِّعْرِ، بل من الضرورةِ ما يُرْتَكَبُ للفرارِ من عَيْبٍ آخَرَ, يَتَعَلَّقُ بالقافيةِ، وما يَتَّصِلُ بها.
هذا الذي ذَكَرْنَاهُ هو بيانُ كلامِ المُؤَلِّفِ وتَخْرِيجُه على الوَجْهِ الذي اختارَه.
ومِن العُلماءِ مَن ذهَبَ إلى أنَّ الشاعِرَ أتَى بالفِعْلِ من غَيْرِ علامةِ تأنيثٍ معَ أنَّه مُسْنَدٌ إلى ضميرٍ يَعودُ إلى مُؤَنَّثٍ مَجَازِيِّ التأنيثِ، حَمْلاً على المعنَى؛ وذلكَ لأنَّ (الحَوَادِثَ) بمعنَى الحَدَثانِ، والحَدَثَانُ مُذَكَّرٌ، بدَليلِ قولِ الشاعرِ:
رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ = بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
والحَمْلُ على المَعْنَى كثيرٌ في كلامِ العَرَبِ، وقد اسْتَشْهَدْنا له في شَرْحِ الشاهدِ السابقِ (رَقْمِ 211).
وابنُ كَيْسَانَ يَرَى أنَّه يَجوزُ في سَعَةِ الكلامِ – من غَيْرِ ضرورةٍ ولا شُذُوذٍ – أنْ يُؤْتَى معَ الفعلِ المُسْنَدِ إلى ضَمِيرٍ يعودُ إلى مُؤَنَّثٍ مَجَازِيِّ التأنيثِ بتَاءِ التأنيثِ, كما يَجوزُ تَرْكُ هذهِ التاءِ.
([3]) سورة آلِ عِمْرانَ، الآية: 35.
([4]) 213-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الوافرِ، وعَجُزُه قولُه:
*عَلَى بَابِ اسْتِهَا صُلُبٌ وشَامُ*
والبيتُ من كلمةٍ لجَريرِ بنِ عَطِيَّةَ يَهْجُو فيها الأخْطَلَ التَّغْلِبِيَّ النَّصْرَانِيَّ.
اللغةُ: (الأُخَيْطِلَ) تَصْغِيرُ الأخْطَلِ، وهو لَقَبُ الشاعرِ المَهْجُوِّ، واسْمُه غِيَاثُ بنُ غَوْثٍ، وأصْلُ الأخْطَلِ القُمَاشُ الكَثِيرُ الخَطَلِ, (صُلُبٌ) – بضَمِّ الصادِ المُهْمَلَةِ واللامِ جميعاً – جَمْعُ صَلِيبٍ، مِثْلُ سَرِيرٍ وسُرُرٍ, (شَامُ) اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، واحِدُه شَامَةٌ، وهي الخاَل ُوالعَلامَةُ.
الإعرابُ: (لَقَدْ) اللامُ مُوطِّئَةٌ للقَسَمِ، قَدْ: حَرْفُ تَحْقيقٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (وَلَدَ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (الأُخَيْطِلَ) مَفْعولٌ بهِ تَقَدَّمَ على الفاعِلِ، مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (أمُّ) فَاعِلٌ بـ(وَلَدَ) مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وأُمُّ مُضافٌ, و(سُوءٍ) مُضافٌ إليه، مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, ( عَلَى بَابِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، و(بابِ) مُضافٌ, واسْتِ مِن ( اسْتِهَا) مُضافٌ إليهِ مَجْرورٌ بالكَسْرَةِ الظاهرةِ، و(اسْتِ) مُضافٌ, وضميرُ الغائبةِ العَائِدُ إلى (أمُّ سَوءٍ) مُضافٌ إليهِ, ( صُلُبٌ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, ( وشَامُ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، شَامُ: مَعْطوفٌ على (صُلُبٌ)، مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وجُمْلَةُ المبتدأِ وخَبَرِه في مَحَلِّ رفْعٍ, صِفَةٌ لـ(أُمُّ سَوءٍ).
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوءٍ) حَيْثُ لَمْ يَصِلْ بالفعلِ الذي هو قولُه: (وَلَدَ) تَاءَ التأنيثِ، معَ أنَّ فَاعِلَه – وهو قولُه: (أُمُّ سَوءٍ) – اسْمٌ مُؤَنَّثٌ حَقِيقِيَّ التأنيثِ، وقدْ عَلِمْنَا أنَّ الفِعْلَ إذا كَانَ فَاعِلُه مُؤَنَّثاً حَقِيقِيَّ التأنيثِ – ظاهراً كانَ الفاعِلُ أو مُضْمَراً – لَزِمَ أنْ يُوصَلَ بهذا الفعلِ تَاءُ التأنيثِ.
والسرُّ الذي من أجْلِه لم يَصِلِ الشاعرُ بالفعلِ تَاءَ التأنيثِ أنَّه قَدْ فُصِلَ بينَ الفِعْلِ وفاعلِه بالمفعولِ هنا، فبَعُدَ الفِعْلُ عن فَاعِلِه المُؤَنَّثِ، وضَعُفَتْ – بسببِ تأخيرِه – العنايَةُ به، وصارَ الفَصْلُ كالعِوَضِ من تاءِ التأنيثِ، أو كالمُوجِبِ غَفْلَةً عنها.
ومِثْلُ هذا البيتِ فيما ذَكَرْنَا من الاستشهادِ قَوْلُ الشاعرِ:
إنَّ امْرَأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ = بَعْدِي وبَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ
إِلاَّ أنَّ الفَاصِلَ في هذا البيتِ جَارٌّ ومَجْرورٌ، في حينِ أنَّ الفاصِلَ في بيتِ الشاهدِ مَفْعولٌ به، ومَقْصودُ النحاةِ بالفاصلِ أعَمُّ مِن أَنْ يَكُونَ مَفْعولاً أو جَارًّا ومَجْروراً أو ظَرْفاً أو شيئاً آخرَ غَيْرَهُنَّ.
([5])214-هذا بَيْتٌ من الرَّجَزِ، ولم أقِفْ له على نِسْبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، ولا عَثَرْتُ له على سَوابِقَ أو لَوَاحِقَ تَتَّصِلُ به، وقالَ العَيْنِيُّ: (أقُولُ: قَائِلُه رَاجِزٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ).اهـ.
اللغةُ: (بَرِئَتْ) تَقولُ: بَرِئَ فُلانٌ مِن فُلانٍ، وبَرِئَ من العَيْبِ – من بَابِ سَلِمَ – بَرَاءَةً، وتقولُ: بَرَأَ من المَرَضِ – من بَابِ قَطَعَ – بَرَاءً – بفتحِ الباءِ والراءِ جَمِيعاً – في لُغةِ أهْلِ الحجازِ – وبُرْءاً – بضَمِّ الباءِ وسُكونِ الرَّاءِ – في لغةِ غيرِهم, (رِيبَةٍ) هي التُّهَمَةُ والشَّكُّ، وتَقولُ: رَابَنِي فُلانٌ يَرِيبُنِي – من بَابِ بَاعَ يَبِيعُ – إذا رَأَيْتَ منه ما يَرِيبُكَ وتَكْرَهُهُ ويَبْعَثُ إلى نَفْسِكَ الشَّكَّ.
الإعرابُ: (ما) حَرْفُ نَفْيٍ (بَرِئَتْ) بَرِئَ: فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، والتاءُ عَلامَةُ التأنيثِ, (مِن رِيبَةٍ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ ببَرِئَ, (وذَمِّ) الواوُ حَرْفُ عطفٍ، (ذَمِّ) معطوفٌ على رِيبَةٍ, (في حَرْبِنَا) الجَارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ ببَرِئَ أيضاً، و(حَرْبِ) مُضافٌ, والضميرُ مُضافٌ إليهِ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ لا عَمَلَ لها, (بَنَاتُ) فَاعِلُ بَرِئَ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وبِنَاتُ مُضافٌ, و(العَمِّ) مُضافٌ إليه.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (مَا بَرِئَتْ إِلاَّ بَنَاتُ العَمِّ) حيثُ وَصَلَ تاءَ التأنيثِ بالفعلِ الذي هو بَرِئَ؛ لكونِ فَاعِلِه مُؤنَّثاً حقيقيَّ التأنيثِ، – وهو قولُه: (بَنَاتُ العَمِّ) – ولم يَعْبَأْ بالفَصْلِ بينَ الفعلِ وفاعلِه بإِلاَّ.
وقدِ اختَلَفَ العلماءُ في هذهِ المسألةِ:
فمنهم مَن ذهَبَ إلى أنَّ لَحاقَ تاءِ التأنيثِ وعَدَمَ لَحاقِها جائزانِ، إذا فُصِلَ بينَ الفعلِ وفاعلِه المُؤنَّثِ الحقيقيِّ التأنيثِ بإِلاَّ، ومعَ جَوازِ الوجهيْنِ فالأحسنُ حَذْفُ التاءِ، واختارَ هذا الرأْيَ ابنُ مَالِكٍ صاحِبُ الألفيَّةِ، وعلى هذا المذهَبِ يكونُ ما في بيتِ الشاهدِ جَارِياً على أحَدِ الوجهيْنِ الجائزيْنِ، وإنْ يَكُنْ هذا الوجْهُ مَرْجوحاً.
ومنهم مَن ذهَبَ إلى أنَّ حَذْفَ تاءِ التأنيثِ في هذهِ الحالِ أَمْرٌ واجِبٌ لا يَجوزُ العُدولُ عنه، إلاَّ في ضَرورةِ الشِّعْرِ؛ لأنَّ الفَاعِلَ عندَ التحقيقِ ليسَ هو الاسْمَ المذكورَ بعدَ إِلاَّ، وإنَّما هو اسْمٌ محذوفٌ, لو ذُكِرَ لَكَانَ مُسْتَثْنًى منه، وكانَ ما بعدَ إِلاَّ مُسْتَثْنًى، ويكونُ تقديرُ الكلامِ: ما بَرِئَ أحَدٌ إلاَّ بَنَاتُ العَمِّ. فالفاعِلُ عندَ التحقيقِ مُذَكَّرٌ لا مُؤَنَّثٌ، واختارَ هذا المذهَبَ الأخفشُ، وعلى هذا المَذْهَبِ يَكونُ لَحَاقُ تاءِ التأنيثِ بالفِعْلِ في هذا البيتِ مِمَّا دَعَتْ إليهِ الضَّرورةُ الشِّعْريَّةُ، بسَبَبِ تَناسِي الفاعلِ المحذوفِ وتَجاهُلِ الحقيقةِ.
ومِن لحاقِ تاءِ التأنيثِ معَ الفصلِ بإِلاَّ بينَ الفعلِ وفاعلِه المجازيِّ التأنيثِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
طَوَى النَّحْزُ وَالأجْرَازُ مَا فِي غُرُوضِهَا = فَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
الشاهدُ في هذا البيتِ: قَوْلُه: ( فما بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ) حيثُ أَتَى الشَّاعِرُ بتَاءِ التأنيثِ معَ الفعلِ المُسْنَدِ إلى الضُّلُوعِ، معَ كَوْنِه قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الفِعْلِ المُسْنَدِ إلى الضُّلُوعِ بإِلاَّ.
هكذا اسْتَشْهَدَ جماعةٌ من النحاةِ على هذهِ المسألةِ بالبيتيْنِ: البيتِ الذي أنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ مُسْتَنِداً للأخفشِ، والبيتِ الذي أنْشَدْنَاهُ، وأنتَ لو تَدَبَّرْتَ في هذيْنِ البيتيْنِ وجَدْتَ الفاعلَ في كلِّ واحدٍ منهما جمعاً، فهو في البيتِ الذي أنْشَدَه المُؤلِّفُ: (بناتُ) وهو جَمْعُ بِنْتٍ، وهو في البيتِ الذي أنْشَدْنَاهُ ( الضُّلُوعُ) وهو جَمْعُ ضِلَعٍ، ومن المَعلومِ أنَّ الفِعْلَ الذي يُسنَدُ إلى الجمعِ كالفِعْلِ الذي يُسْنَدُ إلى اسْمٍ ظاهِرٍ مَجَازِيِّ التأنيثِ، يعني أنَّه يَجوزُ في هذا الفعلِ لَحَاقُ تاءِ التأنيثِ بهِ, كما يَجوزُ عَدَمُ لِحاقِها, سواءٌ أكانَ الفِعْلُ مُتَّصِلاً بالفَاعِلِ أم كَانَ مُنْفَصِلاً منه، كما سيُقرِّرُ المؤلِّفُ ذلكَ في المسألةِ الثانيةِ من مسألَتَيِ الجوازِ.
ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عن ذلك بأَنَّ في كُلِّ وَاحِدٍ من هَذَيْنِ البيتيْنِ سَببيْنِ، كلُّ وَاحِدٍ مِنهما اقْتَضَى لَحَاقَ التاءِ، الأوَّلُ منهما: الفَصْلُ بإِلاَّ، وفيه الخِلافُ، والثاني: كَوْنُ الفاعِلِ مَجازِيَّ التأنيثِ، ولا خِلافَ في أنَّه يَجوزُ معَه لحاقُ التاءِ.
ومِن العلماءِ مَن ذكَرَ أنَّ مَحَلَّ كونِ ما في البيتيْنِ من مَحلِّ الخلافِ – فيما لو نَظَرْنَا إلى الفصلِ بإِلاَّ فقَطْ – هو تَقْدِيرُنا الفاعِلَ المَحْذُوفَ مُذَكَّراً؛ إذْ قَدَّرْنا في بيتِ المؤلِّفِ: (مَا بَرِئَ أَحَدٌ).
وفي البيتِ الذي أنْشَدْنَاهُ: ( مَا بَقِيَ شَيْءٌ) وهذا التقديرُ ليسَ بلازِمٍ؛ إذْ يَجوزُ تَقدِيرُ اسْمٍ عَلَمٍ مُؤَنَّثٍ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مُستثنًى منه، فيُقَدَّرُ في بيتِ المؤلِّفِ: ما بَرِئَتْ نِسَاءٌ إِلاَّ بَنَاتُ العَمِّ، وفي البيتِ الذي أنْشَدْناه: فما بَقِيَتْ أَعْضَاءٌ إِلاَّ الضُّلُوعُ، وفي الآيةِ الأولى: إنْ كَانَتِ الأخْذَةُ إلاَّ صَيْحَةً، وفي الآيةِ الثانيةِ: فأَصْبَحُوا لا تُرَى أَشْيَاءُ إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ، فلا يَكونُ للتذكيرِ – على هذا – وَجْهٌ يُرَجِّحُه على التأنيثِ، بل يَكُونُ الأمرانِ جَائزيْنِ, كُلٌّ منهما جائِزٌ على تَقْدِيرٍ.
([6]) سورة يس، الآية:29.
([7]) سورة الأحْقافِ، الآية:25.
([8]) سورة القيامةِ، الآية: 9.
([9]) سورة الشُّعَراءِ، الآية:105.
([10]) سورة الحُجُراتِ، الآية:14.
([11]) سورة الأنعامِ، الآية: 66.
([12]) سورة يُوسُفَ، الآية:30.
([13]) سورة يُونُسَ، الآية: 90.
([14]) سورة المُمْتَحَنَةِ، الآية: 12.
([15])215-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الكاملِ، وعَجُزُه قولُه:
*والظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا*
والبيتُ مِن قصيدةٍ لعَبْدَةَ بنِ الطبيبِ رَوَاهَا المُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ.
اللغةُ: (بَنَاتِي) جَمْعُ بنتٍ، وأصْلُ البِنْتِ: بِنْيٌ، فحُذِفَتِ الياءُ وعُوِّضَ منها التاءُ, (شَجْوَهُنَّ) الشَّجْوُ: الحُزْنُ، وتقولُ: شَجِيَ فُلانٌ يَشْجَى شَجًى – مثل فَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحاً – وشَجَاهُ الأمرُ يَشْجُوهُ شَجْواً، والذي في البيتِ من الثاني, (وزَوْجَتِي) الفصيحُ الأكثرُ في الاستعمالِ أنْ يُقالَ: (زَوْجٌ) للرجُلِ وللأُنْثَى، ويُجمَعُ على أَزْواجٍ.
وفي الكتابِ الكريمِ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}. ( والظَّاعِنُونَ إِلَيَّ) هكذا وقَعَ في روايةِ النحاةِ، والذي وقَعَ في روايةِ المُفَضَّلِيَّاتِ ( والأَقْرَبُونَ إِلَيَّ), وقولُه: ( ثُمَّ تَصَدَّعُوا) معناهُ أنَّهم تَفَرَّقُوا وانْشَعَبَ شَمْلُهم.
الإعرابُ: (بَكَى) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على الألفِ, منَعَ من ظُهورِه التعَذُّرُ, (بَنَاتِي) بَنَات: فَاعِلٌ مرفوعٌ بضَمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على ما قبلَ ياءِ المُتكَلِّمِ، وبَنَات مُضافٌ, وياءُ المُتَكَلِّمِ مُضافٌ إليهِ, (شَجْوَهُنَّ) شَجْوَ: مَفْعولٌ لأجْلِه مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و(شَجْوَ) مُضافٌ والضميرُ مُضافٌ إليهِ, (وزَوْجَتِي) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، زَوْجَة: مَعْطوفٌ على بَناتِي، وزَوْجَة مُضافٌ وياءُ المُتَكلِّمِ مُضافٌ إليهِ, (والظَّاعِنُونَ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، الظَّاعِنُونَ: مَعْطوفٌ على بَنَاتِي أيضاً، مَرْفوعٌ بالواوِ نيابةً عن الضمَّةِ (إِلَيَّ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بالظَّاعِنِينَ, (ثُمَّ) حَرْفُ عَطْفٍ, (تَصَدَّعُوا) فِعْلٌ مَاضٍ، وواوُ الجَماعةِ فَاعِلُه، وجملةُ الفِعْلِ وفاعلِه مَعْطوفةٌ على جُمْلَةِ (بَكَى بَنَاتِي) من الفِعْلِ وفَاعِلِه.
الشاهدُ فيهِ: في هذا البيتِ شاهدانِ:
أحَدُهما: - وهو غَيْرُ مَقْصودٍ للمُؤَلِّفِ هنا – في قولِه: (شَجْوَهُنَّ) حَيْثُ جاءَ المفعولُ لأجْلِه مَعْرِفَةً؛ لأنه مصدرٌ مضافٌ إلى الضميرِ، وهذا يَرِدُ على الجَرْمِيِّ الذي ذهَبَ إلى أنَّ المَفْعولَ لأجْلِه لا يَكُونُ إِلاَّ نَكِرَةً.
والثاني: - وهو مُرادُ المُؤلِّفِ – في قولِه: (بَكَى بَنَاتِي) حيثُ لَمْ يَصِلْ بالفعلِ الذي هو قولُه: (بَكَى) تاءَ التأنيثِ, معَ أنَّ المُسْنَدَ إليهِ – وهو الفاعلُ الذي هو قَوْلُه: (بَنَاتِي) – مُؤَنَّثٌ؛ لأنه جَمْعُ مُؤنَّثٍ سَالِمٌ, واحِدُه بِنْتٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ العُلماءُ في هذه المسألةِ, فذهَبَ الكُوفِيُّونَ وأبو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ إلى أنَّ هذا سائِغٌ جَائِزٌ في الشِّعْرِ والكلامِ جميعاً، واسْتدَلُّوا على صِحَّةِ ما ذَهَبوا إليهِ بثلاثةِ أَدِلَّةٍ: أَوَّلُها: وُرُودُه في فَصيحِ الكلامِ؛ كما في قولِه تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ}.
وثَانِيها: أنَّ كُلَّ جَمْعٍ يَجوزُ إطلاقُ لَفْظِ (الجَماعةِ) عليهِ فيَكُونُ مُؤَنَّثاً، كما يَجوزُ إطلاقُ لَفْظِ الجمعِ عليهِ فيَكُونُ مُذَكَّراً، فيَجوزُ في كلِّ جَمْعٍ اعتبارُ هذيْنِ المَلْحَظَيْنِ فيهِ، سواءٌ أكانَ جَمْعَ مُذَكَّرٍ، أم كَانَ جَمْعَ مُؤنَّثٍ.
وثالثُها: القياسُ على جمعِ التكسيرِ واسْمِ الجمعِ واسْمِ الجِنْسِ؛ فإنَّ جَمِيعَ النُّحاةِ مُتَّفِقونَ في هذهِ الأنواعِ الثلاثةِ على أنَّه يَجوزُ في الفعلِ المُسنَدِ إلى واحدٍ منها لَحاقُ التاءِ بهِ على تأويلِه بالجَماعةِ، وعَدَمُ لَحاق التاءِ بهِ على تأويلِه بالجَمْعِ، وخالَفَهم في ذلكَ جُمهورُ البَصْريِّينَ.
فذَهَبُوا إلى أنَّه لا يجوزُ في جمْعِ المؤنَّثِ السالِمِ إلاَّ تَأْنِيثُ فِعْلِه، ولا يَجوزُ في جَمْعِ المُذَكَّرِ السالِمِ إلاَّ التذكيرُ.
ورَدُّوا أَدِلَّتَهم التي اسْتَدَلُّوا بها: أمَّا ادِّعاءُ أنه جَاءَ في فصيحِ الكلامِ فلا نُسَلِّمُ أنَّ السرَّ هو ما ذَهَبْتُم إليه، بَلْ حَذْفُ التاءِ في قولِه تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ} بسَبَبِ الفصلِ بينَ الفعلِ وفَاعِلِه بالمفعولِ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ الفَصْلَ يُبيحُ تَرْكَ التاءِ، أو بسَبَبِ كونِ {المُؤْمِنَاتُ} صِفَةً لموصوفٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: إِذَا جَاءَكَ النِّساءُ المُؤْمِنَاتُ، فالفاعلُ في الحقيقةِ اسْمُ جَمْعٍ، واسْمُ الجَمْعِ يَجوزُ في فِعْلِه الوَجْهانِ بالإجماعِ.
وأمَّا القِياسُ على جَمْعِ التَّكْسِيرِ واسْمِ الجِنْسِ واسْمِ الجَمْعِ فغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّ بينَ الذي وقَعَ الخَلافُ فيهِ وبينَ هذهِ الأشياءِ فَرْقاً، ألاَ تَرَى أنَّ جَمْعَ المؤنَّثِ السالِمَ وجَمْعَ المُذَكَّرِ السالِمَ قَدْ سَلِمَ فيهما لفظُ المُفْرَدِ، وأمَّا اسْمُ الجَمْعِ فلا مُفْرَدَ له من لَفْظِه، وأمَّا جَمْعُ التَّكْسيرِ فلم يَسْلَمْ فيه لَفْظُ مُفْردِه، وسَلامةُ لفظِ المفردِ هي التي أَوْجَبَتْ ما ذَهَبْنا إليهِ، فَلَمَّا اختَلَفَ الأمرُ لم يَجُزْ قِياسُ أحدِهما على الآخرِ.
وأمَّا ما ذَكَروا من أنَّ كُلَّ جَمْعٍ يَجوزُ إطلاقُ لَفْظِ ( الجَمْعِ) عليهِ كما يَجوزُ إطلاقُ لَفْظِ ( الجماعةِ)، فهذا إِنَّما سَاغَ من حَيْثُ المَعْنَى، والتذكيرُ والتأنيثُ مَرْجِعُهما إلى اللفظِ، فيَجِبُ أنْ يُنْظَرَ فيهما إلى اللَّفْظِ المُسْتَعْمَلِ في الدَّلالةِ على المُرادِ.
بَقِيَ أنْ يُرَدَّ على استدلالِهم بالبيتِ المُسْتَشْهَدِ به ههنا، والردُّ عليه أنْ يُقالَ: إِنَّ ( بَنَاتِ) – وإِنْ كَانَ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ سَالِماً – قدْ أشْبَهَ جَمْعَ التَّكسيرِ في عدَمِ سلامةِ لَفْظِ مفردِه، فلَمَّا أَشْبَهَ جَمْعَ التكسيرِ في هذا أَخَذَ حُكْمَه، كما أنَّ ( بَنِي) لَمَّا لَمْ يَسْلَمْ فيهِ لَفْظُ مُفْرَدِه، أَشْبَهَ جَمْعَ التكسيرِ، فلَمَّا أشْبَهَ جَمْعَ التكسيرِ في هذا أخَذَ حُكْمَه؛ فلهذا سَاغَ دُخولُ تَاءِ التأنيثِ في فِعْلِه في قولِه تعالى: {آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}.