تعريفُ الخبَرِ
118- والخبرُ الجزءُ الْمُتِمُّ الفائِدَهْ = كاللَّهُ بَرٌّ والأيادِي شاهِدَهْ
عَرَّفَ الخبرَ دونَ المُبْتَدَأِ؛ اهتماماً بِمَحَطِّ الفائدةِ، وتَوطئةً لتَقسيمِه إلى مُفْرَدٍ وغيرِه، فالخبرُ هو: الجزءُ الْمُتِمُّ الفائدةَ معَ مُبْتَدَأٍ غيرِ الوصْفِ المذكورِ؛ كقولِه تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
وخَرَجَ بقولِنا: (معَ مُبْتَدَأٍ) فاعِلُ الفعْلِ، نحوُ: انتَصَرَ الحقُّ؛ فإنه وإنْ كانَ مُتَمِّماً للفائدةِ، لكنَ ليسَ معَ مُبْتَدَأٍ، بل معَ فِعْلٍ فيكونُ فاعِلاً لا خَبَراً.
وخَرَجَ بقولِنا: (غيرِ الوصفِ المذكورِ) فاعِلُ الوصْفِ -كما تَقَدَّمَ- نحوُ: أصائمٌ أبوكَ في مَكَّةَ؟ فإنه وإنْ كانَ مُتَمِّماً للفائدةِ، لكنْ معَ مُبْتَدَأٍ هو وصْفٌ.
وهذا معنَى قولِه: (والخَبَرُ الجزءُ الْمُتِمُّ الفائدةْ) وسَكَتَ المصنِّفُ عن القَيْدَيْنِ المذكورَيْنِ؛ لأَنَّ ذلك معلومٌ مِن قولِه: (مُبْتَدَأٌ زيدٌ وعَاذِرٌ خَبَرْ)؛ للعِلْمِ بأنَّ الخبرَ لا يكونُ إلاَّ معَ مُبْتَدَأٍ غيرِ الوصْفِ؛ كما أنَّ المِثالَ يُفيدُ ذلك.
وقولُه: (كاللَّهُ بَرٌّ)؛ أي: كثيرُ الإحسانِ، (والأيادي)؛ أي: النِّعَمُ؛ لأَنَّ اليدَ تُطْلَقُ على النِّعْمَةِ، وقد وَرَدَ ذلك في كلامِ العَرَبِ، أمَّا في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها فلا يَجوزُ تفسيرُ اليدِ بالنعمةِ؛ لأنه تأويلٌ فاسِدٌ، بل تُثْبَتُ اليدُ للهِ تعالى على ما يَليقُ بجَلالِه وعَظَمَتِه.
119- ومُفْرَداً يَأتي ويَأتي جُمْلَهْ = حاويةً مَعْنَى الَّذي سِيقَتْ لَهْ
120- وَإِنْ تَكُنْ إِيَّاهُ مَعْنًى اكْتَفَى = بِهَا كَنُطْقِي اللَّهُ حَسْبِي وَكَفَى
لَمَّا عَرَّفَ الخبَرَ شَرَعَ في أقسامِه وأحكامِه، وهو ثلاثةُ أقسامٍ:
1- مُفْرَدٌ: وهو ما ليسَ بجُملةٍ ولا شِبْهِ جُملةٍ، نحوُ: العَدْلُ مطلوبٌ، قالَ تعالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. وله أحكامٌ تأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
2- جُملةٌ اسْمِيَّةٌ، نحوُ: الإسلامُ رايتُه عالِيَةٌ، قالَ تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، أو فِعليَّةٌ نحوُ: العاقلُ يَعْرِفُ ما يَنْفَعُه، قالَ تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}.
3- شِبْهُ جملةٍ، وهو الظرْفُ والجارُّ والمجرورُ. ويأتِي الكلامُ فيهما إنْ شاءَ اللَّهُ.
فأمَّا الجُمْلَةُ فهي قِسْمانِ:
الأوَّلُ: أنْ تكونَ هي نَفْسَ المُبْتَدَأِ في المعنَى، نحوُ: حَدِيثي: العملُ ثَمَرَةُ العِلْمِ، فهذه الجُمْلَةُ الواقعةُ خَبَراً عن المُبْتَدَأِ (حديثي) مُطابِقَةٌ له في المعنى، فالحديثُ هو (العملُ ثَمَرَةُ العِلْمِ)، و(ثَمرةُ العِلْمِ العمَلُ) هو الحديثُ.
الثاني: ألاَّ تكونَ نفْسَ المُبْتَدَأِ في المعنَى، نحوُ: المجتَهِدُ يَفُوزُ بغَايَتِه.
فإنْ لم تَكُنْ نفْسَ المُبْتَدَأِ فلا بُدَّ فيها مِن رَابِطٍ يَرْبُطُها بالمُبْتَدَأِ.
وهذا الرابِطُ يَجْعَلُ جُملةَ الخبَرِ شَديدةَ الاتِّصالِ بالمُبْتَدَأِ، ولولاهُ لكانَتْ أجْنَبِيَّةً؛ لأَنَّ الأصْلَ في الجُمْلَةِ أنها كلامٌ مُسْتَقِلٌّ، فإذا جاءَ الرابطُ عُلِمَ أنها للمُبْتَدَأِ، ولهذا إنْ كانَتْ نفْسَ المُبْتَدَأِ لم يُحْتَجْ إلى رابِطٍ كما سنَذْكُرُ.
وهذا الرابطُ أنواعٌ نَذْكُرُ منه ما يلي:
1- الضميرُ العائدُ على المُبْتَدَأِ، وهو أصْلُ الروابِطِ وأقواها، وغيرُه خَلَفٌ عنه، نحوُ: العِلْمُ يَرفَعُ العامِلَ به، قالَ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}، فنونُ الإناثِ هي الرابِطُ.
والأصْلُ في الضَّميرِ يكونُ مَذكُوراً، وقد يكونُ مُقَدَّراً، نحوُ: الصُّوفُ ذِراعٌ بعَشَرةٍ؛ أي: ذِراعٌ منه، قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، فـ {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} مُبْتَدَأٌ، والخبرُ {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، والرابطُ محذوفٌ؛ أي: غفورٌ لهم، أو رَحيمٌ بهم.
2- الإشارةُ إلى المُبْتَدَأِ، نحوُ: العَدْلُ ذلك دِعامةُ الْمُلْكِ، قالَ تعالى: {وِلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، فقد قَرَأَ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وعاصمٌ وحمزةُ برَفْعِ (لِباسُ) على أنه مُبْتَدَأٌ والتقوى مُضافٌ إليه، و(ذلك) مُبْتَدَأٌ ثانٍ، و(خَيْرٌ) خَبَرٌ عنه، والجُمْلَةُ خبرٌ عن الأَوَّلِ، وفي الآيةِ أعاريبُ أُخْرَى،، وكقولِه تعالى: {إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} على أحَدِ الأعاريبِ فيها، وهو أنَّ الخبَرَ (أولئك أصحابُ الْجَنَّةِ).
3- تَكرارُ المُبْتَدَأِ بلَفْظِه لقَصْدِ التفخيمِ أو التهويلِ أو التحقيرِ، نحوُ: الإخلاصُ ما الإخلاصُ؟ الحرْبُ ما الحربُ؟ السارِقُ مَن السارِقُ؟ أو بمعناها، نحوُ: السيفُ ما الْمُهَنَّدُ؟، ومِن ذلك قولُه تعالى: {الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ*}، فـ (القارعةُ) مُبْتَدَأٌ (ما القارِعَةُ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والجُمْلَةُ خبرٌ عن المُبْتَدَأِ (القارِعَةُ).
4- أنْ يكونَ الرابطُ عُموماً يَدخُلُ تَحْتَه المُبْتَدَأُ، نحوُ: الوَفِيُّ نِعْمَ الرجُلُ، ومنه قولُه تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، فمَن: مُبْتَدَأٌ، والخبرُ {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، والرابطُ العمومُ في قولِه تعالى: {الْمُتَّقِينَ} الذينَ يَدخُلُ فيه مَن أَوْفَى بعَهْدِه واتَّقَى.
أمَّا القِسْمُ الثانِي، وهو أنْ تكونَ الجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ هي نفْسَ المُبْتَدَأِ في المعنى، فلا تَحتاجَ الجُمْلَةُ فيه إلى رابِطٍ، مثلُ: نُطْقِي اللَّهُ حَسْبِي.
فنُطقِي: مُبْتَدَأٌ، والاسمُ الكريمُ مُبْتَدَأٌ ثانٍ، وحَسْبِي خَبَرٌ عنه، والجُمْلَةُ خبرٌ عن المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، ولا رابِطَ فيها؛ لأَنَّ قولَكَ: (اللَّهُ حَسْبِي) هو معنَى نُطْقِي، فتَقَعُ جَواباً لسؤالِ: ما نُطْقُكَ؟
ومنه قولُه تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فدَعواهم: مُبْتَدَأٌ، وسبحانَكَ: معمولٌ لفِعْلٍ محذوفٍ؛ أيْ: نُسَبِّحُ سُبحانَكَ، والجُمْلَةُ خبرٌ، وهي نفْسُ المُبْتَدَأِ في المعنى، ومِنه أيضاً قولُه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
وهذا معنى قولِه: (ومُفْرَداً يَأتِي ويَأتِي جُمْلَةْ.. إلخ)؛ أيْ: يَأتِي الخبرُ مُفْرَداً ويأتِي جُملةً، (حَاوِيَةً)؛ أيْ: مشتَمِلَةً على (معنى) المُبْتَدَأِ (الذي سِيقَتْ) خَبَراً (له)، وعَبَّرَ بقولِه: (حاوِيَةً معنَى)، ولم يَقُلْ: (حَاويةً ضَمِيراً)؛ لِيَشمَلَ جميعَ أنواعِ الرَّابِطِ، ثم ذَكَرَ أنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ خَبَراً، (إنْ تَكُنْ إِيَّاهُ)؛ أي: هي نفْسُ المُبْتَدَأِ في المعنَى اكْتُفِيَ بها عن الرابِطِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمِثالَ، وقولُه: (وكَفَى) أي: وكَفَى به سُبحانَه وتعالى حَسيباً، فحَذَفَ حَرْفَ الجرِّ وحْدَه، وهو (الباءُ)، فانفَصَلَ الضميرُ الذي كانَ مَجروراً في مَحَلِّ رفعٍ وصارَ تقديرُه: هو.2- الخبرُ المُفْرَدُ
121- والمفرَدُ الجامِدُ فارغٌ وإِنْ = يُشْتَقَّ فهْوَ ذُو ضَميرٍ مُسْتَكِنْ
هذا هو القِسْمُ الثانِي مِن أقسامِ الخبَرِ، وهو الخبَرُ المُفْرَدُ، والمرادُ به ما ليسَ بجُمْلَةٍ ولا شِبْهَ جُملةٍ؛ كما تَقَدَّمَ، وإنما يكونُ كلمةً واحدةً، مِثْلُ: الكذِبُ مَذمومٌ, أو ما هو بِمَنْزِلَةِ الكَلِمَةِ الواحدةِ، نحوُ: أنتم ثلاثةَ عَشَرَ، فـ أنتُمْ (مُبْتَدَأٌ) و، (ثلاثةَ عَشَرَ) مَبْنِيٌّ على فَتْحِ الْجُزأيْنِ في مَحَلِّ رفْعِ خَبَرٍ.
والمُفْرَدُ نوعانِ:
1- الجامدُ: وهو ما لم يُؤْخَذْ مِن غيرِه، نحوُ: خالدٌ أخوكَ.
2- الْمُشْتَقُّ: ما أُخِذَ مِن غيرِه، وهو يَدُلُّ على معنًى وذاتٍ، نحوُ: أُمُّكَ أحَقُّ الناسِ ببِرِّكَ، فـ (أحَقُّ) خبَرٌ، وهو أفْعَلُ تفضيلٍ.
فإنْ كانَ الخبَرُ جامِداً فإنه يكونُ فارِغاً مِن الضميرِ، إلاَّ إذا تَضَمَّنَ معنَى المُشْتَقِّ فإنه يَتَحَمَّلُ ضميراً، نحوُ: قَلْبُ الظالِمِ حَجَرٌ؛ أي: قاسٍ لا يَلِينُ، وعليٌّ تَمِيمِيٌّ؛ أيْ: مُنْتَسِبٌ إلى تَمِيمٍ، ففيهما ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ؛ أي: حَجَرٌ هو، وتَميميٌّ هو.
وإنْ كانَ مشْتَقًّا فإنه يَتَحَمَّلُ الضميرَ بشَرطيْنِ:
الأَوَّلُ: أنْ يكونَ المُشتَقُّ جارِياً مَجْرَى الفِعْلِ؛ أي: عامِلاً عَمَلَ الفِعْلِ، وهو أربعةٌ: اسمُ الفاعِلِ واسمُ المفعولِ والصفةُ الْمُشَبَّهَةِ وأفعَلُ التفضيلِ، نحوُ: القمَرُ طالِعٌ، الوفِيُّ محبوبٌ، المسجِدُ رَحْبٌ, بعضُ الشرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضٍ.
فإنْ لم يَجْرِ مَجْرَى الفعْلِ لم يَتَحَمَّلْ ضَمِيراً كاسمِ الآلةِ، نحوُ: مِفتاحٍ، وما كانَ على صِيغةِ الزمانِ والمكانِ، نحوُ: مَجْلِسُ العِلْمِ رَوْضَةٌ.
الثاني: ألاَّ يَرْفَعَ اسماً ظاهِراً، نحوُ: أخالِدٌ غائبٌ أبُوهُ؟ أو ضميراً بَارِزاً، نحوُ: أعَلِيٌّ ذاهِبٌ أنتَ إليه، فإنْ رَفَعَ ظاهراً أو بَارِزاً لم يَرْفَعْ ضميراً مُسْتَتِراً؛ لوجودِ فاعلِهِ منطوقاً به.
وهذا معنَى قولِهِ: (والمُفْرَدُ الجامِدُ فارِغٌ... إلخ)؛ أي: أنَّ الخَبَرَ المُفْرَدَ نوعانِ: فالجامِدُ فارِغٌ مِن الضميرِ، والمشتَقُّ ليسَ بفارِغٍ، بل فيه ضَميرٌ مُسْتَكِنٌ؛ أي: مُسْتَتِرٌ، وهذا الضميرُ يَعُودُ على المُبْتَدَأِ ليَرْبُطَ الخبَرَ به ارتباطاً مَعنويًّا.إبرازُ الضميرِ في الخبَرِ الْمُشْتَقِّ
122 - وأبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً حيثُ تَلاَ = ما ليسَ مَعناهُ لهُ مُحَصَّلاَ
لَمَّا ذَكَرَ أنَّ الخبرَ الْمُشْتَقَّ يَتَحَمَّلُ ضَميراً ذَكَرَ هنا حُكْمَ إبرازِ الضميرِ وإخفائِه، والخبَرُ بهذا الاعتبارِ نوعانِ:
1- خبرٌ مُشْتَقٌّ جَرَى على مَن هو له؛ أيْ: أنَّ الخبَرَ صِفَةٌ لِمُبْتَدَئِهِ، نحوُ: الكَذِبُ مذمومٌ، فـ (مذمومٌ) خَبَرٌ عن (الكَذِبُ)، وهو وَصْفٌ له في المعنَى.
وهذا النوعُ يَسْتَتِرُ فيه الضميرُ، فإنْ بَرَزَ فهو توكيدٌ للضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ.
2- خَبَرٌ جَرَى على غيرِ مَن هو له؛ أيْ: أنَّ الخبَرَ صِفةٌ لغيرِ مُبْتَدَئِهِ، فالبَصريُّونُ يُوجِبُون إبرازَ الضميرِ في هذا النوعِ مُطْلَقاً أُمِنَ اللَّبْسُ أو لم يُؤْمَنْ، فمِثالُ أَمْنِ اللَّبْسِ: البِنْتُ الأبُ مُكْرِمَتُه هي، فالبنتُ مُبْتَدَأٌ أوَّلُ، والأبُ: مُبْتَدَأٌ ثانٍ، ومُكْرِمَتُه: خبرٌ عن الأبِ، وهو وَصْفٌ للبنتِ؛ لأنها هي الْمُكْرِمَةُ للأبِ، فجَرَى الخبَرُ على غَيْرِ مَن هو له؛ لأنه خَبَرٌ عن الأبِ ووَصْفٌ للبنتِ، ولا لَبْسَ في هذا المِثالِ، فيَجوزُ حَذْفُ الضميرِ (هي)؛ لأَنَّ التأنيثَ قَرينةٌ على أنَّ الخبرَ جَرَى على غيرِ مَن هو له، أمَّا البَصريُّونَ فيُوجِبُونَ إبرازَه.
ومِثالُ ما لم يُؤْمَنْ فيه اللَّبْسُ: خالدٌ عَلِيٌّ مُكْرِمُه هو، فخالدٌ: مُبْتَدَأٌ أوَّلُ، وعلِيٌّ: مُبْتَدَأٌ ثانٍ، ومُكْرِمُه خَبَرٌ عن الثاني، فيَحْتَمِلُ أنَّ (مُكْرِمُه) وصفٌ لعليٍّ وأنه فاعلُ الإكرامِ، فيكونُ الخبَرُ جَرَى على مَن هو له، ويَحْتَمِلُ أنه وَصْفٌ لـ(خالِدٌ)، فيكونُ الخبرُ جَرَى على غيرِ مَن هو له، فإنْ أُريدَ الأوَّلُ وجَبَ استتارُ الضميرِ؛ ليكونَ استتارُه دَليلاً على هذا المعنى، فنقولُ: خالدٌ عَلِيٌّ مُكْرِمُه، وإنْ أُريدَ الثاني وجَبَ إبرازُ الضميرِ؛ ليكونَ إبرازُه دَليلاً على جَرَيانِ الخبَرِ على غيرِ مِن هو له، فنقولُ: خالِدٌ عليٌّ مُكْرِمُه هو، فالضميرُ (هو) عائدٌ على (خالدٌ)، والهاءُ في قولِه (مُكْرِمُه) عائدةٌ على (عليٌّ).
وإلى مَذْهَبِ البَصريِّينَ أَشَارَ ابنُ مالِكٍ بقولِه: (وأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً.. إلخ)، فقولُه: (وأَبْرِزَنْهُ)؛ أي: الضميرَ، (مُطْلَقاً)؛ أيْ: أُمِنَ اللَّبْسُ أو لم يُؤْمَنْ، (حيثُ تَلاَ)؛ أيْ: وَقَعَ الخبرُ، (ما) المرادُ المُبْتَدَأُ، (ليسَ معناهُ)؛ أيْ: معنى الخبرِ، (له) أي: المُبْتَدَأُ، (مُحَصَّلاَ)؛ أيْ: حاصِلاً.
والمعنى: أَبْرِزِ الضميرَ؛ أُمِنَ اللَّبْسُ أو لم يُؤْمَنْ، إذا وَقَعَ الخبَرُ بعدَ مُبْتَدَأٍ ليسَ معنى هذا الخبرِ حاصِلاً لذلك المُبْتَدَأِ، بل هو حاصلٌ لغيرِه؛ أيْ: صِفَةٌ لغيرِه، والمقصودُ أنْ يَجْرِيَ الخبرُ على غيرِ مَن هو له، وفي البيتِ مِن الغموضِ وتَشَتُّتِ الضمائرِ ما لا يَخْفَى.
وأمَّا الكُوفيُّونَ فقالوا: إنْ أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ الوجهانِ، كمِثالِ الأوَّلِ، وإنْ خِيفَ اللَّبْسُ وجَبَ الإبرازُ؛ كما في المِثالِ الثاني، وقد اختارَ ابنُ مالِكٍ مَذْهَبَهم في كتابِه (الكَافيةِ) فقالَ:
وإنْ تَلاَ غيرَ الذي تَعَلَّقَا = بهِ فأَبْرِزِ الضميرَ مُطْلَقَا
في الْمَذهَبِ الكُوفِيِّ شَرْطُ ذاكَ أَنْ = لا يُؤْمَنَ اللَّبْسُ ورَأْيُهُمْ حَسَنْ
والحقُّ أنه رَأْيٌ حَسَنٌ؛ لأنه إذا أُمِنَ اللَّبْسُ فلا فائدةَ مِن إبرازِ الضميرِ سِوَى الإطالةِ، وهذا مُنافٍ للأصولِ اللُّغَوِيَّةِ العامَّةِ، وقد وَرَدَ السماعُ بِمَذهبِهم في قولِ الشاعرِ:
قَوْمِي ذُرَا الْمَجْدِ بَانُوهَا وقد عَلِمَتْ = بكُنْهِ ذلكَ عَدنانٌ وقَحْطَانُ
فقولُه: (بانُوهَا) خبرٌ عن (ذُرَا)، وهو صِفةٌ لـ (قَوْمِي)، فجَرَى الخبرُ على غيرِ مَن هو له، ولم يُبْرِزِ الضميرَ؛ وذلك لأَمْنِ اللَّبْسِ؛ فإنَّ الذُّرَا مَبْنِيَّةٌ، لا بانِيَةٌ، فلا فائدةَ مِن قولِه: (بَانُوهَا هُمْ).الخبرُ شِبْهُ الجُمْلَةِ
123 - وأَخْبَرُوا بظَرْفٍ أو بحَرْفِ جَرْ = ناوينَ معنَى كائنٍ أوِ اسْتَقَرْ
هذا القِسْمُ الثالِثُ مِن أَقسامِ الخَبَرِ، وهو شِبْهُ الجُمْلَةِ، والمرادُ به: الظرْفُ بنَوْعَيْهِ الزَّمانِيِّ والمكانِيِّ والجارِّ والمجرورِ، نحوُ: الصومُ يومَ الخميسِ, والتراويحُ ليلةَ الْجُمُعَةِ، ونحوُ: المسجِدُ أمامَ البيتِ، ونحوُ: الكتابُ في الْحَقيبةِ، قالَ تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ}، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)). مُتَّفَقٌ عليه.
ويُشْتَرَطُ في الظرْفِ والجارِّ والمجرورِ أنْ يكونَا تامَّيْنِ؛ أيْ: يَحْصُلُ بالإخبارِ بهما فائدةٌ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهما بخِلافِ: مُحْمَّدٌ بِكَ، وعَلِيٌّ مَكاناً؛ لعَدَمِ الفائدةِ.
وهناك خِلافٌ في الخَبَرِ هنا، والمشهورُ أنَّ الخبرَ هو المتعلِّقُ المحذوفُ فيُقَدَّرُ فِعْلاً، نحوُ: استَقَرَّ، أو اسْماً، نحوُ: كائنٌ، وهذا هو الذي يَجْرِي على أَلْسِنَةِ الْمُعْرِبِينَ.
وهذا معنَى قولِهِ: (وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ.. إلخ)؛ أي: أنَّ العَرَبَ أَخْبَرَتْ عنِ المُبْتَدَأِ بالظرفِ أو بحرْفِ الْجَرِّ معَ مَجرورِه ناوِينَ بذلكَ تقديرَ المتعَلِّقِ مُفْرَداً نحوُ: كائنٌ، أو فِعْلاً نحوُ: اسْتَقَرَّ.
ويَرَى آخَرونَ أنَّ الخَبَرَ هو نفْسُ الظرفِ والجارِّ والمجرورِ؛ لأنهما يَتَضَمَّنَانِ معنًى صادِقاً على المُبْتَدَأِ، فيكونانِ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ، وهذا رأيٌ وَجيهٌ؛ لأَنَّ فيه تَيسيراً، فقولُه تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، (أسْفَلَ) ظرْفٌ منصوبٌ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ، وقولُه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (لِلَّهِ) جارٌّ ومجرورٌ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ.
الإخبارُ باسمِ الزمانِ والمكانِ
124- ولا يكونُ اسمُ زمانٍ خَبَرَا = عن جُثَّةٍ وإنْ يُفِدْ فأَخْبِرَا
يَقَعُ اسمُ الزمانِ خَبَراً عن أسماءِ المعانِي، نحوُ: الصومُ غَداً، ولا يُخْبَرُ به عن أسماءِ الذواتِ، نحوُ: محمَّدٌ اليومَ؛ لِعَدَمِ الإفادةِ، فإذا أفادَ صَحَّ، والفائدةُ تَحْصُلُ بثلاثةِ أشياءَ:
1- تخصيصُ الزمانِ بوَصْفٍ نحوُ: نحنُ في يومٍ مُمْطِرٍ، أو إضافةٍ نحوُ: نحنُ في شَهْرِ الصَّوْمِ، أو عَلَمِيَّةٍ مِثلُ: نحنُ في رمضانَ، ويكونُ الظرْفُ في هذا مَجروراً بفي، والجارُّ والمجرورُ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ على ما تَقَدَّمَ.
2- أنْ يكونَ الكلامُ على تقديرِ مضافٍ هو اسمُ معنًى، نحوُ: الليلةَ الهلالُ؛ أي: الليلةَ طُلوعُ الهلالِ، ونحوُ: البِطِّيخُ شُهورَ الصيْفِ؛ أي: وُجودُ البِطِّيخِ شُهورَ الصيْفِ.
ومِنه قولُه صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في يومِ الجُمُعَةِ: ((وَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُو فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَداً، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، والتقديرُ : عِيدُ اليهودِ غَداً، والظرْفُ هنا منصوبٌ على الظرفيَّةِ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ.
3- أنْ يكونَ اسمُ الذاتِ مُشْبِهاً لاسمِ المعنَى في حُصولِه وَقْتاً بعدَ وقتٍ، نحوُ: الرُّطَبُ شَهْرَيْ رَبيعٍ، وهذا يَجُوزُ نَصْبُه ظرْفَ زمانٍ، وجَرُّه بِفِي، وهو في الحالتيْنِ في مَحَلِّ رفعِ خَبَرٍ.
وهذا معنَى قولِهِ: (ولا يكونُ اسمُ زمانٍ خَبَرَا.. إلخ)؛ أيْ: لا يَقَعُ اسمُ الزمانِ خَبَراً عن المُبْتَدَأِ إذا كانَ جُثَّةً، والمرادُ به: اسمُ الذاتِ، لكِنْ إنْ حَصَلَ بذلك فائدةٌ جازَ؛ لأَنَّ الْمَدارَ عليها.
وسَكَتَ عن ظَرْفِ المكانِ؛ لأنه يَجُوزُ الإخبارُ عن الذاتِ والمعنى بظرْفِ المكانِ الخاصِّ؛ لأنه تَحْصُلُ به الإفادةُ، مِثلُ: الكتابُ أمامَكَ، العلْمُ عنْدَكَ، بخِلافِ: العلْمُ مَكاناً، فلا يَصِحُّ؛ لأنه عَامٌّ.
وإذا وَقَعَ ظَرْفُ المكانِ خَبَراً، وكانَ مُتَصَرِّفاً، مثلُ: المُدَرِّسُونَ جانِبٌ، والطلاَّبُ جَانِبٌ، خالِدٌ أمامَكَ، جازَ فيه الرفْعُ والنصْبُ، وإنْ كانَ غيرَ مُتَصَرِّفٍ، نحوُ: الطائرُ فوقَ الغُصْنِ وَجَبَ نصْبُه، والكلامُ على الظرْفِ في بابِ المفعولِ فيه.