(ص) مسألة الخبر إما مقطوع بكذبه – كالمعلوم خلافه – ضرورة أو استدلالا
(ش) الخبر وإن كان من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكنه قد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجية أو لا يقطع بواحد منهما، لفقدان ما يوجب القطع، فقد يقطع بكذبه لما علم بخلافه، إما ضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو استدلالا كإخبار الفيلسوف بقدم العالم فإنه يعلم كذبه بالاستدلال على حدوث العالم.
(ص) وكل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب أو نقص منه ما يزيل الوهم.
(ش) عدم قبوله التأويل أما لمعارضته الدليل العقلي أو غيره مما يوجب ذلك فيمتنع صدوره عنه عليه السلام قطعا، فإن الشرع يرد بمجوزات العقول لا بمستحيلاتها كقوله: إن الله خلق نفسه وغيره من الأحاديث المختلقة في التشبيه والقصد بهذا أنه إذا تعارض السمع وما أدركه العقل من أحكام العقائد وغيرها أيهما يقدم؟ والمتكلمون يقدمون مدرك العقل، لأنه السمع إنما يثبت بدليل العقل، فلو قدم السمع كان ذلك قدحا في الأصل بالفرع ثم في الفرع تبعا لأصله وأنه باطل لكن تصرف المحدثين يقتضي تقديم السمع لاحتمال غلط العقل لا سيما في الأمور الإلهية، والشرع أوثق منه في ذلك. والحق بناؤه على الخلاف السابق في مباحث الكتاب أن الأدلة النقلية تفيد اليقين أم لا؟ وقد نازع ابن دقيق العيد في عدهم هذا القسم مما يقطع بكذبه، وقال: إنما يصح إذا حددنا الكذب بما يخالف الواقع من غير أن يعتبر قصد المخبر، أما إذا اعتبرنا فيه قصده فقد يكون ذلك الخبر وإن كان غير مطابق – قطعا يوهم رواية أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعمد الكذب فيه، فعلى هذا، الصواب أن يقال: يقطع بعدم مطابقته للواقع وتحرز بقوله: ولم يقبل التأويل، عما إذا قبله فإنه لا يقطع بكذبه، لاحتمال أن يكون المراد هو المعنى الصحيح.
وقوله: أو نقص منه ما يزيل الوهم، قد تمثل له بما ذكره ابن قتيبة في (مختلف الحديث) أنه عليه السلام ذكر مائة سنة أنه لا يبقى على ظهرها يومئذ نفس منفوسة، وهذا خلاف للمشاهدة، وإنما سقط منه ((لا يبقى على الأرض منكم)) فأسقط الراوي ((منكم)) وكذلك قول ابن مسعود في ليلة الجن: ما شهدها أحد منا، مع أنه جاء عنه شهودها، ولكن الراوي سقط منه: غيري وتابعه على هذا ابن السيد في كتاب (أسباب الخلاف) وهو عجيب، ففي صحيح مسلم: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا.
(ص) وسبب الوضع نسيان أو افتراء أو غلط أو غيرها.
(ش) سبب وقوع الكذب عليه صلى الله عليه وسلم إما نسيان الراوي لطول عهده بالخبر المسموع فربما حمله النسيان على ما يخل بالمعنى، أو برفع ما هو موقوف أو غير ذلك من أسباب النسيان، وما افتراء كوضع الزنادقة أحاديث تخالف المعقول، ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيرا للعقلاء عن الشريعة، وإما غلط، بأن أراد النطق بلفظ فسبق لسانه إلى ما سواه، أو وضع لفظ مكان آخر، ظانا أنه يؤدي معناه أو غيرها، يعني كما ذهب إليه بعض الكرامية من جواز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب، حكاه أبو بكر بن السمعاني في (أماليه) وهو راجع إلى الافتراء.
(ص) ومن المقطوع بكذبه على الصحيح خبر مدعي الرسالة بغير معجزة تصديق الصادق، وما نقب عنه ولم يوجد عند ذويه، وبعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله خلافا للرافضة.
(ش) والمقطوع بكذبه غير ما سبق صور:
أحدها: ذكره إمام الحرمين: أن يتنبأ متنبئ من غير معجزة فيقطع بكذبه قال: وهذا مفصل عندي، وأقول: إن تنبأ وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهذا كذب، فإن مساقه يفضي إلى تكليف ما لا يطاق, وهو العلم بصدقه من غير سبيل يؤدي إلى العلم, وأما إذا قال: ما كلف الخلق اتباعي ولكن أوحي إلي فلا نقطع بكذبه، قلت: وهذا فيما قبل ظهور خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فأما الآن فنقطع بكذبه لقيام القاطع أن لا نبي بعده.
ثانيها: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار، ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة، ذكره الإمام الرازي وسبقه إليه صاحب (المعتمد) قال: كما لو قال الراوي: هذا الخبر في الكتاب الفلاني فلم نشاهده فيه وهذا قد ينازع في إفضائه إلى القطع، وإنما غايته غلبة الظن ولهذا قال القرافي: يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راو إلا وكشف أمره في جميع أقطار الأرض، وهو عسير أو متعذر، وقد ذكر أبو حازم، في مجلس هارون الرشيد حديثا، وحضره الزهري، فقال: لا أعرف هذا الحديث فقال: أحفظت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كله؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: أرجو، قال: اجعل هذا في النصف الذي لم تعرفه، هذا وهو الزهري شيخ مالك فما ظنك بغيره نعم إن فرض دليل عقلي أو شرعي يمنع منه عاد إلى ما سبق.
ثالثها: بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد مقطوع بكذبه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سيكذب علي)) وهذا الحديث لا يعرف.
رابعها: المنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله إما لكونه أمرا غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة، أو لتعلق أصل من أصول الدين به كالنص الذي زعم الروافض أنه دل على إمامة علي رضوان الله عليه فعدم تواتره دليل على عدم صحته.
(ص) وإما بصدقه كخبر الصادق وبعض المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمتواتر معنى أو لفظا.
(ش) الخبر المقطوع بصدقه أنواع: منها خبر الصادق، أي الذي لا يجوز عليه الكذب أصلا، إما لعلمه وغناه، وهو خبر الله تعالى لتنزهه عن جميع النقائض أو لأنه عصم من الكذب، إما لدلالة المعجزة، وهو خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به مشافهة أو ينقل عنه متواترا، ومنهم من استدل عليه بالإجماع على صدقه. قال ابن دقيق العيد: وهو غير جيد، بل الدليل الصحيح أن المعجزة دلت عليه، فإنها دلت على الصدق في التبليغ، إذ لا معنى للرسالة سوى ذلك، كل ما أخبر به فهو داخل تحت مدلول المعجزة. انتهى.
وإما لشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم له بذلك، وخبر جميع الأمة ومنها بعض المنسوب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنا لا نعرف ذلك إلا بجملة معينة، وأنه قد سبق أنهم قد كذبوا عليه ومنها ما أخبر عنه عدد التواتر قال الغزالي: وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الإخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل يدل عليه سوى نفس الخبر وحكى صاحب (المعتمد) عن النظام أنه يشترط القرينة في اقتضائه العلم في الآحاد، وهو غريب، وسواء التواتر المعنوي واللفظي والفرق بينهما أن أخبار الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إن اتفقوا في اللفظ والمعنى فذاك، وإن اختلفوا فيهما مع وجود معنى كلي فيما أخبروا به، وقع عليه الاتفاق كما إذا أخبر واحد عن حاتم أنه أعطى بعيرا وآخر أنه أعطى فرسا وآخر أنه أعطى دينارا وهلم جرا فإن المخبرين وإن اختلفوا في الأداء فقد اتفقوا على معنى كلي، وهو الإعطاء وهو دون التواتر اللفظي، لأجل الاختلاف في طريق النقل، قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يكاد يقع الاحتجاج به إلا في شيء من الأصول ومسائل قليلة من الفروع كغسل الرجلين مع الروافض والمسح على الخفين مع الخوارج.
تنبيه: كان ينبغي أن يزيد الخبر المعلوم صدقه بضرورة العقل أو بنظره على قياس ما ذكر أولا في نقيضه مما يقطع بكذبه.
(ص) وهو خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس.
(ش) الضمير راجع إلى اللفظي، لا المتواتر من حيث هو فيخرج بالجمع خبر الواحد، ويمتنع تواطؤهم عن جماعة لا يمتنع فيهم ذلك، وزاد بعضهم: (بنفسه) ليخرج ما امتنع فيهم ذلك بالقرائن، أو موافقة دليل عقلي أو غير ذلك، وإنما لم يذكره المصنف لأن المفيد للقطع هو مع القرائن، وقوله: (عن محسوس) هو في قوة شرطين:
أحدهما: أن يكون عن علم لا عن ظن.
وثانيهما: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، ونعني بالمحسوس ما يدرك بإحدى الحواس الخمس، وإنما شرط علمهم ذلك عن الحس بخصوصه ذكره الرازي والآمدي وأتباعهما والذي صرح به الأقدمون كالقاضي اشتراط كونه عن ضرورة إما بعلم، الحس من سماع أو مشاهدة وإما بأخبار متواترة، فلو أخبروا عن نظر لم يفد العلم لتفاوت العقلاء في النظر، ولهذا يتصور الخلاف منه نفيا وإثباتا وقال إمام الحرمين: لا وجه لاشتراط الحس، بل يكفي فيه العلم الضروري فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري، ثم قد يترتب على الحواس ودركها، وقد يحصل عن قرائن الأحوال كصفرة الوجل وحمرة الخجل، فإنه ضروري عند المشاهدة، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص.
(ص) وحصول العلم آية اجتماع شرائطه ولا تكفي الأربعة وفاقا للقاضي والشافعية وما زاد عليها صالح من غير ضبط، وتوقف القاضي في الخمسة وقال الإصطخري: أقله عشرة، وقيل: اثنا عشر، وعشرون، وأربعون، وسبعون، وثلاثمائة، وبضعة عشر.
(ش) اختلف هل يشترط فيه عدد معين، والجمهور على أنه ليس فيه حصر، وإنما الضابط حصول العلم، فمتى أخبر هذا الجمع، وأفاد خبرهم العلم – علمنا أنه متواتر وإلا فلا. قال القاضي: أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد، وتوقف في الخمسة وقال ابن السمعاني: ذهب أكثر أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز التواتر بأقل من خمسة، وما زاد. فعلى هذا لا يجوز أن يتواتر بأربعة، لأنه عدد معين في الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا فقيل: يشترك عشرة ونسب للإصطخري والذي في (القواطع) عنه: لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد، لأنها ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد، والعشرة فما زاد جمع الكثرة، وقيل: اثنا عشر، لأنهم عدد النقباء وقيل عشرون لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون} وقيل: أربعون عدد الجمعة، وقيل: سبعون، لقوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} وقيل: ثلاثمائة وبعضة عشر، عدد أهل بدر وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم للمشركين، والبضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى التسعة قال ابن قتيبة في كتابه (مختلف الحديث): والذي يؤكد ضعف هذه الأقاويل أنه يلزم منها إثبات قول بثمانية، كقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} وإثبات قول تسعة عشر لقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ولم يصيروا إليه فدل على فساد حجتهم.
(ص) والأصح لا يتشرط فيه إسلام ولا عدم احتواء بلد.
(ش) لا يشترط في ناقل التواتر الإسلام.
خلافا لابن عبدان من أصحابنا، قال ابن القطان: وإنما غلط لتسويته بين ما طريقه الاجتهاد وما طريقه الخبر، ولا يشترط في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد خلافا لقوم، لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم.
(ص) وأن العلم فيه ضروري وقال الكعبي والإمامان: نظري، وفسره إمام الحرمين بتوقفه على مقدمات حاصلة لا احتياج إلى النظر عقيبه، وتوقف الآمدي.
(ش) فيه إشارة إلى مسألتين: إحداهما: أن خبر التواتر يفيد العلم، ولم ينقل فيه خلاف إلا عن السمنية.
وهو مكابرة على الضرورة: وهذه من مسائل (المنهاج).
الثانية: ذهب الجمهور إلى أن العلم في التواتر ضروري لا على معنى إنه يعلم بغير دليل بل معنى إنه يلزم التصديق فيه ضرورة إذا وجدت شروطه، كما يلزم التصديق بالنتيجة الحاصلة عن المقدمات ضرورة، وإن لم تكن في نفسها ضرورية واستدلوا بأنه لو لم يفد العلم الضروري لوجدنا أنفسنا شاكين في وجود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي وجود بغداد، وذلك باطل، لأن كل ما لا يعرض فيه الشك فليس بنظري، فالعلم الحاصل عن التواتر ليس بنظري وذهب الكعبي إلى أنه كسبي مفتقر إلى تقدم استدلال ونقله المصنف عن الإمامين – يعني إمام الحرمين والرازي – فأما إمام الحرمين فهو قد صرح في (البرهان) بموافقته الكعبي، لكنه نزله على أن العلم الحاصل عقيبه من باب العلم المستند إلى القرائن والمقدمات الحاصلة قال: وهذا هو مراد الكعبي، ولم يرد نظرا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وقريب منه تقسيم الغزالي في (المستصفى) العلم النظري إلى ما يدرك بنظر قريب وإلى ما يدرك بنظر بعيد، وجعل التواتر من الأول، وقال: إنه يحصل العلم به عن مقدمتين:
إحداهما: هي أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم لا يجمعهم على الكذب جامع.
والثانية: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، فينبني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين، وأما الإمام الرازي فالذي في (المحصول) موافقة الجمهور وتوقف الشريف المرتضي والآمدي.
(ص) ثم إن أخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات والصحيح ثالثها، إن علمه لكثرة العدد متفق وللقرائن قد يختلف فيحصل لزيد دون عمرو.
(ش) عدد التواتر إن أخبروا عن معاينة فذاك، وإن لم يخبروا عن معاينة اشترط وجود هذا العدد، أعني الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل الطبقات وهو معنى قول الأصوليين: لا بد فيه من استواء الطرفين والواسطة، ولهذا يعلم أن التواتر قد ينقلب آحادا عند الاندراس وأشار بقوله: والصحيح إلى أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا؟ اختلفوا فيه فذهب القاضي أبو بكر وغيره إلى وجوب الاطراد، وآخرون إلى عدمه، وتوسط الهندي فقال: الحق إن حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة لا من جهة المخبرين ولا من جهة السامعين، فالاطراد واجب وإن لم يكن بمجرده بل لانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الاطراد.
(ص) وإن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه، وثالثها: يدل إن تلقوه بالقبول.
(ش) إذا اجتمعت الأمة على وفق خبر، فهل يدل على القطع بصدقه؟ فيه مذاهب:
أصحها: المنع، لأنه يحتمل أن يكون عملهم لدليل آخر غايته إنه لم ينقل إلينا وذلك لا يدل على عدمه.
والثاني: عليه وبه قال الكرخي وبعض المعتزلة.
والثالث: إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه، حملا للآمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد، وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا، حكم بصدقه، ونقله إمام الحرمين عن ابن فورك.
واعلم أنهما مسألتان: إحداهما: الإجماع على وفقه من غير أن يبين أنه مستندهم وفيها قولان في أنه هل يدل على صدقه قطعا أم لا؟ والثانية: أن يجمعوا على قبوله والعمل به، ولا خلاف أنه يدل على صدقه، وإنما الخلاف في أنه هل يدل قطعا أو ظنا؟ فالجمهور من أصحابنا على القطع، وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الظن، وجمع المصنف في المسألتين ثلاثة أقوال، ولكنه يقتضي أن الصحيح أنه لا يدل على صدقه وإن تلقوه بالقبول، وهذا لا يقوله أحد.
(ص) وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله خلافا للزيدية.
(ش) قالت الزيدية: بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا، كخبر الغدير والمنزلة فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توافر دواعيهم على إبطالها، وهو ضعيف لأن المروي بالآحاد قد يستقر بحيث يعجز العدو عن إخفائه، هذا إن تمسك بشهرة النقل وإن تمسك بتسليم الخصم فهو أيضا لا يدل على الصحة، لاحتمال أنه سلمه على وجه غلبة الظن بصدقه.
(ص) وافتراق العلماء بين مؤول ومحتج خلافا لقوم.
(ش) إذا قبل الحديث شطر الأمة وعملوا به واشتغل الشطر الأخير بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع؟ اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون أنه لا يدل وهو الحق لأنه من قبله وعمل به لعله قبله لكونه مظنون الصدق، ولو فرض أنه كان في مسألة عملية ولعل من أوله ولم يحتج به، يطعن فيه أنه من باب الآحاد، إذ لا يجوز أن يكون مقطوعا به، وتأوله ولا معارض له، وذهبت طائفة منهم ابن السمعاني – إلى أنه يدل عليه، لأن الكل تلقوه بالقبول وهو يفيد القطع بصحته، غايته أن بعضهم أوله وذلك لا يقدح في متنه.
تنبيه: ما صور به المصنف المسألة أن بعضهم احتج به وبعضهم أوله وهو المذكور في (المحصول) وأتباعه لكن الآمدي في (الإحكام) صورها بما إذا عملت طائفة بمقتضى الخبر والباقون أولوه، لا يدل على صدقه لاحتمال علمهم بغيره ولئن سلمناه لكن العمل بالظن جائز أيضا وهذا مخالف لتصوير (المحصول).
(ص) وأن المخبر بحضرة قوم لم يكذبوه ولا حامل، على سكوتهم – صادق.
(ش) إذا أخبر واحد بحضرة جمع كثير بحيث لا يخفى على مثلهم عادة وسكتوا عن تكذيبه، ولا حامل لهم على سكوتهم من خوف أو طمع.
فذهب الجمهور إلى أنه يدل على صدقه قطعا قال الأستاذ: وبهذا النوع أثبتت المعجزات.
وقال آخرون: ليس بقطعي، لاحتمال مانع من التكذيب، واختاره الرازي والآمدي. (ص) وكذا المخبر بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا حامل على التقرير والكذب خلافا للمتأخرين، قيل: إن كان عن دنيوي.
(ش) إذا اخبر واحد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبه، فهل يدل على صدقه؟ فقال جماعة: نعم، لأنه لو كان كذبا لأنكره، وأنكره بعضهم مطلقا، وعزاه المصنف إلى المتأخرين، يعني: الآمدي وابن الحاجب وقال الهندي تبعا للمحصول إن كان خبرا عن أمر ديني دل على صدقه، لكن بشروط:
أحدها: أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم فلو تقدم لم يكن السكوت دليل الصدق لاحتمال الاستغناء عن الإنكار بالسابق.
ثانيها: أن يجوز تغيير ذلك الحكم عما بينه، فلو لم يكن مما يغير اندفع احتمال النسخ فلم يكن السكوت موهما للصدق.
ثالثها: أن يكون ذلك المخبر ممن لم يعرف عناده النبي صلى الله عليه وسلم وكفره به، فإن عرف لم ينفع فيه الإنكار، فلم يجب عليه إنكاره بالنسبة إليه، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يجب أيضا، لاحتمال أن يكون ذلك الوقت لم يكن وقت الحاجة إليه، وإن كان خبرا عن أمر دنيوي، فهو أيضا يدل على صدقه، بشروط:
أحدها: أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم يدل، فإنه لا يجب عليه بيان الأمور الدنيوية وفيه نظر، لأنه وإن لم يجب عليه ذلك، لكن يجب عليه المنع من تعاطي الكذب.
ثانيها: أن يعلم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالقضية، وإلا لم يكن دليلا على صدقه، لاحتمال أن سكوته لأنه لم يعلم حقيقة الحال فيه.
ثالثها: أن يكون المخبر ممن لا يعلم أنه لا ينفع فيه الإنكار، فإن علم أنه لا ينفع سقط الأمر عن الإنكار عليه، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: أولا، ولا حامل على التقرير والكذب، فلهذا استغنى عن تقييد المذهب المفصل.
(ص) وأما مظنون الصدق فخبر الواحد، وهو ما لم ينته إلى التواتر، ومنه المستفيض وهو الشائع عن أصل، وقد يسمى مشهورا وأقله اثنان وقيل: ثلاثة
(ش) الثالث: الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد وليس المراد ما يرويه الواحد فقط, بل المراد منه الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر سواء انتهى إلى حد الاستفاضة والشهرة أم لا, فعلى هذا ينقسم خبر الواحد إلى مستفيض ومشهور مفيد الظن المولد إلى ما ليس كذلك وذهب ابن فورك إلى أن المستفيض يفيد القطع, فجعله من أقسام التواتر ثم المختار في تعريفه: إنه الشائع عن أصل, فخرج الشائع لا عن أصل يرجع إليه، فإنه مقطوع بكذبه، وقد يسمى المستفيض مشهورا وأقله اثنان، وقيل: ثلاثة، وبه جزم الآمدي وابن الحاجب ثم ذكر الرافعي في الشهادات عن الشيخ أبي حامد وأبي إسحاق المروزي وأبي حاتم القزويني: إن أقل ما ثبت به الاستفاضة سماعه من اثنين وإليه ميل إمام الحرمين. قال: واختار ابن الصباغ وغيره سماعه من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب، قال: وهو أشبه بكلام الشافعي وهو يؤيد مقالة ابن فورك في أنه قسم من المتواتر.
تنبيه: جعل المصنف أقسام الخبر ثلاثة، تابع فيه الأصوليين وقد نازع فيه العبدري في شرحه (للمستصفى) وقال: هذا الثالث، إنما هو قسم ثالث بالنسبة إلينا، وأما هو في نفسه: فلا بد أن يكون إما من القسم الأول وإما من الثاني.