هذا الحديث حديث النعمان ابن بشير -رضي الله عنه- عدّهُ العلماء ثلث الدين أو رُبع الدين.
فإن الإمام أحمد قال: (أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث:
حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)).
وحديث عائشة -السابق-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وحديث النعمان بن بشير).
وذلك أن حديث النعمان دلّ على أن الأشياء منقسمة:
-إلى حلال بين.
-وإلى حرام بين وإلى مشتبه.
فالحلال البين والحرام البين واضح حكمها.
والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث.
والحلال يحتاج إلى نية وإلى متابعة وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يُؤْجر عليه إلى أخر ذلك، فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب (السُّنن) جعل الأحاديث أربعة وزاد عليها حديث ((الدين النصيحة)) الذي سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
هذا يدلك على أنّ هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة:
-حلال بين واضح لا اشتباه فيه.
-وحرام بين واضح لا اشتباه فيه.
-وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البين الواضح من أتاه فهذا على بينة.
والحرام البين الواضح أيضاً بُين للناس لا اشتباه فيه:
- فمن انتهى عنه فهو مأجور.
- ومن وقع فيه فهو مأزور.
وهناك ما هو مشتبهٌ؛ ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرؤوف الرحيم عليه الصلاة والسلام، فقال: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات)).
الحلال البين مثاله:
-أنواع المأكولات المباحة؛ تأكل اللحم والخبز وتشرب الماء إلى آخره..
-أنواع العلاقات المالية المباحة؛ البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره.. أنواع الإجارة الواضحة، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس وأيضاً هو درجات.
((والحرام بِّين)) أيضاً واضح مثل حرمة الخمر وحرمة السرقة وحرمة الزنا وحرمة قذف الغافلات المؤمنات وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه.
القسم الثالث: قال: ((وبينهما أمورٌ مشتبهات)) قال عليه الصلاة والسلام (وبينهما) فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام، وذلك لأنَّه:
-يجتذبه الحلال تارة ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام لا يدري هل هو حرام أو هوحلال، إن نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراماً، وهذا عند كثير من الناس.
وأمّا الراسخون في العلم فيعلمون حكمه هل هو حلال أو حرام، فقال عليه الصلاة والسلام ((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) فدلّ قوله لا يعلمهن كثير على أنّ هناك كثيراً من الناس يعلمون الحكم.
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها ما هي المشتبهات؟
في أقوال كثيرة جداً وصنفت فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضاً في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.
أمّا في اللغة: فاشتبه الشيء بمعنى اختلط يعني صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطاً على الناظر أو على السامع، واشتبهت الأشياء عند عينه بمعنى اختلطت ما يميز هذا من هذا واشتبهت الأصوات عليه يعني تداخلت فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته فكما أنَّ الناظر لضعف بصره اشتبه عليه والسامع لضعف سمعه اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تدرك بالقلب وتدرك بالبصيرة تشتبه من جهة ضعف البصيرة؛ ضعف العلم.
أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات في آية سورة آل عمران وهي قوله -جل وعلا-: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأُخَر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
فدلت الآية على أنَّ:
- المحكم ما كان واضحاً بيناً.
-والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه.
وما في الحديث غير ما في الآية من جهة أن ما في الآية: من جهة معاني الآيات؛ لأنه قال: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أمُ الكتاب وأُخرُ متشابهات}، فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل من جهة الحكم: هل هذه من الحلال أو هي من الحرام، فإذاً من جهة الاشتباه الأمرُ واحد وهو أنَّ المشتبه فيما دلت عليه آية آل عمران: هو غير الواضح.
وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأنَّ الكلمة إذا اشتبه معناها أو اختلف العلماء في معناها فإرجاعها إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن؛ يُريحنا من إشكال تفسير الكلمة.
فنظرنا في هذه الكلمة (مشتبهات) فجعلها بعض العلماء بمعنى اختلاط المال المباح مع المال الحرام، وجعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء، في أقوال ربما يأتي بعضها، فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية آل عمران، يعني ما لم يتضح للمرءِ، حكمه فهو مشتبه وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام؛ وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح من المتشابهات أو المشتبهات أو المشبِّهات كما هي روايات في هذا الحديث.
الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسَّروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حلِّه وحرمته، فقالوا مثلاً: -(أكل الضبّ اختلفوا فيه فيكون من قبيل المشتبه).
- وقالوا: (أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء فيكون من قبيل المشتبه).
- أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها فيكون من قبيل المشتبه.
- وجعلوا اختلاط المال من حلال وحرام هذا من قبيل المشتبه، في أشياء.
- وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه من جهة الناظر فيه.
وهذا في الحقيقة ليس واضحاً، وهذه إذا جُعلت من المشتبهات فهذا من جهة التأويل لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
فالإمام أحمد واسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: (إنها مشتبهات) فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ:
- من ذهب إلى القول المبيح في المسكر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الأخر.
- في أكل الضب: السنة فيه واضحة؛ فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح.
يعني قالوا: (إنها من المشتبهات) باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث، وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الحديث عليه ما ذكرت لك من أنّ (المشبهات) أو (المشتبهات) أو (المتشابهات) هي: ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه؛ فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حمايةٌ لعلمه، حمايةٌ لدينه.
إذا اشتبهت عليه هذه المرأة هل هي مباحة له أم غير مباحه؟
فالاستبراء: أن يتوقف حتى تكون حلال بيناً أو حراماً بيناً.
إذا تقرّر ذلك فإن المشتبهات هذه لها حالان:
الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء فيتوقف العالم في حكم المسألة يقول: أنا متوقف فيها مثل بعض المسائل الحادثة الآن تأتي مسألة من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا، في بعض المسائل الطبية مثلاً توقف العلماء.
والعلماء توقفهم ليس عن عجز ولكن حمايةً لدينهم هم؛ لأنهم سيفتُون الأمة وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالاً منسوباً إليهم وهم وقَّعوا عن رب العالمين -جل وعلا- يعني أفتوا عن الله سبحانه فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذاً هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم هذا النوع الأول.
النوع الثاني: من المشتبهات، ما تشتبه على غير العالم فينبغي أن لا يواقعها حتى يردّها إلى العالم، وجوباً؛ لأنّه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((وبينهما)) -يعني بين الحلال والحرام- ((أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) في قوله: (لا يعلمهنّ كثير من الناس) إرشاد إلى أنَّ هناك من يعلم فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: ((فمن اتقى الشبهات)) يعني قبل أن يصل إليه العلم أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم، ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)).
أمّا استبراءُ الدين:
فهو من جهة الله عز وجل حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه؛ لأنها ربما كانت حراماً والمؤمن مكلف فينبغي عليه وجوباً أن لا يأتي شيئاً إلا وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يقدم على شيء يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام، فمن توقف عن الحلال المشتبه أو الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع فصار حراماً وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري، معذور؟
لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف، حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس! هو مكلف لا يعمل بعمل إلا بأمر من الشرع لهذا قال: (فقد استبرأ لدينه).
قال: (وعرْضِه) وعرضه لأنَّه في أهل الإيمان من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يوقَع فيه بأنه قليل الدِّيانة، بأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أنَّ المرء لا يأتي ما يُعابُ عليه في عِرْضِه.
فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي شيئاً ويقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم، فإنَّ استبراء العرض حتى لا يوقَع فيه هذا أمرٌ مطلوب، وقد جاء في الأثر: (إياك وما يشار إليه بالأصابع) يعني من أهل الإيمان حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
قال: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))
قوله: (وقع في الحرام)فسِّرت بتفسيرين:
الحرام: الذي هو أحد جانبي الشبهات فيما بينهما لأن جانباً منها حلال وجانباً حرام فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين.
وفُسر الحرام: بأنه وقع في أمرٍ محرم حيث لم يستبرئ لدينه حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، فمسألة واقعتها بلا علم منك أنها جائزة؛ فلا شك أنّ هذا إقدام على أمر دون حُجة، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها ليست هي المقصودة بهذه الكلمة، لأنه قال: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
ثم مثل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه))الراعي يكون معه شيء من الماشية، والماشية من طبيعتها أنها بعض الأحيان تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيداً، فإذا قارب حمىً محمياً، مثلاً أرض محمية للصدقة، أو محمية لملك فلان أو ما أشبه ذلك، فإنَّ مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل منه أن بعضها ينِدُّ ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أنَّ حمى الله محارمه، وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرَّة أن يتوسع فيدخل في الحرام حتى من الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد لا كل التردد، فلهذا مثَّل عليه الصلاة والسلام بهذا المثال العظيم، فقال: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)) لأنه قارب.
قال: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) فحمى الله محارمه بها فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى، من قارب المحارم، من قارب الحرمات؛ فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جراء تساهله.
نفهم من هذا الحديث أنّ الحلال البيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها وتقسيمات الكلام عليها وأنه يجب على المسلم أن لا يأتي شيئاً إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذاً المسألة مشتبهة عليه ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم فإنه يتوقف معهم حتى يحكموا فيها.
هناك مسائل ليست مشتبهة يعني في الأحكام لكونها تبع الأصل، جريان القواعد عليها، دخولها ضمن دليل.
- فإذاً المسائل التي اختلف فيها العلماء لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة فلا نقول هذه مسألة اختلف فيها العلماء فإذاً يخرج منها بتاتاً على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا ولكن هذا على جهة الاستحباب، وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث أنّ الخروج من خلاف العلماء مستحب.
يعني أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة فالخروج من خلافهم إلى متيقَّن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحاً في تفاصيل معلومة.
مثاله مثلاً: قصر الصلاة في السفر. جمهور الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد حَدُّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعداً بأنه إذا نوى إقامة أربعة أيام فصاعداً لم يترخص برخصة السفر.
- وهناك قول ثان للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يزمع إقامة أكثرمن خمسة عشر يوما وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده.
فهذه أقوال ثلاثه:
القول الأول: وهو كونها أربعة أيام رُجِّح على غيره من جهة أنّ المسألة من حيث الدليل مشتبهة وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراءٌ للدين لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني فأخذ اليقين في أمر الصلاة هذا ممَّا دلّ عليه هذا الحديث؛ لأنه استبراء للدين، لأنّ الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب فنأخذ بالأحوط، ولهذا رجحَّ كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء وأن في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وأعظم الأركان العملية.
من المسائل التي يتعرض لها العلماء أيضاً في هذا الحديث:
الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال والحرام يعني رجلاً مثلاً في ماله حرام نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرَّمة:
- إما إنه يرتشي.
- أو عنده مكاسب من الربا.
- أو ما أشبه ذلك.
وعنده مكاسب حلال فما الحكم في شأنه؟
- جعله بعض العلماء داخلاً في هذا الحديث وأنّ الورع: الترك على سبيل الاستحباب لأنه استبراء.
-وطائفة من أهل العلم قالوا بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يستبرئ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه مالم تعلم أنَّ عين ما قدّم لك من الحرام.
-وقال آخرون منهم ابن مسعود -رضي الله عنه- لك أن تأكل، والحرام عليه لتغير الجهة، فهو اكتسبه من حرام وحين قدّم لك قدّمه على أنه هدية أو على أنه ضيافة أو هبة أو ما أشبه ذلك، وتغير الجهة يغير الحكم، كما في حديث بريرة قالوا يا رسول الله -في اللحم-: (إنّه تُصدق به على بريرة، (والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يأكل الصدقة) فقال عليه الصلاة والسلام: (هو عليها صدقة ولنا هدية) لاختلاف الجهة مع أنه عين المهدى وهو اللحم.
- فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم:
إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه وأما هذا فقدمه على أنه هدية فلا بأس بذلك.
- وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أنّ هذا المال بعينه حرام يعني أن عين ما قدم حرام فإذا علم أنَّ عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين ويجوز أكل ما سواه.
واستدلوا على ذلك: بأنّ اليهود كانوا يقدِّمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام- وكانوا يأكلون الربا، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- ربمّا أكل من طعامهم، وفيه تفاصيل.
المقصود من هذا كمثال لاختلاف العلماء في التنازع في هذه المسألة؛ هل تدخل في هذا الحديث أم لا؟
وجملتهم على دخولها من جهة الورع وليس على دخولها من جهة أنه من أكل فقد أكل حراماً، مع أنّ عدداً من المحققين رجحوا قول ابن مسعود -وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل- كابن عبد البر في (التمهيد) وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.
قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
فهذا فيه أن صلاح القلب الذي هو معدن الإيمان به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات؛ هذا راجع إلى القلب. والقلب إذا صلح صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد الجسد كله.
قال: (ألا وإن في الجسد مضغة) والقلب من حيث إدراك المعلومات هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أنّ هذا معلق بالقلب يعني حصول الإدراكات وحصول العلوم والصلاح والفساد والنيات إلى آخره هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك؛ فما وظيفة الدماغ أو المخ؟
وظيفته الإمداد هذا على قول المحققين من أهل العلم.
فاختلفوا في العقل هل هو في القلب أم هو في الرأس؟
والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جُرْماً وإنما المقصود به إدراك المعقولات والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة؟
لا، يدرك من جهة كونه بيت الروح.
قوله -عليه الصلاة والسلام- ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
- أنه لشدة مقاربته للحرام فإنه صوِّر كأنه واقع فيه فإن الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام كما مثل له عليه الصلاة والسلام بقوله: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
والقول الثاني:أنّ الوقوع في الحرام أنّه لاشتباه الأمر عليه وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما وقع في الحرام، يعني في أنَّ هذا الأمر حكمه الحرمة فوقع فيه من غير علم وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات، وهذان توجيهان وجه بهما جماعة من الشراح.